من التغيير الجذري الى الإنتحار السياسي

قصور حركة التغيير من الخارج في مسيرة  (حركة الإصلاح)

 د. خالد الرشيد

  

حركة الإصلاح حركة ناشئة ولدت في الخارج في منتصف التسعينيات على أنقاض تشكيل غير مترابط أو متجانس من الأفراد والفعاليات من ذوي المشارب السياسية والفكرية المختلفة، لم يتبلور، بل لم يتفق إلا على تقديم (مذكرة النصيحة) ومن ثم تأسيس (لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية) التي انفرط عقدها بين الداخل والخارج، وبعدئذ انشقّت على نفسها بسبب اختلاف الرجلين الجديدين القادمين من المملكة: الدكتور محمد المسعري والدكتور سعد الفقيه؛ بحيث أسس كل واحدٍ منهما لنفسه إطاراً من نوع ما يتواصل من خلاله مع أحداث المملكة، فاختار الأول المضي في الإسم القديم (لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية) ثم غيّر المسمّى قبل فترة وجيزة الى (التجديد الإسلامي) في حين اختار سعد الفقيه لنفسه إسماً جديداً هو (حركة الإصلاح).

كلا الإسمين لم يكونا (تنظيمين) حقيقيين على الأرض. ورغم أنه لا ينكر وجود تعاطف معهما بين شرائح المجتمع في المملكة، إلاّ ان نقطة ضعفيهما تكاد تكون واحدة: وهي غياب التنظيم. ونقصد بذلك، التنظيم على الأرض الذي يستطيع أن يحوّل خطط وبرامج الحركة الى واقع ينمو باتجاه تحقيق أهداف التجمعين، سواء كانت أهدافاً جذريّة (إسقاط النظام القائم) أو ما دون ذلك (إصلاحية) خاصة وأن إسم (حركة الإصلاح) يتضمن هذه الإشارة، وأن (التجديد) أقرب الى التغيير المتدرج.

إن التعاطف، الكثير أو القليل، مع أية حركة سياسية، وبغض النظر عن أهدافها، لا فائدة كبيرة ترجى منه ما لم يتحول الى قنوات واضحة، تنظم صفوف الشباب وتغذيهم باطروحاتها، وتضع لهم برامج محددة للنمو بذواتهم من خلالها. وهذا الأمر لم يتحقق بالنسبة لحركة ولدت خارج الحدود، وقطعت معظم اتصالاتها فيما يبدو مع محيطها النخبوي الذي شكّل أساساً لهجرتها الخارجية، وبالتالي لم يكن هناك سوى أفراد الشعب العامين بدون كوادر تنظّم صفوفهم، أو تقودهم باتجاه الأهداف المتوخاة. وهذا ما جعل حركة الإصلاح بالدرجة الأساس، كونها الإسم الأكثر اشتهاراً، أضعف من أن تحقق أهدافها المعلنة وهي (إسقاط النظام السعودي القائم).

للتعويض عن مشكلة التنظيم الداخلي، أخذ الفقيه وكذلك المسعري باستراتيجية واحدة وهي:

اعتماد التواصل الإعلامي مع الجمهور، وتكثيف الإتصالات الهاتفية مع المتعاطفين في محاولة لإيجاد شيء من التنظيم الهلامي الأولي، الذي قد يقود الى بلورة أنوية تنظيم من نوع ما. لكن يبدو أن المسألة كانت صعبة ربما، خاصة وأن الفقيه لم يجرّب هو نفسه ـ فيما يبدو ـ العمل التنظيمي ولم تكن له خبرة فيه، فهو لم يكن محازباً قديماً في تنظيم ما؛ بعكس الدكتور محمد المسعري الذي كان عضواً في حزب التحرير الإسلامي، وربما لا يزال مرتبطاً بتيار الحزب في لندن.

وبعكس حركة الإصلاح، فإن تنظيم القاعدة الأم أو الفروع، قد حاز على تقنية تنظيمية هرمية عالية لم تكن مجرّبة بين التيار السلفي في المملكة، وهذه التقنية هي ما كانت تنقص هذا التيار أو معظم فروعه على الأقل، وهي تقنية (مستوردة) إن جاز لنا التعبير، حصل عليها السعوديون المقاتلون في أفغانستان من نظرائهم في التنظيمات العربية، وبالخصوص في تنظيم (الجهاد) المصري، بحيث تحولت التجمعات السلفية الفضفاضة الى خلايا حقيقية، تمارس العمل الأمني والتنظيمي بحرفية عالية. ومن هنا قيل ـ وهو صحيح الى أبعد الحدود ـ أن أيمن الظواهري هو العقل المدبّر لتنظيم القاعدة، وهو الذي حوّل (قاعدة أسماء السعوديين) القادمين الى أفغانستان، والتي اعتبرت مجرد أرشيف معلومات، الى قوّة وطاقة جبّارة، تواصلت مع المقاتلين القدامى، وأعادت تنظيم صفوفهم، وفتحت لهم آفاقاً غير مألوفة في العمل العسكري.

وإذا كانت الحركات السياسية في المملكة، قومية أو يسارية أو إسلامية شيعية، قد سبقت التيار السلفي الى الأخذ بسلاح التنظيم المتعارف عليه في حركات التحرر والتحرير في العالم، فإن التيار السلفي كان الأبعد عن هذا، ربما لأنه دخل المواجهة مع الحكومة متأخراً وكان حليفها ويدها اليمنى قبل أن ينقلب عليها. وحتى الأجنحة السلفية المعارضة التي تظهر بين الفينة والأخرى، لم يُلمس منها أنها كانت تنظيماً دقيقاً، بقدر ما كنت (تجمّعاً) سهل الإختراق. يدلّنا على ذلك حركة (الإخوان) التي قادها جهيمان العتيبي باتجاه الإستيلاء على الحرم المكي الشريف في نوفمبر 1979م.

فهذه الحركة الدينية ـ العسكرية كانت تعتمد على تجمعات موالية تلتقي في منازل متفرقة في مدن المملكة، خاصة في المنطقة الغربية، وكان لها بيوت أشبه ما تكون بمقرات في بريدة والشرقية ومكة والمدينة التي كانت قاعدتهم الأساس، والتي كان يجري التبليغ منها وفي محيطها، بل أن معسكرات تدريبها كانت ـ حسب بعض المعلومات ـ في تلك المناطق. وبالرغم من بساطة التنظيم الجهيماني، وبالرغم من اكتشاف الدولة واندساس أجهزة مباحثها في بعض تجمعاته، وهو ما أشار إليه جهيمان في إحدى رسائله حيث اتهم الشيخ صالح اللحيدان والذي أصبح اليوم رئيس المجلس الأعلى للقضاء، بأن الدولة قد بعثته ليتجسس على حركته.. إلا أن الحركة استطاعت تأمين مسألتين في غاية الأهمية:

الأولى: التغذية الفكرية، من خلال كتابات جهيمان نفسه (رسائله السبع) إضافة الى بضع رسائل أخرى لأشخاص آخرين، والتي ميّزت أفراد حركته عن الآخرين، ليس فقط من جهة العودة الى التراث السلفي الوهابي، بل والإضافة عليه ضمن (دمغة) مميزة وهي فكرة (المهدوية). وبالرغم من صعوبات النشر ـ ونحن نتحدث هنا عن مرحلة السبعينيات من القرن الماضي ـ فإن جهيمان وأتباعه استطاعوا توفير المواد الفكرية اللازمة من خلال طباعة كراساتهم في الكويت، وقيل أنها مطبعة الطليعة. في ذلك الوقت كان من الصعب تحصيل آلة طابعة أو استنسل أو جهاز نسخ آلي، أو ما أشبه، بدون إجازة مباشرة من وزارة الداخلية. ومن يقرأ جهيمان من خلال كراساته يدرك الهدف: إسقاط العائلة المالكة، واعتباره إياها حكومة غير شرعية بل منكراً يجب إزالته، بل أن وسيلة الإسقاط كانت واضحة في ثنايا كتاباته حين يتحدث عن الأعور الدجال وظهور المهدي وكيف أن الله سيخسف بالجيش القادم لمحاربته في الحرم.

