نقد الذات الشيعية

جدلية السياسة والعقيدة

د.فؤاد ابراهيم

 

إذا كانت عمليات المراجعة بأشكالها المختلفة تنشأ على خلفية أزمة أو انكسار داخلي فإن الانتصارات السياسية تزاول فعلاً ضدياً، فالافكار المندسَّة فيها تحظى بأمد غير معلوم من الحياة، وتكتسي لوناً قدسياً وتنال مشروعية أكبر تحت تأثير المنجز السياسي، وما ينطوي عليه من قائمة وعود وأحلام مؤجلة. فالتاريخ، الذي يكتبه المنتصرون، لا ينشغل طويلاً بالتحقيق في صحة الافكار وسقمها بقدر ما ينبري لتسجيل شهادات من صنعوا أحداثه الكبرى وتحولاته الحاسمة، وهذا وحده كفيل بأن يهب للأفكار المصاحبة لها رداءً طقسياً زاهياً .. فحتى العقائد الفاسدة، في نظر البعض، تنجح في تغيير وجه التاريخ، بل وتدخل فيه، وإن من الخطأ الفادح تصوّر أن انحلال الافكار ناشىء فحسب عن ضعفها التكويني، فالواقع يدحض بقوة مثل هذا التصور، فقد حققت أشد الافكار إنحطاطاً وعبثية أكبر الانتصارات في التاريخ، ولكن ليس ذلك على وجه الحتمية التاريخية، فسيظل العدل وحده مرشداً للبشرية، وأن ما تخفق العقائد الايمانية الطهرانية في تنجيزه، لا يقدّم أدنى دليل على أن حركة التاريخ تتقرر وفق رؤية عقلانية واعية، بل هي القوة الغاشمة غالباً ما تفرض قوانين تلك الحركة.

ولاشك، وفق هذا المنظور، أن السياسة تلعب دور الرافعة للمعتقدات، وأن العلاقة بينهما تظل مصيرية في أحيان كثيرة، فالرجال الطامحون الى  تفكيك أو قلب المعادلة السياسية القائمة، كما هو شأن رجل السلطة، بحاجة الى أيديولوجية مشرعنة، تماماً كما أن الايديولوجيات تحصّن نفسها عن طريق آليات حماية لا يقدر على تصنيعها غير الساسة. إن نجاح أغلب المعتقدات الوضعية والسماوية يرد الى حصولها على جرعات مناعية يؤمّنها المناضلون في ميدان السياسة كي تبقى حية ومؤثرة، ولا يمكن لمعتقدات أن تضمحل الا بعد أن يهوي نجم الكتيبة الدفاعية التي تتحمل مهمة الفداء والتضحية

في إلقاء ما سبق على التشيع، لا بوصفه نصاً علوياً، وإن كان العلوي منه يمثل المبدأ المركزي فيه، ولكن التشيع المقصود به هنا هو السجل المفتوح لمجمل الفعاليات المدرسية والطقسية، والتراثية، والفكرية المتراكمة عبر قرون طويلة.. إن الحمولة الكاملة للسجل يبلغنا بأن ثمة تاريخاً طويلاً من الاستقالة عاشه الشيعة في إستجابة لوطأة الافكار العقدية المتشكّلة في الفترة اللاحقة مباشرة للغيبة الكبرى المؤرخة شيعياً عام 329هـ، وهي مرحلة تمثل نقطة انطلاق كبرى في حركة احداث وأفكار الشيعة حتى وقت متأخر. ويعود هذا الاندكاك التام في مرحلة الغيبة الى سطوة المعتقد الامامي. ولأن التراتبية الدينية تتطلب نسيجاً فريداً للعلاقة بين المعصوم (= النبي والامام) وتالياً الفقيه بوصفه وريثاً شرعياً للولاية الدينية وفق الرؤية المدرسية الشيعية، وبين العامي، فقد أوكلت مهمة صياغة المواقف الى من أوكل بالتصرف نيابة عنه، كون العامي لم يصل الى حد التصرف الحر بإرادته. وأمكن القول، على ذلك، أن علاقة الفقيه بالدولة تنطلق من التشيع نفسه، كونها مؤسسة على خلفية عقدية. فإلامامة بما هي حجر الزاوية في البناء العقدي الشيعي، والمحور الذي تدور حوله باقي الموضوعات، تفرض أنماطاً صارمة في الرؤية والعلاقة مع باقي الخطوط العقدية الاخرى غير المتوافقة

فالامامة في الوعي الشيعي التاريخي هي نظام وليست منصباً، وإن تجسدّت في أشخاص الائمة..إنها مثّلت نظاماً يمتد الى مجمل أوجه الحياة، وفي رواية عن الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام جاء فيها (.. إن الامامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين، إن الامامة أس الاسلام النامي، وفرعه السامي، بالامام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وامضاء الحدود ومنع الثغور والاطراف...).

فالامامة اذن كما تكشف هذه الرواية نظام شامل، ولعل المناصرين لاطروحة ولاية الفقيه المطلقة استمدوا هذه المعاني من الامامة لينقلوها الى الفقيه في القرون المتأخرة. وبطبيعة الحال، فإن هذا النقل لم يتم في فترة قصيرة بل تم من خلال عملية تخصيب وتجاذب استمرت لقرون طويلة كيما يصل الفقيه الى درجة تأهيلية عالية تجعله في مقام النيابة العامة بالمعنى الشامل والتام.

