نظرة إستشرافية على الإنتخابات البلدية

التصويت للقبيلة والمذهب والمنطقة

 د. خالد الرشيد

 فجرت الحملات الإنتخابية البلدية السعودية من جديد موضوع الهوية الوطنية، والهويات الفرعية القبلية والمذهبية والمناطقية المقابلة، وموضوع استثمارهذه الأخيرة في العملية الإنتخابية، الى حد أن البعض رأى أن (تعيين) الأعضاء حكومياً أرحم من انتخابات فئوية.

 عمّا قريب ستبدأ أولى مراحل الإنتخابات البلدية (نصف المعيّنة). وبغض النظر عن الموقف الأولي منها والذي يصل الى حد المقاطعة لها من قبل فئات اجتماعية ونخبوية كثيرة، وبغض النظر عما ستحققه من نتائج قليلة أو كثيرة من جهة تحسين الأوضاع البلدية للمواطنين، فإن هذه المقالة تحاول قراءة الحدث عن كثب، وتلمّس مسارات الناخبين والمؤثرات التي يتعرضون لها والتي ستنعكس على نوعية المرشحين الذين سينتخبونهم. نقول هذه محاولة أوّلية، وقد تكون في بعض جوانبها قراءة ناقصة لمؤشرات الإنتخاب في مناطق المملكة المختلفة، ولمستقبل يميل الى الغموض، وذلك بناء على ما توفر من معلومات.

 مؤشرات الإنتخابات البلدية في نجد

 أفشت حملة المواقف المستعلنة في منتديات الإنترنت وتجمعات الناخبين في المنطقة الوسطى بما فيها الرياض والتي ستبدأ الإنتخابات منها، قبل أن تعمّم على المناطق الأخرى لاحقاً، أفشت أن العصبية القرابية والدينية هي المحدد الأول في قرار الناخبين، وربما كان المحفّز الأول لهم على التسجيل ابتداءً في الإنتخابات.

والرياض باعتبارها العاصمة، تتمثل فيها الكثير من الأطياف القبلية والمناطقية، فقد جلبت عملية التحديث الى الرياض فئات اجتماعية انتبذت لها حواري خاصة بها، أي أنها جاءت بعصبيتها من القرية والريف والبادية الى حيث المركز. فهناك أحياء لكل قبيلة تقريباً؛ وأحياء لكل عصبة قروية قادمة من الخارج (من بريدة مثلاً).

ورغم ان البعض يعتقد بأن في الرياض أحياء تمثلت فيها فئات متقاربة طبقياً من الأغنياء أو من مسؤولي الدولة، أو من النخب المتعلمة.. إلا أن الظاهرة العامّة هي أن المدينة قد تناهبتها العصبيات منذ سني تخطيطها الأولي.

وببقاء هذه العصبوية القبلية والدينية والقروية والمناطقية، ولأن الإنتخابات بلديّة، ترعى التقسيمات بغرض تقديم الخدمات.. فإنه لا يبدو مستغرباً أن تتفجّر تلك العصبيات في حمّى تنافسية من أجل إيصال مرشحين يمثلون تلك العصب، التي يتخالف بعضها ويتحالف بعضها الآخر في عملية جديدة على المواطن السعودي لم يألفها من قبل.

هناك أحياء يسكنها جنوبيون، هم في كثير منهم من قبيلة يام، إسماعيليو المذهب.. وقد تقدّم ثلاثة مرشحين في ثلاث مناطق انتخابية في العاصمة. وقد قام هؤلاء المرشحون بعقد اجتماعات لتحشيد الناخبين على أساس عصبوي قبلي، فافتتحت المخيمات وانطلقت موائد الطعام، بغية مساندة المرشحين كل في منطقته الإنتخابية.

هنا، انطلقت الدعاية الدينية المضادّة، لتحرّم إعطاء الصوت لهؤلاء الكفرة (الذين لا يولّون ولا يُتولّون).. وقدّمت سلسلة من المرشحين المأمونين دينياً. لم تواجه (العصبوية اليامية) على أرضية قبليّة، فتلك معركة غير مأمونة الحسم والنتائج، وقد لا تكون مأمونة سياسياً، أما مواجهتها بعصبية دينية ـ وهابية، فذلك أدعى الى محاصرتها من خارج حريمها المذهبي، خاصة وأن التشكيك والطعن الديني مقبول رسمياً ولكن القبلي غير مقبول! غير أن هناك من يعتقد، بأن هذه المكافحة الدينية لن تجدي نفعاً، إن كان الياميون من ناحية العدد مؤهلين لانتخاب مرشحهم، فالإعتماد هنا محصور على صوت الناخب اليامي، وليس على صوت الناخب المذهبي المضاد الذي ندرك اتجاهاته الأخرى.

