الرؤية الأميركية تجاه دمقرطة السعودية

 محمد علي الفايز

 في خطابه عن حالة الإتحاد أمام الكونغرس في 2/2/2005، رسم الرئيس الأميركي رؤيته وأعمدة السياسة الأميركية فيما يتعلق بمستقبل الشرق الأوسط بل والعالممhأماا

. فكيف ترى أميركا علاقاتها مع السعودية بناء على ما رشح من ذلك الخطاب؟

 

إن مكافحة الإرهاب ـ حسب الرؤية الأميركية ـ وكذلك نشر مفاهيم الحرية والديمقراطية في كل العالم هي محور سياسة أميركا في العالم والشرق الأوسط بشكل خاص. بمعنى أن المحدد في العلاقة ليس بالضرورة المصالح الإقتصادية الأميركية، أو بالأصح ليس منحصراً في مقدار المصالح الإقتصادية الأميركية الآنيّة فحسب.

فهذه المصالح بات ينظر إليها كأحد عناصر الإستراتيجية الأميركية، وليست بالضرورة العنصر الحاسم فيها.

بالطبع فإن العالم بمجمله لم يبتلع أو يهضم هذا (الزعم الكبير) بالنظر الى أن الخطوات المتخذة على الأرض لا تسعف الإدارة الأميركية في إقناع العالم برؤيتها.

يستدلّ المشككون في السياسة الأميركية بحقيقة أن الإقتراب من الديمقراطية لا يعني اقتراباً من السياسة الأميركية، كما أن ذاك الإقتراب لا يكفي لرضا واشنطن، التي لا تعترف بديمقراطية المخالفين لها، أو من تحسبهم في خانة الأعداء.

إيران، التي نالت القسط الأوفر من التهديدات الأميركية ـ كما جاء في خطاب بوش ـ يفترض أن تكون أقرب الى واشنطن بالقياس الى الأردن والبحرين والمغرب وهي الدول الثلاث التي امتدحها بوش لنهجها الديمقراطي؛ فإيران أكثر ديمقراطية من هذه الدول الثلاث، وبوش لا يرى في إيران إلا دولة مستبدة لا يفرق بينها وبين الدول الشمولية؛ بل يرى أن الديكتاتوريات الأميركية الحليفة (كما في السعودية ومصر) أقرب الى واشنطن من إيران. ومن هنا فإن انتهاج الديمقراطية وحده ليس المحدد الوحيد ـ وربما ليس المحدد الأبرز بالرغم من المزاعم الأميركية ـ في سياسة واشنطن الخارجية.

ذات الأمر ينطبق على لبنان، التي هي أكثر الدول العربية ديمقراطية، شأنها شأن الكويت، واللتان لم ترد الإشارة اليهما مطلقاً. بل ان لبنان قد يصنف أميركياً على أنه أقرب ما يكون للدول العدوة منها الى الدول الصديقة.

هذا يعني بالتحديد، أن السياسة الأميركية الخارجية، وإن وضعت في قائمة أجندتها تصنيف الدول حسب الإقتراب من المفهوم الديمقراطي، والإبتعاد عن الإرهاب، فإنها لا تنظر الى هذا العامل بعيداً عن إطار المصلحة الأمنية والإقتصادية والإستراتيجية الأميركية.

لقد ربط بوش بين مفهومي الحرية والديمقراطية وبين الإرهاب. وبالطبع فإن هذا الربط ليس متعسّفاً، بل هو صحيح؛ ولكن الإشكال والتشكيك يأتي من التعريف الأميركي للإرهاب، والإزدواجية في التطبيق. فحسب التعريف الأميركي يفترض ان تكون المملكة العربية السعودية، وليس إيران، أكثر استهدافاً من قبل أميركا، أولاً فهي أكثر بعداً عن الحرية والديمقراطية في الممارسة والتطبيق وحتى في تقبل المفهوم، وثانياً فإنه خرج من بين أحضانها الفكر المتطرف والمقاتلون الإرهابيون الذين قاموا بتفجيرات 11/9 وتورطوا في أحداث أفغانستان والعراق، فضلاً عن تمويل العمليات الإرهابية. قد يقال هنا، إن الحكم إنما بني على السياسات الحكومية، وليس على ممارسات الأفراد، فالمملكة لا تتبنّى (الإرهاب) كسياسة، في حين تقوم إيران بتمويله ـ حسب التعريف الأميركي ـ في لبنان وفلسطين. وقد يقال بأن مصالح أميركا الإقتصادية في السعودية، تجبر الخلل والخطر الناشئ منها.

أيضاً فإن بوش في خطابه عن حالة الإتحاد، ربط بين التحول الديمقراطي وبين تفريخ الإرهاب، واعتبر نشر الديمقراطية وسيلة حمائية لأمن الولايات المتحدة الأميركية نفسها. وهذا الربط صحيح في مجمله، ونظن بأن هذا الربط يتضمن الفلسفة الأميركية في (نشر الديمقراطية) كما يتضمن فلسفتها السياسية من تحقيقه. فبعد عقود طويلة، كانت فيها الولايات المتحدة تعتقد بأن المصالح الإقتصادية هي الحاكمة، انشغلت خلالها بدعم الديكتاتوريات في كل العالم، وتحالفت معها لتحقيق أكبر قدر من المكتسبات الإقتصادية، كما هو الحال في السعودية.. اكتشفت أميركا بعد (غزوة مانهاتن!) وكما أشار بوش في خطابه الأخير، أن الديكتاتوريات تصنع المناخ المناسب لنمو الإرهاب، وأن الأخير لن يكون محصوراً في الدولة الديكتاتورية نفسها، بل (تشظّيه) وتنشره في كل أصقاع العالم، كما هو النموذج السعودي البارع اليوم! حيث ينتشر السعوديون على مساحة من الأرض واسعة تطوف بين أفغانستان والشيشان والمغرب ولا تنتهي بدول الخليج واليمن والعراق وحتى المملكة نفسها. ولذا ـ لكي تحمي أميركا أمنها الداخلي ـ كما يتصور صانع القرار هناك ـ فإنه لا بدّ من إصلاح البؤر المفرخة له، وهذا واحد من أركان السياسة الخارجية الأميركية في علاقاتها مع السعودية.