على اية حال، حين ننظر الى الفكر السياسي الشيعي فإن بدايته الفعلية ـ اذا استثنينا الغيبة الصغرى ـ تعود الى لحظة وقوع الغيبة الكبرى عام 329هـ. في تلك اللحظة بدأ الشيعة العيش في أوضاع جديدة غير مسبوقة حيث تقرر العيش بدون وجود الامام. إن كتب الشيعة، التي صدرت فور وقوع الغيبة الكبرى والتي تدور حول هاجس (الحيرة) عبّرت عن القلق الذي عاشه الشيعة فور وقوع الغيبة، وهي، في الوقت ذاته، محاولة لاعادة التوازن للشيعة بغرض لململة أطراف الجماعة التي بدأ الاحساس بالخطر يتسلل اليها.

وكان السؤال المصيري المطروح حينذاك: ما العمل؟ وكان السؤال يستهدف صناعة رؤية لمستقبل بات مجهولاً بل ومقفلاً في غياب نص غير قادر على الوصول اليه أو التعامل معه. وكان الواقع ينتج سؤاله الكبير بغية السير بمن هم قابعين فيه، ولابد من تفسير لما جرى قبل الانقطاع التام، إذ لا سبيل الى الامام الا بالحركة ولا حركة الا برؤية ولا رؤية الا بنص ومنهج. وكان السؤال خاضعاً تحت وطأة الدلالات الخطيرة للغيبة الكبرى، ومن أبرزها:

ـ استحالة قيام الدولة الشرعية الالهية، وهذه الاستحالة تستمر منذ لحظة غياب الامام المهدي الى لحظة ظهوره.

ـ احتجاب مشروعية أي دولة تقوم في زمن الغيبة، باعتبار أن الشرعية ـ بحسب النص الديني الشيعي على الاقل ـ وثيقة الصلة ومقتصرة على الامام وحده، باعتباره مفوّضاً من السماء حسب النص الشيعي الرسمي.

لقد وعى علماء الشيعة السابقين هذه الحقيقة، ولذلك نظّروا لمبدأ الانتظار، على أساس أن اقامة الدولة الشرعية ليست من مسؤولياتهم. وهناك نص جلي للشريف المرتضى في (الشافي في الامامة) يقول فيه (ليس علينا اقامة الامراء اذا كان الامام مغلوباً، كما لا يجب علينا اقامة الامام في الاصل..ليس اقامة الامام واختياره من فروضنا فيلزمنا اقامته ولا نحن المخاطبون بإقامة الحدود فيلزمنا الذم بتضييعها).

واذا كان الامر كذلك، اذن فإن السؤال التالي والمشروع: ما العمل؟

لم يكن الافلات من السؤال القيدي ممكناً، فنمط العلاقة التراتبية يفرض على المتكلم الشيعي تقديم إجابة مقنعة وشرعية، ولذلك بدأ متكلمو الشيعة التنظير حينئذ للعمل مع السلطة القهرية الغالبة الغصبية، إيذاناً بالتسليم لسلطة الامر الواقع.. وشرع فقهاء الشيعة الكبار الاوائل وبخاصة المفيد والمرتضى والطوسى بالتأسيس، بصورة استثنائية، للبنى النظرية السياسية الشيعية في مرحلة الغيبة، فكتب الشريف المرتضى (رسالة في العمل مع السلطان)، أجاز فيها للشيعة (وبصورة محددة لعلماء الشيعة) بالانخراط الحذر في السلطة الزمنية الغصبية مع التحفظ ودون المساس بالمجالات المخصصة للامام: اقامة الحدود المتصلة منها تحديداً بالدماء، اعلان الجهاد، الاموال، وصلاة الجمعة.

ومضى الشيعة في هذه المرحلة في علاقة حذرة للغاية حيث ظلت النظرة الى السلطة باعتبارها غصبية ولكن دون مقاطعتها طلباً للحفاظ على مصالح الشيعة، ويمكن القول بأن هذه المرحلة تعتبر انتقالية حيث حاول هذا الجيل اقتفاء سيرة الائمة حرفياً دون اعمال النظر والاجتهاد في الشؤون العامة.

لقد فرض هذا الجيل سطوته على الجيل اللاحق، حتى قيل بأن الشيعة عاشوا قرناً كاملاً من التقليد والخضوع تحت تأثير مدرسة الشيخ الطوسي، بل وحتى ظهور مدرسة الحلة على يد المحقق الحلي وابن اخته العلامة الحلي في القرن السابع الهجري، حيث بدأت حركة الاجتهاد الشيعية انطلاقة كبيرة، من خلال إعادة تفسير مبدأ الاجتهاد الذي كان في الوعي الشيعي التقليدي يتكافىء مع مبدأ القياس. وفي عملية التنضيد لمبدأ الاجتهاد التي اسفرت عن فصل الاجتهاد عن القياس، بدأ علماء الشيعة يكتبون في أصول الفقه فكتب المحقق الحلي (معارج الوصول الى علم الاصول) وكتب العلامة الحلي (تهذيب الوصول الى علم الاصول)، ومن هناك بدأ الحديث عن التقليد الذي كان يعني رجوع الجاهل الى العالم، والذي أسس لجدالات اصولية واسعة أسفرت اخيراً في القرن العشرين عن انضمام التقليد الى الرسالة العملية (العروة الوثقى) لدى السيد كاظم اليزدي.

