المعارضة السعودية:

التأرجح بين الهوى الإقليمي والوطنية الجامعة

(2) المعارضة في نجد

 

لم تخرج المعارضة في نجد عموماً من إسارها المناطقي والطائفي؛ بالرغم من أن عدداً من التنظيمات السياسية ذات الأيديولوجيات القومية واليسارية والتي كانت قاعدتها في المنطقة الشرقية وكوادرها الوسيطة من المواطنين الشيعة، هذا التنظيمات كانت قياداتها ذات منشأ نجدي سواء قطنت المنطقة الشرقية أو نجد نفسها.

 

اذا كانت التنظيمات السلفية قد غرقت في مستنقع المناطقية والطائفية، فإن التيارات الليبرالية التي نشأت في نجد لم تخرج هي الأخرى من إطارها المناطقي، وإن تحررت من الإسار الطائفي؛ بيد أن هذه الملاحظة قد لا تكون دقيقة، فكثير من المراقبين للحركة السياسية في نجد يعتقدون بأن النخبة السياسية النجدية تتمتع بحسّ طائفي عالي الوتيرة، وهي بالرغم من كونها على طرف نقيض مع التيار السلفي ـ النجدي المكافئ لها، إلا أنها ترى في (الوهابية) مكوناً أساسياً للهوية والسيادة النجدية (انظر مثلاً دراسة د. خالد الرشيد: إشكالية الوحدة والإنفصال في المملكة العربية السعودية؛ وكذلك الإشارات التي وردت في دراسة الدكتور متروك الفالح: المستقبل السياسي للسعودية في ضوء 11/9: الإصلاح في وجه الإنهيار والتقسيم؛ والتي تفيد بأن النخبة النجدية غير الدينية هي التي تسيطر على الدولة وترفض الإصلاح).

المعنى المراد إيصاله هنا، أن النخبة النجدية عامة، حتى المعارضة منها، هي مؤطرة مناطقياً إن كانت دينية ـ طائفية، ومؤطرة طائفياً ومناطقياً إن تحدّثت وطنيّاً. يخرج هنا ـ وبالدليل ـ حركة شمال نجد المعارضة، ونقصد بها (حائل) إذ يكشف تراث المعارضة الوطنية في السعودية، أن قيادات العمل الوطني التي جاءت من الشمال النجدي كانت أصدق في التصاقها بمشروعها الوطني ومفاهيمه الحديثة، كما تدلّنا على ذلك تجارب شخصيات وتنظيمات كان لرجال من حائل دورٌ فيها (نذكر هنا بدور المناضل ناصر السعيد، وهو من حائل، وكان قومي ناصري النزعة، صادق الوطنية، ورأس تنظيم إتحاد شعب الجزيرة، كما نذكر بآخرين من حائل قاتلوا الى جانب المقاومة الفلسطينية وقاموا بعمليات ضد إسرائيل وسجنوا فيها مثل المناضل رخا الدليم، فضلاً عن آخرين يقطنون دول الجوار الخليجي وبعض العواصم الأوروبية).

رجال حائل بدوا متسامين على مناطقيتهم النجدية، خلافاً لنظرائهم القصيميين، كما كانوا متسامين على الإنتماءات الدينية الوهابية، بل كانوا شديدين ضدّ هذه الأخيرة. وحتى القبلية الشمّرية، لم تك تُلحظ في حركة المعارضين الوطنيين (من حائل).

فيما عدا حائل، فإن معظم أصناف المعارضة في نجد حملت مواصفاتها الخاصة بها، وهي في الغالب الأعم: إقليمية الهوى، مذهبية طائفية، وعنفيّة. في بعض الأحيان يجمع بعض أصناف تلك المعارضة الصفات الثلاث، كما في حركة الإخوان.

 

حركة الإخوان: التجدّد المتشدّد

 

إن حركة الإخوان التي نشأت في منتصف العقد الثاني من القرن الميلادي الماضي، والتي قام على أكتافها عبء التوسّع السعودي، تحولت فيما بعد الى حركة معارضة للملك عبد العزيز حتى صفّى قيادتها في يناير 1930م. تلك الحركة كانت تؤمن بإدخال الناس في الدين حسب فهمها: بالعنف وقوة السلاح وعبر الجهاد المستمر الذي لا يتوقف عند حدود قطرية مصطنعة، أو جغرافيا غير مواتية؛ ومع أنه من المفترض في حملة رسالة تزعم تجديد الدين، أن تنظر الى الناس باعتبارهم سواسية، وتبتعد عن اعتبارات الأصول والأعراق والأقاليم، إلا أن حركة الإخوان التي انضم اليها كل المجتمع النجدي بالقهر او بالرغبة، لم تتفلت من الداء المناطقي والقبلي. فحين ثار الإخوان ضد مرجعيتهم السياسية (السعودية) أعادوا تفعيل الروابط القبلية مقابل الروابط الدينية التي استخدمت من قبل في مكافحة الآخرين واحتلال ديارهم؛ فكان لعتيبة زعيمها المعارض: سلطان ابن بجاد؛ وكان لمطير زعيمها: فيصل الدويش وابنه عزيز؛ وكان للعجمان زعيمهم: ابن حثلين؛ وكذا بقية الزعماء مثل ابن لامي (ابي الكلاب) وزعيم الرولة (ابن مشهور) الذي دسّ السعوديون له السمّ فيما بعد وقتلوه في الخارج.