الثانية: تأمين الكوادر العسكرية والسلاح، سواء من مخازن الحرس، أو بالشراء.. أما مواقع التدريب، فكانت هناك الصحراء والكثبان الرملية التي سهلت المهمة. وبالرغم من المعطيات الأولية التي لدى الحكومة بأن هناك شيئاً ما يدور في الأفق، وبالرغم من اعتقالها لجهيمان وعدداً من عناصره، إلا أن أجهزة الأمن لم تكن تنظر إليه بجدّية، وقد ألقى نايف باللوم على رجال الدين الذين توسطوا لاطلاق سراح جهيمان، فأطلقه ولم يكن يدر بخلده وخلدهم أنه كان يعمل لهدف أكبر وبوسائل عنف غير متيسّرة للأفراد. وهذه نقطة تحسب لحركة جهيمان من جهة استطاعته توفير شيء من المظلّة الأمنية لحركته، خاصة وأنه كان يستعيد دروس الماضي من حركة أجداده الأولى التي أفناها الملك عبد العزيز في أواخر العشرينيات الميلادية من القرن الماضي بعد أن أقامت تلك الحركة الدولة السعودية نفسها. تلك الحركة ضربت بعد أن نزعت الشرعية الدينية عنها من خلال استقطاب ابن سعود لرجال الدين جميعهم الى صفه. وجهيمان وإن كان سار على الدرب ذاته، حيث فتح النار على معظم المشايخ، بمن فيهم الشيخ ابن باز، الذي اعتبره عالماً بالسنّة، وأن مأخذه الوحيد عليه هو وقوفه الى جانب الدولة (الملبسة) والمتلبسة بالكفر، وضحكها على المفتين العميان (حتى بان ذلك عليه غفر الله له) ـ كما يقول جهيمان!

لم تبنِ حركة الإصلاح برئاسة الفقيه على خبرة تراكمية سابقة، فهي لم تُبنَ على تنظير فكري جديد ينقض شرعية الدولة السعودية، بل أن تنظيم القاعدة في السعودية ـ ومن خلال ما يُنشر في الإنترنت ـ قدّم تنظيرات دينية سلفية لكل أعماله، وليس مجرد شرعية الخروج على الدولة السعودية. بل شرعنت القاعدة العنف اعتماداً على تأصيلات دينية قوية في التراث الحنبلي والتراث الوهابي بخاصة. وشرعنت ـ على ذات القاعدة ـ قتل الأجانب الغربيين، وطالبت بإنهاء وجودهم، وشرعنت وجود ضحايا مدنيين لأعمالها العسكرية، وها هي الآن تشرعن ضرب منشآت النفط وفق رؤية تقول بأن مصالح الشعب ستحفظ من خلال ذلك، أي بمنع إهدار الثروة النفطية بأسعار بخسة، وأن تقليص انتاج النفط السعودي سيعوضه ارتفاع أسعار النفط المتوقعة الى الضعف، وبالتالي فإن إيرادات المملكة ـ إن كان هناك شيء سيذهب منها الى الشعب، حسب رأيهم ـ لن تتأثر بتخفيض الإنتاج الناجم عن مهاجمة المنشآت. وهناك كتابات في الإنترنت تفيد بأن ضرب المنشآت النفطية السعودية ـ حسب الدعوة التي جاءت من أسامة بن لادن ـ ستكشف ضعف النظام من جهة، وستعاقب الأميركيين من جهة أخرى، كما وستكشف أن النظام السعودي لا يستطيع تأمين إمدادات نفطية سهلة ورخيصة لحلفائه الغربيين، وبالتالي فإن الثقة في النظام ستكون ضعيفة.

الخطاب الفكري والسياسي لتنظيم القاعدة في المملكة واضح المعالم، يمكن تمييزه عمّا سواه. أما حركة الإصلاح فإنه لا يوجد لها خطابها السياسي أو الديني الخاص بها، اللهم إلا أنها تتغذّى على خطابات متعددة صنعها آخرون لأغراضهم. هذا الضعف في التنظير والخطاب قد لا يبدوان مهمين، نظراً لعدم وجود جمهور خاص بحركة الإصلاح، في حين يوجد جمهور خاص بتنظيم القاعدة في السعودية هو دائماً بحاجة الى توجيه خاص فيما يتعلق بتوضيح المواقف والسياسات والخطط وردّ التهم أو دفعها أو تبريرها.

وبعكس القصور الذي لدى الفقيه كشخص وكحركة في التنظير الديني وفي الخطاب السياسي، فإن محمد المسعري يمتلك قدرة متميزة في التنظير الديني، وقد نشر بعض التأصيلات التي يختلف معه الكثيرون فيها، ولكنها على الأقل تعتمد رؤية أوسع وأشمل من الإعتماد على التراث الوهابي. وما يقدمه المسعري إنما هو تنظير لغير جمهوره الخاص، فيمكن لمن أراد أن يستفيد منه في هذه الجزئية أو تلك.

اما الخطاب السياسي، فضعيف لدى الطرفين، في حركة التجديد او الإصلاح، وهو ينحو باتجاه الرفض المطلق للقضايا والسياسات والأشخاص، ولكن هذا الخطاب بدا غير قادر بل غير مهتم بإنتاج البديل، رغم المحاولات النادرة والضعيفة والقاصرة التي تظهر في قناة الإصلاح، والتي هي أقرب الى الشعارات والتحريض منها الى خطاب سياسي متماسك.

 

حركة أفراد

 

هذا ما جعل الكثير من المتابعين والمراقبين المحليين يعتبرون لحركة الإصلاح وكأنها حركة رجل واحد ببوق إعلامي ضخم. فهذه الحركة أقرب ما تكون الى (حركة تحريض) منها الى (حركة بديل سياسي)؛ ويمكن استنتاج ذلك من خلال ملاحظة أن النخب السياسية في المملكة جميعها ـ بمن فيهم القاعدة ـ نأت بنفسها عن الإقتراب من تلك الحركة. وفي الحقيقة فإن الأخيرة لم تقدّم رؤية ناضجة للوضع السعودي المحلّي، وربما لطبيعة نشأتها الخارجية، واعتمادها على القيادة الفردية، لم تكن تتحمّل شراكة أو تفاهماً أو تنسيقاً مع أية قوى في الساحة السعودية.

يمكن أن يقال أكثر من هذا، فحركة الإصلاح ـ ببوقها الإعلامي التحريضي ـ تصوّرت أنها ليست بحاجة الى أحد، وأنها تمتلك كل الجمهور، وأن الشعب كلّه ينتظر إشارة منها لكي تزحف على النظام وتقضي عليه.

إن هذه المغالاة والزهو بالذات ما كانت لتتضخم لولا (العزلة) السياسية والشعورية التي تبني عوالم ليست من صنع الحقيقة، بحيث تؤدي الى بلورة رؤى وتصورات ومواقف تضرّ بمتخذيها دون أن يشعروا بذلك. إنها تجعل المرء مالكاً وحيداً للحقيقة، مريضاً بالفردية والذاتية، لا يرى الآخرين إلا مجرد أرقام صغيرة لا يسعها إلا الإلتحاق بالركب المنصور بإذن الله، أو الموت السياسي.

حركة الإصلاح كانت في خصام مع المؤسسة الدينية الرسمية، وهذا حدث من قبل مع آخرين من نفس التيار السلفي، لكن أحداً ـ غير الإصلاح ـ لم يهدّد بمعاقبتهم في حال انتصاره؛ وهذا أدّى الى ان تعتبر المؤسسة الدينية مواجهة حركة الإصلاح جزء من معركتها قبل أن تكون معركة النظام نفسه، أو تخوضها بالنيابة عنه.

ووحدها هي حركة الإصلاح التي اعتبرت نفسها علناً بديلاً سياسياً عن تيار الصحوة بما يتضمن من مشايخ هم في أقل الأحوال حلفاء محتملون كونهم دخلوا السجون ويشاطرون الحركة رأيها السلبي من المؤسسة الدينية الرسمية.. ولقد حذرت الإصلاح هؤلاء الحلفاء المحتملين من الإبتعاد عن أجندتها، فكانت النتيجة أن أصدروا بياناً جمعياً يطالب المواطنين بعدم التظاهر، ونظنّ بأن ذلك البيان كان أحد أهم أدوات إفشال مشروع التظاهرات (الزحف الكبير). كان موقعو البيان، فيما بدا، أكثر خوفاً من الفقيه منهم من النظام، وقد ينطبق هذا على التيار الليبرالي بمختلف فصائله، فضلاً عن الحجازيين والشيعة وغيرهم. فاللغة الموتورة، ولمّا تصل الحركة الى السلطة، وتجاهلها لهذه القوى، أثار مشاعر القلق لديها على ذاتها، قبل القلق على مشروع الإصلاح الشامل الذي تبنّته التيارات الليبرالية والإسلامية كافة، وهو مشروع يختلف جذرياً عن مشروع الفقيه وحركته. فهذا الأخير، لم يبد أنه يؤمن بخطاب المطالب الذي تضمنته وثيقة الرؤيا من حريات وتعددية وانتخابات ديمقراطية وفكّ التشابك بين الديني والسياسي، وحقوق المرأة وحقوق الإنسان وغيرها. ولذا، اعتقد البعض بأن ما تدعو إليه حركة الإصلاح مجرد (دولة طالبانية) أكثر تشدّداً مما هو قائم حالياً في المملكة.

