نظرة على فلسفة حقوق الانسان

  إعداد: محمد الهويمل

 

كتب إيفان بونين في العشرينيات من القرن الماضي في روايته القصيرة بعنوان (الربيع الذي لا ينقضي)، وقال (نحن الآن أثرياء للغاية في الحقوق وبإمكاننا أن نتخلى عن بعض منها). ولكن بونين سيكون مبهوتاً بالانفجار اللاحق للاعلانات والمطالب الحقوقية، والتطور الذي بدأ بجد مع إعلان الامم المتحدة لحقوق الانسان عام 1948 والذي تجاوز الآن الحدود المرسومة والمتخيلة. ويعتقد أحد المعلّقين بأن (لغة الحقوق أصبحت خارج السيطرة).  في المقابل فإن جون فينيس (John Finnis) يلحظ بأن القواعد الحديثة للحقوق تقدّم طريقة للتعبير عملياً عن كل متطلبات العقلانية العملية. وكلا الرأيين قد يكونا صائبين: إن لغة الحقوق قد تكون شيئاً والاستعمال الراشد والعاقل لحديث الحقوق قد يكون شيئاً آخر، بالرغم من أن الاستعمال الراشد لهذا الحديث هو لتفاديه بالمرة. إن واحدة من النقاط الواضحة أن بعض مفاهيمنا مثل السيادة والدولة هي في مرتبة دنيا سياسياً، ولكن ليس الحال كذلك بالنسبة للحقوق، فالتجارة في حالة انتعاش.

ومن الناحية التاريخية، هناك لغات حقوقية سائدة يمكن تحديدها، الأولى منها هي المتصلة بالتقليد، وهي تتوسل بفكرة (العرف الشائع للحقوق)، الحقوق المجسّدة في التقليد العريق للاجتهادات القانونية والاستعمال الاجتماعي (Dicey, 1982: Ch.4; Oakeshott, 1991:53). إن اللغات الحقوقية الثلاث الأخرى ـ حقوق الرجل، والحقوق الطبيعية، وحقوق الانسان ـ هي ذات نشأة لاحقة.

ان الحديث عن حقوق الرجل (rights of man) بدأ بالترعرع تقريباً في الفترة ما بين 1775 ـ 1815، وكان له في الغالب تأسيس تيولوجي. وفي عام 1789 فإن مجلس النواب الفرنسي نادى بالحقوق المقدّسة للرجل، في ظل الموجود الأعلى. إن الفكرة الأولية للحقوق الطبيعية كانت أقل التصاقاً بالإطار التيولوجي. الاتفاق على هذا الاطار ثابت في مناقشة جون لوك حول الحقوق الطبيعية. إن الله هو مشرّع القانون الطبيعي، وقانون العقل، وأن الحقوق الطبيعية هي حقوق مشتقة من القانون الطبيعي. يبقى أن القوة العقلانية للقانون الطبيعي وهكذا الحقوق الطبيعية مستقلة عن الخالق أي مرتبطة بالانسان المنفّذ لها. إن الاطار التيولوجي يفرض وجوده بدرجة قليلة لدى توماس هوبز، فيما يغيب مطلقاً لدى سبينوزا. إن حديث حقوق الانسان بصورة عامة يفترض عالماً بدون الخالق. إن حقوق الانسان تشتمل على مضامين متفاوتة بالمقارنة مع الحقوق الطبيعية. إن الحقوق الطبيعية النمطية هي مدنية وسياسية، ومن بينها حق الحياة، والحق في أن تكون حرّاً أي لا تخضع للعبودية والاسترقاق، وحق حرية الفكر، والاجتماع والمناقشة والضمير، وحق التصويت وأن تكون مخوّلاًً لتولي منصب عام، وحق التملّك. إن حقوق الانسان النمطية تمتد الى الشؤون الاقتصادية ـ الاجتماعية، مثل حق التعليم، والعمل وحق الحصول على حصة كافية من الغذاء والسكن، وحق الأمن الاجتماعي (مثل الرعاية الصحية).

