اقتحام القنصلية الأميركية ومهاجمة وزارة الداخلية بعض فصولها

تطور مراحل العنف في المملكة الى حرب (تكسير العظام)

 محمد علي الفائز

 

العنف في المملكة آخذ بالتصاعد أكثر وأكثر، في شمولية جغرافية ومكانية، وتوسيع للأهداف، يتوقع له أن يشمل المنشآت النفطية واغتيال أمراء العائلة المالكة والمسؤولين. هل وصلنا الى هذه المرحلة ولماذا؟ هذا ما تبحثه هذه المقالة.

 

يمكن تقسيم تطورات أحداث العنف السياسي التي شهدتها المملكة في السنوات الأخيرة الى ثلاث مراحل، تختلف كل واحدة منها عن الأخرى من حيث تنوعه وحجمه وطبيعة الظرف السياسي الذي نمت فيه:

 المرحلة الأولى: العنف التمهيدي

 وهو ذلك العنف الذي شهدته المملكة بين عامي 1995 و 2001م، أي الى ما قبل أحداث 11/9.

هذا العنف ـ كما يظهر ـ كان بداية الإرهاصات المؤشرة باتجاه تغيّر المناخ السياسي في البلاد، وتحوّل علاقة مجاميع واتجاهات بين المواطنين من الإصلاح السلمي الى الإصلاح العنفي. السلمي منه مؤسس في أغلبه على الفكرة البسيطة في التراث الديني وهي المناصحة السرية لولاة الأمر، والتي جرى اختراقها بعيد احتلال الكويت الى مناصحة علنية جماعية، اتخذت طابع المذكرات التي يوقع عليها الكثير من المتعلمين والمشايخ في التيار السلفي (مثال ذلك مذكرة النصيحة).

فشل المناصحة السرية والتي يقودها التيار الديني التقليدي المتمثل في المشايخ الرسميين، أدّى الى المناصحة العلنية الجماعية من الجيل الثاني من المشايخ والمتعلمين الدينيين، وقد فشلت هذه المحاولة بعد اصطدامات سياسية صارخة (ما عرف بانتفاضة بريدة) وزج الكثير من هؤلاء في السجون.

جاء العنف بعد هذا بفترة وجيزة، وقد كان تمهيدياً خجولاً، كونه لم يحز على إجماع سلفي، وقامت به خلايا صغيرة ناشئة، حديثة عهد بالسياسة، وربما كان لها خبرة قتال في أفغانستان.. فعمدت إحدى هذه الخلايا المنفصلة عن بعضها بتفجيرات العليا والتي استهدفت الأميركيين في شركة فنيل عام 1995، ثم جاء تفجير قاس آخر في الخبر عام 1996م خلف عشرات الضحايا الأميركيين بين قتيل وجريح.

كانت هاتان الحادثتان تفجيراً للرأي العام المحلي قبل أن يكون لمبان تستهدف أجانب أميركيين بوجه خاص. فقد استفتحت هاتان الحادثتان مرحلة جديدة تعتمد وسائل تغيير غير تقليدية، وهي وإن لم تمس النظام ورموزه، إلا أنها شكلت تحدّ خاص لمؤسساته الأمنية، واستقراره السياسي المبالغ بقوته، الى حدّ كان الأمراء يفاخرون به ويضربون المثل.

ربما كان صحيحاً ـ للوهلة الأولى ـ اعتبار تلك الحادثتين منفصلتين عن سياق المواجهة السياسة السلمية مع العائلة المالكة.. لولا أن هذه الأخيرة أدركت بأن العائدين من أفغانستان يمكن أن يتحولوا الى مواد متفجرات أولية تربك الوضع الأمني، فعمدت الى سياسة ذات شقّين:

الشق الأول ـ ويعتمد على مطاردة كل العائدين من أفغانستان وإيداعهم في السجون في عملية مسح شامل لأنوية الخلايا العنفية المحتملة. ولقد أصيب هؤلاء كما أفراد عدّة في المجتمع باستغراب من هذه السياسة التي رافقها الكثير من القسوة والتعذيب. فهؤلاء المعتقلين كانوا الى وقت قريب مجاهدين، شجعتهم الحكومة ومؤسستها الدينية على الجهاد في أفغانستان، ودفعت لهم تذاكر السفر على حساب الحكومة ليقوموا بدورهم الديني. فما عدا مما بدا؟ وما مبررات الحملة التي تجعل كل من قاتل في أفغانستان عنصراً متهماً؟

لقد أُطلق سراح أكثر المعتقلين بعد أن امضوا فترات متفاوتة داخل السجون؛ وقد كان تعذيبهم ـ حسبما توفر من معلومات متسربة من تلك المعتقلات ـ بالغ القسوة، مثّل لأكثرهم صدمة مذهلة، كشفت لهم في جانب منها طبيعة نظام الحكم الذي لم يكونوا يستهدفونه وإن كانت لهم عليه بعض الملاحظات. لم يدر بخلدهم أن هذا النظام هو بتلك البشاعة التي رأوها، ولم يخطر في أحلامهم أن ما كانوا يقرأونه عن معتقلات الأنظمة العربية في مصر وتونس وغيرها يمكن أن يتكرر بنسخ مماثلة أو أسوأ منها في السجون السعودية.