على أية حال، فإن تطور الفقه السياسي، بالنشاطية العالية التي كان عليها، موصول بحركة الاجتهاد وتفاعلاتها الكبرى، والتي عكست نفسها على التنظير السياسي باعتبار أن الحكم والدولة موضوع فقهي وشرعي.

ومنذاك، بدأ الفقيه يدخل المضمار السياسي بدرجة اقل من الحذر والتحفظ، وقد سعت الدول الزمنية القائمة الى اكتساب مشروعية العلماء، فقد تحولت الدولة الايلخانية الى التشيع على اساس مناظرة عقدية حقق فيها العلامة الحلي انتصاراً وبذلك اضفى المغول مشروعية على دولتهم.

في القرن التاسع الهجري، بلغ الفقيه رتبة دينية عالية حيث أسبغ الصفويون صفة النيابة العامة عن الامام المهدي على الفقيه الشيعي الممثل في الشيخ علي بن عبد العال الكركي، الذي بات مالكاً ومانحاً ومصدراً للمشروعية. ورغم ان هذه القوة بقيت مجرد نظرية في الدولة الصفوية حيث كان الملوك الصفويون ينشدون سلطة زمنية تستمد مشروعية من العلماء ولكن ليس الى حد المنازعة وتهديد السلطة، فقد رحل الشيخ الكركي من ايران الى العراق، وتعرض بعض الفقهاء للأذى في بعض الفترات بسبب رغبة الحكام الصفويين للتخلص من هيمنة الفقهاء، ولكن هذه القوة ما تلبث ان تنبعث في مراحل ضعف الدولة كما حصل في فترة الشيخ المجلسي الذي كان يدير السلطتين الزمنية والدينية في وقت واحد.

في المرحلة القاجارية كان التحوّل حاسماً وهو المرتبط بالمرحلة الراهنة، فقد ظهرت كوكبة من الفقهاء والاصوليين الكبار مثل الشيخ جعفر الخطي والشيخ مرتضى الانصاري والشيخ أحمد النراقي، والشيخ محمد حسين النجفي صاحب كتاب جواهر الكلام وغيرهم الكثير. ويمكن ان نلحظ في هذه الفترة بأن تطورا هائلاً ومتزامناً ومتلازماً بين الاصول والفقه والتنظير السياسي الفقهي. فقد تقرر في هذه الفترة، أي في فترة الشيخ الانصاري، وجوب رجوع العامي للمجتهد واعتبر عمل العامي بدون تقليد او اجتهاد باطلاً، وبالمناسبة فإن الانصاري هو إستاذ السيد كاظم اليزدي الذي أول من وضع باب التقليد والاجتهاد في رسالته (العروة الوثقى).

في هذه الفترة ايضاً بدأ التنظير لولاية الفقيه التي لا يكاد فقيه شيعي في هذه الفترة الا اعطى فيه نظره، وقد توّجت هذه المرحلة باطروحة ولاية الفقيه المطلقة كعائدة من (عوائد الايام) للفقيه الشيخ النراقي. وقد نقلت هذه الاطروحة كافة خصائص الامام وامتيازاته للفقيه وهي المرجعية الكبرى لكل فقهاء الشيعة اللاحقين الذين نظّروا لولاية الفقيه، وهي الاساس الذي قامت عليه الجمهورية الاسلامية في ايران.

واذا استثنينا فترة النشاط الدستوري في ايران، بالرغم من وجود القيادة في النجف، باعتبارها فترة مستقطعة لم تترك تأثيراتها في حركة الفقه والاجتهاد الا بصورة متأخرة، وكونها تمثل قطعاً للنسق التاريخي لتطور حركة الفقه، فإن الرحلة التي قطعها الفقيه الشيعي خلال ما يربو على عشرة قرون توجت بإقامة الدولة الاسلامية بوصفها واجباً شرعياً دينياً. فلاول مرة نلحظ أن حكماً فقهياً يبدأ بالحرام وينتهي بالوجوب، وهذا الحكم لم يتكرر ـ الا في الحالات الاستثنائية كشرب الخمر للخائف على نفسه من الموت بالعطش او أكل لحم الميتة للخائف على نفسه من الموت جوعاً ـ الا كشف الوجه في الحج بالنسبة للقائلين بوجوب تغطية الوجه.

مما سبق، يتبين أن التاريخ الطويل من الاستقالة الشيعية قابله هدم هادىء ومتسلسل للنسق التأويلي للنص الامامي، تمهيداً لحلول نص آخر وسلطة بديلة.. إن فترة قصيرة من النضال السياسي الثوري كانت كفيلة بتدشين تاريخ جديد للتشيع. فبينما كان التشيع التقليدي بنزعته الانتظارية المستقيلة يبسط ذراعيه على مجمل حركة المجتمع الشيعي، بدأت أقنية اكتشاف الذات تتفجر من حافات التشيع التقليدي، في مسعى لانتاج قراءة ثورية للنص الشيعي، واستكمال شروط تحويل التشيع الى ايديولوجيا النضال ضد السلطة من أجل الاطاحة بها، عن طريق الجماهير التي سحرتها لغة التشيع في شكلها الثوري التقدمي كما صبّها اليسار الشيعي، أو المتنورين الدينيين في حوزتي النجف وقم، والذين يرد فضل الاهتزازات في الوعي السياسي الشيعي الى مجهوداتهم الفكرية.