إن الحديث عن الحقوق يغطّي أربعة عناوين أساسية:

ـ الموضوعات

ـ الشكل المنطقي

ـ الأساس

ـ دور العقل

لابد من تحديد موضوعات الحقوق، أي من هو أو ما هي التي يمكن الحصول عليها من حقوق. ويلزم أيضاً فك الشكل المنطقي للحديث الحقوقي. ويلزم أيضاً فحص أساس الحقوق، ويجب الأخذ في نظر الاعتبار دور الحقوق في التفكير السياسي.

وباختصار، فإن مناقشة موضوعات الحقوق تسترعي الانتباه الى نقطة هامة وهي أن المناداة بالحقوق كانت تتم على مستوى/ ومن قبل الافراد والجماعات. وبين الجماعات، أو بالاحرى الامم: بعد الحرب العالمية الأولى، حين التشكيلات الزاهية المتحضّرة من الامبراطورية الهنغارية ـ النمساوية أفسحت المجال لفصل الدول بحسب مكوناتها القومية الخاصة، وهي عملية تمت مباركتها عن طريق الرجوع الى حق تقرير المصير. الى جانب الامم، فإن النساء والاطفال والكنائس والاجيال اللاحقة، وكثيراً من التجمعات والتجمهرات قد طالبت بالحقوق أو لهم حقوق مؤكدة. إن واحدة من القضايا الحادة في الاخلاقيات المطبّقة هي ما اذا كان للحيوانات حقوق أم لا. فالعلماء التأمليون ينظرون الى ما اذا كان الانسان الآلي المالك للوعي والفهم (computerised robots) سيحظى بحقوق من نوع ما.

 

الفوارق الأساسية

إن كافة النقاشات الحالية تقريباً للتركيبة المنطقية للحقوق تبدأ من التحليل الريادي الذي قدّمه هوهفلد (Hohfeld)  عام 1964. يقترح المشرّع الاميركي ويسلي نيوكومب هوهفلد أربعة طرق تصنيفية. فالحقوق حسب هوهفلد  قد تكون:

ـ حريات صريحة أو عارية او امتيازات

ـ مطالب/مزاعم

ـ  سلطات

ـ حصانات

فالحرية الصريحة او العارية او الامتياز توصف على هذا النحو: حيث يتمتع زيد من الناس بالحرية الصريحة في القيام بعمل ما فليس من واجب عمرو عدم القيام بهذا العمل. ويقتضي هذا القول بأن الآخرين ليس لديهم الحق في منع زيد من القيام بهذا العمل. أما المطلب الحقوقي فيوصف على هذا النحو: كونني أملك الحق المزعوم في القيام بعمل ما، فإن الآخرين (وبخاصة الفرد، الدولة، أو جماعة ما أو أي جهة ما) عليهم واجب. ومقتضى ذلك أن على الآخرين واجباً كيما يدعوني للقيام بهذا العمل.

اما السلطة فتوصف على أنه حيث يملك شخص ما سلطة فإنه قادر على تعديل او تبديل الامتيازات، الحقوق المزعومة أو الحصانات التي لدى الآخرين. ويستلزم ذلك القول بأن على الآخرين مسؤولية فيما يتعلق بسلطة هذا الشخص.

أما الحصانة، فتوصف على هذا النحو: حيث يتمتع شخص ما بالحصانة، فإن امتيازاته، وحقوقه المزعومة، وسلطاته يمكن تعديلها او تبديلها من قبل الآخرين. ومقتضى الحال أن الآخرين لايملكون الآهلية فيما يخص حصانة هذا الشخص.