ومثل حركة الإخوان الأولى، جاءت حركة الإخوان الثانية بزعامة جهيمان العتيبي عام 1979م؛ فالرجل بدا وكأنه تسامى على الإنتماء القبلي، بل وعلى الإنتماء الوطني؛ حيث شارك معه مقاتلون من جنسيات مختلفة مصرية ويمنية وعراقية ومصرية وغيرها، مثلما شارك معه آخرون من قبائل غير عتيبة مثل قحطان (لا ننسى أن المهدي الذي تمت مبايعته في الحرم من قبل الحركة هو محمد القحطاني). لكن ـ كما أوضحت بعض الدراسات الغربية ـ فإن القبليّة لم تخرج من (دماغ) جهيمان بتاتاً، وكأن الحركة الدينية عامة بالرغم من تبنّيها من الناحية النظرية أطراً فكرية أوسع من المنطقة والدولة القطرية الى (الأممية) إلا أنها في مستقرّها النهائي خاضعة لمزاج غير عقدي (قبلي ومناطقي وأحياناً وطني/ قطري). ولذا لاحظنا في حركة جهيمان أن الكثير من الأتباع جاؤوا من عتيبة ومن ساجر، ومن حفدة الأخوان القدامى، وهو ـ أي جهيمان ـ كان واحداً من أولئك الحفدة، كما كان من المدافعين عن أجداده بالقلم والسنان (انظر مثلاً رسالة جهيمان: دعوة الإخوان كيف بدأت والى أين تسير).

حتى الحركات السلفية الحديثة، التي ظهرت بعد جهيمان، خاصة بعد أزمة احتلال الكويت، وبعد تفجيرات نيويورك 11/9/2001م، فإن هواها وخطابها كان ولايزال ذا لحن طائفي، وذا عمق مناطقي، شديد النزعة باتجاه استخدام العنف تجاه الآخر الفكري أو السياسي. بدا وكأن العصبية النجديّة ستخفّ في التيار السلفي الحديث، ولكن التأسيس الفكري والثقافي والنفسي والمصلحي لهذا التيار يجعل نجاحه في هذا الأمر شبه مستحيل، بالرغم من انتشار التيار السلفي في مناطق أخرى غير نجدية.

ومن جهة العنف، فرغم أن المعارضة السلفية الإخوانية استخدمته على نطاق واسع في العقود الثلاثة الأولى من القرن الماضي، مرّة ضد المخالفين الفكريين والمذهبيين (أي ضد الشيعة والحجازيين وسكان حائل والإسماعيليين وكل الإمارات في الجزيرة العربية) إنتصاراً لرؤية مذهبية، وتجييراً لتلك الرؤية والحرب الدموية لصالح مشروع سياسي نجدي/ قصيمي ـ سعودي/ عائلي؛ ومرة اخرى لما تحقق مشروع قيام دولة نجد من البحر الى البحر ومن حدود الأردن والعراق شمالاً الى حدود اليمن جنوباً، وحينها تضاءلت قيمة الأداة الإخوانية (الجيش السعودي) فقررت الثورة على صانعيها، وارتدّت الى عصبيتها القبلية مقابل العصبية المذهبية والمناطقية للعلماء، فكانت موقعة السبلة، وكانت حينها نهاية الإخوان.

سار على ذات النهج وبنفس الإسم (الإخوان/ جماعة الدعوة المحتسبة) جهيمان العتيبي حين اقتحم مع مئات من مقاتليه الحرم المكي الشريف في نوفمبر 1979م لتحقيق نبوءة تفيد بإسقاط النظام السعودي عبر الخسف بجيش آل سعود حين يقتحم الحرم؛ وقد اقتحم الجيش السعودي بمعاونة القوات الفرنسية الخاصة وكذا الأردنية والمغربية الحرم الطاهر، وتمّ تدمير منارات الحرم، وأرضياته، وأقبيته بالدبابات، فلم يخسف الله بالجيش، كما لم يخسف من قبل بالجيش الأموي في عهد يزيد أو في عهد الملك بن مروان على يد الحجاج!