إن الانتصارات السياسية  التي حققتها الحركات الشيعية منذ انتصار الثورة الايرانية عام 1978 والتجارب السياسية اللاحقة في العراق والخليج ولبنان، وبما لعبته من دورفاعل في مجمل المشهد السياسي في المنطقة على أمتداد اكثر من عقد من الزمن، أدّت في مآلها الى تعطيل الفعل التجديدي في الفكر الشيعي، بل مهرت التشيع الشعبي بمشروعية مفتوحة، ووهبته حياة إضافية، بل زخمته بدفعات قوية ومهّدت له فرص الاكتساح والانتشار الواسع. إن إفتئات السياسي على العقدي في المشروع الشيعي أفضى الى الاضرار الفادح بمهمة تجديد الفكر الشيعي، فالمنجز السياسي ظل يحتطب من حقل اليقينات وعلى حساب العقيدة التي لم تمس الا لماماً. بل وجهت الحركات السياسية الشيعية سهاماً من نار لكل الذين يقتربون من حدود المقدّس الشيعي، باعتبار أن ذلك مساس مباشر بالمنجز السياسي المكلل بالنجاحات الباهرة.. فليس هناك من يرغب في رفع الغطاء عن المستور الشيعي العقدي، بفعل تماهي الديني بالسياسي، الذي يرهن الوعي الديني الى شروط السياسي واملاءاته، وفي ذلك إعطاب تام لحركة الافكار الشيعية التي قدّر لها الخضوع تحت تأثير سلطة من خارجها، تقرر ما يجب أن يكون وما لايكون في النظام العقدي الشيعي.

إن الزخم الايديولوجي الملقى على التشيع وتوظيفه في مشروع مقاومة ضد السلطة السياسية قد حجب الواقع الذي بقي خارج قدرة الاستيعاب لدى المذهب، وهذا العنصر الجوهري المفقود في رؤية المستقبل وانعدام الحساسية إزاء ما ينبغي عليه التشيع في مرحلة لاحقة، وطرق معالجة الانسدادات الكامنة في قنوات التعبير المستقبلي عنه.

إن رد الفعل على اشكال شتى من الحرمان الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الذي عانى منه الشيعة أمداً طويلاً، رسّخت البعد الانقاذي للتشيع وأحالته الى ايديولوجيا خلاصية، وهذا ما يجعله ـ شأنه شأن ديانات الخلاص ـ رهاناً بحسب باسكال، فمعتقدات الخلاص تنبذ المراجعة، كونها تفضي الى تحللها وتفسيخها، فالمطلوب من التشيع كما تقرر بين المؤدجلين أن يبقى مشروع مقاومة ضد أطوار متنوعة من الاضطهاد الذي انهال على الشيعة وليس الى مادة للجدل العلمي والفحص. ولذلك، فإن ما شهده التشيع منذ بدايات المرحلة الاحيائية الثورية التي بدأت في ايران، كان مجرد تحرير النص الشيعي من وطأة التأويل التسليمي، وتمديد صلاحيته عبر إعادة تاويل ثورية وعصرية قابلة للاستعمال السياسي. يلزم الاشارة هنا الى أن انصراف الحركات الشيعية لمعالجة الحرمان السياسي والاقتصادي للشيعة وهو حرمان يعتبر أكبر إقتراف من حكومات المنطقة، أجّلت الحاجة للتجديد.

من الناحية التاريخية، تموضع التشيع في ثلاثة أشكال: التشيع التقليدي المحافظ، التشيع الحركي، والتشيع الحيوي.

كان التشيع التقليدي بكل خصائصه التسليمية الاسكاتولوجية يستعير مصادر قوته وحضوره من إنطوائيته واستقالته ، وبالتالي فهو لم يشكل خطراً سياسياً على أي من الدول التي توطّن فيها، فقد صالحت انعزاليته الطوعية عزله الاكراهي من قبل الدولة، وبالتالي، فإن المجاميع الشيعية في مواطن عديدة قبلت طائعة بوضع قانوني واجتماعي متدنٍ على أمل خروج قريب وشيك ومنتظر للمخلّص (= المهدي المنتظر)، وقد صادقت الدول المناهضة عقدياً للتشيع على ذلك الوضع، وفرضته سياسة متّبعة في التعامل مع الشيعة.

في الخمسينيات من القرن الماضي، شهد التشيع فورة إنبعاث، مزخومة بنزعة هيرومنطيقية نشطة بدأت أولاً من ايران وتحديداً وسط اليسار الاسلامي المتاخم معرفياً لدوائر دينية تقليدية منزوعة التأثير السياسي، وقد تزامنت حركة الانبعاث مع تبرعم أفكار اصلاحية أولية في النجف استعلنتها (هيئة منتدى النشر)، والتي تطوّرت الى ارتفاع سقف التطلع السياسي عند السيد الخميني الذي أعاد تفسير العقائد الكبرى في التشيع التقليدي، ملتحماً بالوعي الانتظاري كيما يحرث أرضاً تتأهل تدريجياً لمشروع سياسي بحجم إقامة دولة دينية شيعية تزيل الانسداد المختوم بظهور القائم من آل بيت محمد (ص). إن شروع السيد الخميني في التأسيس لأبنية نظرية جديدة للتشيع مستعيراً ومطوّراً لمجهودات جلال آل أحمد وعلي شريعتي وآخرين تمخّض عن ولادة التشيع الحركي، المحثوث بتطلع سياسي يوتيبي.