الملاحظة الأخرى، هي أن بعض الناخبين حاولوا الإستفادة من الروابط الدينية ـ السلفية للتسامي على الرابطة القبلية؛ فمن لا تسعفه قبيلته، قد تسعفه انتماءاته الدينية ـ الحركيّة؛ ولذلك ظهرت علينا أسماء تذكّر المقترع، بأن المرشح الفلاني إنسان متديّن، وفاعل في الهيئة، أو في لجنة الشباب المسلم أو ما أشبه. وقد لا يكون هذا كافياً، ما لم يقف أحد المشايخ المعروفين الى جانب هذا الناخب أو ذاك لتزكيته، وقد فعل الكثير من المشايخ ذلك.

بعض المشايخ وقفوا الى جانب مرشحين على أساس ديني/ عقدي، وبعض المشايخ اتهموا بالوقوف الى جانب مرشحين لا يمتلكون الكفاءة ولكن ينتمون الى نفس القبيلة أو القرية التي جاؤوا منها.

هناك بالطبع مرشحون مقربون للسلطة وأجهزة الأمن، وآخرون ينتمون الى سلك رجال الأعمال، وهؤلاء يعتمدون على الدعاية الإنتخابية في الدرجة الثانية بعد اعتمادهم على خلفياتهم القبلية والمناطقية، وقد أضاف بعضهم إليها (ديكوراً) تجميلياً يتمثل في دعم أحد المشايخ يقوم بالتزكية ويشرح أفضال المرشح ونضاله الخيري السابق!

بعض المرشحين الليبراليين حاولوا إعلان تميّزهم بصورة او بأخرى، وإن بدت ليبراليتهم أضعف من أن تقاوم إغراء القبلية، لكن القبليّة من وجهة نظرهم أخف من (الدينية/ الوهابية).. وظهرت دعوات تفيد بأن هذا المرشح أو ذاك متحرر، وأنه سيسمح للمرأة بقيادة السيارة (وهذا خارج عن اختصاصه أصلاً) أو أنه سيفتح دور سينما بعضها خاص للعزاب والآخر خاص بالمتزوجين!، على أمل وجود جيل شبابي لم تقتنصه الوهابية بمخالبها يمكن أن تستثيره مثل هذه البرامج، أو على أمل وجود شريحة من الناخبين ضاقوا ذرعاً بالإنتماءات الفرعية ويبحثون عن مخرج منها الى فضاء أرحب.

القبيلة ستنتخب، هذا لا شك فيه.

والمذهب سينتخب كذلك.

والقرية والمنطقة ستنتخبان بصورة أو بأخرى.

وستتداخل هذه الإنتماءات مع الدعاية الإنتخابية القائمة على الصرف المالي ـ كما هو واضح ـ لترجح أحدهم على الآخر. وستكون الكفاءة ـ ربما ـ أقل العناصر تأثيراً في هذه العمليّة، اللهم إلا كمرجح أولي من جهة تحديد من يكون مرشح القبيلة والمذهب وغيرهما. ولقد وجدنا الكثير من المرشحين لا يحملون مؤهلات علمية بالمعنى المتعارف عليه، كدراسة الإبتدائية أو المتوسطة (بعضهم رفض ذكر مؤهله التعليمي)، في حين أن أعمار المرشحين تميل في أكثرها الى التصاعد 50 سنة فما فوق.

 مؤشرات الإنتخابات البلدية في الشرقية

 ستختلف الصورة ـ وقد تكون بنسبة غير قليلة ـ في كل من المنطقتين الشرقية والغربية.