إن حركة أحفاد (الإخوان) القدامى التي قادها جهيمان وصفت نجدياً بالتطرف، سواء من قبل الفئة الليبرالية (او العلمانية) أو من قبل المؤسسة الدينية، التي لم تفتأ أن تطلق على جهيمان وجماعته لفظ الخوارج والمروق من الدين والفئة الضالة، وهي ذات الألفاظ والتهم التي استخدمها المشايخ أنفسهم ضد زعماء الحركة الإخوانية الأولى، وسيكررون الأمر لاحقاً بعد جهيمان كما هو حاصل اليوم. وبقدر ما أكدت حركة جهيمان على عنفية الحركة فإنها أكدت على طائفيتها وبدا ذلك واضحاً في عدائها الشديد للمواطنين في شرق المملكة وغربها وجنوبها من الذين لا يعتقدون بمذهب الدولة الرسمي ـ الوهابي. وكان جهيمان يشنّع على الدولة السعودية ـ كما هو واضح في رسائله ـ بأنها سمحت لغير الوهابيين بالحج، وبأن يكونوا مواطنين في الأساس! يقول جهيمان في (رساله بيان الشرك وخطره): (لماذا لا يُكفّر اليوم من يدعو علياً وفاطمة ورضي الله عنهما، وكذلك من يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم من دون الله؟ ولماذا تُرك العمل بقوله تعالى: "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا"؟ بل نرى المشركين الشيعة وأمثالهم يملؤون مكة والمدينة ويجاهرون بشركهم؟! ثم نتساءل: هل وُجد في دين الإسلام من يأخذ الزكاة من الروافض، ويعطيهم الإعانات، ويعتبرهم من رعاياه، كما يعامل اليوم رافضة الجنوب والأحساء).

وفي رسالة (الإمارة والبيعة والطاعة) وجه الى الحكومة اتهاماً بأنها (والت وصالحت النصارى وأوت المشركين من الشيعة والروافض) ويمضي فيقول بأن آل سعود (ليس لهم على المسلمين بيعة ولا تجب عليهم لهم طاعة، ومع ذلك لا يلزم من هذا كله تكفيرهم ـ بل من أظهر منهم الإسلام حكمنا له به حتى تثبت ردّته عنه فنحكم عليه بالكفر.. مع اعتقادنا أن بقاءهم اليوم هدم لدين الله عز وجل ولو كانوا يدعون الإسلام، نسأل الله ان يريحنا منهم أجمعين).. ويضيف: (وامتازت دولتنا بقسط وافر من هذا التلبيس منها ومن علمائها، والتي تسمي نفسها اليوم بدولة التوحيد، وإنما وحدت بين صفوف المسلمين والنصارى والمشركين، وأقرّت كلا على دينه كالروافض، وحاربت من خالف ذلك، وقاتلت من قاتل المشركين الذين يدعون علياً والحسين، وقد حاربت كذلك عبادة القبور والقباب وأرست قواعد عبادة الريال)(1).

 

الوسطيون: هل هم وسطٌ فعلاً؟

 

تصور الكثيرون أن العنف في المعارضة الدينية ـ السلفية ليس أصيلاً، بل هو ظاهرة مؤقتة، وأن السلفيين صاروا أقلّ ميلاً باتجاه العنف، أولاً لأنهم شركاء حقيقيون في السلطة، وثانياً لأنهم ومناطقهم أصابوا من غنائم التنمية الإقتصادية الشيء الكثير بما لها من تأثيرات نفسية وفكرية عميقة، وثالثاً لإن قوى الأمن تمددت وتطورت وسائلها، وبالتالي فإن إمكانية عودة العنف بدت بعيدة بالنسبة للحكومة ولدى الكثير من المراقبين.

لكن التيار السلفي فاجأ الجميع بشراسته في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وكررها في أحداث نيويورك 2001 المعروفة. في الحالة الأولى ـ التسعينيات ـ بزّت الرموز السلفية ـ التي حسبت متنورة ـ التقليديين من مشايخ المؤسسة الرسمية في طائفيتها الفاقعة، وفي المدى الذي وصل اليه عنفها النظري وتحريضها العملي على تطبيقه. لقد تبين اليوم بشكل واضح أن طائفية من يعتبرون أنفسهم وسطيين أو صحويين أو متنورين في الوسط السلفي، ويطرحون أنفسهم كبديل لرجال المؤسسة الدينية التقليدية، هم أشدّ طائفية من الدولة السعودية نفسها، ومن التقليديين الوهابيين، وأضحت الدولة تستخدم شراستهم الطائفية في تخويف الآخرين بهم، وحملهم على القبول بأهون الشرين!

إن ما قاله الشيخ سلمان العودة، وناصر العمر، وسفر الحوالي عن الشيعة والصوفية في الحجاز والإسماعيلية في الجنوب وغيرهم، حتى الليبراليين السعوديين أنفسهم، قد يكون غير مسبوق في تاريخ المملكة(2). فالشيخ سلمان، وهو أهون من زميليه، قدم الكثير من الكلام ضد المخالفين (انظر مثلاً محاضرته: أسباب سقوط الدول) حيث وصف التشيع بأنه مذهب رافضي خبيث صنعه اليهود والنصارى، واستمع لمحاضرته الأخرى التي ندد فيها بسواقة المرأة للسيارة وكيف أنه استثير لمجرد وجود (رافضية!) تشغل منصباً إدارياً وسطياً في كليّة البنات بالدمام! وانظر أقواله الأخرى التي طالب فيها بتمييز المواطنين الشيعة من حيث اللبس حتى يسهل تمييزهم ومن ثمّ الإساءة إليهم، شأنهم في ذلك شأن ما جرى في التاريخ الإسلامي من تمييز المسيحيين والمسيحيات!! وأيضاً انظر كتابه (في حوار هادئ مع محمد الغزالي) الذي ردّ فيه على كتاب الشيخ محمد الغزالي رحمه الله (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث)؛ فكان كتاب العودة لا علاقة له كثيراً بالحوار ولا بالهدوء المزعوم في العنوان، والذي لم يعترف بأن الغزالي (شيخ)! لأنه انتقد منهج تفكير السلفيين من جهة ودعا الى الإعتدال في الموقف من الشيعة.