لقد ورث التشيع الحركي، وتحديداً بعد انتصار الثورة الايرانية، تركة التشيع التقليدي، الذي لم يكن يهرم الا بعد ظهور حارس جديد للعقيدة الشيعية، وهو التشيع الحركي الذي أصبح مدججاً بترسانة تبليغية واسعة الانتشار وشديدة التعقيد والتأثير. لقد حقق التشيع الحركي إنتشاراً أفقياً مذهلاً حيث اخترق الفئات الاجتماعية المحافظة بصورة كاسحة بينما كان هذا النموج يتآكل عمودياً، أي وسط الطليعة الشيعية.. فهذا التشيع يحقق الرضا لأتباعه وسط الفئات الاجتماعية الدنيا ويمتلك أيضاً عناصر الجاذبية والقدرة على إعادة انتاج ذاته، ولكنه يفتقر الى القدرة على تجديد ذاته وبالتالي فإنه يمتلك كل شيء الا عنصر البقاء أو بالاصح الخلود.

هذا ما حصل على وجه الدقة في ايران بعد مرور اكثر من عقد على انتصار الثورة الايرانية، ولا ننسى ان بقاء السيد الخميني قائد الثورة وصانع الجمهورية الاسلامية الايرانية كان يحول دون تسرّب الافكار الجديدة والناقدة، فالمراجعة تصبح شبه مستحيلة في ظل وجود الكاريزما. على أية حال، فإن رحيل السيد الخميني آذن بتفجر جدران التشيع الحركي لينشق عن شكل ثالث للتشيع هو التشيع الحيوي الذي برز كرد فعل على أخطاء التشيع الحركي بل تأسس على إزاحة التشيع الحركي.

لتوضيح هذا الانتقال الحاسم يمكن القول، إن حزمة الافكار الجديدة التي صاغها وطوّرها السيد الخميني كانت مصممة لانجاح مشروعه السياسي، ولاشك أن ذات الحزمة ألهمت حركات شيعية أخرى في العراق والخليج ولبنان كيما توظفها في تجارب سياسية محلية، ولكن هذه الافكار قصرت عن تنشئة وتطوير ديناميات خطاب فكري تجديدي، ولذلك فإن ما جدده المشروع الثوري الايراني من أفكار عقدية يعد قليلاً الى حد كبير بالقياس الى حجم الانجاز السياسي الضخم. وفي حقيقة الأمر، إن إقتفاء السلوك الايراني الثوري من قبل حركات سياسية شيعية في مناطق عديدة، حرمها أيضاً من التفاعل مع المخاضات الفكرية التجديدية في الداخل الايراني، والتي قصرت حركة الترجمة الى العربية عن تجسير فجوة التواصل الفكري مع مركز الثقل الشيعي في العقدين الاخيرين. فما تم تعميمه في المحيطات الشيعية خارج ايران كان عبارة عن رزمة الكتابات الشيعية الحركية المتصالحة مع النظام السياسي الثوري في ايران، بينما أسدل ستار سميك على الفورانات الفكرية التي شهدتها الساحة الايرانية منذ رحيل قائد الثورة الايرانية الامام الخميني عام 1989، والتي شقّت مسرى جديداً الى قراءة النص الشيعي مفصولاً عن الرسمية الثورية الايرانية.

لقد برزت ثلة من المنشغلين بتجديد الفكر الشيعي في ايران من منازع مختلفة فلسفية وكلامية وفقهية من أمثال عبد الكريم سروش، محسن كديور، سعيد حاجاريان، محسن مجتهد شبستري، مصطفى ملكيان وآخرين، في سياق محاولة لفصل النص عن الاجتهاد، وإشتقاق رؤية إنسية للدين تنزع عنه ومنه السلطة الوصائية بأشكالها المختلفة. إن القراءات الجديدة التي صدرت عن هذا الفريق الشيعي خارج سياق القراءة الرسمية للتشيع لم تنل قدراً كبيراً من الاهتمام لدى القارىء الشيعي العربي، بفعل الطنين الذي أحدثه الخطاب الشيعي الحركي، والذي لا يزال يتغذى على التأييد الواسع له وسط فئات اجتماعية مازالت تحقق فيه ذاتها وتشكل قوة الدفع الميكانيكية للمشروع السياسي الشيعي. ولهذا السبب، ربما، لم تشق الافكار الاصلاحية الشيعية طريقاً جديدة في المسكونية الشيعية العامة، كونها مازلت محفوفة بتهمة (الخروج على الاجماع)، و(خرق الاتفاق العقدي).