في الشرقية نجد أن الشيعة، في محافظات القطيف والأحساء والدمام، قد أقبلوا على التسجيل في الإنتخابات بأعداد غفيرة، وشهدت المراكز الإنتخابية الشيعية في القطيف بالذات ـ وحسب الإحصاءات الرسمية ـ أعلى نسبة تسجيل على الإطلاق على مستوى المملكة. لم يكن السبب في ذلك إيمان المواطنين الشيعة بهذه الإنتخابات الجزئية المحليّة للبلديات، فمعظم المواطنين في المملكة يرونها خطوة دون المستوى بكثير؛ لكن المواطنين الشيعة شعروا ـ فيما يبدو ـ بأن الإنتخابات تشكل تحدّياً خاصة بالنسبة لهم، من جهة (إثبات حضور الذات المقموعة) والتي تعرّضت ولاتزال للتهميش السياسي والإجتماعي والثقافي منذ قيام الدولة السعودية.

إن المشاركة في الإنتخابات تستهدف استعلان الذات أولا وقبل كل شيء، فـ (نحن هنا) وعددنا ليس صغيراً أو (لا يمكن تجاوزنا) بالأدوات الإنتخابية، وإن تمّ بالأدوات القهرية. ولهذا، وحسب المعلومات المتوفر، فإن مناطق الشيعة ـ دون سائر المملكة ـ شهدت حملات تثقيفية كبيرة بشان الإنتخابات وأهدافها وأهميتها، كما شهدت تنسيقاً في كل المدن والقرى لجلب الناخبين، وتحركت ماكنة المذهب الثقافية لتعقد الندوات وترشد المصلين وتدعو الأبعدين والأقربين وتوفر الحافلات وتقلّص من المشاكل لدفع أكبر عدد ممكن الى صناديق الإقتراع.

يمكن النظر لمشاركة الشيعة في الإنتخابات البلدية ـ رغم ضآلة الفائدة منها ـ على أنها ردّة فعل على سياسة التهميش التي امتدت لعقود؛ فالذات المقموعة انفجرت (سلماً) لتسجّل حضورها، ولتؤسس لمشاركة قادمة في ماكنة السلطة العليا.

بالطبع، فإن الحكومة ممثلة بأجهزتها الأمنية، لم يرق لها (التحشيد الشعبي)، وكأنها ـ حتى في هذه الإنتخابات الجزئية، تريد التخفيف من اندفاع مواطنيها الشيعة، أو كأن ذاك استفزّها في أمرٍ هي قررته ابتداءً. ولذلك قامت بمنع التجمعات والندوات السياسية التثقيفية التي تعبر عن صميم (الثقافة الوطنية) المراد استزراعها ولو ببطء في المجتمع السعودي.

لم تكتسب الإنتخابات في الوسط قيمة كبيرة لدى التيار الديني السائد ـ السلفي؛ فالإنتخابات مكروهة وبدعة مستحدثة؛ وبالتالي كان الدخول في مضمارها محدوداً وعلى استحياء، بالرغم من ضخّ بعض المحفّزات مثل: العلمانيون الملاحدة والكفرة سيصلون الى البلديات. فالأصل ليس القناعة بالإنتخابات كمبدأ، أو كأداة لتحسين الأداء، بقدر ما هي أداة لاستبعاد الآخر. وهنا يستخدم الدين كعامل إقصاء، وكمحدد ـ كما القبيلة ـ انتخابي أساسي، كما هو محفّز أساسي باتجاهه.

أراد متطرفو السلفية في معقلها (نجد) تحفيز المعتدلين السنّة في المنطقة الشرقية باتجاه الذهاب الى صناديق الإقتراع حتى لا يسيطر عليهم الكفرة الروافض، واشتغلت منتديات الإنترنت، ورسائل الجوال لدفعهم من ذات الزاوية، لا عن قناعة بالإنتخابات كمبدأ او وسيلة، بل كدفاع وحماية للذات. وقد عاب بعض المتطرفين على سنّة الشرقية أنهم (نائمون في العسل) وأنهم جهلة، وطالب المشايخ بالقيام بحملة لتوعيتهم وتثقيفهم دينيّاً، لأنهم لم يتحسسوا الخطر بما فيه الكفاية!

بالنسبة للشيعة فإن المذهب سينتخب في الدائرة الأوسع.

وفي الدائرة الأضيق، فإن المرشح تتحكّم به دوائر متعددة، فيجب أن يكون ملتزماً دينياً، ثم يجب أن يكون كفوءاً، ثم تأتي الإنتماءات السياسية ضمن الدائرة الشيعية.

هنا قد يخسر الليبرالي غير الإسلامي معركته.

