المعاصرة وتقليدية التقليدي

 محمد بن علي المحمود

 يرفع السلفي التقليدي راية احترام النص وتحكيمه في الواقع المتعين، وانه يجب على الواقع أن يتشكل بالنص!، وليس العكس، فالنص يحكم ولا يحكم عليه. ولا شك أنها راية براقة، ودعاية رائجة، تأخذ دورتها في الاجتماعي، وتمسك بتلابيب الوعي الجماهيري خاصة. لكن، ما لا تفقهه السلفية التقليدية، أو لا تريد أن تفقهه، أن احترام النص وتحكيمه في الواقع لا يدلف إليه من باب واحد، وإنما أبواب كثيرة ومتفرقة، وربما كان الباب الذي تلج منه هو أقلها قيمة وأدناها جدوى.

 لم يكن خافياً على أحد ممن يراقب الحراك الإسلامي المعاصر أن النموذج الطالباني البائد كان هو النموذج الذي تطرب له مخيلة السلفي التقليدي المحلي، وأنه كان المقترح السلفي الأمثل، كبديل لكل ما هو قائم من كيانات إقليمية، يعدها - السلفي الجهادي، ومن ورائه التكفيري - عابرة، ويجنح - في الأعم الأغلب - إلى تكفيرها. لقد كان واضحاً أن مستوى التجاوب مع الطالباني - كحركة وكفكر يتموضع - بلغ حداً يفوق الانتشاء الوجداني، بحيث ينقله من الانتماء الشعوري الخالص إلى الولاء الحركي، وهذا ما تبلور في تيارات الإرهاب المسلح. ولولا أن تقع بعض الاسماء في الحرج، لذكرت من مقولاتها ما يتضح منه معالم هذا العشق الطالباني الذي لم يشف منه الوجدان السلفي التقليدي إلى الآن.

حقيقة، لم يكن تناغم السلفي التقليدي مع الطالباني حدثاً مستغرباً، بل كان هو الطبيعي في سياق علاقات الفكر والقوة، محلياً وإسلامياً. سلفية الطالباني، وحدية هذه السلفية كانت مغرية ومثيرة للوعي السلفي المتنوع حركياً. كانت مثيرة له كوعي، وليس كحراك فاعل في الواقعي، قد يرفض التجربة بمحركات الواقع لا الوعي. إذن، الاشادة بالنموذج كانت إشادة طبيعية، في سياقها، وإن كانت بعض الأطياف السلفية تتخذ موقفاً سلبياً من الطالبان، إلا أنها تتخذ هذا الموقف السلبي بإيحاء من معطيات واقعها الخاص،. ولوازم الفعل الايديولوجي الذي ترتبط به اختياراً أو اضطراراً.

بعض السلفيات - إذ لا سلفية واحدة كما تدعي كل سلفية - لم تشأ أن تربط نفسها بالمحيط الأممي. ليس هذا لأن هناك خطراً على الفكرة من الأممي، وإنما لأن هناك خطراً عليها كحركة وكأفراد. ولهذا رفعت يدها عن الشأن الطالباني وعن غيره مما هو في سياقه.

لكن، هذا الانكفاء على الذات المحلية من قبل بعض السلفيات لا يعني أنها لم تكن مدداً للوعي الماضوي الذي ينهض عليه النموذج الطالباني. إنها - أي السلفيات ذات الموقف السلبي من طالبان - ترفض الحراك السلفي الطالباني المغرق في سلفيته وماضويته، ترفضه حراكا، لكنها - شاءت أم أبت - تدعمه وعياً وتصوراً. إنها قد تقدح في (النموذج) على مستوى المقولات الفكرية، لكنها لا تفعل ذلك من وجهة نظر غير ماضوية، وإنما تفعل ذلك - وهنا الكارثة - من جهة المزايدة على سلفيته (ماضويته)؛ لأنها ترى نفسها أشد سلفية (ماضوية) منه. إنها لا ترفضه لأنه مغرق في ماضويته أكثر مما يجب، وانه لأنه - حسب دعواها - لم يغرق في الماضي بالمستوى المطلوب الذي تنظره منه.