لم تكن القضية متعلقة بنوعية التعذيب الجسدي فحسب، بل الإهانة الشخصية، وعدم احترام إنسانية الإنسان، ولا معتقداته الدينية.. فسب الله من قبل المحققين الأمنيين، والقول بأن (الله موجود في الدرج) والشتائم البذيئة التي تنال الأعراض.. كل ذلك أدّى فيما بعد الى إعادة بعض هؤلاء المعتقلين الى ممارسة العنف ضد النظام وأجهزته.. وقد أصبحت هنالك أسماء أمنية من المعذبين والمحققين يتم ترصدها لقتلها واغتيالها، ووجد بين الكثيرين ثارات دموية لا تمحى، تنتظر التصفية بصورة أو بأخرى.

الشق الثاني ـ محاولة تهدئة أسامة بن لادن، بعد أن انتقل الى أفغانستان من السودان.. وكانت حركة الطالبان قد وصلت للتو الى الحكم بسيطرتها على العاصمة ومعظم الأراضي الأفغانية. وتشير التحقيقات الأميركية الى أن الملك فهد بعث الأمير تركي الفيصل، رئيس الإستخبارات السابق، والسفير السعودي الحالي في لندن، بعثه الى أفغانستان على رأس وفد غرضه ـ حسب توصيات الحكومة ـ إقناع زعيم الطالبان وعبره إبن لادن بأن لا يتخذ من المملكة قاعدة له في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية، وتضيف تلك الأنباء بأن تركي الفيصل عرض على زعيم الطالبان الملا عمر عشرين مليوناً من الدولارات.

هنا قيل أن اتفاقاً جرى بهذا الشأن بين السعوديين وزعيم طالبان، وهذا ما تقول به الإدارة الأميركية التي اكتشفت بعد أحداث سبتمبر أن اتفاقاً بهذا المضمون قد تم التوصل اليه، وأبدت تلك الإدارة انزعاجها الشديد من المسؤولين السعوديين خاصة وأن بعض أقطاب تلك الادارة بدأوا يميلون الى أن المسؤولين السعوديين ربما يكونوا متواطئين في أحداث سبتمبر.

وقيل ـ حسب المصادر السعودية ـ بأن الأمير تركي الفيصل وإن زار أفغانستان، إلا أن اتفاقاً لم يتم التوصل اليه في مثل هذا الموضوع، وإنما كان الموضوع محاولة تهدئة حركة طالبان، ومطالبتها بضبط ابن لادن، وتحذيرها بأن اعتراف المملكة بها قد يُسحب.

لكن الأمر المثير هنا، هو أن الحكومة السعودية لم تنسب لابن لادن أي علاقة بتفجيري عامي 1995 و1996 بناء على أوامر من الملك فهد نفسه، رغم ان ابن لادن أوحى لمراسلين العرب والأجانب، بأن من قام بعملية الخبر خاصة هم من أتباعه ومريديه. وإذا كانت الحكومة قد أعلنت أنها قبضت على منفذي تفجير الرياض وأظهرتهم على شاشات التلفزيون يملون اعترافاتهم ومن ثم أعدمتهم (البعض يشكك في أن من أعدموا كانت لهم صلة وإنما كانوا كبش فداء).. فإن تفجير الخبر لم يتم حلّ لغزه الى هذا اليوم. كانت الحكومة السعودية تتمنّى لو أن من قام بذلك هم من المواطنين الشيعة وليس ابن لادن، فهي لا تريد أن ترفع أسهمه.. وبالفعل فإن وزارة الداخلية روّجت بأن مواطنين شيعة هم وراء تفجير الخبر، واعتقلت العشرات منهم، ولكنها اعتقلت في المقابل مئات من المحسوبين على التيار السلفي ولذات التهمة، وقد قدمت الحكومة أدلة تدين الكثيرين، ولكن الأميركيين لم يقتنعوا بها، ومازال سلفيون وشيعة يقبعون في المعتقلات حتى اليوم بعد ثمان سنوات من تلك الحادثة بلا محاكمات وبلا إدانات.

 

المرحلة الثانية: العنف المنظّم

 

وهي مرحلة امتدّت منذ أحداث 11/9/2001م واستمرت الى شهر يونيو 2004.

العنف في هذه الفترة كان عنفاً منظّماً، وجاء بعد فترة سبات كانت عناصر القاعدة أو المقاتلين السابقين في أفغانستان ينظمون صفوفهم أثناءها انتظاراً لمعركة قادمة. وجاءت أحداث سبتمبر بزخم عالٍ وتوترٍ في الساحة السعودية غير مسبوق، أدّى الى تفعيل الخلايا والعناصر القديمة وإطلاقها من عقالها وهي تشهد ـ من وجهة نظرها ـ انتصاراً (لخط الجهاد) تجلّى في إسقاط البرجين في معركة وصفها السلفيون بأنها (غزوة مانهاتن).

الحكومة السعودية بدت غير مدركة بما يكفي لآثار تلك الأحداث على الوضع المحلّي. كانت منشغلة بآثار الحدث على علاقاتها مع حليفتها واشنطن، وكيف يمكن تبرير ما حدث أمامها. وطفقت تصريحات المسؤولين السعوديين تعيد الى الأذهان، بأن ما جرى شأن لا يعنيها كثيراً، فابن لادن ليس مواطناً سعودياً وقد سُحبت جنسيته السعودية منذ سنوات، وأما مشاركة السعوديين في التفجيرات، فهي محض مصادفة (وكل بلد فيه الخيرون والأشرار)!