كان يمكن لمشاعرالقلق هذه أن تخفّ لو أن الحركة استطاعت تهدئتها.

وكان يمكن للقوى السياسية عامة ان تتحدث بلغة متناسقة حول أولويات التغيير.

لكن الدعوة لإسقاط نظام الحكم، وبالإعلام فحسب، كان أمراً مستحيلاً، ولذا ظهر من يرى بأن فائدة الحركة لا تتجاوز التحريض على النظام واسقاط هيبته، وهذا ما نجحت وساهمت فيه بلا شك.

أما أن تكون البديل، فإن من يطلب إزالة النظام، لا بد أن يحدّد الطريقة التي سيستخدمها لاسقاطه. وحركة الإصلاح كانت مواربة في هذا الشأن، فهي لا تستطيع أن تدعو الى استخدام السلاح، كون رئيسها مقيماً في لندن، ولا تستطيع أن تبني آمالاً عريضة على حركة جماهير شعبية من خلال إذاعة، بدون قوى منظمّة على الأرض، وبدون توافق سياسي مع الحركات المتجذّرة في محيطها. وقد تبيّن من أول تجربة، استحالة تحقق هذه الدعوة من خلال المظاهرات، التي كان يحتمل لها أن تحقق في مراحل لاحقة نجاحاً ما في حال توافر وتلاحم كل العناصر السياسية الفاعلة في داخل المملكة.

 

معارضة التغيير والإنتحار

 

هناك نوعان من حركات الإصلاح السياسي في المملكة: حركات التغيير (البطيء أو الجذري)؛ وحركات (الإنتحار السياسي). ويمكن النظر الى حركات الإنتحار السياسي، على أنها حركات (سريعة الإشتعال) وهي بالتالي (سريعة الذوبان). حيث تبدأ بوهجٍ عالٍ وتضخّم فجائي، تستقطب الإعلام، بل ويستهويها الإعلام. إنها حركات تحمل على عاتقها ما لا تستطيعه، أو ما لا تستطيعه وحدها، وتبدو كما لو أنها تمتلك بلدوزراً يكتسح ما ومن يقف أمامها. فإذا ما حانت ساعة الحقيقة، ودخلت المواجهة بان عجزها وقصورها، فتخمد كما الليف المشتعل بسرعة فائقة، فتنطفئ بذات السرعة التي ظهرت فيها، دون أن تترك أثراً ذي بال، اللهم إلاّ بعض الخراب والدمار في بعض الأحيان، إن كانت توسلت بالعنف وسيلة لتحقيق غاياتها.

حركات الإنتحار السياسي، هي في الغالب حركات (رد فعل) وهي بالتالي أقلّ جنوحاً نحو العلمية والتخطيط، تثير من حولها الصخب، وتتأثر به، فيكون في ذلك مقتلها. ضعف التخطيط، واعتماد سياسة (حرق المراحل) دون الإستعداد لها، هي من مميزات هذا النوع من الحركات، حيث لا يتوفر الوقت الكافي لها لتبني قواعدها التنظيمية، ولا تستطيع خلق كوادر متّزنة طالما هي في خضم الصراع الحادّ والعنيف الذي استعجلته؛ وبهذا فإنها تجمع الكثير من عوامل الفشل، فيكون عمرها أقصر بكثير من عمر تلك الحركات التي عادة ما تتهم بالمهادنة أو بالتردد أو بنزعتها التنظيرية دون ما يوازيها من فعل مناسب.

ويبدو أن التيار السلفي في المملكة، وقد عاش ردحاً طويلاً من الزمن في أحضان السلطة، مخدوعاً بتديّن قادتها، اكتشف متأخراً مفاجأة مهولة اعتبرت (خدعة كبرى) من قبل النظام وأدواته الدينية، تمثّلت في معرفة النظام عن قرب، وانكشاف مدى بعده عن التعاليم السلفية التي كانت الأكثرية تعتقد أنه يخدمها ويلتزم بها. إنها تشابه الخدعة التي اكتشفها الأخوان الأوائل، الذين تحوّلوا بين ليلة وضحاها من أيادي النظام، جنود الإسلام، جيش التوحيد، الى مجرد خوارج بغاة يفتي المشايخ بقتلهم، مثلما كان الأخوان والمشايخ أنفسهم يفتون بقتل الآخرين الكفار والمشركين في جزيرة العرب!

ربما كان هول الصدمة هائلاً ذاك الذي ولّد ردة فعل انتحارية مثل حركة جهيمان العتيبي. وحقّ له ولأمثاله أن يفاجأوا، وحق لهم أن يفقدوا تركيزهم، وهم يرون الديني متواطأً مع السياسي في عملية تضليل واسعة، لا تستطيع مجموعة التراث الوهابي أن تجد لها مخرجاً شرعياً يبرر استمرار الدولة وبقاء العائلة المالكة على رأسها.

بيد أن انكشاف النظام اللاحق لأزمة احتلال العراق للكويت، وما تلاها من انهيارات حادّة في شرعية الدولة، كان يفترض أن يؤدي الى ولادة نوع من المعارضات السلفية المعقلنة، ولا نقصد هنا عدم استخدام العنف كدالّة على ذلك، بل نقصد أن المجتمع السلفي كان يفترض أن يكون مهيّأً لبروز واحتضان حركات سياسية راشدة تعي مآل الأفعال وتخطط على مستوى الوطن، وتُحدث نقلة في الممارسة السياسية وفي التفكير السياسي بحيث تقود مجتمع المملكة بقواه السياسية المتعددة الى شاطئ التغيير بأقلّ الكلف.

لكن التيار السلفي، ولسبب دخوله المتأخر معترك السياسة، ولأسباب متعلّقة بالطابع العقدي الحادّ، والنزعة الفئوية والإستحواذية، وادّعاء التمثيل المطلق للتنوع السياسي والثقافي والجغرافي في المملكة، جعله أضعف من أن يقوم بهكذا دور متطوّر. قلّة هم ـ وفي مقدمتهم الدكتور عبد الله الحامد فكّ الله أسره ـ من تحرّر من آسار التراث، واستطاع أن يقدّم أطروحات سياسية ناضجة، مع محاولات للتسامي على الفئويات المذهبية والمناطقية. أما الحجم الأكبر من التيار الديني النجدي، فدخل السياسة بأمراضه القديمة، وبصراعاته القديمة، وبتقسيماته ونظراته العقدية والسياسية القديمة، وكما حارب ذلك التيار الكلّ وهو في حضن السلطة، كرّر ذات الخطأ وراح يقاتل نفس الأعداء مضافاً إليهم العائلة المالكة. ولم يكن صعباً على هذه الأخيرة أن تشيع الخوف من احتمالية نهاية الدولة وقيام الحروب الأهلية وتقسيم البلاد وفي أحسن الظروف قيام دولة طالبانية، في حال استحوذ هذا التيار (ولا نقول وصل) على السلطة.

لم نجد من كل حركات السياسة في التيار السلفي نضجاً سياسياً يعتدّ به ـ بالرغم من وجود عدد لا بأس به من الناضجين ـ مع اختلاف بين توجهاتها العامّة، سواء في دائرة ما يسمّى بالتيار الصحوي، أو في دائرة التيار الجهادي، أو الحائر بينهما كحركة الإصلاح.

خاض التيار الصحوي تجربة قد ينظر اليها بعض قادته اليوم بأنها (متسرّعة) في المواجهة مع النظام قبل أن تُستكمل أدوات المعركة، وذلك بعيد حرب الخليج الثانية، انتهت باعتقالات رموز الصحوة السلفية المتعددين وفي مقدمتهم الشيخ سلمان العودة، وسفر الحوالي، وناصر العمر، والشيخ العبيكان وغيرهم. فكان أن تراجع من تراجع، وطوّر بعضهم رؤاه السياسية بشكل محدود ـ حتى الآن ـ وأما الجانب النظري فلم يطرأ عليه تغيير يذكر، وهو ما يعيق حركتهم السياسية اليوم.

ثم انجلت الساحة فقامت لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية، وجرى تعطيلها واعتقال أهم رموزها، ومرّة أخرى اعتبرت هذه الحركة بادرة جديدة وتجربة يمكن البناء عليها، من قبل بعض قيادييها الناشطين، ونخص بالذكر الشيخ الرشودي وعبد الله الحامد مضافاً إليهم الدكتور توفيق القصير والدكتور الصليفيح. فهؤلاء قدموا بالتعاون مع التيارات الأخرى أرقى رؤية حتى الآن، في وثيقتهم الدستورية التي قدمت في شهر ديسمبر من عام 1993م، والتي تمثل نضجاً كبيراً بالقياس الى الحالة الرتيبة التي يتسم بها التيار الديني السلفي بالخصوص.