وقد يخسر غير المنضوين لتيار سياسي، أو محسوبين عليه معاركهم.

وقد تجد بعض العوائل المشهورة لها فرصة من خلال الإعتماد على العصبيّة العائلية والمكانية (محلّة). والأقرب أن القرى ستكون أصواتها حاسمة أكثر من القطيف نفسها. وقد لا تأتي الإنتخابات بأيٍ من الوجوه العائلية القديمة، نظراً للتغيرات الشديدة التي طرأت على المجتمع الشيعي في الشرق، ولغلبة العصبية المذهبية على العصبيات العائلية.

لكن كل هذا لا يلغي حقيقة أن المجتمع الشيعي وبالنظر الى نضجه السياسي المتقدم قد يفرز مساومات انتخابية، تعطّل التأطيرات التي ذكرناها سابقاً. وهناك حسبما نسمع إشارات الى هذا، من بينها دعوات للتنسيق مع القرى السنيّة المجاورة لتصعيد مرشح منها مثلاً.

وفي المجمل فإن القوة الإنتخابية بين الشيعة ليست في طرف واحد، حتى بين رجال الدين، كما بين التيارات السياسية، ولهذا فإنه بدون مساومات وتفاهمات مسبقة، فإن الصراع على كراسي المجالس البلدية سيكون شديداً ومعقداً.

يجب أن نلتفت هنا الى أن المرشحين الشيعة هم أكثر شبابية وأكثر تعليماً وكفاءة في الجملة. فأغلب المرشحين لا تتجاوز أعمارهم الأربعينيات، ومن غير المحتمل أن ينجح ولو مرشح واحد لا يحمل شهادة وخبرة مشهودة.

بالطبع فإن المنطقة الشرقية في الجملة تتقاسمها انتماءات قبليّة ومناطقية؛ ويعتقد أن مرشحين من أصول جنوبية سيأتون بمرشح لهم في الإنتخابات، بالنظر الى كثافة المهاجرين الى المنطقة. في حين أن القبيلة ستنتخب في قرى ومدن أخرى تمتد من الحدود الكويتية ولا تنتهي إلا عند الحدود اليمنية.

في المنطقتين الشمالية والجنوبية، وبعض محافظات المنطقة الوسطى، كحائل، فإن القبيلة ستنتخب، قبل أي أحدٍ آخر، ومن المحتمل جداً أن تقترع القبيلة لإيصال أحد مرشحيها قبل أن تجري الإنتخابات. ستتمازج الإنتماءات القبلية بمناطق السكنى (المدينة أو الهجرة) لتحدد الفائز القبلي.

 مؤشرات الإنتخابات البلدية في الحجاز

 أما في الحجاز، المنطقة الغربية، فالمسألة أكثر تعقيداً فيما يبدو.

هناك ثلاث دوائر تتجاذب الناخب.

الدائرة الأولى ـ وهي الدائرة القبلية، وتقابلها الدائرة الحضرية؛ فهناك ما يمكن تسميته ببدو الحجاز، اي القبائل القاطنة على ضفافه أو في داخله، وتشمل الدائرة القبلية الهجرات القبلية الوافدة من الجنوب سواء في جدّة أو الطائف. وهذه كلها تقريباً ستصوّت للقبيلة ما لم يستحضر العامل الديني، المذهبي لسبب أو آخر. وستصوت بالدرجة الثانية إن قصُر العامل القبلي، الى الإنتماء المناطقي.

الدائرة الثانية ـ وهي الدائرة المناطقية ـ المذهبية، وتشمل النجديين المقيمين في المنطقة الغربية، وبالخصوص المدينة المنورة، والى حدّ ما جدّة. فهؤلاء لهم تميّز عن باقي فئات المجتمع: فهم ليسوا حجازيين بالمعنى المتعارف عليه، وفي الوقت نفسه يميّزون أنفسهم دينيّاً عن بقية السكان. أصوات هؤلاء ستكون ضمن مراكزهم الإنتخابية، أي ستميل الى انتخاب ذي الهوية (النجدية ـ السلفية)، وضمن هذه الدائرة سيكون التنافس كما في نجد على أسس ديني/ علماني؛ أو على أساس قبلي؛ أو على أساس الجذر المحلّي (البلدة التي كان ينتمي اليها ضمن خارطة نجد). يفترض أن يكون المحفّز لدى هذه الفئة أكثر من غيره، لكونها تشكل أقليّة في محيطها وتسعى لإثبات جدارتها، وكذلك لوجود احتكاك مذهبي لازال فاعلاً بينها وبين السكان الأصليين (الحجازيين). ومن شبه المؤكد، أن الإنتماءات المذهبية ـ خاصة في المدينة المنورة ـ ستكون فاعلة لدى هذا التيار، إذ من المرجح أن يصوت الحجازيون الذين انتموا الى الوهابية الى أول مرشح مذهبي من جنس انتمائهم يلقونه أمامهم.