ومن ثمّ فإن المواجهة ليست بين المملكة وتنظيم القاعدة (أو أسامة بن لادن شخصياً)، وإنما بين الأخير وأميركا. وظهرت الحكومة السعودية وكأنها لا تريد أن تقحم نفسها في هذه المعركة، ولم تكن تعتقد ـ صدقاً أو كذباً ـ بأن مؤيدي القاعدة كثيرون داخل المملكة، وهو ما أعلنه عدد من المسؤولين في تصريحاتهم، والتي تقول بأنه لا توجد خلايا لتنظيم القاعدة على أرض المملكة، ولم يكن بإمكانهم أن ينفوا وجود متعاطفين، ولكن اللغة الذرائعية كانت هي السائدة، فمؤيدو تفجيرات نيويورك ليسوا محصورين في بقعة جغرافية أو في دولة محددة، بل هم منتشرون في كل العالم، حسب ما كان المسؤولون يتصورون أو تمنوا أن يكون الأمر كذلك.

حكومة المملكة كانت مشغولة بعد أحداث سبتمبر في تبرئة نفسها وسياساتها التي أفرزت اسامة ابن لادن ومفجري نيويورك، وقد دافعت عن مذهبها (المعتدل!) وعن سياساتها الحكيمة، وعن شعبها المسالم، وعن تاريخ علاقاتها الحميمة مع الغرب والولايات المتحدة بوجه خاص. لقد كان تحول الحليف الأميركي ضد السعودية عنيفاً، وتوقع المسؤولون السعوديون أن يكون ذلك بسبب (هول صدمة) الحدث، وبالتالي ستتغلب لغة المصالح على لغة التهديد والإفناء ولو بعد حين.

لكي تعلن الحكومة السعودية براءتها مما جرى، تطلّب منها الأمر أن تقف الى جانب أميركا في حربها ضد أفغانستان وإن بصورة غير علنية. ولكن الشارع السعودي لم يكن مهيّأً لتقبّل هذا التحول الكبير في السياسة الحكومية، بحيث تتحول بلادهم، وهي إحدى ثلاث دول اعترفت بحكومة طالبان، الى دولة تقف في مقدمة المحاربين لها والساعين لتدميرها. وبالرغم من أن الحكومة السعودية أعلنت بأن الحرب على طالبان ليست حرباً على الإسلام (وقد تغير رأيها حين استهدفها الأميركيون إعلامياً على الأقل فاعتبروا التعرض للحكومة السعودية حرباً على الإسلام!) إلا أنها لم تكن في وارد الإصطفاف العلني مع واشنطن، خاصة وأنها لا تريد أن تصطدم مع التيار الديني السلفي المؤيّد بصوت صارخ واضح لما قام به أسامة بن لادن الرمز. هنا تقبل الأميركيون الحلول الوسطى، ففتحت بتكتم شديد قواعد السعوديين للأميركيين، وأدار الأخيرون معاركهم في أفغانستان من قيادتهم المركزية في السعودية.

كان الوقوف على الحياد أمراً صعباً. فالإعلام السعودي أعلن انحيازه ضد القاعدة والطالبان، وابن لادن والقاعدة وجدا نفسيهما ـ تساوقاً مع تصنيف بوش: معنا أو ضدنا ـ ضمن حرب أوسع من أن تكون بين خصمين: أميركا والقاعدة (والطالبان). وبسقوط الطالبان، فتحت الجبهات الأخرى في كل مكان تواجد فيه متعاطفون أو عناصر قديمة قاتلت في أفغانستان وأعادت ارتباطها بتنظيم القاعدة.

وبالطبع كانت المملكة في قلب الحدث. فمنها يأتي المخزون الإستراتيجي البشري، واللوجستي (المال بالأساس)، ومنها يأتي التعاطف الشعبي الكبير، والتأصيل الديني والفكري والعقدي.. المملكة هي (قاعدة القاعدة) التي بُدئ بتفعيلها في الحرب (الكونية) مع الأميركيين وحلفائهم، ضمن ثنائية ابن لادن القائمة على فسطاطي الخير والشر. فكان الصدام الذي لا بدّ أن يقع، فالحكومة السعودية لم تستطع الوقوف على الحياد، وابن لادن لم يكن ليوفر أفضل أرض خصبة متعاطفة معه وله فيها من الأنصار، بعيداً عن ساحة المواجهة.

أيضاً هنا حاول الطرفان أن يحصرا حدود المعركة على أرض المملكة باتجاه مواجهة الأميركيين والغربيين فحسب. على الأقل هذا ما حاوله ابن لادن وتنظيم القاعدة في المملكة. لم يكن الأخير يريد فتح معركة مع النظام السعودي نفسه ـ رغم موقف ابن لادن المعروف منه ـ وإنما مع الوجود الأميركي ـ الغربي في المملكة.

وهكذا انطلق الشعار الكبير الذي ملأ الخافقين: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب! أخرجوا المشركين من جزيرة العرب! فهل كان ذلك لمجرد فتح مواجهة مع الولايات المتحدة على الأراضي السعودية؟ أم أن تلك الدعوة تستهدف نظام الحكم السعودي نفسه، تبدأ بإحراجه وهو ما حصل الى أن طُلب من الأميركيين الخروج، ولا تنتهي عند تلك النقطة، كما هو واضح الآن، حيث تمّ تخليق أهداف أخرى في الطريق وصولاً للهدف النهائي وهو إسقاط النظام السعودي، باعتباره دمية بيد الغرب؟

وهكذا بدأت حملة عنف منظم ضد الوجود الأميركي ـ الغربي، عبر التفجيرات الإنتحارية والسيارات المفخخة، واختطاف الأجانب الغربيين والأميركيين وقتلهم، ومهاجمة المؤسسات التي يعملون فيها، والمساكن التي يقيمون بها، وكانت انعطافة العنف الحادّ قد تجلّت في هجمات 12/5/2003م، حيث عدّها الإعلام السعودي وسوّقها للأميركيين على أنها بمثابة 11/9 بالنسبة للسعودية، وأن في تلك الهجمات الإنتحارية اختلط الدم السعودي والأميركي.. وكأن التفجيرات جاءت لتمنح النظام السعودي الدليل الذي يبحث عنه بأنه ضحية للعنف، وليس مفرخة له، ولتروج مقولة أن قدر الدولتين (أميركا والسعودية) هو التعاون والتحالف الأبدي، كما كانتا تفعلان في الماضي في مواجهة الشيوعية والأصولية القادمة من إيران وغيرهما.