من جهة أخرى، كان منتظراً أن يقدم الدكتور الفقيه والدكتور المسعري، تجربة أكثر نضجاً وهم خارج المملكة، لكن الغريب جداً، أن أطروحتيهما السياسيتين ـ نقول هذا تجاوزاً ـ كانتا الأقلّ، ولا تتناسبان مع تقدّم الأطروحات المتعددة داخل المملكة نفسها. بل يمكن القول بأن التيار الجماهيري العام في المملكة، وليس النخب فحسب، قد سبق حركتي الإصلاح والتجديد بمسافات بعيدة، حتى بدا وكأن تجربة المنفى لم تضف إليهما شيئاً كثيراً يعتدّ به، رغم الإنفتاح وأجواء الحريّة في الخارج. ولعلّ أسباب ذلك تعود الى الإنغلاق في المحيط الديني السلفي اللندني والبريطاني بشكل عام. وهذا التيار اللندني لا يغذّي أتباعه وجمهوره وقياداته بالنضج السياسي وإن تحدّث في السياسة وكتب فيها، فالبعد السياسي لدى سلفيي لندن وبيرمنجهام، ومحازيب حزب التحرير، يقلّ في تقدميته عمّا يتداول بين أفراد التيار السلفي في أحياء الرياض وبريدة.

وربما ساهمت أحداث 11/9 في المزيد من الإنكباب على الذات الفكرية، والإنبهار بما لديها من متفجرات سياسية وعقدية، أكثر مما لديها وعياً سياسياً. فألق أسامة بن لادن، لم يصب السلفيين العاديين فحسب، بل أجرى تحولا جذرياً في أذهان القيادات. فالمواجهة الكونية مع أميركا وحلفائها، وبالأدوات العسكرية كانت مدار التفكير والحل للمعضل السياسي في المملكة، ولم يكن هناك متسع من نقاش أو تفكير لقراءة الوضع بصورة أخرى، أو على الأقل تقليب الأمور علّ فيها ما يفيد بحيث لا يُساق الجمع ضمن نمط سياسي لا يقبل به إلا من كان داخل القطيع.

ولهذا اتخذت لغة الخطاب في حركتي الإصلاح والتجديد، تصعيداً وحدّة، هي في بعض جوانبها انعكاس للحدّة والقطيعة مع النظام، وانعكاس لمشاعر المواطنين المصابين باليأس من التغيير في ظل العائلة المالكة. لهذا تبلور في السنوات الأخيرة خطاب يرى استئصال العائلة المالكة وإنهاء حكمها، بالرغم من أن الأصل كان (الدفاع عن الحقوق الشرعية) وإسم (الإصلاح) أو (التجديد) لم يكن يتحمّل هذا النوع من الخطاب التحريضي، الذي أعطى الحكومة السعودية الفرصة لاستعداء البريطانيين، وتقديم أدلّة بأن وراء الأكمة إرهاب وعنف وقاعدة!

إن الإنزلاق في هذا المنحى، يجعل المرء يميل الى الإعتقاد بأن حركة الإصلاح ـ بالنظر الى قصورها المتعدد الذي اشرنا إليه ـ قد دخلت ميدان الإنتحار السياسي، وكأنها حركة وامضة سريعة الإشتعال والإنطفاء معاً. وهناك بالفعل ـ في المملكة ـ من ينظر اليها على هذا النحو، من جهة أنها حركة انتحار جاءت لتشوّه سمعة النظام، ولتموت بعد أن تؤدي رسالتها تلك، ومن ثمّ سيأتي غيرها من حركات التغيير لتستثمر الوضع وتتقدم خطوات أخرى باتجاه أهدافها.

ربما لا ينطبق على تنظيم القاعدة في المملكة صفة (حركة انتحار) بالرغم من أن الحكومة السعودية تميل الى تصوير الأمر كذلك، بل وتتمنّى أن يكون التنظيم مجرد مرحلة عابرة في سماء السياسة السعودية المحليّة. القاعدة تنظيم حقيقي على الأرض، وهذا يعني أن هناك توظيف لعناصر جديدة، وقيام خلايا جديدة، وهناك رؤية سياسية وخطاب سياسي يتبلور على الأرض، وقيادات كارزمية خارجية تمثل ملاذاً نفسياً، وملهماً روحياً. والقاعدة تنظيم يعتمد التأصيل الديني، وفق الرؤية الوهابية، لا يستطيع رجال الدين الرسميون مواجهتها ونقضها اعتماداً على ذات الأيديولوجيا الوهابية. وطالما كان هناك فكر ورموز وقيادات وسيطة وتنظيم على الأرض وخطط سياسية وعسكرية، وقبل هذا كلّه مناخاً سياسياً واجتماعياً ملائماً تتغذّى عليه، فإن القاعدة، وعلى الأرجح ـ ومهما وجهت لها من ضربات أمنيّة ـ فإنها قادرة على النهوض من جديد والإشتباك مع السلطة، وتطوير وسائلها.

قد لا تستطيع إسقاط النظام، وقد لا تمتلك البديل السياسي الناضج، ولكنها قد تتمكن في المستقبل غير البعيد من إحداث هزّات جذريّة فيه، ليس عبر ضرب منشآت النفط فحسب، وإنما الأهم عبر الإغتيالات وتصفية رؤوس النظام. وهذا الإحتمال قائم وسيصل قادة القاعدة لقرار بشأنه بعد تردد واضح حتى الآن. فإذا ما شرعن ضرب النفط، وشرعن ضرب رجال الأمن، فما هي الحصانة ـ الدينية أو الشرعية ـ للعائلة المالكة ورموزها؟ ليست المسألة ديناً هنا، بقدر ما تكون قراراً سياسياً لم يتخذ، بالنظر الى الظروف غير الناضجة على مستوى التيار الديني السلفي، ولذا لا نظنّ ان المواجهة إلا ستتوسع لتصل الى مداها في معركة (حياة او موت).

 

التركيز على الإعلام

 

شغلت حركة الدكتورين سعد الفقيه ومحمد المسعري النظام السياسي في المملكة لأكثر من عقد، منذ أن خرج الإثنان من المملكة عام 1993م، بعيد تشكيل لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية واعتقال قادتها الأساسيين كالدكتور عبدالله الحامد والدكتور سليمان الرشودي والدكتور حمد الصليفيح؛ تأسيس تلك اللجنة كان سابقة سياسية على مستوى التيار السياسي السلفي في المملكة، وربما على مستوى المملكة من جهة (علنيّة) التأسيس، وتبنّي برنامج تغيير شكّلت (مذكرة النصيحة) التي وقعها التيار الديني السلفي بمختلف فصائله، عموده الفقري.

بخروج الرجلين، ممثلين لذينك الموضوعين (اللجنة والمذكرة).. انتقلت المواجهة الإعلامية ـ السياسية الى خارج الحدود، وانكفأت القوى السياسية المحليّة على ذاتها، بسبب الإعتقالات المكثّفة، فيما تراجع التيار الليبرالي، بمجرد دخول التيار السلفي على خط المواجهة. ومنذ ذلك الحين، بقي المواطنون والفعاليات السياسية ـ في أكثرها ـ تنتظر ما ستسفر عنه تلك المواجهة، وكأن القرار الذي بدأ بلغة المطالب والعرائض حينها قد تجمّد، مع تصاعد المواجهة وتغيّر موضوعها من إصلاح تدريجي ـ إقناعي، الى مواجهة حادّة تميل الى تغيير جذري شامل، يستهدف المزيد من (أسلمة الدولة) كما تشي بذلك مذكرة النصيحة، واحتكار منافع التغيير القادمة للتيار السلفي نفسه عبر فرض أجندته.

وبدل أن يتمّ التركيز على الرموز المؤسسة للجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية الذين تمّ اعتقالهم، وعلى أجندة تلك الحقوق المسلوبة التي جاءت اللجنة للدفاع عنها، تحوّل النقاش الى مواضيع أخرى، تشخصنت فيها القضايا والمواقف، وارتبكت بسببها الساحة السياسية الداخلية خاصة في المحيط السلفي الذي كان يواجه حملة اعتقالات شديدة شملت معظم رؤوسه وكبار قياداته الكارزمية.