الدائرة الثالثة ـ وهي أكثر تعقيداً وتشمل الحجازيين الحضريين الذين يعتزّون بهويتهم الخاصة (المناطقية والمذهبية) فأصوات هؤلاء ستتمحور في انتخاب حجازيين من نفس توجهاتهم. وبالرغم من أنهم يمثلون أكثرية سكانية وبالتالي إنتخابية، إلا أن هذه الأكثرية متشظّية، وبعضها لا يؤمن بالإنتخابات أصلاً، كونها (مهزلة) لا تستجلب أية اهتمام، ولم تحفّز هذه الأكثرية ـ حتى الآن ـ مشاركة الفئات الأخرى.

الأكثرية هذه لا يوجد لها مركز استقطاب واحد يديرها ويبلور إرادتها. وذلك ـ في أحد وجوهه ـ يمثل انعكاساً لتشظّي النخبة الحجازية نفسها. فالمركزية الدينية لاتزال ضعيفة، وقد أُصيبت بنكسة بعد وفاة السيد محمد علوي المالكي رحمه الله في رمضان الماضي، ووجهاء الحجاز مقسّمون في اتجاهين: سلطوي ومعارض؛ والعائلات الحجازية تتنازعها ـ فيما يبدو ـ عوامل الإرث الثقافي الخاص بها، والمكانة المالية والتجارية التي تتمتع بها، والتي لا تغري الكثيرين بالإنخراط في اللعبة الإنتخابية ـ ربما بعكس ما يجري في المنطقة الوسطى، أي تثمير المال سياسياً.

إن صدقت هذه القراءات، فإن قائمة الفائزين ستكون خليطاً غير متجانس من المرشحين؛ من حيث الإنتماءات القبلية والمناطقية والطبقية والسياسية. وبالرغم من أن هذا أمرٌ طبيعي، إلاّ أن المفاجأة قد تكون تدنياً كبيراً في نسبة الحجازيين الحضريين الأصليين في مقاعد المجالس البلدية.

 ملاحظات عامّة

 الملاحظة الأولى:

لا يشكل التكتّل الإنتخابي المستند الى العصبيات الدينية والقبلية والمناطقية خطراً، أو بالأصح زيادة في الخطر، على ما يمكن تسميته تجاوزاً بالهوية (الوطنية السعودية). فهذه الأخيرة مفقودة في الأصل، وما الإستناد الى غيرها وبالكثافة التي انطلقت حتى الآن إلا دليل على ذلك الغياب. فالإنتخابات إنما منحت فرصة لكي تنكشف تلك العصبيات، لا أن تطوّرها. إن الحضور الفاقع للهويات الفرعية في الإنتخابات لا يعني سوق المجتمع إليها أكثر مما هو قائم، بل إن ذلك بداية لتجربة ـ رغم ضآلتها ـ لإعادة اللحمة من جديد على أسس أقوى وانتماءات أوسع. وسواء كانت انتخابات بلدية نصفية أو شوروية، فإنها الخطوة الأولى باتجاه إعادة لحم المكونات الإجتماعية في المملكة. هذا التذرر الوطني ـ إن صح التعبير ـ قد يتخفف من غلوائه، في حال استمرت العملية السياسية ولم تتوقف، بمعنى إذا ما اتخذت خطوات أخرى سريعة لاحقة مثل: توسيع هامش الحريات، وانتخاب مجلس الشورى، وإعادة مأسسة الثقافة المحلية على أسس وطنية، عبر توسيع هامش الحرية، وتوسيع حرية التعبير الديني والسياسي، وقيام مؤسسات المجتمع المدني. أما إذا توقفت هذه الخطوات، أو تلكأت وجرى تمطيطها زمنياً، فإن مسار تعزيز الهويات الخاصة سائر باتجاه التعمّق كما هو عليه الحال الآن. ربما يكون فشل الحكومة فيما ذكر أعلاه المحفّز الأبرز باتجاه التشظّي الإجتماعي والسياسي، وليس بسبب الإنتخابات بحدّ ذاتها.