لم تهدأ السعودية منذ الحرب على أفغانستان، ومن ثم احتلال العراق، حيث اتهمت السعودية من قبل القاعدة مرة اخرى بأنها ساهمت مساهمة مباشرة فيها بدون إعلان رسمي. ولم يكد يمر أسبوع بدون بضعة حوادث ومصادمات حصدت المئات من الأفراد. واضطرت الحكومة السعودية أن تظهر علناً تحالفها مع الولايات المتحدة فيما أسمته بالحرب ضد الإرهاب، وأن تستجلب فرق المخابرات الغربية جميعاً للعمل على أراضيها، وملاحقة القاعدة ومؤيديها داخل البلاد.

مما لا شك فيه أن تحول العنف الى المملكة قد أفاد العلاقات السعودية ـ الأميركية، وجسّر شيئاً من الهوّة بين الدولتين، وإن كان الكثيرون يعتقدون بأن العلاقات المتميزة بين الدولتين قد ولّت الى غير رجعة، وأن الحكومة السعودية تنتظر دورها على قائمة الإستهداف بمجرد أن تنتهي موجة العنف. ولكن من جهة أخرى، فإن استمرار العنف والتوتر في الشارع السعودي، كشف ضعف النظام، وقلّص من قاعدته، ونال الكثير من شرعيته المنحدرة بتسارع لم تشهده المملكة منذ تأسيسها. وزيادة على ذلك، فإن العنف أفقد ثقة حلفائه بقدرته في ضبط الأمور، ومن ثم في توفير الإستقرار اللازم لتيسير إمدادات نفط كبيرة ورخيصة.

ولقد واجه النظام جرأة من عناصر تنظيم القاعدة مذهلة، مثل تلك التي حدثت في الخبر، والتي أدت الى مقتل الكثير من الأجانب وفرار القائمين على العملية؛ جعلت النظام وقواته مثار سخرية وشك، ما لبث أن تمّ تعويضها جزئياً بمقتل عبد العزيز المقرن زعيم تنظيم القاعدة في (بلاد الحرمين) وعدد من أنصاره. هنا انتشى النظام، وضخّم من إنجازه، وبالغ بالقول أن تنظيم القاعدة يحتضر وهو على مشارف الهلاك. وسواء كانت مثل هذه التصريحات للإستهلاك المحلّي، أو تعبيراً عن قناعة، فإنها في كلتا الحالتين كانت خاطئة ومضللة إما للناس أو للذات أو كليهما، وكان انكشاف خطأ هذه التحليلات بعد بضعة أشهر من خلال تنوع المصادمات في كل أنحاء المملكة، صدمة لا تقلّ عن سابقاتها لأجهزة الأمن وللمواطنين معا، الذين خرجوا بنكتة تقول بأن الحكومة قتلت نحو ستين شخصاً واعتقلت خمسمائة من قائمة الـ 26 مطلوباً التي أعلنتها!

 

المرحلة الثالثة: مرحلة كسر العظم والمواجهة الشاملة

 

كان مقتل المقرن وتعيين صالح العوفي مكانه إيذاناً بدخول المواجهة مع الحكومة السعودية مراحلها المتقدمة والأخيرة، التي إن لم تنته بنهاية أحدهما وبالسرعة المطلوبة (النظام أو تنظيم القاعدة) ، فإن العنف سيكون السمة والغذاء اليومي للمواطن والعالم يقدّم في أول نشرات الأخبار.

ما حدث بعد مقتل المقرن هو أن الظروف تهيّأت لمواجهة شاملة.

فمن جهة، أدّى تراكم المواجهات وبشكل شبه يومي، الى حرب طويلة فتحت فيها أجهزة الحكومة السعودية كل الجبهات لاستثمارها، فيما كانت القاعدة ومؤيدوها مترددون في فتح جبهة غير مواجهة الأجانب. ولقد قرأ مسؤولو القاعدة تصريحات وكتابات تتساءل: إذا كان الهدف هو إخراج القوات الأجنبية، فقد تمّ إخراجها بالفعل، على الأقل هذا ما أعلنته الحكومتان السعودية والأميركية. فلماذا الإستمرار في القتال إذن؟

في مراحل العنف السابقة كان هناك تردد واضح ـ بل ربما خطوط حمراء ـ رسمتها القاعدة لنفسها بأن لا تتعرض لمصالح البلاد كمؤسسات حكومية ومنشآت إقتصادية، وأن لا تتعرض لرموز الدولة ومسؤوليها وكبار العاملين فيها من الوزراء والوكلاء والمدراء العامون وضباط وجنود القوات المسلحة وغيرهم.

نعم جرى خرق هذا الخط الأحمر بحذر، حين توجّهت بعض الضربات الى قوى الأمن نفسها، كما حصل في الرياض، ومحاولة اغتيال بعض رموز رجال الأمن المتهمين من قبل عناصر القاعدة بأنهم من (المباحث) الذين يتولون قمع وتعذيب زملائهم.