أما ناصر العمر، وهو من القيادات الجديدة فله مواقف شديدة التطرف ضد أهل الحجاز والشرقية والجنوبية، وله مذكرة رفعها للشيخ المرحوم ابن باز وعلماء المؤسسة الرسمية يحرضهم أكثر على الشيعة! حملت عنوان: (واقع الرافضة في بلاد التوحيد) دعا فيها الى استئصال الشيعة، وايقاف تكاثرهم! وفرض الإقامة الجبرية عليهم، وفرض المذهب السلفي رغما عنهم! ووضع العلماء الشيعة في الإقامة الجبرية، وضرب عنق من يخالف ذلك!

ومن رموز التيار الجديد سفر الحوالي الذي هو الآخر كان من أشد المحرّضين على علماء الحجاز مثل المرحوم الشيخ محمد علوي مالكي، وهناك عشرات المحاضرات والكراسات في هذا الشأن، التي لا نحتاج لكثرتها أن نذكرها، التي تكفر الحجازيين والشيعة والإسماعيليين وغيرهم. ويتهم هذا التيار المخالفين له من مختلف التوجهات بأنهم متآمرين ضده سواء مع الحكومة أو مع الغربيين أو مع بعضهم البعض، كأن يكون هناك اتفاق بين الليبراليين والشيعة والحجازيين. وإذا صحّ هذا الإتهام الأخير، فلأن التيار السلفي يخيف مخالفيه، فهو يتوعدهم بأكثر من قمع حريتهم الناقصة ليصل الى قطع الأعناق والنفي من الوطن والحرمان من حقوق المواطنة وإكراههم دينياً. ولن نعدم بأن هناك فئات تؤيد العائلة المالكة لا حباً فيها وإنما خشية من هذا التيار المتطرف، وهذا ما تريد أن توصل العائلة المالكة المواطنين إليه من نتائج؛ فهي من جهة تشحذ وتشيطن التيار السلفي ليقمع خصومه وخصوم الحكومة من أجل أن ينبطحوا ويتنازلوا!

حين ظهر التيار السلفي (الصحوي أو الوسطي) حارب على أكثر من جبهة، ودخل السياسة من بابها الخطأ أحياناً، عبر تكتيل وحشد الأتباع على قاعد الإختلاف مع الآخرين. وفي حمّى المطالبة بالإصلاح، عبر حركة عرائض أخذت في الظهور في بداية التسعينيات، توقّف الأمر حين دخل التيار السلفي لينسف الحراك القائم ويطرح صراعاً مفتوحاً مع العائلة المالكة، بدأ بحركة المساجد والأشرطة ومن ثم (مذكرة النصيحة) المؤدلجة التي تستهدف زيادة حصة التيار السلفي في السلطة والمزيد من (توهيب) المجتمع واستبعاد الآخرين المخالفين وقمعهم أكثر. توقفت حركة العرائض، وبقيت النخب المثقفة تتفرج على الصراع بين السلطة والتيار الصحوي الجديد، الذي جرى قمعه كما قمع معه الحراك نحو التغيير، فكانت النتيجة تأجيلاً له لمدّة عقد كامل على الأقل، وها هي التجربة تتكرر مرة أخرى عبر حركة العنف التي يراد منها تأجيل العمل الإصلاحي عقداً آخر، ما لم تحدث تطورات أخرى محلية واقليمية ودولية ضاغطة.

التيار الصحوي كان قليل التجربة السياسية، وبالتالي كانت أخطاؤه كثيرة جداً؛ ونظراً لفتحه أكثر من معركة مع أكثر من جهة إضافة الى الحكومة، خسر الكثير من التعاطف، فزجّ برموزه في السجن كما حدث مع الشيخ العودة (في إطار ما سمي بانتفاضة بريدة) والحوالي وناصر العمر، وآخرين. وقد تغير مزاج المعتقلين السياسي بعد خروجهم من السجن، فأضحوا أكثر نعومة في تعاملهم مع السلطات، لكن ما اعتبر (ثوابت عقدية) بقي على حاله، ونقصد به مواقفهم تجاه الشيعة والحجازيين الصوفيين. بل زادوا في الأمر أكثر وأكثر كما هو مثال الحوالي والعمر، فقد بدا وكأن الرجلين طلقا السياسة ليتفرغا لأعداء (الدين الصحيح)؛ فمقابل هدوئهم تجاه السلطات السياسية تنمّروا أكثر على الشرائح الإجتماعية غير الوهابية؛ بل حاولوا تصدير العنف الى خارج المملكة (العراق مثلاً)، وذلك تخفيفاً من الإنفجارات الداخلية.