تعتبر حقوق الانسان واحدة من المفاهيم الخلافية والمراوغة والتي تشكل قاعدة لمعظم النظم السياسية. فمنذ البداية فإنها على درجة من الاهمية لتحديد الرابطة الوثيقة بين مفهومي الحرية والحقوق وتعريف طبيعة هذه العلاقة. إن واحدة من التفسيرات المألوفة للحرية تتقعّد على فكرة الوجود الحر وغير المقيّد: فالفرد لا يخضع الى اي ضغط للتصرف بطريقة ما. وبهذا المعنى، فإن الفرد يتحدث عن الحرية وفق توجيهات خارجية على سلوك شخص ما، والذي يسمح لشخص ما للبقاء سلبياً أو التصرف كرد فعل على الارادة الذاتية. واستطراداً في هذه النظرة والتي تشدد على الحرية للتصرف بطريقة ارادة ذاتية، تتصل بعنصر الاختيار. وفي واقع الأمر، هناك خصائص عديدة للاختيار في قياس الحرية.

إن النظر في طبيعة وتفسيرات العلاقة بين الحرية والحقوق يسترعي ضرورة تقديم تعريف عملي للحقوق. فالحقوق، هي هبات. إن تعريف الحقوق الطبيعية يمثل مركز الجدل بين الفلاسفة عبر القرون، ذلك ما اذا كان هناك هبات متصّلة بالكائن البشري، واذا كان كذلك، ما هي تلك الهبات؟. يتفق معظم الناس على أن تلك الهبات طبيعية، أو كما يصفونها أحياناً حقوقاً محبوسة (inalienable rights) وأن بالإمكان تمييزها عن الحقوق القانونية (legal rights) والمقررة للمواطنين من قبل الحكومات في دول وطنية مختلفة. إن دساتير العديد من الدول تشتمل على حقوق طبيعية والتي تصبح مواداً قانونية. وإن كثيراً من الحقوق القانونية والسياسية قائمة على حقوق طبيعية. وهذا بالتأكيد هو الحال بالنسبة للديمقراطيات الليبرالية.

وعليه، ماهي تلك الحقوق الاساسية التي على الناس أن يرتجوها لأنفسهم؟ لقد عرّف الفيلسوف الانجليزي جون لوك (1632 ـ 1704) هذه الحقوق على أنها (الحياة، الحرية، الملكيّة) فيما كتب السياسي الاميركي ثوماس جيفرسون (1743 ـ 1826) (الحياة، الحرية، البحث عن السعادة). أما ثوماس هوبز (1588 ـ 1679) فيتمسك بحقين مطلقين فقط وهما: الدفاع عن الذات بكافة السبل والبحث عن السلام والمحافظة عليه. وتنص المادة الثالثة من الاعلان العالمي لحقوق الانسان على أن (لكل انسان حق الحياة، والحرية والأمن). وقد تبنت الجمعية العمومية لهيئة الامم المتحدة في ديسمبر 1948 هذا الاعلان ودعت كافة الدول الاعضاء لتعميم نص الاعلان على أن يتم (بثّه، وعرضه، وقراءته وتبنّيه بصورة مبدئية في المدارس وغيرها من المؤسسات التعليمية، دون تمييز بين المنزلة السياسية للبلدان والأقاليم).

إن الاعلان يبدو على درجة كبيرة من الاهمية كونه يزوّدنا بمرجعية دولية حول حقوق الانسان الفردية، ويتألف الاعلان من ثلاثين مادة تستوعب الهبات الانسانية الفردية. على سبيل المثال:

تنص المادة العاشرة:

لكل انسان الحق وبمساواة تامة الاستجواب العادل والعلني من قبل محكمة مستقلة ونزيهة، في تقرير حقوقه وواجباته وفي أي تهمة جنائية ضده، والحرية في السيطرة غير المرغوبة.

وتنص المادة الثالثة عشر:

لكل انسان الحق في حرية الحركة والاقامة داخل حدود الدولة.

وهناك بعد هام متصل بمفهوم الحقوق وهو الواجبات، وهذه تتصل بعموم الانسان الذي يعيش في مجتمعات ويتمتع بحقوق محددة. وحين تكون الحقوق ذات طابع أممي فإنها بذلك تتعلق بكافة الافراد دون تمييز. فالمادة الثالثة من الاعلان العالمي لحقوق الانسان لا تمتد فحسب الى حق الحياة والحرية والأمن لكل فرد بل وتلزم ذات الافراد على عدم حرمان الآخرين من هذه الحقوق. وأكثر من ذلك، فإن المادة الاولى من الاعلان تقيّد حرية التصرف بفرض توجيه أخلاقي على كل فرد.