لكن تسارع المواجهة، ومحدودية الأهداف لدى القاعدة، جعلتهم يميلون الى إلغاء المحظورهذا والذي فرضوه على أنفسهم، وبالتالي السعي لإيجاد المبررات الشرعية والسياسية لخرقه. يعلم رجال القاعدة في المملكة، أن الحكومة قد خرقت من جانبها الكثير من المحظورات أيضاً، وجعلت المواجهة من جهتها شاملة.. في حين أنهم كانوا يرون بأن إجماعاً بين التيار السلفي (في نجد) لم يتوفر فيما يتعلق بمواجهة شاملة مع النظام. فالهجمات ضد الأجانب ـ خاصة الأميركيين ـ قد تجد مبررات شرعية في التراث السلفي، ولكن مهاجمة المنشآت الإقتصادية يصعب تحصيل إجماع بشأنها، وكذا مهاجمة المؤسسات الحكومية، واغتيال امراء الحكم. إذ لازال هناك من يرى شرعية حكمهم وإن تحصلوا عليها بالقوة (مشروعية حكم الغلبة). فالتيار السلفي يتفق على فساد الحكم ورجاله، ولكنه لم يتفق على (مشروعية الخروج عليه). وهذا ما يعدّه القاعديون من التضارب الكبير، فكيف تشرعن قتل رجال الأمن المأمورين، ولا تشرعن قتل الأمراء الآمرين؟

احتدام المواجهة وتواصل الصدامات، لا يبقي المحظورات عند حدودها، فهي ـ كما حدث في كل بلاد العالم ـ تهتز وتتجاوز، بمنطق المعاملة بالمثل، أو بإيجاد تخريجات شرعية جديدة، أو تفسيرات سياسية تحوي وجوهاً مختلفة. ومن جهة أخرى، فإن تنظيم القاعدة الذي خسر الكثير من قياداته، وهو يؤجل المواجهة الشاملة، وجد نفسه في الأشهر اللاحقة لمقتل زعيمه المقرن، في حالة ردّ فعل ومطاردة، وقد خسر الكثير من عناصره، وهو يعيد ترتيب صفوفه للمواجهة القادمة.

بدافع الإنتقام من خسارته والرد بالمثل، أو بسبب قناعة متعززة بقدرة الذات على إستئصال النظام، أو بسبب إغراء الأهداف الحكومية والملكية السهلة، فإن تنظيم القاعدة قد قرّر علناً (سواء عبر دعوة ابن لادن أو تبني التنظيم في المملكة ذلك في بيان منشور) استهداف المؤسسات الإقتصادية ـ النفطية بالتحديد. فهل أراد القول بأن المؤسسات النفطية السعودية ـ إحدى مصالح الغرب ـ يجوز استهدافها؟ أم أنه أراد معاقبة الأميركيين والغرب بسعر برميل نفط عالٍ، عبر انتاج نفط أقلّ؟ أم أنه اراد الإشارة الى أن السياسة النفطية السعودية في راهنها تخدم الغرب بأكثر مما تخدم المواطنين؟ أم أراد القول بأن ضرب منشآت النفط يمثل مصلحة في الأساس للمواطنين، وليس فقط إضراراً بمستهلكي النفط الكبار من الغربيين؟ أم أنه اراد بهذه السياسة إحراج الحكومة السعودية وإظهارها عاجزة أمام حلفائها بأنها لا تستطيع بواقعها الحالي حماية مصالح الغرب التي انتدبت لحمايتها أو التي انتدبت نفسها تطوعاً لحمايتها؟ هذه التساؤلات والإجابة عليها تشكل نموذجاً للفلسفة القادمة لسياسة خرق المحظورات السياسية السابقة.

ومن جهة ثالثة، يبدو المناخ النفسي المحلّي مهيّأً للقادم الأسوء؛ ولعلّ عمليات القاعدة في العراق (جماعة الزرقاوي) تدفع باتجاه المحاكاة بالمثل في السعودية، ومثل هذا التأثر بالوسائل والأساليب والتخطيط واضح حتى في اختيار الأسماء. فعملية اقتحام القنصلية الأميركية في جدّة، قامت بها كتيبة أطلق عليها إسم مساعد الزرقاوي الذي قتل (أبو أنس) وسميت العملية بـ (الفلوجة) تيمّناً بالمدينة، وكأن الصورة العامة مختلطة بين العراق والمملكة، أو كأن المواجهة متماثلة هنا في المملكة وهناك في العراق، بل كأنّ المعركة تبدو واحدة بأجنحة مختلفة تذوب فيها خصوصيات الدول والشعوب وظروفها السياسية والإجتماعية.

كل هذه الأمور تدعو الى الإعتقاد، بأن المملكة مقبلة على مواجهات عنف شامل، يستهدف كل شيء، وتتداخل فيه كل الألوان، وتسقط أمامه كل المحاذير من الطرفين الحكومي والقاعدي، يحيث لا يكون أمام الأفراد مخرج الوقوف على الحياد ولا الإعتراض، فمن ينتقد الأداء الحكومي سيكون متهماً بأنه (قاعدي) يدعو الى الإرهاب، كما فعلت الحكومة ذلك حيث سبقت القاعدة الى هذا الأمر باتهامها المجنون دعاة الإصلاح المعتقلين بدعم الإرهاب. ومن ينتقد العنف، قد يلقى التصفية الجسدية، سواء كان كاتباً صحفياً او إعلامياً أو خطيباً في مسجد، باعتباره عميلاً للحكومة الكافرة.