من الواضح أن من يطلق عليهم صحويين ووسطين يمثلون تيارات مختلفة في السياسة، فبعضهم يقترب من الحكومة كثيراً: كالعبيكان ومحسن العواجي؛ وبعضهم يحاول التعاون مع السلطات ضمن حدود بغية (الحفاظ) على وحدة التيار السلفي وعدم وقوع صدام بين التيار والحكومة يكون الرابح فيه (الروافض والصوفية والعلمانيون)! ويمثل هذا التيار الحوالي. وبعضهم طلّق السياسة مثل الشيخ عائض القرني بعد تجربة مريرة انتهت بتدبير مخابراتي استهدف تلطيخ سمعته، وبعضهم الأخير انساق وراء العنف يشرعنه ويؤسس له، كما هو الخضير والفهد والخالدي، وغيرهم. واخيراً هناك من احتفظ بمسافة واضحة بينه وبين السلطات السعودية كالشيخ سلمان العودة.

وفي الجملة فإن هؤلاء الوسطيين ـ بنظر غيرهم ـ ليسوا وسطيين. فحركات العنف السلفية الأكثر تشدداً تعتبرهم (انهزاميين) (مهادنين) (متخاذلين)؛ والليبراليون يصفونهم بأنهم لا يختلفون عن العنفيين في شيء، بل أن العنف خرج من تحت عباءتهم، فالوسطية لديهم (وهم) ـ مثلما كتب تركي الحمد عن: وهم الوسطية. ويرى الباحث السعودي علي العميم أن الصحويين او الوسطيين (يتبنون موقفاً سياسياً يمكن وصفه بأنه موال للجسم الديني للدولة السعودية وغير موال للجسم السياسي فيها... بكلام آخر، هم موالين لـ(الدعوة) وغير موالين لـ (الدولة) التي تمخضت عنها في الطور السعودي الثالث).

ويعتقد عبد العزيز الخضر ـ رئيس تحرير المجلة ـ أن الحدود الفاصلة بين التكفيريين والرسميين والوسطيين (او الصحويين) من جهة سحب بساط الشرعية عن الدولة وتوفير المستلزمات الفكرية والعقدية لممارسة العنف ضدها غير موجودة، فحسب رأيه إنه لا فرق من حيث الأيديولوجيا بين المعتدل والصحوي والرسمي السلفي، فكلهم ينتمون الى ذات المدرسة التي أفرزت العنف وشدد على أن (الإختلافات في حقيقتها شكلية، والأزمة الفكرية واحدة، وأي محاولة تفريق جذرية هي من قبيل الأمنيات أكثر منها حقيقة واقعية تستحق أن يتوهم تيار أنه في مأمن من تحمل أخطاء ما يحدث من أزمات سياسية ونزوع نحو العنف)(3). لذلك ـ حسب الخضر ـ لا توجد موجة تطرف وعنف ديني في المملكة إلا وتتقدمها أسماء دينية، في ظاهرة تتكرر كل بضع سنوات جاعلة البلاد محط تجارب(4).

 

لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية وحركة الإصلاح:

 

وقد تحدثنا عن هذه الحركات وتقييمنا لها في عدد يناير الماضي من المجلة تحت عنوان: (قصور حركة التغيير من الخارج في مسيرة حركة الإصلاح) ولا نعتقد بفائدة تكرار التحليل هنا مرة أخرى.

 

السلفيون العنفيون: القاعدة وذيولها

 

محفّزات العنف كانت كثيرة في المملكة ولاتزال، من بينها الإختلالات الفكرية والإقتصادية والسياسية؛ ولعلّ ما صدرته المملكة من أفكار متطرفة الى أفغانستان ارتدّ عليها عنفاً غير متوقع. هناك قابلية للعنف في الثقافة السلفية، وهناك انسدادات حقيقية في المجتمع غير مبررة، وهناك أيديولوجيا تشرعن الخروج على نظام العائلة المالكة، وهناك فوق هذا تقنيات سياسية وتنظيمية ومسلّحة استوردت من خارج الثقافة المحلية ـ سواء من خلال التفاعل المباشر في أفغانستان مع تنظيمات إسلامية، أو من خلال الإسلاميين المستقدمين للعمل في السعودية ـ لتلعب كلها دوراً كبيراً في انفجار الأوضاع الأمنية.