إن إصلاح الوضع السياسي في بعض الأنظمة العربية ودفعها لممارسة شيء من الديمقراطية لم يأتِ حبّاً في تلك الدول المستهدفة، ولا شعوبها، ولا إيماناً بحقوق الإنسان فيها بالضرورة، وإنما هو خطوة أولية لحماية وتحصين الولايات المتحدة وشركائها الغربيات التي استقبلت نتائج الطوفان الإستبدادي من العالم العربي على شكل مجاميع سياسية لاجئة، أو مجاميع جائعة باحثة عن لقمة العيش، وكلا الصنفين غير مرحب بهما اليوم في العالم الغربي.

فالإصلاح السياسي في العالم العربي، وهذا يشمل السعودية نفسها، قد ينظر اليه ـ غربياً ـ كبوابة للإصلاح الإقتصادي الذي يخفف من تدفق العمالة المهاجرة، الشرعية وغير الشرعية؛ كما يخفف من صناعة التطرف المبني على سوء الأوضاع الإقتصادية، الذي ادى الى استقبال حشود اللاجئين السياسيين المضطهدين في بلادهم، والذين ثبت أن كثيراً منهم يميلون الى العمل الإرهابي كوسيلة لإصلاح بلدانهم، او تغييرها جذرياً وفق أيديولوجيات راديكالية متشددة.

المملكة العربية السعودية من جانبها، لاتزال تراهن على (المراضاة الإقتصادية) بدل (التنازل السياسي)؛ أي أنها تريد الإستمرار في سياسة إقتصادية تجلب المنافع بلا حساب للغربيين (البريطانيين والأميركيين) على شكل شراء أسلحة وعقود اقتصادية ونفطية، وسياسة نفطية تظلم الذات والمنتج وتراعي المستهلك الغربي بالتحديد، وسوق استهلاكية بلا ضرائب أو بضرائب قليلة؛ وكل هذا بغية ابقاء السلطة كاملة في يد العائلة المالكة، دون أن يشارك فيها الشعب. وهذه العائلة المالكة، بدت أكثر ليونة اليوم في تطويع الدين لصالح السياسة الأميركية في مجال (مكافحة الإرهاب) والقبول بسيادة ناقصة على أراضيها، وتحميل حليفها الديني تنازلاتها (تعديل بعض المناهج الدينية، وإغلاق الجمعيات الخيرية، كأمثلة)؛ لكن هذه العائلة ليست مستعدّة، للبدء بالمشاركة الشعبية، والتي تتضمن تنازلاً نسبياً للجمهور السعودي وليس للولايات المتحدة بالضرورة، وهي تحاول الإحتماء وراء الخصوصية السعودية الكاذبة، والمجتمع المتخلف، والتدرّج المحمود!

تنسى الحكومة السعودية بأن الأميركيين يريدون المنافع الإقتصادية الى جانب التغيير السياسي، وهذا هو مغزى ما ذكره بوش في خطاب الإتحاد (الحكومة السعودية بامكانها ان ترسخ زعامتها في المنطقة من خلال تنامي دور شعبها في تحديد مستقبله) وكأنه يدرك سلفاً بأن انكسار السياسة الخارجية السعودية مردّه الى أن السعودية لم تعد تمثل النموذج الإقتصادي ولا السياسي في المنطقة، وأنها بالتالي لم تحظ بالدعم السياسي الأميركي مما جعل سياستها الخارجية ضعيفة الفاعلية في المحيط الخليجي والعربي والإقليمي والدولي. كما ينطوي التصريح، على حقيقة أن الولايات المتحدة، رغم رضاها عن النهج السعودي الإقتصادي المتعلق بالخارج (النفطي تحديداً) إلا أن هذا النهج لن يكون مقابل ثمن مكافحة الإرهاب محلياً عبر بوابة الإصلاح السياسي ـ ولو كان الأمر بشكل متدرج.

هذه هي رسالة بوش لحلفائه السعوديين، وعليهم أن يفهموها ويدركوها، وأن لا يعتقدوا بأنهم بانتخابات بلدية هزيلة قد ضحكوا على أذقان شعبهم وعلى ذقن بوش نفسه وإدارته حين يستغربون تصريحات بوش ـ حسب تصريح عضو مجلس الشورى المعين عبد العزيز الفايز في 3/2/2005 ـ في الوقت الذي تستعد فيه المملكة لاجراء أول انتخابات بلدية في تاريخ البلاد؛ وأن ذلك دليل (على ان المملكة سائرة في خطة الاصلاح التي رسمتها لكن هذا امر لا يحدده رؤساء دول اخرى حتى ولو كانوا اصدقاء نعتز بصداقتهم) أو بالقول أن (الرئيس بوش يعرف ان عملية الاصلاح تحتاج الى وقت).

قد لا تستهدف الضغوط المملكة في الوقت الحالي، بقدر ما تستهدف سوريا وإيران، لكن مصير المملكة والعائلة المالكة معلّق على الإصلاحات الداخلية التي ينشدها كل مواطن. كما أن مصير العلاقات السعودية الأميركية معلق عليها، وهي العلاقات التي تراهن السياسة السعودية على إعادتها لسكّتها القديمة بذات الوسائل التي اعتادتها (مصالح اقتصادية مقابل بقاء في السلطة).