لقد تحركت آلة العنف في تسارع لتصل عمّا قريب الى كامل طاقتها، وقد لا يكون ذلك بعيداً خلال الشهور القليلة القادمة، إذ قد يسقط مدنيّون كثر ضحايا له، وإن حدث ذلك، سيكشف النظام عن مخزون هائل من العنف العاري تجاه كل أحد، وستخرس الألسن، وتضيق هوامش التعبير، لتتحول الأمور الى معركة حياة أو موت، يخوضها الطرفان دون النظر الى حجم الخسائر.

وإذا ما استهدفت القاعدة أمراء العائلة المالكة، صغاراً وكباراً، انتقاماً لضحاياها وقياداتها، تكون آخر قلاع المحظورات قد سقطت، ولن يكون هناك سوى المزيد من الدماء، في رحلة دم تجرّ دماً أكثر.

 

صورة متشائمة: العنف والشرعية

 

لماذا نرسم هذه الصورة المتشائمة؟

قبل نحو ثلاثة أعوام، نشرنا قراءة لمستقبل العنف السياسي في المملكة قبل أن تشهد البلاد تموجاتها الأوّلية، وكتبنا عن أسباب العنف ومظاهره وأشكاله المتوقعة.. في تلك الفترة كنّا نتحدث عن المرحلة الثانية من العنف السياسي، وقد حدث ما توقعناه في الخطوط العامّة كما في الكثير من التفصيلات.

وها نحن نتحدث هنا، عن الموجة الثالثة والأخيرة.. الأخطر والأكثر دموية وعنفواناً. نتمنّى أن لا تصدق قراءتنا، ولكننا نميل الى هذا التحليل المتشائم آخذين بعين الإعتبار مسألة مركزية هي علاقة العنف بشرعية نظام الحكم.

فالعنف قد يكون مُنتَجاً لتهاوي شرعية نظام الحكم لدى الجمهور أو بعض شرائحه. وهو في نفس الوقت يمثل أقصى وأقسى تعبيرات ومؤشرات الإحتجاج على الشرعية الحاكمة في أجلى مظاهرها. الخلل في شرعية نظام الحكم، أو تناقصها، يؤدي الى السخط والإحتجاج، كما يؤدي في مراحل لاحقة متطورة الى العنف. إن ذلك يعتمد على طبيعة معالجة النظام لأزمة شرعيته واستجابته لعوارض تلك الأزمة. فالأنظمة تواجه أزمات، تحلّها بوسائل شتّى، من بينها استحداث روافد جديدة للشرعية، كالمبادرة بالإصلاح السياسي والإستجابة لدعوات التغيير المحليّة. وقد تتوجه لمصادر الضغط الإقتصادي فتحسن أداء الحكومة وخدماتها الإجتماعية، وقد تقوم بتنفيس الإحتقانات المتراكمة بتوسيع هامش حرية التعبير.

في أحيان أخرى، تصمّ بعض الأنظمة ـ كما في المملكة ـ آذانها عن التغيير، وترى في الدعوات تحدّياً لجبروت الحكم يجب كسره وقمعه قبل أن يتطور، بدل أن تلتقط أول دعوة فتركب موجة التغيير لتفادي الأزمة وانفجارها. وهنا تدخل الحكومة في صراع مع قوى إجتماعية متعددة، وتقوم بمبادرات قمع تخرس الألسن (وتعيد الفئران الى جحورها) كما يقول نايف وزير الداخلية. في هذه الحالة تنحدر شرعية النظام درجة إضافية، فهو ليس فقط لم يقدم أداءاً ناجحاً، بل رفض الإصلاح وقاومه وصادم فئات ناهضة تبحث عن حلول.

وفي المملكة، جرى انكشاف لشرعية النظام دينياً وسياسياً، فالطاعة المبنيّة على النص الديني أو لنقل التراث الديني، لم تعد ذات مفعول كبير، بل تحوّلت الى شرعنة معاكسة تدعو للخروج عليه. فالدين ليس فقط لم يشرعن النظام، بل أنه صار أداة تنقض شرعيته، في دورة سريعة خلال أقل من عقد من السنين.

وعلى الصعيد السياسي، لم يعد النظام مقنعاً لجمهوره، فمُسحت الصورة الوطنية التي رسمها في أذهان المواطنين، وبالتالي لم تكن علاقاته وسياساته الداخلية ومواقفه الخارجية إلا معزّزاً لتلك الصورة الباهتة أو الممسوخة. هيبة النظام وصورته سقطتا منذ وقت مبكر، ربما منذ 15 عاماً على الأقل. وكانت إرهاصات تحول الدين كسلاح ضد النظام بدل أن يكون سلاحاً بيده واضحة المعالم مع بداية التسعينيات من القرن الماضي.

وقبل هذا، انتهت دولة الرفاه، الدولة الريعية، فانهارت الأوضاع الإقتصادية، فاقتحم الناس السياسة يسألون عن ثرواتهم الضائعة او المسروقة، والكرامة الوطنية المستباحة.

كل هذا لم يهتم به النظام ورموزه، فقد ابتلعوا بطيخاً صيفياً كثيراً، وتصوروا أن حقهم في الحكم مضمون بناءً على أن من امتلك السيف الأملح يحق له الحكم الى الأبد، وأن الشرعية التاريخية لا يمكن أن تنقض في المملكة فضلاً عن ان تنقض في البيئة التي ولدت فيها (نجد).