ومن المفارقات الباعثة على الأسى، أن يكون التجديد في الفكر الشيعي فيما مضى من الزمن مهمة المصلحين، الذين انشغلوا بإعادة تفسير المفاهيم الكبرى في الفكر الشيعي، ولكن بعد أن حققت عملية التجديد أغراضها السياسية، صار التجديد وصمة وشنعة وتالياً مهمة يضطلع بها ضعاف العقيدة والذين شغلتهم أهواؤهم عن ذكر الله!، والسبب شديد الجلاء. فبالامس كان المجددون الشيعة يتطلعون الى الحكم من وراء انغماسهم في تطوير مفاهيم اصلاحية شيعية، أما اليوم فهم في الحكم، وبالتالي فإن الحاجة الى تطوير أفهام جديد قد تهدم أركان الحكم الذي وصلوا اليه.

منذ أكثر من عقدين، وخارج المحصول السياسي لم يتحول التشيع الى جزء من الانهماك الثقافي اليومي، ولا مادة للتحري المتصل من أجل إعادة اكتشافه، بل إن الانشغال الدؤوب المحفوز بالرغبة في تأليقه المتواري في حقب ماضية جعل مهمة المراجعة ممنوعة وفق الواقع المعاش شيعياً، وفي الوقت نفسه محفوفة بمخاطر غير مأمونة العواقب. إن من يجازف بالمراجعة في تتبع الاختلالات في عمق الوعي العقدي لا يكون عليه الاحتراس وحسب من الحشود المرصوصة على قلاع المعتقد ولكن عليه أيضاً أن ينظر وقبل كل شيء الى إمكانية إستنبات وإنماء أفكار جديدة قادرة على مدِّ جذورها في أرض تبدو مشغولة بالكامل تقريباً بالأفكار المضادة.

فقبل انتقال التشيع الى عنصر متحرك ومؤثر في المعادلة السياسية الداخلية وتالياً الدولية منذ مطلع الثمانينات، كانت ثلة المنظّرين الشيعة تعكف على تأجيج العناصر الراكدة في التراث الشيعي، أملاً في صناعة خطاب تعبوي تحريضي يسوق الجماهير المحرومة للارتطام بمراكز السلطة والاطاحة بها وتحقيق تطلعاتها. أما وقد أفلح التشيع الحركي بتمظهره الشعبي في تسجيل حضور ساطع له في ساحة الفعل السياسي اليومي، فإن حماسة التنظير والمراجعة قد خبت وربما خمدت، وكأن مهمة  التشيع تلخّصت في إيصال معتنقيه الى مرحلة الالتحام بالسلطة والاطاحة بها واقامة البديل السلطوي المنشود.

ومما يجعل مهمة التجديد صعبة هي كون التشيع الشعبي أحد الحواضن الكبرى للتشيع الحركي، بل وأحد أبرز تجسيداته، ومنه يستمد رأسماله الجماهيري والرمزي.. ولذلك فإن صانعي التشيع الحركي يعقدون مصاهرة شفهية مع مفاتيح التشيع الشعبي والمفاصل الكبرى فيه لأغراض سياسية محضة، وبالتالي فإن الاول صار مجبولاً على توفير الغطاء الشرعي والقانوني للتشيع الشعبي الذي يملك شبكة واسعة من أقنية تبليغية جماهيرية مثل الحسينيات والمساجد وحملات زيارة العتبات المقدسة ودور النشر الشعبي والتسجيلات الدينية (الاناشيد، الادعية، اللطميات، العزاء..الخ). ولا غرابة حين يكون هذا التواطىء مشفوعاً بمصادر زخم متنوعة، فأن يصبح صاحب الصوت العذب (أو ما يعرف بـ الرادود) رمزاً شيعياً يضاهي بل ويواري في سطوع نجمه من أفنوا اعمارهم في طلب الحقيقة، لا يقابله سوى لاعب كرم قدم في أوروبا لم يبلغ سن العشرين وقد تفتحت أمامه أبواب الثروة والشهرة فيما يكابد أستاذ الجامعة من أجل تسديد القسط الشهري لبيته.

 

 

نقد الذات الشيعية: وهم الخوف

حين نحاول مزاولة عملية نقد للذات، كأي عملية تصحيحية تجريها الحركات الاجتماعية والعقدية في التاريخ، نتأرجح بين ضغط وتأثير قوتين كابحتين:

ـ الاحساس بالخطر بل والمبالغة فيه، فهناك دائماً إنذار دائم من الاقتراب من المصادر، من منبع الأفكار، والبحث فيها.. وسيقال لك بأنك تسدي خدمة لأعدائنا وأعداء الانسانية وستنالك وصمة العمالة.. وطالما أن هاتفاً يردد بلا انقطاع: أن المتربصين باتوا أقرب من حبل الوريد بانتظار من يكشف الغطاء عما هو مخبوء، فإن الحاجة للمراجعة تظل معطلة بل ومحظورة.

ـ الاحساس بالتميّز، بل والمبالغة فيه.. إن توّرم الاعتقادات الدينية توحي أحياناً لدى أصحابها بأن ما حظوا به لا يناله الا الاصفياء من بني البشر، وأن الكرامة كل الكرامة في إحتكارهم للحقيقة المطلقة، فليس هناك بعد ذلك حاجة للحذف والتعديل، فثمة نشوة تتخذ شكل الهلوسة الايمانية تحرم صاحبها من مجرد النظر الى خارج نطاق الاحساس الكاذب بالتفوق.. لا يتوقف الأمر، بطبيعة الحال، عند عقيدة دون سواها، فكل الانصار لعقيدة مهما بلغت يسقطون تحت تأثير جاذبية الخطاب العقدي الذي يطرب آذانهم ويعشي أنظارهم على الدوام، وستظل الحقيقة متجزئة بين كل تلك المعتقدات، وترفض أن تقع في قبضة معتقد بوحده.