إذن، السلفيات وإن تنوعت، بل وإن وقف بعضها من بعض موقف التضاد، إلا أن الوعي الماضوي يجمعها. إن السباق فيما بينها ليس سباقاً في ميدان الحاضر أو المستقبل، وإنما هو سباق في ميدان الماضي، والسابق هو الذي يصل - بأقصى سرعة - إلى الماضي السحيق. والبعد هنا ليس بعداً زمنياً بقدر ما هو بعد في الامتثال. وبهذا، فمن يصل - وفق شروط السباق الماضوية - إلى الماضي أولاً، فهو السلفي (الحقيقي)، ومن يتأخر، أو لا يلتزم بالشروط، فسلفيته مزيفة، وتسميته بالسلفي دعوى، وليست حقيقة. وهذه هي التهمة التي تتقاذفها تيارات السلفية فيما بينها، كما يشهد بذلك الواقع السلفي الراهن.

وهكذا، نجد أن كل سلفية - أياً كان نوعها ودعواها وتمظهرها - تدعم الوعي السلفي، وترسخ للماضوية، وتكافح في سبيل التقليد، بدعوى انه الحصن المنيع ضد الابتداع. وهي بهذا تقف ضد أي حراك تقدمي، تقف ضد التقدم كوعي، وإن تهادنت معه في هذا الموقف أو ذاك. إن هذه الهدنة من قبل السلفي فعل تكتيكي، لا يرقى إلى الاستراتيجي، ولا يقاربه، حتى في مداه النسبي؛ لأن السلفية - دائماً - في صف الماضي على حساب الحاضر.

من هنا لا نعجب حين نرى السلفية الجهادية التي تتشظى أمام أعيننا إرهاباً هنا وإرهاباً هناك، تستدل - في غير الموقف من الحاكم والجهاد - بمقولات السلفيات ذات المنحى الإرجائي، وتحتكم إلى الاعلام التاريخية السلفية التي تحتكم إليها هذه السلفيات، وكل منهما يدعي انه الأشد سلفية فيما يقول ويفعل، والأنقى تقليداً فيما يأخذ ويدع، والأصدق حباً ووفاءً وإخلاصاً لتلك المقولات وهؤلاء الأعلام.

إن المنظومة السلفية - بتنويعاتها - تصدر عن وعي واحد، وتصور واحد، بل وعن مقولات تاريخية وأعلام رمزية، لا يختلفون عليها وإن اختلفوا على ما سواها، لا يختلفون عليها من حيث هي مناط التقليد - فضلاً عن أن يختلفوا على التقليد ذاته كممارسة واعية - وإنما الخلاف فيما بينهم على تأويل مقاصد السلف في أقوالهم! وعلى كيفية موضعتها في الراهن.

لا شك أن الروح السلفية واحدة؛ مهما تعددت سبلها، وتباينت رؤاها، وتباعدت أقطارها. ولولا ذلك؛ لما حظي الطالبان بكل هذا التعاطف الجماهيري الإسلامي، ولما كانت حكومته - على كل ما فيها من بدائية وقمع وغياب أو غيبوبة عن المعاصرة - هي النموذج المنتظر للحكومة الإسلامية التي تعد بها أدبيات الحراك الإسلاموي المعاصر. إن هذا التعاطف السلفي مع كل حراك سلفي آخر، وقدرته على الحشد الجماهيري هو ما أغرى الحراك السلفي في الجزائر، وقاده إلى محاولة طلبنة الجزائر - قبل وجود الطالبان! -؛ فكانت النتيجة ذلك الموت والدمار.

بل إن الفلوجة - الرمز الطالباني الجديد - لم تحضر في الوجدان الجماهيري لدينا؛ لو لم تكن السلفية التقليدية كامنة وراء ذلك الانتحار الجماعي الذي قادته السلفية هناك، وجرت وراءها - إلى الموت والدمار والفرقة - كثيراً من الأبرياء الذين لا تعنيهم تلك المقولات الماضوية، بقدر ما يعنيهم الواقع المعاش، بمفرداته المادية البسيطة التي يصطدمون بها ليل نهار.