لم يتبلور في الخارج ـ فيما يبدو ـ تصوّر واضح للتغيير المطلوب، بالرغم من الترحيب الإعلامي الغربي البارز لهذه القوة السياسية الناشئة، والتي تصور الكثير من الصحافيين الغربيين، أنها ستقلب المعادلة السياسية المحليّة، حيث نُظر اليها كحركة تغيير شامل، تستهدف إسقاط النظام السعودي، وكانت الحركة مطالبة بأن تثبت بأنها في مستوى المهمة التي أناطت نفسها بها، وأنها قادرة على تحمّل عبء تلك المسؤولية. لكن الذي حدث بعد أشهر، هو اكتشاف المراقبين بأن تلك الحركة لم تكن في مستوى النضج السياسي المتوقع منها، وأن أداءها في (الداخل السعودي) أقلّ من أن يطيح بنظام العائلة المالكة. وكانت الأخبار التي تسرّبها الحركة للقنوات والمؤسسات الإعلامية الضاغطة لمعرفة ما يجري واستكناه هذا الكائن الجديد، تحوي قدراً من المبالغة ومن الأخطاء؛ فضلاً عن أن الخطاب السياسي بدا وكأنه غير ديمقراطي، بل يحمل أبعاداً دينية متشددة، الأمر الذي جعل ممثلي اللجنة الشرعية في الخارج وكأنهم البديل الأسوء لنظام سيء. وشيئاً فشيئاً خفّ اهتمام وسائل الإعلام بنشاطات اللجنة، وتضاءلت قيمتها خاصة بعد الصراع الداخلي الذي ألمّ بها، وتأسيس الدكتور سعد الفقيه (حركة الإصلاح) بقيادته.

أما أولئك المتابعون والمؤيدون في الداخل، فقد راعهم الخلاف الناشب، الذي غذّته وسائل الإعلام الحكومية السعودية نفسها، حيث وجدت في الصراع الذي تدخلت فيه المحاكم البريطانية، دليلاً تشهره أمام خصومها، وأمام حلفائها في الخارج. ونظراً لكثرة الأخطاء، وغياب الرؤية، وبقاء القادة المؤسسين في السجون، انحسر التأييد الشعبي للجنة الشرعية، وبدا وكأن النخب التي كانت تقف وراءها قد تراجعت هي الأخرى عن دعمها أو الإنتساب إليها. ولهذا أصبحت حركة الدكتورين محمد المسعري وسعد الفقيه شبه معزولة عن النخبة الداخلية التي تنتمي الى ذات المحيط والتيار، بل أن الحكومة استطاعت أن تعيد الشيخ عبد الله الجبرين، وقد كان عضواً في لجنة الإفتاء، وعضواً مؤسساً في لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية الى بيت الطاعة الحكومي، وأن تحاصر رئيس اللجنة الشيخ عبد الله المسعري (والد الدكتور محمد) والذي كان قد شغل منصباً رفيعاً في المؤسسة الدينية ـ القضائية، كرئيس لديوان المظالم، الذي يعد بمثابة أعلى محكمة قضائية في البلاد.

على الصعيد الإعلامي الخاص، وجد المسعري والفقيه نفسيهما بحاجة الى عمل إعلامي سياسي للشارع السعودي، فظهرت نشرات أسبوعية راحت ترسل بالفاكس الى الآلاف من المواطنين والمسؤولين. في ذلك الوقت لم تظهر بعد تكنولوجيا الإنترنت ولذا عدّت تلك الطريقة كما عبر عنها بعض الصحافيين بأنها (ثورة الفاكس) على غرار (ثورة الكاسيت) التي قام بها الخميني في إيران.

بيد أن محتوى الفاكسات لم يكن رصيناً بما فيه الكفاية، ولربما أهدر مصداقية العاملين على إرسالها ـ رغم كلفتها الباهظة ـ كونها تعرضت مراراً لأشخاص بالإتهام اعتذرت اللجنة أكثر من مرة عن الزج بأسمائهم. وفي سياق التعريض بالحكم السعودي، احتوت النشرة على أخبار داخلية متعددة وعلى ترجمات مختصرة لكتابات صحافية عن المملكة، ولم توفّر النشرات رموز الحكم بالإتهام بالفساد وخيانة الأمانة وغيرها، بل حوت تحريضاً على النظام وكأن الحل السلمي معه قد انتهى بحملة اعتقالاته، وهذا ما لم تكن الساحة السلفية على وجه الخصوص مهيّأة له، فذاك ينقلها من (مرحلة الإصلاح والنصيحة) الى (مرحلة الصدام والتغيير) الذي سيطيح برؤوس كثيرة ومتنفذة، ليس بينها أعضاء العائلة المالكة (والتي جهزت نفسها بأجهزة لم تستخدم من قبل أي دولة في العالم لمراقبة الفاكسات) فحسب، بل قيادات المجتمع النجدي في مجمله، الدينية منها والإدارية. وكان من الطبيعي والحال هذه أن تقف كل هذه القوى ضدّ الرجلين في الخارج، مع الأخذ بعين الإعتبار حساسية الوضع بالنسبة للجنة نشأت ومثّلت البيئة السلفية النجدية.

لقد شعر المفتي السابق الشيخ عبد العزيز بن باز بالخطر من الرسالة التي تؤديها الخطابات والبيانات والأخبار القادمة من لندن، فأصدر هو بنفسه فتاوى، كما مع آخرين، تطالب المواطنين بعدم قراءة أو الإلتفات الى ما يأتي من نشرات اعتبرها بغيضة وخطيرة على المجتمع، وشنّ حملة على المسعري والفقيه وعلى نشاطيهما الخارجي، ووصفهما بأوصاف شتى هي بكل المقاييس السلفية بشعة. هذا التصرف، وإن كان أسقط شيئاً غير قليل من قيمة المفتي، وأظهره وكأنه لا يعدو أداة بيد النظام، إلا أن المفتي إبن باز كان شخصية كارزمية مؤثرة، وكان كلامه وفتاواه قد سحبا قدراً غير قليل من شرعية القائمين على العمل في لندن.

بالطبع، ردّ المسعري والفقيه على المفتي، وكان من الأجدر أن لا يفعلا، وإن كان ولا بدّ من الردّ، فيكون هادئاً يقدّر للمفتي مكانته ورمزيته بين جمهوره، وأن يلتمس له الأعذار، وأن يشير بطرف خفي الى دور السلطة في إصدار تلك الفتاوى. لكن ما جاء من ردود كان حادّاً، واتخذ وسيلة المعاملة بالمثل، ومن البديهي في مجتمع سلفي محافظ، وبالنسبة لحركة أو لجنة ذات ميول دينية، وتقتات على نفس القاعدة الجماهيرية المؤيدة في أغلبها للمفتي وتثق به، وإن كانت لا تثق بنظام الحكم بالضرورة.. كان من البديهي أن تصطفّ الأكثرية من العلماء وراء المفتي الرمز، وكذلك الجمهور النجدي ـ السلفي، أو على الأقل ـ وهذا ما فعله بعضهم ـ إلتزام الصمت وعدم الخوض في مواجهة كهذه لا يخرج منها الجميع إلا خاسراً، خاصة الطرف الأضعف ـ وربما الطارئ ـ في المعادلة السياسية ـ الدينية.

حاولت اللجنة تطوير وسائلها الإعلامية، فأصدرت مجلة شهرية حملت إسم (الشرعية) لم تستمر سوى بضعة أشهر، حوت عدداً من المقالات والآراء أكثر نضجاً مما كان يُنشر ويُبعث عبر الفاكس، ولكنها في السياق العام لم تكن تأتي بجديد، كما أصدرت الحركة بضع كراسات تعرضت فيها لشرعية النظام السعودي في قراءة دينية، وبعض الكراريس كانت مجرد تجميع لبيانات الحركة أو الأشعار التي قيلت في النظام ورموزه.

وبعد انشقاق حركة الإصلاح عن لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية، خفت صوت الأخيرة الى أن ماتت تقريباً، وانتقلت الكاميرا لتسلط الأضواء على شخص الدكتور سعد الفقيه وحركته الجديدة، فكان هو النجم الصاعد الذي حلّ محلّ الدكتور المسعري. فقد بدأ الدكتور الفقيه باستخدام التكنولوجيا من جديد، عبر البالتوك وغرف الحوار وعبر موقع أو أكثر على الإنترنت، في حين اختفى إسم المسعري ردحاً من الزمن، اللهم إلا من موقع على الإنترنت يحمل إسم اللجنة ما لبث أن تحول الى إسم (التجديد الإسلامي) وهذا ما أعطى الفقيه بوجه خاص فرصة التواصل مع الجمهور الذي بدا وكأنه يبحث عن مكان ينفّس من خلاله همومه.

لكن الإنترنت لم يكن حكراً على أحد، فقد اتسعت دائرة الإستخدام ـ وإن متأخراً ـ في المملكة، وانفتح المواطن السعودي على مواقع عديدة تناقش الشأن السعودي، إما بذات اللغة أو بأفضل منها. وحين ظهرت القنوات الفضائية العربية وخاصة الجزيرة التي كان لها سبق الريادة، اصبح السعوديون أكثر المتواصلين معها ومع غيرها وربما في كل البرامج، كما كان السعوديون ـ وبالخصوص التيار السلفي ـ أكثر الجهات التي تمتلك مواقع على الإنترنت.