(فقد ولد الناس كلهم احراراً ومتساويين في الكرامة والحقوق. وأنهم وهبوا العقل والضمير ويجب أن يتصرفوا تجاه بعضهم بروح الأخوة).

ان الحكومات الوطنية التي تقبل الالتزام بالاعلان العالمي لحقوق الانسان أو ترفضه قبلت بحقوق الانسان بالرغم من أن هذه الحقوق مثبّتة في دساتيرها. وبالتأكيد فإن الحكومات تبقي لنفسها سلطة سحب الحقوق الطبيعية والقانونية معاً، في حال ـ حسب وجهة نظرها ـ اقتضت الظروف ضرورة عمل ذلك.

 

الحقوق الممنوحة بواسطة الانتماء للمجتمع

ثمة حقوق نحظى بها لا تأتي من كوننا بشراً، ولكن من خلال كوننا ننتمي لمجتمع محدد. وهذه الحقوق مقررة من قبل المجتمع وتحدد مدى الحرية الفردية والتي يجب ان تصل اليه في هذا المجتمع. وتتفاوت هذه الحقوق بدرجة كبيرة في الطبيعة والنمط من مجتمع لآخر. ويتم النظر لهذه الحقوق، بحسب البروفسور كريك Crick، على أنها (الاشياء التي يسمح القانون لنا بالتمتع بها.. أو يطالب الآخرين بأن يوفّروها لنا: إن الحقوق القانونية لا تحصى بالعدد). وهناك ميزتان لهذه الحقوق هي تفاوتها وأنها قابلة للتعديل أو الإزالة، في حال تبدّل القانون).

إن هذه الحقوق على نوعين: تلك الحقوق التي تمكّن فرد ما للقيام بعمل ما يمكّنه من أن يكون مؤثراً من الناحية السياسية، منها على سبيل المثال حرية الاجتماع وحرية الكلام. النوع الثاني من الحقوق هي تلك التي تكون متحررة من عمل ما يؤثر على الفرد، فمعظم المجتمعات الغربية تعتبر بأن الحق في أن يكون الانسان حراً من الاعتقال العشوائي والاعتقال يعتبر حقاّ هاماً. وتعطي مثل هذه الحقوق نمطاً من النظام والتنبوء لحياة الفرد ويساعد على الاستقرار الاجتماعي. ربما يكون حق الوجود المستقر والآمن هو من الحقوق ذات الاهمية البالغة، بالرغم من أن هذا الحق مفقود في كثير من المجتمعات.

إن الهدف الاساسي لكافة المجتمعات يجب أن يكون الاستمرار في الوجود لفترة طويلة من الزمن. ومن أجل تحقيق ذلك فإن النظام ضروري، وهذا النظام يتم خلقه من خلال الاطار الدستوري والقانوني لمجتمعات معينة. وتحدد الدساتير الحقوق التي يتمتع بها المواطنون، وكثير منها هي حقوق قد تكون طبيعية، واخرى مدنية أو سياسية. إن من أشد الشروحات وضوحاً  للحقوق الفردية هي الواردة في دستور الولايات المتحدة وميثاق الحقوق لعام 1791 الذي يحدد الحقوق الاساسية المكفولة دستورياً والتي تشمل:

ـ الحق في حرية الصحافة، وحرية الكلام، وحرية الاجتماع (التعديل الأول).

ـ الحق في حيازة وحمل السلاح

ـ  الحق في أن يكون المواطن مكفولاً إزاء البحث غير العقلاني والمصادرة

ـ الحق في المحاكمة العلنية والعاجلة من قبل قاض نزيه

ـ الحق في عدم التعرّض لعقوبة قاسية وغير مألوفة

ـ الحق في التصويت بصرف النظر عن اللون والجنس (وهذا الحق ورد في التعديلات الاخيرة).