بتراجع شرعية النظام في التسعينيات لأسباب سياسية واقتصادية وعقدية؛ ومع عودة السعوديين الأفغان الى ديارهم، بدا أن الأرض أخذت تميد بالأمراء؛ فكان انفجار العليا في الرياض عام 1995، وكان انفجار الخبر عام 1996م، وكانت بصمات تيار العنف القادم من أفغانستان واضحة بالرغم من أن الحكومة ـ وفيما يتعلق بحادثة الخبر ـ لم تشأ أن تضخّم شأن القاعدة وابن لادن، فأوحت بأن المواطنين الشيعة هم وراء العملية، الأمر الذي سبب إزعاجاً لبعض المتطرفين السلفيين، لأن نسبة العملية الى الشيعة يمنحهم (شرف لم يدّعوه)! ومع هذا اعتقلت السلطات المئات من مختلف التنظيمات، وبينها الشيعية، ولازال الكثيرون يقبعون داخل السجون بذات الحجة التي مضى على وقوعها تسع سنوات دون أن يدانوا أو يحاكموا!

لم يكن العنف الذي انفجر منذ منتصف التسعينيات إلا بداية اكتشف الملك فهد أنها قد تتطور الى ما هو أسوأ، فأمر بإطلاق سراح العائدين من أفغانستان من جهة، ثم ما لبث أن أعادهم وعاملهم بقسوة بالغة ـ البريء والمتهم ـ وفي نفس الوقت أرسل مسؤول الإستخبارات الأمير تركي الفيصل الى أفغانستان ـ حسب مصادر المخابرات الأميركية المنشورة في تقرير 11/9 عن السعودية ودورها فيه ـ وذلك ليفاوض زعيم الطالبان الملا عمر بحيث يقنع ابن لادن بأن يوفّر السعودية في صراعه مع أميركا! وقيل أن عشرين مليوناً من الدولارات قدّمت من أجل إنجاح تلك الصفقة، في حين نفى السعوديون ذلك.

جاءت انفجارات نيويورك وواشنطن كالصاعقة على رؤوس المسؤولين السعوديين، بالنظر الى أنها دقّت اسفيناً في العلاقات السعودية الأميركية، والعلاقات السعودية الغربية عموماً. وكان من الطبيعي أن يستنتج المراقبون بأن العنف السعودي الذي وصل الى نيويورك وواشنطن قادر على أن يفعل ذات الشيء داخل السعودية نفسها وبأيدٍ سعودية نفسها. في الفترة اللاحقة لتلك الأحداث العنيفة، كانت تصريحات الأمراء ـ خاصة الأميرين سلطان ونايف ـ تؤكد أن لا وجود لتنظيم القاعدة ولا لخلاياه في السعودية. لكن القاعدة لم تكن لتوفر ساحة صدام مع أميركا مثلى كالسعودية حيث يترعرع فكرها ويتزايد مؤيدوها وأتباعها.

وهكذا بدأت الإنفجارات تتوالى في العاصمة السعودية وفي مدن أخرى من المملكة حيث المواجهات المستمرة على خلفية إسقاط النظام السعودي ـ الذي أصبح كافراً الآن ـ أو على خلفية مواجهة الأميركيين (وآل سعود بنظر القاعدة من ذيولهم) وسجل تنظيم القاعدة في بلاد الحرمين إسمه على معظم العمليات العسكرية التي قامت ولاتزال. لقد سقط الكثير من رموز وقيادات القاعدة في السعودية، وهناك من يرى بأن العنف وإن كان سيستمر إلا ان القاعدة لن تكون بديل حكم، وإن كانت ستساهم في تقويض نظام الحكم الحالي؛ ومع هذا ينبغي الإلتفات الى ظاهرة أن المجتمع النجدي بعامته وقياداته لم يلتف حول القاعدة، ربما لأن أسامة بن لادن لا ينتمي الى العصبة النجدية، وإن انتمى الى تراثها المذهبي/ السلفي.

بيد أن ابن لادن فشل في جرّ القيادات الدينية والنخبوية عامة في نجد الى مشروعه في وضع حدّ للزواج الديني السياسي السعودي، ولعل السبب يعود الى ان التيار السلفي عامة لا يستطيع أن يحكم على آل سعود بالطلاق النهائي (كفراً ومن ثمّ إسقاطاً) لأن هذا التيار شريك في الغنم، وله مصالح لا يستطيع او لا يريد التضحية بها. ولهذا فهو مجبر ان يمنح شرعيته للنظام القائم وممارساته لأنه في واقع الأمر يشرعن نفسه أيضاً. لهذا فشل ابن لادن في إيجاد حالة طلاق نهائي للتحالف الوهابي السعودي.

 

نجد الفتاة: من آل سعود الى نجد

 

تأسس تنظيم نجد الفتاة في الخمسينات الميلادية، وضم بين صفوفه الطبقة العليا من العاملين النجديين في جهاز الدولة، وشددت مطالبه المعلنة على الإصلاح السياسي، وخاضت قيادته وبينها عبد الله الطريقي وناصر المنقور وجميل الحجيلان وغيرهم، صراعاً مريراً لإجبار العائلة المالكة على تقديم تنازل ما للمواطنين ووضع البلاد على طريق الإصلاح باعتماد دستور وإنشاء برلمان وتطبيق نظرية الحكم اللامركزي؛ بالرغم من أن هناك من يعتقد بأن حركة التنظيم لم تكن تستهدف هذا كله وإنما رفعت هذه المطالب للتغطية على هدفها الأساس وهو: إعطاء مثقفي نجد دوراً أكبر في جهاز الدولة وإشراك قيادته في صنع القرار.