ولنا هنا عودة سريعة مع التراث، شيعياً كان ام غيره، ونقول على هذا النحو: ليس بمقدورنا أن نتخلص من تراثنا، كما لا يمكن أن نتخلص من أنسابنا وترابنا، وبالتالي فإن الحديث عن الموقف من التراث لا يجب أن يكون بالتقرير سلفاً نفيه مطلقاً ولا التسليم به مطلقاً أيضاً. ولربما سهّل كل من الفريقين (التسليميين والنبذيين) مهمة التعامل معهما، إذ لا أقل نعلم من وضوح موقفهما ما هم عليه من رأي، ولكن تبدو المهمة صعبة للغاية مع إتجاه يكاد من فرط بهلوانيته يفقدنا الصواب في تحديده هويته، وموقفه، وموقعه.. إنه، في أي معتقد نشأ، يمثل خطراً بالغاً عليه حيث يقوم بعملية تضليل واسعة ومتقنة من خلال إعادة تفسير النصوص الفاسدة (نقلاً وعقلاً) بدل رفضها، وعقد مصالحة مع الخرافة من خلال الانشغال المفرط في اعادة انتاج النص في شكل آخر متطور، وهذا الاتجاه يتسلل بين اتجاهات ثلاثة، فهو تسليمي، ونبذي، ونقدي، بحيث تضيع ملامحه وشخوصه أيضاً، ولذلك فلا غرابة أن تجد أشخاصاً يتبنون رأياً تقدمياً وآخر شديد التخلف والخرافية. ولعل أكثر من أصيب بهذا الداء هم المنشغلون بالعمل السياسي، والذين يطمعون في جني ثمار السياسة وإن تطلب الامر ترسيخ الاعتقادات المنحرفة.

إن الموقف من التراث، كما الموقف من الماضي، فلا يمكن التفكير في الحاضر والمستقبل دون الانطلاق من الماضي، الذي نما وأنتج لنا حاضراً سيكون في المستقبل ماضياً، فالتراث الذي نرثه في حاضرنا يشترك في صياغة المستقبل، وكلهم بالنسبة للأخير ماضٍ. وسيظل التراث الشيعي بقديمه وجديده يجب أن يظل مادة بحث خاضعة للفحص الدائم.

في الوقت ذاته يلزم التشديد على، أن من الخطأ الفادح تصوّر ان مهمة التجديد تعني زعزعة القواعد الايمانية التي تنذر الاتباع للعجز والتيه، فالتجديد مهما بلغ عنفوانه وجنوحه لا يصل عند نقطة الانفلاش، وإنما مهمته المركزية بصورة محددة تكمن في صناعة أسئلة لكيفية التصرف والمراهنة على معتقد ما في المستقبل. وبكلمات أخرى توفير شروط البقاء والاستدامة للمعتقد، وإيصاله بالمستقبل، ولكن بعد بتر الافكار غير الصالحة منه، أو التي كانت صالحة في وقت ما دون غيره، أو التي تم تصنيعها لأغراض محدودة. فالتشيع كباقي العقائد الدينية والوضعية رهن نفسه لتفسيرات ايديولوجية في أزمنة سابقة ثم انفصل عنها، أو جرت عملية فصل جراحية كضرورة كيانية وحياتية لاستمرار المعتقد.

ويجب التفريق دائماً بين قضيتي الاستسلام والاستفهام، فالتهمة الجاهزة التي يقذف بها المشتغلون في ورش التجديد هي كونهم باتوا مستسلمين ومستقيلين بصورة تامة لآخر قريب كان أم بعيد، وكما يقال دائماً فكلما كان للسياسة صلة لحدث ما فإن حسّ المؤامراً يصبح طاغياً، وهذا تعبير عن حس الممانعة المتنامي حيال المتبنى العقدي، وبخاصة ما يتعلق منه بالكيان الروحي الايماني. والأمر ليس كذلك البته، فزوبعة الاستسلام بالتأكيد ستنتهي حالما يعاد طرح المسألة المصيرية التي تواجه أي معتقد، وهي مسألة قدرته على العيش مع متغيرات لاحقة وماهي مقومات بقائه لفترات قادمة، اي الاستفهام الجوهري حول ماذا يجب فعله، كيما يحجز معتقد ما مقعداً له في قطار المستقبل.

في ضوء ما سبق، ندلف الى المنطقة الشاغرة الجديدة في التشيع المعاصر، وهي منطقة مازالت تجتذب المزيد من الافكار والانصار، والتي تؤسس لخط شيعي جديد، ندعوه بالتشيع الحيوي. فقد صنع التشيع الحركي منذ ما يقرب العقد من الزمن بداية وعد جديد يتجاوز الحد الخلاصي للتشيع، والذي أنهى شروط وجوده الشعبي والسياسي والفكري، ليقتحم معركة رهان العقلنة والانسياب الواعي مع حركة الافكار الانسية.. وهو ما اسميه بالتشيع الحيوي، الذي لا يركن الى الانشغال بالعاطفة الايمانية الجانحة الى تأكيد الوجود والحضور الكثيف للحشد بل يسعى الى تخليص التشيع من أسطورة الخلاص التاريخي، وإخضاع المنقول الحركي الذي اندغم فيه خلال الحقبة الثورية الى إجراء عملية قسمة وفصل بين الثابت والمتحول لا بهدف إعادة إرساء لليقيني على حساب الشكي، بل الفصل ما بين هو فوق معرفي (نموذج ـ برادايم) وما هو تحت معرفي (حاجات وتطلعات) في التشيع.