إن السلفيات التقليدية - هي بذاتها، كمقولات - إشكال مع الراهن، ولهذا، فحيثما حلت السلفيات التقليدية تأزم الواقع - كما يؤكد ذلك الشيخ البوطي في أكثر من مناسبة، ومن تجارب واقعية عايشها - ووقع النزاع والافتراق، ودارت المعارك حول الهامشي والجزئي على حساب المصيري والكلي، وتفرق - تبعاً لذلك - الأهل والأحباب. وبقدر فعل السلفية في الواقع، وبقدر تحكمها به، يكون التأزم. ومع أن هذا التأزم يكون - في الغالب - واضحاً للعيان من اللحظة الأولى للحراك السلفي، إلا انه ينسب كل تأزم لغيره، مع أن الواقع لم يكن بالصورة التي عليها قبل الفعل السلفي فيه. ينكر السلفي انه سبب كل ذلك التأزم مع أن كل ذلك الصدام يجري بمبررات سلفية، وبمفردات سلفية، تدعي أنها تروم - بمثل هذا - صيانة الدين، وإعلاء كلمة الله.

بل، إن الأزمة أعمق من ذلك، فليس الصراع في العالم الإسلامي اليوم بين سلفية ومعاصرة فحسب، وإنما هو بين السلفيات ذاتها، في سعيها للظفر بأكبر قدر من النفوذ الرسمي والجماهيري، فضلاً عن دعواها المعلنة للظفر بالحقيقة الخالصة. ولو أننا نظرنا إلى عمق الصراع الدائر في العالم الإسلامي اليوم - من نوعية الاحتراب الداخلي - لوجدناه صراعاً بين سلفيات في جوهره، وإن وظفت له أطراف أخرى، لا تعنيها السلفية كفكر، بقدر ما تعنيها السلفية كحراك جماهيري لابد أن يكون له مآلات في الواقع.

ولو أننا تأملنا السلفيات التي يجمعها الوعي السلفي بتقليديته وماضويته، وتحدها مقولات المنظومة السلفية التقليدية التي برعت السلفيات في اجترارها، لوجدناها تعاني من اشكاليات في بنيتها من الداخل، كما تعاني - أيضاً - من اشكاليات في علاقتها مع الواقع من حولها. وهذا يعني أن حضورها في واقعنا لا يعدو كونه فاعلية سلبية، تعيق حراك المجتمع نحو الحضاري والتقدمي، ولو على نحو غير مباشر في أكثر الأحيان، خاصة عندما يكون الإشكال في بنية الوعي لا في المقولات المباشرة التي تسهل قراءتها. ولعل الفاعلية السلبية تظهر فيما يلي:

1 - من أبرز الإشكاليات التي يواجهها الوعي السلفي من داخله، وهي اشكالية تؤزمه من الداخل، أنه يستشهد - على نحو مكثف - بأدلة نصوصية وبمقولات أثرية؛ ليؤكد صحة موقفه، وخطأ الآخر المقابل، صحة ليست ظنية ترجيحية، وإنما يقينية حاسمة، تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة بوصفها الفرقة الناجية من بين الفرق الهالكة (بقية البشر). لكن يلاحظ أن هذه الأدلة النصوصية والمقولات الأثرية التي يراد لها الحسم اليقيني صد الخصوم، يتم توظيفها ضد موظفها أيضاً، من قبل الآخر المضاد، خاصة عندما يكون الصراع الايديولوجي من داخل المنظومة السلفية التقليدية التي تمتلك الاحتشاد نفسه على هكذا استدلال. ومن أهم ما يلاحظ على هذا التقاذف بالأدلة والمقولات، أنها تنطبق على من يوظفها بالدرجة نفسها التي يريد لها أن تنطبق على الآخر.

