تمثيل ودراما نخبوية

 

إيمان القويفلي

 

إذا افترضتُ أنني سآخذُ من (كُل) قبيلة، ومذهب، وطبقة، ومدينة، موجودةٍ في المملكة رجلاً واحداً يُمثلها، ثم قلتُ إن عددهم - جميعا - يجب ألا يزيد على... سأقول 200 رجل فقط، فهل يبدو لكَ هذا الرقم كافيا ً لاستيعاب كل هؤلاءِ الممثلين؟

... حسناً، أنا لا أقول ذلك. لكن مجلس الشورى يفعل. أو هوَ على وجه الدقة يفترض - أو يُفترض له - أنه سيحتوي كل تنوّعات مواطني المملكة في بحر 120 عضواً، مُرشحين للزيادة إلى 150 خلال الأشهر القادمة. فحصُ منجزِ مجلس الشورى فيما يتعلق بقدرتهِ على (تمثيل) المواطنين لا يُدعم هذا الافتراض. وحسب دراسة الدكتور محمد بن صنيتان حول "النخب السعودية"، فإن 50% من أعضاء مجلس الشورى ينتمون إلى منطقة جغرافية واحدة (أو يمكن اعتبارها 3 مناطق حسب التقسيم الإداري للمملكة، المكون من 13 منطقة). وهذا عائد في وقتٍ أبكر إلى مَركزية الفرص والخيارات التي توافرت بشكل ٍ أكبر في مدينة بخلاف مدينةٍ أخرى. ثم عائدٌ في المرحلة اللاحقة إلى كون (التمثيل) المقصود يجري تحقيقه عبر (الاختيار)، لا الانتخاب، وبمعزل تام ٍ عن رَغبة (المُمَثلين). فهل مسألة (التمثيل) المُتحققة هكذا، تعدّ حقا هدفا أعلى لمؤسسةٍ مثل مجلس الشورى، أو لأيّ مؤسسةٍ عَمَلية، أو حتى للنخبة المُستنيرة خارج مؤسسات الدولة!؟

مسألة (التمثيل) التي هيَ هكذا، اختيارٌ يقع على الرأس من أعلى من أجلِ خلقِ توليفةٍ نموذجية بعيدة عن معطيات الواقع، فكرة لطيفة وجميلة عندما يتعلق الأمر بالأعمال الرّمزية السّامية، واللحظات التاريخية، والتكريم أو الاستقطاب. كما في (تمثيل) الأعراق البشرية الكبرى في الاحتفالات الرياضية العالمية. و(تمثيل) الجمال العرقي المتباين في حفل انتخاب ملكة جمال العالم. وعلى مقاعد الأمم المتحدة. وفي حفلات الموسيقى الخيرية. وهيَ نفس الفكرة التي ترسل (بيليه) إلى أوروبا و(مانديلا) عبر البحر إلى شرق آسيا: الحاجة - في لحظات ٍ معينة - إلى مُمثلٍ يُحقق لفكرة (التنوّع مع الانسجام) الطوباوية حول العالم حضورها. أسود بين شقر. أسترالي في المدينة المُحرمة الصينية. هندية تغني كلماتٍ يونانية. شيء وأشياء تقول إن المختلف والمتنوّع يُمكنه أن يلتقي ويذوب في بعضه، ولو رمزاً، ولو للحظة، في عالمٍ غارق واقعهُ بكوارث الانفصال وأزمات الاعتداء ومُفتشي الأسلحة. الانسجام رغم التنوّع، السلام والوحدة والمساواة بين الجميع، هذه الفكرة الجميلة الحالمة المُبتذلة في أغنيات (مايكل جاكسون) التلفزيونية، وفي الإعلاناتِ العبقريةِ للعلامة التجارية (بينيتون)، هيَ فحسب ما يمكن تحقيقهُ بواسطة (التمثيل) النموذجي، الانتقائي، ذلك الاختيار الذي يقع على الرأس من أعلى.