إن الآمال بتطوير التجربة الإنتخابية ضعيفة للغاية في المدى المنظور؛ وهذا ما يخشى منه أصلاً، كونه الخطر الأكبر الذي يهدد السلم المجتمعي ووحدة الدولة، وإذا ما استمر الحراك الرسمي رتيباً متثاقلاً كما هو الحال اليوم، فإن هذه التجربة الصغيرة ستضيع في زحمة الأحداث، وستغرق المملكة بأسرها في شراك العصبيات والجهويات والفئويات والمذهبيات. وللأسف ـ مرة أخرى ـ فإن هذا هو الأقرب الى الحدوث حتى الآن.

 الملاحظة الثانية:

يمكن النظر الى الإنتخابات البلدية من زاوية أخرى، وهي في مدى قدرتها على خلق حراك سياسي ـ إجتماعي. ما ظهر حتى الآن من حملات انتخابية وترشيحات وتسجيل ناخبين، لا يفيد بأن الإنتخابات البلدية قادرة على إحداث حراك حقيقي. فالحكومة من جهتها لا تستهدف من التجربة الإنتخابية إلا إرضاء حلفائها الأميركيين، والى حد ما دغدغة العواطف المجتمعية بتمثيلات فئوية زائفة، قد ترتدّ عليها في المستقبل، كما هو الحال فيما يتعلق بالإعلان عن زيادة أعضاء مجلس الشورى الى 150 عضواً معيّناً.

لم يظهر حتى الآن أن القوى السياسية الوطنية النشطة متفاعلة مع هذه الإنتخابات. نعم تفاعل معها المذهب، والقبيلة والمنطقة، ولكن بحدود ولأهداف مختلفة ومتناقضة، لكن القوى السياسية لم يغرها المشروع الإنتخابي منذ الإعلان عنه، فالمولود الحكومي كان أقل مما ينتظر منه، من جهة الإصرار على تعيين نصف أعضاء المجالس البلدية، وغياب خارطة الإصلاحات (أي ما تنوي الحكومة القيام به) أو من جهة الصلاحيات التي ستتمتع بها المجالس البلدية. بل أكثر من هذا، فإن الحكومة لم تكن راغبة في تسييس المجتمع وإيجاد حراك فيه، فخفضت مدّة الحملات الإنتخابية الى أقل من أسبوعين!، وضايقت التجمعات وحملات التثقيف السياسي بكل الوسائل الممكنة، فضلاً عن تغييب كبير لموضوع الإنتخابات عن الإعلام المرئي والمسموع والى حد ما الصحافة التي كان تفاعلها معه محدوداً، وهذه كلها كان يفترض منها أن تخلق أجواءً سياسية حيويّة، يمكن التأسيس عليها في المستقبل في البناء الإصلاحي.

 الملاحظة الثالثة:

اذا اعتبرنا المرشحين بمختلف توجهاتهم ضمن نطاق تعريف النخبة بمعناها الواسع؛ فإنه يمكن القول حينئذ، ومن خلال الحكم على سلوك المرشحين الذين يستقوون بالقبيلة والعشيرة والعائلة والطائفة والمنطقة والمحلّة، أنهم كانوا في مجملهم (نخباً فئوية) تسعى لتسييس تلك الإنتماءات وتعميقها ومن ثم تثميرها لتحقيق مصالحهم الخاصة أو الجهوية. قد يحمل هذا الحكم شيئاً من القسوة المبالغ فيها، فالغرض هنا توصيفي بحت؛ لكن الواقع يتحدث عن غياب أيّة أطر سياسية يمكن الركون إليها (أحزاب وجمعيات سياسية) لحشد الناخبين وفق برامج ذات محتوى وإطار وطنيين؛ بل أن المجتمع السعودي يفتقد ـ كما لم يفتقده أي مجتمع عربي أو إسلامي آخر نعرفه ـ الحدّ الأدنى من مؤسسات المجتمع الأهلي المستقلة. في مجتمع تغيب فيه الروابط الوظيفية والسياسية، لا يبقى أمام الناخب كما المرشح سوى الروابط التقليدية يتكيء عليها ويتفاعل معها.