للخروج من هذا، يجنح السلفي التقليدي إلى تأويل النصوص والمقولات بما يتوافق مع موقفه الخاص؛ ليضمن امتلاكها. وبما أن التأويل ليس حكراً على أحد، وإنما هو مشروع للآخر (السلفي المضاد)، وسيوظفه ضد خصمه، كما وظفه الأول، فلابد - في هذه الحال - أن يعمد الأول إلى الشرط السلفي في التأويل، أي ربط التأويل بمقولات السلف التي تعبر عن فهمهم للنص، والتي يعدها السلفي الفهم الصحيح دون غيره. هنا يقع السلفي التقليدي في مأزق، فالسلف لم يتفقوا إلا على القليل، واختلفوا على الكثير، فعن أيهم يأخذ؟. مثلاً، الحسين بن علي - رضي الله عنهما - من رأيه الخروج على الحاكم الظالم، ولم يكتف بذلك، بل جعل هذا محل تنفيذ هو وآل بيته، بينما عبدالله بن عمر- رضي الله عنهما - لم ير الخروج، ودعا إلى الجماعة. الحسين من السلف، وابن عمر من السلف، فبأيهم يقتدي السلفي؟، الترجيح جرى فيما بعد، وأزمة الماضي حاضرة هنا!.

بل هناك أمر آخر، أخطر من ذلك بكثير، وأبعد أثراً في الفكر والواقع المتعين، وهو أن التأويل الذي نطق به (السلف) أصبح مقولة تحتمل التأويل، أي أن تأويل التأويل السلفي - بما هو أمر مشروع وضروري، بل لا يمكن تصور عدمه - سينقض الرؤى السلفية الرائجة أو يحد من حديتها. ولأن الأمر كذلك، فإن السلفي يعلن رفضه التأويل، إلا تأويل السلف الصالح!، لكنه يسكت عن تأويل التأويل، وعن موضعة التأويل في سياقه التاريخي بوصفه محكوماً بشرطه التاريخي. يسكت السلفي المعاصر عن تأويل التأويل السلفي، وكأنه لا وجود له، بينما هو لا يخطو خطوة سلفية واحدة إلا به، شعر بذلك أم لم يشعر.

2 - يرفع السلفي التقليدي راية احترام النص وتحكيمه في الواقع المتعين، وانه يجب على الواقع أن يتشكل بالنص!، وليس العكس، فالنص يحكم ولا يحكم عليه. ولا شك أنها راية براقة، ودعاية رائجة، تأخذ دورتها في الاجتماعي، وتمسك بتلابيب الوعي الجماهيري خاصة. لكن، ما لا تفقهه السلفية التقليدية، أو لا تريد أن تفقهه، أن احترام النص وتحكيمه في الواقع لا يدلف إليه من باب واحد، وإنما أبواب كثيرة ومتفرقة، وربما كان الباب الذي تلج منه هو أقلها قيمة وأدناها جدوى.

إن احترام النص لا يتأتى لمن يتقاصر وعيه عن إدراك الكلي الذي يرمي إليه النص في جزئيته، ولا لمن يجهل أو يتجاهل النصوص الأخرى التي قد يفرض عليه واقعه المتعين أو سياق المنظومة الضيقة أن يتجاوزها. كما لا يتأتى لمن يجهل أن مفهوم النص - أياً كان هذا المفهوم - ليس هو النص ذاته، وأن تفعيل النص في الواقع - بفاعلية بشرية - هو نوع من التأويل، وليست اللغة (النص) استحالت فعلاً أو مادة.

احترام النص لا يعني إغلاقه، وتضييق البعد التأويلي فيه. إن ما يظنه السلفي احتراماً للنص لا يعدو كونه اختصاراً للنص، اختصاراً لمقولات النص، وتحجيماً لفاعليته في بعديها الزماني والمكاني. الإنسان في التصور السلفي هامشي، وفاعليته العقلية - ومن ثم الحضارية - محدودة. أنه لا يصنع مصيره، انه أداة تنفيذ فحسب، وليس ذاتاً مستقلة فاعلة، ذات فاعلية ايجابية في تعاطيها مع الواقعي.