ما هوَ مُدهشٌ حقاً، هوَ أن يُعتمد هذا النوع من التمثيل لتشكيل عضوية مؤسسات دولة مؤثرة - أو مُرشحة لتكون كذلك، مثل مجلس الشورى - أو لتعزيز شرعيتها. ما هوَ مُدهشٌ أكثر، هو أن يُصبح تحقق هذا التمثيل هدفا قد يُطالب بهِ دارسونَ وباحثونَ سعوديون، كما فعل الدكتور محمد بن صنيتان في أجزاء من دراسته التي أشرت إليها آنفا، والتي سماها عددٌ من القراءِ والكتابِ في استطلاعات نهاية العام 2004م كأحدِ أهم الكتب الصادرة في الشأن السعودي. وجه الدهشة هو: أن ما يبدأ كحديثٍ مستنيرٍ مِن قبل باحثٍ موضوعي، حول توسِعة دائرة القرار، وإنهاء جمود النخبة وانغلاقها، ومناقشة آليات التعيين، و"إزالة الحواجز التي تحول بين أفراد الطبقات الدنيا والتحاقهم بالطبقات العليا"، ينتهي، بطريقة صادمة وغير مفهومة، إلى التركيز على حقوق فئة بعينها من بين كل هذه الطبقات الدنيا - المُستبعدة من دخول النخبة - عبر خطاب ٍ درامي ٍ كثيف يتباعد عن رصانة البحث في أجزائهِ الأخرى. اقرأ هذه العبارة مثلا ً: "ويبقى أبناء (كذا) خارج اللعبة وخارج الغنيمة، فخلو [أذهانهم] من الأيديولوجيا السياسية همّشها في عصر الصراع البارد (.....) ولم يبقَ منها سوى المستهلك النهم لبضاعة السوق التي تصب أرباحها في جيوب التجارة المدينية، في حين أنها تظل في النهاية حامية وحدة الوطن عند الحاجة"!

... فكيفَ تنتهي المَعركة الشريفة من أجلِ واقعٍ أفضل للجميع، إلى الحديث عن (لعبة) و(غنيمة)، وبحثٍ عن (تمثيل) الذات أو العِرق أو القبيلة ؟!

وكيفَ تنتهي النخبة المُستنيرة خارج مؤسسات الدولة: من صحافيين وأكاديميين وفوضويين، إلى الحديث والكتابة عن همومنا نحن جميعا، بادئة ً بمقدمات ٍ موضوعية، لتنتهي لاحقا إلى تتبع آثارِ ندوبها الخاصة، وخارطة وَسمها الناري الشخصي؟!

و كيف صارت قراءة مقالة أو كتاب أو سماع حديث من مُتحدثٍ وطني ٍ ملهوف، لعبة مسلية للتخمين: علامَ يتحسّر في نفسه، وما الذي يرغب فيه، وما الذي يُلمح إليه، في طيّةِ الكلام النزيه، المُحايد، الطامح إلى صالح الجميع؟!

هل يشعر المثقفون المستنيرون أنفسهم، أن أفكارهم المِثالية الإصلاحية، حول العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، عبَث؟... ربما لهذا يبدو (التمثيل) على طريقة مجلس الشورى، مطلبا عقلانيا مُرضيا - بالمقارنة. وربما لهذا تخرج زبدة الحديث الجميل، فإذا هي البحث عن موطئ قدم ٍ في دائرة القرار. أفكر في هذه النخبة المستنيرة الحالمة من المثقفين، الدرامية مثل جلجامش. فهي ذاتية مثله، فجلجامش لم يدرك الصداقة حتى أصبح له صديق، ولم يَفهم الموت حتى ماتَ الصديق. ومثله: قد تساوِم في وقتٍ ما من أجل الخلود، لكنها ستقبل لاحقا ً بما هوَ أبسط من ذلك.

ذكرني... ماذا يسمّون هذه؟

أها... "واقعية".

 

جريدة الوطن السعودية، 3/2/2005