خلال السنوات الأخيرة، خبا نجم المسعري والفقيه من الإعلام الغربي، فتنفّس المسؤولون الصعداء، وقد كانوا يعدّون احتفاء ذاك الإعلام الغربي بهما عملاً عدائياً متآمراً مدفوعاً من قبل الحكومات الغربية نفسها. بيد ان الدكتور سعد الفقيه لم يكلّ ولم يملّ، فحاول إطلاق إذاعة يمكن التقاطها عبر الستالايت، وتدخلت الحكومة السعودية أكثر من مرة الى أن نجحت في إغلاقها. قيل أن ذلك جاء بتدخل مباشر من حكومة شيراك. والإذاعة لم تكن ـ كما وصفها الكثيرون ـ سوى صوت رجل واحد، هو الدكتور سعد، حيث يمضي بضع ساعات يومياً في الحديث المباشر مع الناس.

على صعيد آخر، راهنت الحكومة على إنضاب مصادر الحركة المالية؛ وبالفعل فقد تناقصت المصادر المالية الآتية من السعودية كثيراً بعيد الهزّات العنيفة الناجمة عن الإنشقاق وانهيار اللجنة الشرعية عملياً في الداخل، وجرّاء فتاوى المفتي وخذلان الأقربين المعترضين على نوعية الخطاب المقدّم سياسياً وإعلامياً. بيد أن حركة الإصلاح لم تكن تشكو من نقص مالي جرى التعبير عن عدم وجوده بفلتات اللسان أحياناً. الحكومة السعودية تتهم حكومة قطر بتمويل الفقيه بعد الإنشقاق، ثم أضافت الى ذلك حكومة ليبيا، وعلى أساس ذاك جاء الربط بين ما قيل أنه محاولة لاغتيال ولي العهد ساهم فيها الطرفان.

في هذه الأثناء استطاع الفقيه أن يعيد الحياة الى قناته الإذاعية التي تحوي مواد تحريضية عالية المفعول، بعضها ـ حسب القوانين البريطانية ـ يدخل في قائمة الممنوعات، بل المحرمات التي يحاسب عليها. ورغم إدراك الدكتور سعد لذلك، ومحاولته التلطيف من الكلام القادم من السعودية ومنع ذلك أحياناً، إلاّ أنه لم يكن قادراً على إخراس الألسن المتدفقة بالحماس والمؤيدة لاستخدام العنف من أجل إفناء النظام الملكي وتأسيس (حكومة شرعية) جديدة برئاسته.

الميزة التي جاءت بها فضائية الإصلاح الإذاعية أنها كشفت عن حجم الإحتقان الداخلي، خاصة في المحيط السلفي، وشكلت شبه رأي عام جمعي سياسي يحدث لأول مرّة بين شرائح من المواطنين السعوديين من مختلف المناطق، يميل الى تغيير نظام الحكم، أو على الأقل يتفق حول نقطة مركزية وهي ضرورة الإصلاح السياسي الشامل، الذي بدا واضحاً أنه بعيد المنال، وأنه ميؤوس من تحققه على يد الطاقم الحاكم الحالي.. فكان الإندفاع باتجاه التغيير الشامل مع تلميح وتصريح من قبل مسؤول القناة ومن المتصلين بالهاتف بأن العنف (قد يكون حتمياً) إما بحجّة الدفاع عن النفس مقابل جور رجال الأمن، أو لأنّ هذا النظام السعودي القائم لن يتغيّر بدون سلاح؛ وكان كثير من المتصلين يتحدثون عن امتلاك أسلحة وعن احتمال استخدامها.

لقد وضعت القناة الإذاعية العائلة المالكة تحت مباضع التشريح والنقد اللاذع والإتهام الصارخ بالفساد والتضليل والبعد عن كل ما يمتّ الى قيم المجتمع، وكانت الشكاوى المعيشية والمقارنة بما يقوم به الأمراء تغذّي النفوس المتحفّزة للتغير. بيد أن هذه المشاعر لم تكن لتفيد كثيراً في ترتيب تنظيم لحركة الإصلاح في الداخل. فالتلفون ربما كان نعمة ونقمة في نفس الوقت. فهو نعمة لأنه مكّن من التواصل مع القاعدة الشعبية الخالية تقريباً من قيادات ذات قيمة إجتماعية معروفة، وكان نقمة لأنّ العديد من منتسبي المخابرات والمباحث دخلوا على خط التأييد للحركة وثبّتوا مواقعهم فيها كأنصار ومؤيدين، وربما كشفوا الكثير من الأفراد المتحمسين فقامت السلطات الأمنية باعتقالهم قبيل ما دعا اليه الدكتور الفقيه من مظاهرات (الزحف الكبير) لإنهاء النظام من الوجود. الأخطر في كل هذا، ان عدداً من القيادات الأمنية الحكومية، صاروا ـ دون معرفة من هم في الخارج ـ قيادات ميدانية للمظاهرات المنتظرة، وحين تحددت ساعة الصفر، اكتشف أن من يعتمد عليهم في تنظيم التظاهرات وقيادتها كانوا يعملون مع الأجهزة الأمنية نفسها! ففشل المشروع فشلاً ذريعاً أكثر مما كان متوقعاً بالنظر الى الإستعدادات الهائلة والتجييش الكبير، في حين أن سابقة حدثت قبل عام أوصلت عشرات المتظاهرين الى أحد شوارع الرياض وآخر في جدّة، بحيث أغرت القائمين على حركة الإصلاح بتكرار التجربة على نطاق أوسع للزحف على الأجهزة الحكومية وقلب نظام الحكم.

 

جمهور إبن لادني

 

يستوقف المرء فعلاً أن أحداً من الشخصيات المعروفة الناشطة سياسياً أو دينياً أو إعلامياً لم تعلن انحيازها لحركة الإصلاح أو التجديد الإسلامي المشكلة على أنقاض لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية؛ وفي حين حظي ابن لادن بدعم علني من عدد من المشايخ في المملكة وربما في بقاع أخرى من العالمين العربي والإسلامي، لم يظهر مؤيد ذو وزن حتى من الدرجة الثالثة ليعلن وقوفه مع حركة مضى على تواجدها في لندن نحو عشر سنوات.. فهل كان هذا مصادفة، أم أن هناك مواقف متضاربة، أم أن مصداقية العاملين السلفيين في لندن كانت ضئيلة، أم أن المجتمع السلفي ميّال الى التشدد والعنف في حين أن خطاب الفقيه لم يكن مغرياً بما فيه الكافية؟

ثم ما هو تصنيف القاعدة الشعبية التي تعتمد عليها حركة الإصلاح والتي تعلن عن نفسها من خلال الإتصالات الهاتفية بقناة الإصلاح، وإلى أي حدّ يمكن القول بأن هذه القاعدة موثوقة ويعتمد عليها في النائبات والملمّات والمهمّات؟

من البديهي أن لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية، ومن بعدها حركة الإصلاح، إنما نشأتا من بيئة سلفية مناطقية (نجدية) وبالتالي فهي لم تكن تمثّل التنوع الديني والثقافي ولا المناطقي ولا السياسي في المملكة.. لقد نشأت لجنة الدفاع على موج هادر من السخط بعيد أزمة احتلال وتحرير الكويت، في محيط مناطقي ديني سلفي كان يتموّج بتفاعلات سياسية مكبوتة فجّرتها تلك الأحداث، أفرزت مذكرة النصيحة واللجنة.. وحين هدأت الفورة بقيت الأفعال تميل الى ذات التمثيل العصبوي الذي ابتليت به الحركة الوطنية السياسية في المملكة منذ تأسيسها.

وفي حين لم يكن الدكتور المسعري ميّالاً في الأصل الى مدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فإن إعلانه عن ذلك لاحقاً أدّى الى عزله عن البيئة السياسية الدينية المؤثرة في نجد، وجرى الغمز من قناة أنه ليس نجدياً في الأصل، وأن ميوله السياسية قديمة باتجاه حزب التحرير، وبالتالي لم يكن ممكناً والحال هذه أن يمكّن من تزعّم تيار ديني غير سلفي في محيط سلفي نجدي يقبل على (الوهابية) كمعتقد أو كهوية فرعية تحتل مقعد الهوية الوطنية. الدكتور الفقيه لم يكن يعاني من هذه المشكلة، فهو أكثر التصاقاً بتراث الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو من جهة أخرى ابن عائلة نجدية لم يكن من الممكن ـ رغم المحاولات ـ الطعن فيها، كالقول أنه (زبيري). وبالتالي فهو ليس بعيداً عن الدائرة الداخلية، فكانت معارضته نابعة من (داخل البيت السلفي النجدي الحاكم) وبالتالي فهي كانت أكثر أثراً على اللحمة الداخلية لنظام الحكم، مقارنة مع المعارضة غير النجدية (معارضة خارج الحريم السياسي الحاكم).