3 ـ ومما تعترف به السلفية التقليدية - صراحة أو ضمناً - أنها ذات فاعلية واحدة، وفضاء واحد. انها تفترض الواقع المتنوع - أو تتصوره - واقعاً واحداً، واقعاً هي تصنعه في مخيلتها من مفردات تاريخية؛ فتلزم الواقع الفعلي المعقد أن يتشكل به. وهي ترى أن الواقع لا يمكن أن يتشكل الا بفاعلية واحدة محدودة، لا تخرج بحال عن تصوراتها الخاصة والضيقة للفاعلية الدينية التي ترفع من خلالها شعاراتها، وتمارس بها ايديولوجيتها.

والغريب أن السلفية التقليدية تريد للديني أن يفعل في الواقع - كما تتصور الديني، وكما تتصور الواقع - في الوقت الذي ترفض فيه أن ينفعل الديني بالواقع ومفرداته الحية. إنها تتصور الديني الذي تسعى لموضعته في سياق الواقع، وكأنه ذو فاعلية من جهة واحدة فحسب، أي كأنه فاعل لا منفعل، بينما تاريخ الديني يشهد بغير ذلك، بل وتاريخ السلفي أيضاً.

ينتج عن هذه المحدودية في التصور وفي الفاعلية، أن تصبح الخيارات الحضارية محدودة، بل واحدة. وفيما لو طرحت مشروعاً حضارياً - وهو أمر مستبعد، بل يكاد يكون مستحيلاً - فإنه سيكون مشروعاً هزيلاً في بعده التنظيري فضلاً عن التطبيقي، انه سيطرح تجربة يتيمة على كل هذا الثراء التنوعي في العموم الإسلامي. ومن ثم، فالرهان سيكون على فرس واحد في ميدان واحد، والحظ هو سيد الموقف هنا، الحظ من حيث تقاطعات الواقعي إلى أن يصعب التنبؤ بمساراتها.

4 ـ  البعد الأبوي البطركي حاضر في سياقات السلفية التقليدية، مع أنها من أشد الفاعليات الفكرية نفياً ورفضاً لذلك. لكن هذا النفي وهذا الرفض انما هو محصور في التنظيري فحسب، كجزء من تبرئة الذات من جهة، وتوطئة للجماهيري؛ كي يندغم في هذا البعد الأبوي من جهة اخرى.

إن ما نسمعه في مفردات السلفية التقليدية الرائجة، وفي أدبياتها التي ترددها في مسارات الترويض للجماهيري، تشي بالحرص الكبير من قبلها على تعزيز هذا البعد واعطائه مشروعية شرعية!، بل طرحه بوصفه طوق النجاة الوحيد في الدنيا والآخرة، وأن من لم يبارك هذا البعد ويفيه حقه من التوقير والتقديس لاغنه يوشك أن يزيغ.. الخ".

لهذا، عندما تسمع هؤلاء، وتتأمل ما يقدمونه (نصائح) للجماهيري، لا تجد فيه إلا منح مرجعياتهم نوعاً من الحصانة ضد النقد أو المساءلة، والتأسيس لبعد كهنوتي، يظهر أحياناً على نحو واضح في مفردات الأبوية الصريحة التي تطلق - كثيراً - على بعض الاسماء، فضلاً عن الدعوة إلى ثني الركب!) عند فلان أو فلان، بكل ما في هذه الصورة التي تتضح بها هذه الجملة من مهانة وذلة وصغار.

5 ـ ومن أهم ما يظهر تأزم السلفية التقليدية، أنها تستعيد مقولات التاريخ البعيد المختلف، لواقع آني مغاير، واقع له مكوناته الخاصة، وله ظرفه التاريخي الخاص الذي لايمكن أن يكون هو التاريخ كله. إن السلفية التقليدية تدعي أنها تمتاح من النص المتعالي مباشرة، وأنها الأقرب اليه من جميع زواياه، ومن ثم، فهي تدعي أنها تقوم بموضعته شكلاً ومضموناً في الواقع. وهذه دعوى تتوهمها السلفية أو تغالط نفسها فيها، إذ هي لا تلج إلى النص المقدس مباشرة، مهما ادعت ذلك نظرياً، فالتطبيق يشهد أنها تغرق في التراث السلفي ورؤاه حول النصوص قبل أن تصل إلى النص.