كل هذه العوامل وما يمكن أن يضاف اليها من تحولات ثقافية واجتماعية شهدها المجتمع السعودي، دون أن يوازيها تغيير ولو قليل في مؤسسة الحكم وأداء الأجهزة الحكومية، أدت الى العنف. بعض المراقبين فوجئوا به، وما كان ينبغي أن يفاجأهم، فهو ـ أي العنف ـ لم يكن سوى نتيجة لتدهور سبقه على الأقل بعقدين من السنين. وهو أمرٌ لم ينتبه له الأمراء الكبار، ربما لأنهم لم يجدوا الناصح، أو لأن ذهنياتهم لا تستوعب التغيير ولا تفهمه، باعتبارهم من جيل قديم لا يجيد قراءة المستقبل.

بمقاومة دعوات الإصلاح السياسي والتي بدأت منذ 1991، حتى هدأت بالقمع والتهديد، تصور النظام أنه تجاوز أزمة الشرعية، واعتقد أن مجرد رفع العصا تكفي.. وبالتالي فهو لم يلحظ الحاجة الى تطوير مؤسسة الحكم بحيث لا تصلح أداءها فقط، بل تضفي عليه شرعية جديدة، يساهم فيها الجمهور عبر الإنتخابات والتمثيل والمحاسبة وهي امور لحظتها كل دول الخليج تقريباً، وبعضها بادر من تلقاء نفسه للقيام بها كحلول استباقية.

وحين عادت الأزمة السياسية بعد أحداث 11/9 وجدت النخب الفرصة للتعبير عن مطالب التغيير، فقمعت مرّة أخرى في مارس 2004، كما حدث قبل 15 عاماً تقريباً. ولكن وجد بين الأزمتين أوضاع تغيّرت بشكل راديكالي على صعيد مؤسسات الدولة والمجتمع، فهذا الأخير مرّ ولازال بأحوال اقتصادية غير طبيعية، وبانغلاق سياسي لم تعرفه أي من دول الجوار، اللهم إلا صدام العراق.. وأدت التراكمات النفسية وسوء الأوضاع السياسية والإقتصادية واليأس من أن تقوم العائلة المالكة بإصلاح نفسها الى انفجار العنف، مع تأييد مبطّن له من شرائح عديدة، تظهر نفسها وكأنها ضده، في حين تتمنّى أن يستمر، لإخضاع العائلة المالكة وجرّها الى الإصلاحات جرّاً.

إن شرعية النظام في الثمانينيات من القرن الماضي أقوى منها بعد عقد في التسعينيات، وهي اليوم أضعف بكثير مما كانت عليه في أي حقبة من تاريخ الدولة السعودية. ومما زاد الطين بلّة، أن النظام في المملكة ليس مجرد نظام محافظ فحسب لا يرغب في التغيير، بل هو نظام (هرم) توقف عن الإبداع، حتى لمشاكله الخاصة هو. ولذا فإنه وهو يغلق المنافذ الواحد تلو الآخر، ويستمر في مقاومته للتغيير بناءً على الأداة الأمنية التي تعودها، لم يلحظ أن تلك الأداة باتت عقيمة المفعول، وهي في أفضل الحالات تؤجل التغيير ولا تلغيه، وتراكم السخط ولا تنهيه، بل قد تفجّر العنف قبل أوانه ونضوجه. ومن الملاحظ أن العائلة المالكة وهي تعتمد على قوى الأمن في سحق معارضيها وإخراسهم تصورت أن ذلك سيحفظ هيبتها ويقلل من الخسائر في شرعيتها المتهاوية. والحقيقة أن عكس ذلك هو الذي حدث. فبين عام 2001، أي وقت وقوع أحداث 11/9، وبين تعرّض وزارة الداخلية لعملية انتحارية يوم 29/12/2004 لا يمكن القول أن العائلة كسبت أرضاً بين مواطنيها، بل تهاوت شرعيتها أكثر وأكثر حتى بين الفئات التي يفترض تقليدياً أنها نصير للحكم القائم.

وخلال المواجهات المستمرة مع جماعة القاعدة، تتضاءل شرعية النظام يوماً بعد آخر، وكلّما أمعنت الأجهزة الأمنية في توسيع رقعة المواجهة وفي قتل المعارضين ومعظمهم ينتمون الى بيوتات وقبائل كانت سنداً فيما مضى للنظام، كلّما سقط النظام من عين مواطنيه. وفي حال تصاعد العنف أكثر وأكثر، ستصبح شرعية النظام مفرطة الإعتماد على القوة وحدها، مع فشل واضح وكبير في روافد الشرعية الأخرى، الدينية والتاريخية، وشرعية الإنجاز المادي، التي لا يمكن ترميمها في ظروف المواجهة، ولا يتوقع لحكومة هرمة أن تحقق انجازات مادية بعد عقود من الفساد والمحسوبية، حتى أضحت عاجزة عن أداء مهامها كدولة.

الأزمة الكامنة في الشرعية، هي مفتاح حل أزمة العنف. فإذا لم تتوفر شرعية تجعل المواطن معتقداً بحكومته، مطيعاً لها، يحسب نفسه منها وإليها، مساهماً في صنع قراراتها، محاسباً للمفسدين فيها، فإن المخرج للعائلة المالكة لن يكون سوى العنف بلا دليل أو أفق حل حقيقي، ولن تتوفر للمواطنين أية آفاق حلول الأمر الذي يعبّد الطريق باتجاه التغيير العنفي. هناك بين المواطنين اليوم من يفرح وهو يسمع عن هذه المواجهات، ونقرأ كتابات الكثير منهم في مواقع الإنترنت، الأمر الذي يؤكد أنه بقدر ما تكون خيبة الأمل واليأس من التغيير، كلّما كان العنف شديداً وحاداً وواسعاً خاصة بين الأجيال الشابة الجديدة.