وفي الحقيقة فإن هذا الإسم (نجد الفتاة) يثير الإستغراب الشديد؛ إنه يحمل شعوراً مناطقياً متعاظماً للغاية؛ فضلاً عن كونه يحمل صبغة (علمانية) وبالتالي من الصعب أن يلقى تفهّماً إذا كان حملته يمثلون المنطقة الحاكمة. ولو أن الحجازيين فعلوا ذلك في الغرب وكذا الشيعة في الشرق، لما كانوا ملومين لأن مناطقهم أو بعضها على الأقل تبحث عن دور أو مشاركة، وبالتالي لا معنى لتميّز نجد (المتميّزة أساساً) والمسيطرة من الناحية الفعلية على الحكم، اللهم إلا إذا كان الغرض فصل نجد عن جسد الدولة وهذا لم يكن مطلوباً. ولو كان الإسم: (السعودية الفتاة) على غرار (مصر الفتاة، او تركيا الفتاة) لما كان الإسم يثير ما أثاره من اندهاش واستغراب، خاصة وأنه لا مقام لنجد بدون جناحيها في الشرق والغرب.

ان الحركة التي تصنف على أنها ليبرالية أو علمانية في نجد، هي أيضاً حركة مناطقية ولا تشذ ـ كما يراها المراقبون ـ عن الحركات الفئوية الأخرى. ورغم أن مثقفي نجد لعبوا دوراً مستنيراً في الخمسينيات وبداية الستينيات الميلادية لإخراج الحكم من أيدي الأقلية الحاكمة، ومارسوا دوراً أساسياً في النضال الوطني.. إلا أن بعض هؤلاء المعارضين اليوم لا يعتبرون أنفسهم معنيين بكامل التراب الوطني، وأنهم لا يسعون لإنصاف من هم على شاكلتهم في المناطق الأخرى، بل لا يستهدفون إلا تحصيل حصة من الحكم والقرار من يد النجديين أمثالهم: سواء كانوا سلفيين أو من العائلة المالكة.

لقد أصبح إصلاح النظام عند بعضهم يعني: إشراك مثقفي نجد ممن هم خارج الجهاز في ماكنة السلطة مع العائلة المالكة وعلى أحسن التقادير: فإن البعض قد يكون مهتماً بإخراج كثير من السلطة من يد آل سعود، ليتم تداولها في المحيط النجدي بحيث لا تتجاوز أسواره. ويشعر البعض بالأسى أن نجد التي تعتبر قاعدة التوحيد السياسي للمملكة يصرّ مثقفوها على دورها (الحاكم والمتميز) وعلى هويتها المذهبية الطائفية الطاغية.

ويعتقد كثير من المثقفين الليبراليين النجديين أنه ليس من مصلحة المملكة أن تنزوي المعارضة النجدية المطالبة بالإصلاح فتحصر نفسها في إقليمها لأن ذلك يخنقها، ويضر بسمعتها، بل ويضر بحركة المعارضة الإصلاحية التي تجتاح المملكة من شرقها الى غربها ومن شمالها الى جنوبها؛ لكن الدور المعيّن لنجد هو أن تقود المعارضة لا أن تُقاد، وهناك مؤشرات كثيرة على ذلك.

هناك خشية لدى عدد من مثقفي المملكة بأن تكرر تجربة تنظيم (نجد الفتاة) بالرغم من أن النخبة المثقفة النجدية تبدو وكأنها أكثر اصطفافاً اليوم مع آل سعود (ونقصد بالنخبة أولئك المشاركين في السلطة).. ويخشى إصلاحيون من خارج نجد أن يجري تسوية الصراع النجدي على حساب المعارضة الإصلاحية التي تريد تغييراً في بنيان السلطة لا أن يستخدم الصراع من أجل تغليب مصالح فئوية خاصة بنجد.

يمكن تلخيص ما يتعلق بالمعارضة في نجد في التالي:

اولاً ـ بحكم انغلاق نجد عن العالم لقرون طويلة، كان لا بدّ لأهلها أن يحتفظوا بعصبيتهم الدينية والمناطقية وأن تتأثر المعارضة المتولدة من تلك البيئة بتلك العصبية. لقد ولدت الأفكار الطائفية بل والمذهب الوهابي نفسه في هذه البيئة الصحراوية الجافة، فكان المنتج الفكري جافاً حاداً صدامياً إقصائياً منغلقاً وبالتالي مولداً للعنف والتطرف ورافضاً التواصل الفكري مع الآخر، مع شعور بالعلو والسمو على كل الأفكار والمذاهب والتيارات الأخرى التي ينظر اليها بدونية واحتقار.