إن المقولات التي تشكل المرتكزات الأساسية في الوعي السلفي لم تؤخذ من النص مباشرة؛ بدلالة أن الجيل الأول لم يعرفها ولم يتفوه بها، ولو كانت من بدهيات النص لشدد عليها في حراكه الدعوي. من هنا، فالسلفي التقليدي لا يخضع للنص، بقدر ما يخضع لإرث تاريخي ورؤى ضيقة تكونت - تاريخياً - بفعل الحراك الاجتماعي والسياسي آنذاك، بأكثر مما تكونت بفعل النص الذي تتمحور حوله، إذ الاولوية في ذلك الحراك لم تكن للنص، انما كانت للحراك الاجتماعي والسياسي، ومن بعد، يأتي النص مشرعنا لذلك الحراك.

وإذا كان من بدهيات السلفية التقليدية التي لا تتنازل عنها بحال، المفاصلة فيما بينها وبين مخالفيها في الرؤية، فإن المقولات التي تتم المفاصلة بها - ولها - مقولات لم تظهر ولم يتمحور حولها الوعي السلفي إلا بعد التحدي الذي واجهته السلفية في فترة محدودة من تاريخها الطويل، مما يعني أنها مقولات محدودة بظرفها التاريخي الخاص، وليست متعالية فوق التاريخي، كما أريد لها أن تكون فيما بعد، وكما يتردد الآن في التيار السلفي التقليدي.

6ـ ومما يقتل الفاعلية الإنسانية في الواقع الإسلامي المعاصر أن السلفية التقليدية تجعل من كل جهد يقوم به الإنسان عبثاً؛ لأن الحقائق - في تصورها - أنتجت سلفاً، ولم يبق على الإنسان المعاصر إلا الاذعان في التطبيق، وبقدر الاذعان يكون التفاضل.

الإنسان في التصور السلفي هامشي، وفاعليته العقلية - ومن ثم الحضارية - محدودة. أنه لا يصنع مصيره، انه أداة تنفيذ فحسب، وليس ذاتاً مستقلة فاعلة، ذات فاعلية ايجابية في تعاطيها مع الواقعي.

مهمة الإنسان في التصور السلفي - من حيث الحراك الواقعي المشرعن - أن يحفظ ثم ينفذ، يحفظ المقولات الجاهزة - التي يراد لها أن تمسك بالحقيقة كمنجز سابق جاهز للاستخدام - ثم ينفذها بشكل آلي. إنها أمر وطاعة لا غير. الإنسان فيها فاقد لعقله وحواسه، ينفذ - دون فاعلية حقيقية - متعاليات تاريخية، دون أن يرى الواقع أو يسمع عنه أو يتلمسه، فضلاً عن أن يعقله. لكن، ما لم يدركه السلفي التقليدي، ولن يدركه، أن بين الحفظ والفعل حلقة إنسانية مفقودة أو منفية بقصد، مما يدخل في مدارات الفاعلية الإنسانية. هذا المفقود هو ما يحفظ للإنسان دوره، وهو - أيضاً - ما يحفظ لـ (المحفوظ) فاعليته وللفعل ايجابيته في الواقعي.

ولأن الإنسان في التصور السلفي كائن تافه، محدود القدرات والطاقات؛ يصبح الجهد الإنساني، وما ينتج عنه لا قيمة له، وربما لا حقيقة له، كجزء من الازدراء السلفي للمنجز الإنساني. الفاعلية الإنسانية التي أنتجت هذه الحضارة المعاصرة، والتي تلامس سقف الإعجاز، فاعلية تختصر - لدى السلفي - في موقف سلبي، يتحدد في سطر أو سطرين يهمشان الإنسان.