فمجتمع بلا أحزاب وبلا جمعيات سياسية وبلا مؤسسات مجتمع مدني، وبلا ثقافة وطنية، وفي مجتمع ممزق طائفياً، هو ـ من الناحية الفعلية ـ مجتمع يمثل أرضاً خصبة جداً للتفكك الإجتماعي والسياسي، لا يحميه من ذلك شيء، ولا يتوقع من هكذا مجتمع أن يفرز ـ عبر صناديق الإقتراع ـ مرشحين وطنيين، طالما أن النخبة السياسية والدينية القابضة على السلطة، هي بالضرورة وبالفعل نخبة طائفية مناطقية. لا توجد في المملكة أية مصدّات ولو صغيرة يمكن الإتكاء عليها لإعطاء منتج وطني (مرشحين يمتلكون الأهلية لخدمة شرائح أوسع من شرائح ينتمون اليها).

يظنّ بعض الناخبين والمرشحين، أن الإنتخابات البلدية ما هي إلا وسيلة (لتحصيص خدمات الدولة) وكأن بعضهم ينتظر وصول مرشّحه، ليحصل الى حقّه في قطعة أرض، أو واسطة تخوله الدخول الى مستشفى، والحصول على مقعد في الجامعة أو وظيفة في مركز مرموق. وهذا التفكير ـ الطبيعي في الظرف السعودي الحالي ـ ما هو إلا امتداد لما هو قائم في جهاز الدولة العلوي، ونظرة الجالسين على مراتبه.

المرشحون، الذين سينتخب بعضهم لاحقاً، إنما هم نتاج سياسة مشوّهة. لقد نبتت وتبرعمت واستطالت أفكار ورؤى هؤلاء جميعاً ـ ونحن بصورة أو بأخرى منهم ـ على التقسيمات والحدود بينهم وبين الآخر. هذا لا يعدو أن يكون منتج ديننا الرسمي، وتعليمنا الديني، وسياسة حكومتنا القائمة على التمييز بمختلف أشكاله وألوانه. فهل يسع هؤلاء أن يتحولوا الى مرشحين وطنيين؟ وحتى لو كانوا كذلك، من سينتخبهم من أبناء الوطن الممزق والغارق في أوحال ثقافة الفئوية؟

النخب الوطنية (تصنّع) ولا تهبط من السماء؛ النخب الوطنية منتج دولة وطنية وليس منتج دولة دينية طائفية مناطقية؛ والنخب الوطنية منتج ثقافة وطنية وليست وهابية دينية؛ والنخب الوطنية منتج مجتمع مدمج عبر سياسات حكومية حثيثة، وليس منتج حكومة تعيش على التمييز وتقتات على سياسة فرق تسد، وترى بأن قسمة المجتمع تحفظ وحدة السلطة (ولا يهم بعدها ما يحدث للدولة)!

 الملاحظة الرابعة:

 الإنتخابات البلدية وإن كان محتواها الفني ومستهدفاتها الخدمية أمر جزئي، إلاّ أنها تكتسب أهمية ـ من إحدى الزوايا ـ في كونها عمليّة سياسية صميمية؛ هذا ما يجعل الفئوية مستنهضة مستنفرة تسعى لإثبات الذات الطائفية والقبلية والمناطقية من جهة، وتحقيق ما يمكن من مصالح يرى الكثيرون أنهم محرومون منها دون وجه حق. إن تحقيق الذات قد يكون مغرياً للفئات المهمّشة وهي كثيرة من جهة (التمثيل) الفئوي، لكن من المهم ملاحظة عنصر (التسييس) في العملية كلها.