وإذا كان متوقعاً بروز معارضات في الشرق والغرب والشمال والجنوب، كون سكان هذه المناطق تعيش على هامش جهاز الدولة وأقل انتفاعاً بخيرات الدولة ومواردها وخدماتها، وبالتالي فإن مبرراتها تبدو واضحة إما على قاعدة إقتصادية أو سياسية أو عقدية (باعتبارهم غير وهابيين).. فإن المعارضة من داخل البيت تشقّ الصف، وهي معارضة المنعمين من الدولة، وبالتالي فإن رموز العائلة المالكة لم يكونوا ليتوقعوا أن تخرج معارضة لهم بين ظهرانيهم، أو حسب تعبير الأمير نايف وزير الداخلية (من داخل بيوتنا). وقد عبر عدد من المسؤولين السعوديين عن هذا الإنزعاج من تحول بعض أفراد المنطقة الأثيرة ضد العائلة المالكة، أي من يد النظام الى يد ضاربة ضدّة؛ ففي زيارة الأمير سلطان وزير الدفاع الى منطقة القصيم سنة 1997 قال في خطاب جماهيري مفتوح وبثّ على شاشة التلفزيون، قال بأنه (يفخر بأن معظم مسؤولي الدولة قد جاؤوا من هذه المنطقة) وكأنه يريد التذكير بأن مبررات معارضة الدولة من هذه المنطقة يفترض أن تكون معدومة، وأن فضل الدولة عليها أكبر من فضلها على أي منطقة أخرى من مناطق المملكة.

لكن تحوّل الولاءات الدينية والسياسية قد تغيّر بالفعل منذ حركة جهيمان العتيبي في نوفمبر 1979، وتأكد في أعقاب حرب الخليج الثانية وعودة (الأفغان السعوديين) الى ديارهم ليمارسوا الجهاد داخل البيت السعودي نفسه. وهذا التحول مردّه للتغيرات السياسية الصاخبة وانهيار دولة الرفاه وتفعيل أفكار ومعتقدات المذهب وتطبيقها داخل البيت بدل أن تكون مقياساً في التعاطي مع الخارج فحسب. لم يكن التيار السلفي كتلة واحدة، قد بدا كذلك في بداية الأمر؛ فتحول المجتمع البسيط الى مجتمع معقد يتعاطى مع السياسة كان يفرض تمييزاً بين الأفراد والمواقف والتجمعات، وهذا ما حدث في مرحلة لاحقة.

ففي البداية، كان ما يسمى بـ (علماء الصحوة) و (جيل الصحوة) متداخلاً غير منفكاً عن علماء المؤسسة الدينية الرسمية، ومع الزمن بدت المواقف السياسية وكأنها محلّ الإنشقاق شأن كل التجمعات، فتسييس التيار السلفي ولّد بادئ ذي بدء انشقاقاً أو لنقل تمييزاً بين (الصحويين) السلفيين و(الرسميين) من علماء ومفتين وموظفين وقضاة، حيث وقف الصحويون منتقدين لنظام الحكم في حين دعم الرسميون العائلة المالكة واعتبروها صمام أمان للمجتمع من التغيرات الكاسحة القادمة. ثم في داخل جيل الصحوة، جاءت تقسيمات أخرى تتفق في الموقف من نظام الحكم السعودي بأنه نظام لا يلتزم بمنهج الإسلام في كل أفعاله، ولكنها تختلف من جهة ما يستتبع ذلك من موقف يتطلب تغييراً في النظام، فبعضهم رأى العمل السلمي والنصيحة (العلنية) ـ أي النقد العلني للنظام ورموزه ـ وبين من رأى ضرورة تغيير النظام بالسلاح، وهؤلاء هم في أكثرهم من العائدين من أفغانستان، وتطورت مواقفهم وتبلورت شيئاً فشيئاً منذ تفجيرات العليا عام 1995، وبعدها تفجيرات الخبر عام 1996، وحين جاءت (غزوة منهاتن) أي أحداث 11/9 شرب هذا التيار المطالب بالتغيير بقوة السلاح جرعة طاغية من الثقة والحماس، تبلورت فيما بعد على شكل خلايا أكثر تنظيماً وارتباطاً بالقاعدة، الى ان وصلت الأمور الى التفجيرات وتعيين قيادات ميدانية لتنظيم القاعدة في المملكة، بدأت بالشيخ يوسف العييري، وبعد مقتله تولى القيادة عبد العزيز المقرن، وبعد مقتله تولى القيادة حتى الآن صالح العوفي.

في داخل التيار الصحوي الداعي للتغيير السلمي، انكشف الموقف عن تيارات متعددة أيضاً، بعضها يقترب من النظام بالجملة (محسن العواجي) وبعضها يتفق معه في بعض القضايا (سفر الحوالي) وبعضها لا يريد أن يعطي موقفاً داعماً صريحاً للحكم ولا أن ينتقده علناً (سلمان العودة) وهناك من انغمس مع النظام الى النهاية (عبد المحسن العبيكان مثالاً) أو طلّق السياسة (عائض القرني) وبعضها اتخذ وجهة تنويرية أكثر من غيرها (كالشيخ عبد العزيز القاسم، وعبدالعزيز الخضر، فضلاً عن الدكتور عبد الله الحامد والدكتور توفيق القصير) وإن كان الأخيران يحسبان فكرياً وسياسياً ـ بنظر البعض ـ غير سلفيين، بالمعنى المتداول في المملكة.

حركة الإصلاح التي يقودها الدكتور الفقيه لم تألف هذه التقسيمات المعقدة وغيرها والتي تبلورت في الداخل السعودي في حين كانت الحركة بعيدة في المنفى؛ كما أنها لم تكن قريبة من التطورات الفكرية والسياسية التي طرأت على كل التيارات السياسية والفكرية في المملكة السلفية وغير السلفية، خاصة بعد أحداث 11/9. الشيء المؤكد بأن تفجيرات نيويورك خطفت الأبصار وعزّزت مسارات كامنة في الثقافة السلفية، وربما لم يلتفت قادة حركة الإصلاح الى حقيقة أن الساحة الفكرية والسياسية في المملكة طرأ عليها تنوعٌ كبير، وتشظّ أيضاً، بالنظر الى هامش الحرية الإعلامية الذي وفرته منتديات الإنترنت والقنوات الفضائية وحتى الصحافة المحلية (حتى مارس 2004، وهو تاريخ اعتقال دعاة الإصلاح السياسي في المملكة). بانتهاء التقسيمات القديمة، او ما يمكن تسميته الثنائيات المبسّطة (مع أو ضد النظام) التي شهدها التيار السلفي في بداية التسعينيات، كان هناك عشرات الألوان ممن يحسبون (ضد) أو (مع).. فكيف صنّفت حركة الإصلاح نفسها، أو لنقل كيف أعادت تصنيف نفسها، ضمن التكتلات السياسية داخل البلاد؟

هذا التساؤل يحدد حجم القاعدة التي يمكن الإعتماد عليها في التغيير. السلفيون في المملكة (أقلية عددية) ولكنها (أكثرية سياسية وثقافية) كسبوها بالتحالف مع الدولة منذ تأسيسها. وهذه القاعدة المذهبية هي قاعدة مناطقية أيضاً (في نجد) ومعلوم أن حركة الإصلاح لا يمكنها أن تمثل الحجازيين ولا الجنوبيين ولا الشيعة في الشرق ولا العديد من المواطنين في الشمال. إذن محور الدعم يفترض أن يأتي من القاعدة السلفية النجدية، وهذه القاعدة بها قيادات كثيرة جداً وقويّة جداً وبعضها له كارزما تفوق حركة الإصلاح وزعيمها بمراحل من حيث الشعبية والقوّة والثبات. فإذا كانت المؤسسة الدينية الرسمية قد سحب قطاعاً عريضاً من التيار السلفي معها، وإذا كان الصحويون بمختلف فئاتهم قد سحبوا قسماً آخر كبيراً، ومع وجود ممثل لحركة التغييرالعنيف له جاذبية خاصة (القاعدة كمسمّى، وابن لادن كرمز).. فمن بقي ليقف من هذا التيار العريض مع حركة الفقيه؟ بالطبع لا يمكن لكل القوى أن تحتوي كل الشارع السلفي النجدي وغير النجدي.. ولذا حاولت حركة الإصلاح أن تختط لها خطاباً هو الأقرب الى التغيير الشامل، وسيكون عليها لزاماً هنا أن تكون الأقرب من الناحية النظرية الى ما تدعو إليه القاعدة.