ومن الطبيعي أن هذا التهميش للإنساني لا يظهر على نحو صريح معلن، وانما يظهر في المواقف التي تضع الوعي السلفي في موضع الاختيار بين ما هو تصور نظري تاريخي ظني ذي بعد تأويلي، وبين ما هو علمي يقيني، لكنه محسوب على المنجز الإنساني المعاصر.

انظر إلى المعالجة السلفية لكثير من قضايا الواقع، ولعلاقة النص الشرعي بالعلم الحديث، تجد أنها معالجة تجنح إلى تأويلات الماضي التي لا تعدو كونها تصورات ظنية. وأخطر ما في هذا انه يتم على حساب يقينيات العلم الحديث. التأويل الآتي من الماضي السحيق هو التأويل الشرعي الصحيح في الوعي السلفي، مهما كانت درجة اصطدامه بالعلم. نحن في عام 5002م لميلاد المسيح - عليه السلام - وهناك من يرى - لا يعدها رؤية خاصة، وانما هي في تصوره شرعية يقينية - أن الأرض لاتدور وليست كروية و.... الخ؛ لأن فلاناً من السلف قال بذلك أو أن هذا هو تأويله للنص. مازال الكثير يريد أن يأخذ علم الفلك عن ابن تيمية أو عن أصحاب أحمد!.

المسألة هنا ليست فردية، وليست مقتصرة على شريحة محدودة لها ظروفها البيئية والعقلية الخاصة، بحيث لا تؤثر في السياق التحديثي العام، وانما هي وعي سلفي ينتظم الجماهيري الإسلامي، ويقدم له دينه على هذا الأساس.انه يزعزع ثقته بالعلم، والأخطر انه يفعل ذلك بتأويل شرعي، أي انه يجعل الوعي الجماهيري في خيار مفتعل بين الشرعي والعلمي. وإذا كان الشرعي - هنا - مؤطراً بالتأويل السلفي، بحيث يصبح التصور السلفي له هو الشرعي ذاته، لا مجرد تأويل ظني له، فإن الضرر سيعود - والفضل للسلفي التقليدي! - على الشرعي في النهاية، ونتائج الخيار ستدعمها معطيات الواقع، والتي هي معطيات علمية، أو- على الأقل - تزداد درجة علميتها كل يوم.

7 ـ المنظومة السلفية التقليدية، كما تحتفظ بمقولات السمع والطاعة للبر والفاجر والعادل والظالم، تلك المقولات التي يراد لها أن تحفظ النظام المدني المعاصر!، فانها تكتنز - أيضاً - وبصورة أكبر وأبعد تأثراً، بمقولات التبديع والتضليل، والتكفير، بل هذه المقولات هي الهيكل الذي تقوم عليه التصورات السلفية، بوصفها رؤية عقدية بالدرجة الأولى.

ولكون المقولات التصنيفية التي تجنح إلى التبديع والتضليل والتكفير هي التي تنتظم الوعي السلفي في رؤيته للآخر، أياً كان هذا الآخر، فانها مقولات وإن لم يتم تفعيلها في وقت ما، الا أنها تبقى من محركات الوعي السلفي، ومن ثم يسهل استخدام تلك المقولات، لدى كل سلفي، حسب الحاجة الواقعية إليها.

هذه المقولات الاقصائية التي نهادنها فكرياً، تتحول عند ادنى مساس بالواقع إلى إرهاب، إرهاب يختلف في درجته ونوعه حسب درجة الاثارة الواقعية، ولا يمنعه من ذلك مقولات السمع والطاعة؛ لأنها مقولات مشروطة في المنظومة السلفية بتحقق الإسلام، والسلفي التقليدي - كما في السلفية الجهادية - يستطيع الإمساك بأي مفردة عقدية - من بين عشرات المفردات الجاهزة - يكفر بها المجتمع الإسلامي، ومن ثم يستحل - ببساطة - الخروج على المجتمع ونظامه، ويبدأ رحلة القتل والتفجير.

(جريدة الرياض ـ 27/1/2005 ـ 3/2/2005)