الحكومة تحاول أن تضع بعض الحدود الفاصلة بين (تحسين الأداء الخدمي) وبين (التمثيل والمشاركة الشعبية) فهي لا تريد أن يفهم من العملية الإنتخابية تمثيلاً سياسياً أو أن يرقى الى التمثيل السياسي وتطويره عبر انتخابات سياسية يمكن أن تأتي لاحقاً لمجلس الشورى، بل هي مجرد ـ من وجهة نظر الحكومة ـ تمثيل لمصالح الأفراد لخدمة هدف محدد وصغير وهو الشؤون البلدية. الحكومة ايضاً تتمنّى تحييد الجزء السياسي من الممارسة الإنتخابية بمنع تبلور الكيانات السياسية من جهة، وبتر أي محاولات تسييس قد تفضي الى زيادة المطالبة بانتخابات سياسية في قادم الأيام. أي أنها ـ بعبارة أخرى ـ تريد رغم استخدام الأدوات الإنتخابية من تسجيل وترشيح ودعاية، إعطاء الإنطباع بأنها عملية يتيمة مقطوعة النسق عن الأجزاء السياسية في مشروع الإصلاح السياسي التي يعتقد البعض بوجودها، في حين أن العائلة المالكة لا تتحدث عنها ولا تشير إليها، ولربما ليست موجودة في أجندتها. في الخارج، يتجه الخطاب الحكومي لتحميل الإنتخابات البلدية أبعاداً سياسية أكثر مما تحتمل؛ فهي في سبيل إقناع الرأي العام الغربي والمؤسسات الغربية الحكومية وغيرها، تسوق مزاعم مثل أن الإنتخابات البلدية هي البوابة الكبرى باتجاه المشاركة الشعبية، وأنها منجزٌ كبير جداً في مجتمع متخلف، وأن الحكومة مؤمنة بالتغيير والإصلاح واحترام حقوق الإنسان (الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان الحكومية) وحرية الصحافة (جمعية الصحافيين) وهكذا.

ينبغي ملاحظة أن القبيلة والمنطقة والمذهب باتت جميعها أهم بوابات تسييس المجتمع، وحتى لو لم ترد الحكومة ذلك، فإنها تقوم بدور (الأحزاب) ولكن بنسخة فئوية. هذا أدّى الى اشتراك كثير من الأفراد في التسجيل للإنتخابات، الذين دخلوا من البوابة الفئوية. حتى رجال الدين السلفيين الذين لم يقتحموا الإنتخابات بحماس، فإنهم ساهموا فيها، وسيساهمون فيها بشكل أكبر. وخلاف هؤلاء الأخيرين، نجد أن رجل الدين الشيعي ـ وربما بسبب وضعه الفئوي الدوني ـ كان أكثر مساهمة فيها والدعوة إليها، بغض النظر عن منتجها.

إن تسييس المجتمع أمرٌ حتمي، إن لم يكن بالوسائل الصحيحة، فبغيرها؛ وإن لم يكن بوجود الأحزاب والجمعيات السياسية، فبإحلال القبيلة والمذهب والمنطقة مكانها. وما يمكن توقعه من إفراز إيجابي للإنتخابات البلدية، أنها ساهمت بصورة من الصور في تسييس المجتمع السعودي؛ ومن أهم ما نتمنّى أن يتحقق هو أن يتسيّس ويقتحم التيار السلفي العملية السياسية. فإن حدث ذلك ـ ضمن خارطة واضحة للإصلاحات السياسية تقنعه بدخولها ـ فإنه ميكانيكياً يعني الخروج من دائرة العنف الى الجنوح لدائرة السلم، ومن دائرة التعصب الى دائرة التسامح، ومن دائرة الحق المطلق الى دائرة الحق النسبي، ومن احتكار الحقيقة الى تفهمه لوجوهها، ومن الإقصاء الى القبول العملي بالآخر، ومن اعتماد خطاب تحريضي الى صناعة خطاب رشيد، ومن النمطية الى الواقعية، ومن استهداف المنافع الأيديولوجية الى المصالح العامة، ومن الزهو والعلو بالذات الى فهم الواقع وإعادة اكتشاف الذات من خلاله.

هذا بالطبع لن يتحقق بدون إرادة حكومية في إحداث إصلاحات حقيقية تبدو حتى اليوم رجماً بالغيب. فصانع القرار لا يريد أن يلزم نفسه بشيء، وتنازلاته السياسية لأميركا ولشعبه في المضمار السياسي تأتي بالقطارة حسب حجم الضغط. وهذا ما يعني غياب ما يمكن تسميته بـ(العملية السياسية) أو (اللعبة السياسية).

فهناك لاعبون متحمسون واعون لمصالحهم الخاصة ينتظرون وجود الملعب.

والأقرب أن انتظارهم سيطول.

ما أطول ليل المملكة!