حتى لو تغلب النظام من الناحية المادية على حركات العنف من خلال كثافة قوته الأمنية، فإن شرعيته تبقى معطلة وضعيفة ومجروحة، كون بقائه في السلطة لا يعتمد على القبول الداخلي من قبل المواطنين، وعليه أن ينتظر موجة أقسى في قادم الأيام.

المشكلة أنه لا توجد لدى الطاقم الحاكم رؤية لما بعد العنف، أو لنقل ما بعد إنهائه ـ إن كان ذاك متيسراً؟ بمعنى هل هناك خطة لدمقرطة المملكة وإحداث تغييرات فيها تستهدف بالدرجة الأساس استخداث منافذ لتزويد النظام بالشرعية، او لنقل تجديد شرعيته؟ وإذا كانت هناك خطة فما هي؟ ولماذا لم تفعّل ونرى بوادرها الآن؟ وإذا كان البعض يعد الإنتخابات البلدية واحدة من تلك البوادر، فما الذي يضمن ان النظام سيستمر فيها، وهو لم يعلن أن هناك شيئاً ما بعد الانتخابات البلدية؟ وما الذي يضمن ايضاً عدم انقلابه عليها، فالقوة لا تحتاج الى شرعية مضافة، بل عبارة (اخذناها بالسيف الأملح) جوهرها. وفي هذه الحالة فإن المتوقع أن ينفجر العنف المرة تلو الأخرى، طالما ان خضوع الناس قسري، وطالما أن شرعية النظام مطعون فيها، بل وطالما أن المواطنين ـ أو جزء منهم ـ باتوا يميلون الى عدم قدرتهم على التعايش مع النظام نفسه، وهذه الحالة النفسية خطيرة وستعكس بصماتها على الأوضاع الأمنية والاستقرار السياسي في المستقبل؛ فموجة عنف تقمع تفرخ موجة اخرى تفرخ ثالثة الى أن ينهك النظام وتضج البلاد مطالبة برحيله.

لا يبدو أن نظام الحكم قادر على تجديد شرعيته إلا من بوابة سياسية واحدة تفتح المغلق من البوابات الأخرى. هذه البوابة هي: بوابة الإصلاح السياسي، الذي بدونه لا يمكن وفق المعطيات الحاضرة حل مشكلة الإقتصاد ولا مشكلة الإدارة ولا مشاكل المجتمع المتعددة. إن أداء الدولة معوّق بسبب الجمود السياسي، الذي أفرز غياباً للمحاسبة وتنامياً للفساد الحكومي والإداري، وفشلاً في الخطط التنموية، وضياعاً لثروة البلاد والأجيال القادمة، وتالياً أدى ذلك الى غياب صوت المواطن ولا إبالية شعبية بما يتعرض له الوطن من مخاطر.

وما يجعل الإصلاح السياسي ملحّاً، هو أن شرعية النظام الدينية لا يمكن ترميمها، فنجد وأتباع التيار السلفي هم من كان يحفظ للعائلة المالكة ويعترف بشرعيتها، في حين أن تلك الشرعية ساقطة منذ زمن في المناطق الأخرى. وإذا سقط النظام دينياً لا يمكن أن يعود فيُقبل إلا بعد أن يتبدّل الحكام والسياسات والوجوه، ومهما بالغ النظام في تحصيل هذه الشرعية فإنه سيكون خاسراً في المحصلة النهائية، وسترتد عليه تلك الجهود مرة أخرى لتصيبه في مقتل. اما الشرعية السياسية، فهي حلّ وسط، للحاكم والمحكوم، تتطور بقدر ما يتطور النظام السياسي، ويحفظ الأخير بقدر ما يشارك فيه المواطن، ويستقر الوضع السياسي إذا ما وجد المواطن أنه شريك يحمي مصالحه من خلال حماية النظام والأمن، لا حماية مصالح فئوية وعائلة مالكة. الشرعية السياسية الجديدة تتطلب إقحام المواطن في السياسة وليس إبعاده عنها، وتلحّ في مشاركته في العملية السياسية وليس على إقصائه، والشرعية تتطلب قنوات سياسية جديدة تستوعب الإهتمامات والتطلعات المكبوتة منذ عقود، لبناء دولة جديدة، ومنطق جديد يُبنى على أفكار جديدة، تغيّر المناخ الثقافي والسياسي والإجتماعي، وبعبارة أخرى تغيّر البيئة والمناخ المصنّع للعنف.

اما اختزال الحلول بعصا أمنيّة متهالكة ترفع بوجه أجيال جديدة تكاد تكون متوحّشة متوثبة لفرط مصابها وألمها وضياع مستقبلها.. فلن يؤدي ـ وفي وقت غير بعيد ـ إلا إلى أن تتحول العصا فتجلد الجلاّد، وتقهر المستبدّ، بعد أن تفيض الدماء وتدمّر الممتلكات، وتتكسر الإرادت.

وختاماً، إن من أهم مؤشرات تطور العنف: الهجوم على القنصلية في جدّة في عملية نوعية غير متوقعة.. وبعدها الهجوم على وزارة الداخلية ومقر للقوات الخاصة. ولعلّ تصفية عدد من رجال القاعدة وكوادرها (وقد كانوا سبعة) يسرع من تنفيذ عمليات تفجير المنشآت النفطية واغتيالات الأمراء والمسؤولين، وهي إن بدأت ستكون إحدى الملامح الملازمة للعنف السعودي ـ موديل عام 2005!