صحيح ان قيادات الحركة لا تستطيع أن تتبنّى القاعدة علناً، أو تنضوي تحتها، وهي تقيم في بلد كلندن، وإن حاولت التواصل والمساعدة ـ كما تقول بعض المصادر ـ وذلك قبيل أحداث سبتمبر. أما بعد الأحداث فكان من المستحيل الإلتصاق بها. وصحيح أن الحركة حاولت أن تقترب من لغة خطاب القاعدة، وأن تمرّر بعض التوجيهات والإقتراحات من خلال الإذاعة الى عناصر القاعدة المسلّحين، لكن هؤلاء لم يكونوا هملاً من التوجيه، فهم أفراد منظّمون يتبعون قيادة ميدانية ويعملون وفق خطط، ولا يستوردون آراء آخرين ولا مخططاتهم ولا فتاواهم.

لهذه الأسباب كان حجم التعاطف السلفي النجدي مع الدكتور الفقيه وحركته محدوداً في محيط نجد ورموزها الدينية والسياسية، وهو ما كان واضحاً وأشار إليه الفقيه بنفسه في ثنايا حديثه قبل أيام من اختبار دعوته (للزحف الكبير) في 16/12/2004م.

إذن كيف يمكن تفسير ما تنبئ به المكالمات الهاتفية وبيانات التأييد الداخلي من زعماء القبائل في المملكة والتي نشرت على الهواء وبالتسجيل من قناة الإذاعة؟

بادئ ذي بدء، فإن الأجيال الشابة في المملكة والتي تشكل أكثرية السكان، تعيش سخطاً غير مسبوق، لا يحتاج إلا الى عود ثقاب لينفجر. وهذه الأجيال أكثر ميلاً الى التغيير الراديكالي منه الى التغيير المتدرج (وكلاهما غائبان في المملكة) لكن ما يمنع هذا التفجر العنيف بأشد مما شهدناه ونشهده منذ سنوات عنف عديدة في البلاد، هو غياب قنوات التنظيم التي يمكن لها أن تستوعب هذه الأجيال، التي تسرّب منها العديد الى العراق، وبعضها شكل خلايا صغيرة تدير ذاتها وتخطط لنفسها. ثم إن غياب منظمات المجتمع المدني يبقي هذه الأجيال قنبلة موقوتة، لطالما حذّر كتاب سعوديون عديدون من عواقبها. وفي ظل الفشل الحكومي الإقتصادي والسياسي والضغط الإجتماعي، ستبقى هذه الأجيال عنصر التغيير القادم والعنيف، إن لم تتسع القنوات لتستوعبها، وإن لم تبادر الحكومة الى خلق مناخ سياسي وطفرة اقتصادية تحدّ من آثارها الكارثية.

هذه الأجيال المشتتة لاتزال تبحث عن تنظيم تلتحق به، أو جماعة سياسية تنتمي إليها، وعن أمكنة تفرّغ فيها شحناتها الملتهبة، وأفكارها البعيدة عن عقليات (الجيل الديناصوري) القابض على زمام السلطة. وإحدى مشكلات هذا الجيل (الضائع سياسياً واقتصاديا) والذي يعيش بلا آفاق أو ثقة في مستقبل يضمن له حدّ الكفاف من العيش الكريم، تُشحن يومياً بأخبار مآسي الداخل، وتراكمات السياسة الإقليمية وتداعياتها على الأوضاع المحلية، سواء ما يجري في أفغانستان أو العراق أو فلسطين. هذا الشحن لم يجد له تفريغاً بعد، ويمكن اعتبار القنوات الفضائية والإنترنت أدوات شحن أكثر منها أدوات تفريغ للمشاعر والآلام.

وحين انطلقت قناة الإصلاح الإذاعية، مع ترتيب إتصال مجاني من الداخل السعودي على حساب القناة، أبدى أفراد هذا الجيل شجاعة في الإتصال، إذ ليس لديهم الشيء الكثير الذي يخسرونة، لا مادياً ولا معنوياً. ومن هنا طفق افراد هذا الجيل يعبّرون عما في خلدهم، ويتحدثون بما يؤلمهم، وفي هذا فائدة لحكومة العائلة المالكة، لكي تعرف حجم الإحباط، ومخاطره، ولكي تبادر الى الإصلاح.. لكن الدولة شاخت، بأفكارها ورموزها وسياساتها ولا يؤمل منها المواطنون أن تصمد قبل أن تنهار في فرصة قريبة.

هذا يفسر بعض دوافع الإتصال من جيل غير منظم، باحث عن هوية وانتماء، مستعد للفعل ضمن أية جماعة قد تصادفه، وعن أي منبر ينفّس من خلاله همومه، كما نلاحظه اليوم من قنوات فضائية وغيرها.

أما بشأن القبائل، وزعمائها الذين بادروا بإعلان براءتهم من النظام ومبايعتهم لحركة الإصلاح، فهناك ابتداءً شكوك كبيرة فيما يتعلق بالأسماء، حتى قيل بأنها استنساخ من دليل الهاتف السعودي، ولكن الذي يظهر، أن أي أحدٍ يستطيع أن يأخذ النصّ المتفق عليه ويلقي بياناً بالنيابة عن القبيلة وزعمائها، دون أن يستطيع أحد أن يكذب أو يصدق ما يسمعه. لكن الشيء المؤكد، أن معظم إن لم يكن كل القبائل التي ذكرت أسماؤها أعلنت براءتها مما نسب إليها في إعلانات متكررة في الصحافة السعودية، وهاجمت زعيم الحركة وحركته بلغة مضادة. يمكن للبعض الزعم بأن الحكومة ضغطت عليهم ليفعلوا ذلك، ولكن ما نعرفه عن النظام بأنه لو تأكد أن ما حدث صحيحاً من جهة خلع البيعة عن رموز النظام، فإنه لن يتأخر في الزجّ بهم في السجون.

هناك احتمال آخر، غير فبركة الأسماء، وقيام بعض الأفراد من الداخل بالحديث نيابة عن آخرين لم يعلموا من الأمر شيئاً، وهو أن الحكومة السعودية أصبحت اليوم أكثر عجزاً عن إسكات القبائل عبر الدفعات المالية والشرهات.. فمنذ سنوات طويلة أصبحت هذه السياسة صعبة التطبيق بسبب تضاؤل مداخيل الدولة من جهة، وتزايد عدد الناهبين للميزانية من جهة أخرى، وبسبب أن هذا السيستم غير كفوء في الإسكات حتى مع توافر الإيرادات كما حدث خلال العامين الماضيين. من هنا، يحتمل أن يدفع رجال القبائل بعض افرادهم للحديث عن خلع البيعة عبر إذاعة الإصلاح، لإيصال رسالة للعائلة المالكة تفيد بالتالي: (إننا هنا، لا تنسونا، لا تستحوذوا على كل شيء، إن لم تعطونا فنحن على استعداد للإنقلاب عليكم).

السؤال الأهم من كل هذا، وعلى افتراض أن بيانات خلع الولاء عن العائلة المالكة وإلباسه لحركة الإصلاح وقائدها صحيحة، لماذا توجه الدكتور سعد الفقيه الى القبائل ليكتسب الولاء منها، ولماذا نجح معها ـ إن صح ذلك ـ وفشل مع القوى المدينية، بحيث أنه فشل في استقطاب أي جهة بل أي إسم له مكانة وتأثير اجتماعي؟

لقد بدا وكأن الدكتور الفقيه، أراد أن ينفخ الحياة في الهياكل القبلية التي قام عليها عبء تأسيس الدولة جنباً الى جنب الدين بنسخته الوهابية. لكان تلك الهياكل قد أصابها كثير من العطب بفعل التحديث الإجتماعي والإقتصادي المتسارع الذي عاشته المملكة خلال عقدي الستينيات والسبعينيات. لا شك أن روح القبيلة حاضرة اليوم، وهي تكسب أرضاً جديدة بفعل اضمحلال سلطة وتأثير الدولة وخوف المجتمع من البديل المجهول، وصحيح ان الهوية القبلية لاتزال طاغية بسبب غياب أي مشروع لاستنهاض الهوية الوطنية، لكن القبائل لا تمتلك إلا مقومات اللاعب المرجّح في الموازين السياسية، فالوعد بشيء من (الغنيمة) قد يجذب أنصاراً وأتباعاً ولكنه لوحده لا يصنع نصراً، وحتى هؤلاء الأتباع سيلتحقون بالأقوى والأكثر عطاءً، كما هي شواهد التاريخ. فالولاء هنا ليس ثابتاً بل سريع التحوّل، إلا إذا ربط بنزعة دينية قوية، على الطريقة الإخوانية، التي استخدمها الملك عبد العزيز، ولا نظن ان حركة الإصلاح كانت تستطيع أو تطمح بناء مشروع كهذا، في وقت يتكتل فيه كل رجال الدين ضدّها، فهم إما لديهم مشاريعهم للتغيير خاصة بهم، أو هم موظفون لدى الحكومة.