إن عملية الفصل هذه تبدو ضرورية من أجل تخليص الجيل القادم من دوامة اكتشاف الخطأ وليس الحقيقة في التشيع، فما يتوهم بكونها نفحة الهية أفضت الى تغيير موازين القوى لا ينال قسطاً موازياً من الموثوقية لدى من هم خارج مجال تأثير الافكار الايمانية في شكلها الاسطوري، ولتخفيف وطأة الفكرة نقول: ما كان ممكناً ايمانياً في فترة سابقة ليس بالضرورة كذلك في فترة يزاول فيها العقل دور الحراسة على حركة الافكار ودورانها. إن العقلانية المفتوحة هي التي تتيح للتشيع الاتكاء على إرادة الحوار مع العالم الخارجي، حيث لا معرفة مكتملة يمكن للتشيع او غيره من المعتقدات الايمانية المغلقة أن يكتفي بها عن الانفتاح على الآخر، فحتى العقائد الايمانية الكبرى تظل في مسيس الحاجة الى ترصين وإعادة تفسير لنصوصها من أجل البقاء على قيد الحياة، ولغرض ملء اعتقاد المنتمين لها بجدوى التمسك بها في مواجهة مضخات الافكار التي توجه مجرى التاريخ.

إن الرهط المنشق او بالأحرى المشتق من داخل التشيع الحركي يحمل معه رؤية نقدية حول الماضي، أي حول تجربة معاشة، وله تفسيره الخاص لها، ولكن لا نفترض أن تتجاوز مهمته تقديم الحلول لمشكلات قد يكون هو متورطاً فيها. لا يجب تحميل هذا الرهط اكثر مما يطيق، فمهمته ـ كما هو شان الجماعات الاصلاحية التي تتشكل من داخل حركات إجتماعية كبرى ـ تقف في هذه المرحلة على الاقل عند حد إنتاج الاسئلة وليس تقديم إجابات.

وليست مهمة الرهط الشيعي التجديدي تخليص التشيع من نفحات الخلاص او دسائس الاسطورة المندكة فيه، فلا مجال اليوم للشك في أن العقائد بكافة ضروبها تحقق إنتشارها بالاتكال على قائمة روايات شعبية واساطير وتوهمات بتعبيرات تبدو لنا عبثية. كما أن مهمة هذا الرهط ليس في التخلي عن المطامح السياسية الكبرى التي ينطوي عليها التشيع بوصفه ايديولوجية مقاومة، فسيظل التشيع بهذا المعنى أملاً لمجتمعات لزّها الظلم والحرمان وتجد فيه لغة للافصاح عن معاناة خاصة، أو وسيلة للجهر بالسوء.. إن مهمة هذا الرهط بصورة محددة وجوهرية هي صناعة فناء جديد في أفق الوعي الشيعي الحركي. فما صنعته الانجازات السياسية أفضى الى اغلاق الأفق المستقبلي للتشيع، وكان من الضروري أن يدفع انحسار الوهج السياسي أو توقفه عند نقطة ما يبعث سؤال المستقبل.   وعلى أية حال، ليس مطلوباً من التشيع ان يفك ارتباطه بالسياسة، فسيظل حاضراً كأيديولوجية سياسية، بل ومنتجاً لأفكار سياسية كما يغذي أفكاراً سياسية معقدة بل هو نفسه قد يصبح قوة سياسية مؤثرة في الحياة.

وهناك كلمة تنبيهية حول دور العراق المعزول عن المحيط الثقافي الشيعي لمدة تربو على العقدين، حيث يخشى أن ينكص العراق بالتشيع الى نقطة بداية سابقة، ويخشى أن يعود ليلعب دوراً تعويقياً لمشروع التجديد الذي بدأ بالانتعاش في أجزاء مختلفة من ايران والخليج ولبنان. فعراق اليوم يعيش مرحلة إعادة بناء ليس لمؤسسات الدولة ومكونات الامة، ولكن أيضاً للعمل على رفع منسوب الوعي الثقافي واصلاح أجهزة الفعل الفكري المتآكلة.. إن تفوق العراق الشيعي عددياً ورمزياً يلزم أن يحول دون إغرائه للعب دور فكري في المرحلة الراهنة، فهو اليوم بمسيس الحاجة الى استيعاب الافكار الشيعية الجديدة في المناطق المجاورة له، قبل أن يقحمه الانتصار السياسي في أتون عملية انتاج فكرية ستظل مهما بلغت خارج نسق الحراكات الشيعية والمراكمة الفكرية على امتداد عقدين من الزمن. مع التذكير بأن موقع العراق لا يمكن أن يشغله غيره، ولكن بعد انهائه عملية إعادة التأهيل الضرورية لمجمل أدواته المعرفية والعلمية.