ثانياً ـ المعارضة في نجد سواء كانت سلفية دينية، أو إصلاحية ليبرالية، تستهدف الحصول على نصيب وافر من السلطة باعتبار أن آل سعود لا يمثلون سوى بيت من بيوتات نجد. ولكن بعض المعارضين النجديين يتفقون مع العائلة المالكة في تقديم نجد على ما سواها من المناطق، وأن تكون لها السيطرة وقصب السبق في كل الأمور مع محاولة إيجاد شيء من تعديل للإختلال القائم في مسائل التمثيل السياسي والخدمات العامة للمناطق.

وهناك بين النخبة النجدية المعارضة أو المختلفة مع نظام الحكم من يحصر خلافه مع النظام في أمر جزئي: أن يكون لهم تمثيل في الحكم بنسبة أكبر مما هو بأيديهم حالياً؛ ولعل هذا هو سرّ الخلاف بين السلفيين وآل سعود؛ ولربما يكون هو ذات السبب في تذمّر بعض أفراد النخبة النجدية الليبرالية التي تبدي حرصاً كبيراً على النظام ولا تريد أن تمسّ بأساساته.

ما بين المعارضة النجدية السلفية والعائلة المالكة شعرة واحدة: فقد تجدها بعد أن كانت مؤيدة بشكل صارخ للنظام، معارضة له أشد المعارضة الى حد حمل السلاح، ولكنها قد تنقلب مرّة أخرى لتصالحه وتكون أكبر الداعمين له، ولعل المراقب لمواقف مجمل الأجنحة للتيار السلفي النجدي يكتشف شيئاً مما نقوله. فإذا كانت تجربة الفكر السلفي وما يولده من حركات عنف قد عززت قناعة الكثيرين بأن الموجة السلفية الحالية ستستخدم العنف من أجل اسقاط النظام والسيطرة على الحكم هي أو جناحها السياسي ـ كما يوصفه البعض بالوسطي ـ وذلك لقيام حكم ديني صرف على قاعدة طائفية وهابية ومناطقية نجدية كاملة شاملة.. فإن إمكانية انقلاب السلفيين الى موالين او داعمين للحكم كما كانوا امرٌ متاح لأمراء الحكم؛ وهذا ما يقوم به الأمير نايف وابنه محمد بالتحديد، ويبدو أن نجاحاً قد تحقق في هذا الإتجاه وقد انعكس على تضخم الدور السلفي في الإعلام وفي الشارع (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

ثالثاً ـ إن المعارضة الدينية السلفية في نجد لا تنتظم في هيكل تنظيمي واحد، بل هي تيار واسع تخترقه كل التنظيمات بما فيها تنظيمات الحكومة الدينية والمخابراتية. وأما المعارضة الليبرالية فهي أشبه ما تكون بتجمع للنخبة. لربما كان من الصعب جداً إيجاد تنظيم في صفوف المعارضة في المنطقة الوسطى وذلك لأن الروابط التقليدية خاصة القبلية والدينية كانت تقوم مقام التنظيم السياسي بمعناه الحديث. والى وقت قريب كان هناك من بين السلفيين من يعتقد أن التنظيم الحزبي (بدعة) وهو ما يقوله جهيمان، رغم أن ما قام به لا يخرج في جوهره عن عمل أي تنظيم سياسي أو عسكري آخر! ولولا نجاح وبروز التنظيمات الاسلامية في العالم العربي واحتكاك جمهور غير قليل من السلفيين بها فكرياً أو على الأرض في أفغانستان والشيشان وغيرها لما ولدت التنظيمات الكثيرة المبتدئة على الساحة السلفية، ولما تطور الأمر الى بروز تنظيم القاعدة في السعودية.

 

===============-

(1) فالمرحوم جهيمان ـ غفر الله له ـ ورغم ما فعلته الحكومة السعودية بمواطنيها الشيعة من اضطهاد طائفي سافر قلّ نظيره في الكون كلّه، فإنه يطالبها بتغيير مذهبهم بالقوة، أو قتلهم. ومع هذا فإن من دافع عن جهيمان ونشر مواقفه وقضيته هو وأتباعه، هم الشيعة في المملكة، حيث صدرت عن حركتهم السياسية ثلاثة كتب بالعربية عن واقعة الحرم مثل: (زلزال جهيمان في مكة، وانتفاضة الحرم) وكذلك كتاباً رابعاً باللغة الإنجليزية، حتى أن أحد الباحثين الغربيين وهو جوزيف كشيشيان استغرب من هذه المفارقة.

(2) شن الدكتور غازي القصيبي، وزير العمل الحالي، والسفير السابق في لندن والبحرين، حملة على الجيل السلفي الجديد وتشدده وغلوه، وذلك في كتابه (حتى لا تكون فتنة) فوصف الوجوه الجديدة بـ (الفقهاء السياسيين) الذين يريدون اسقاط الحكم عن طريق الثورة الإسلامية، وإشعال حرب التطرف الطائفي. وعلق على دعوات رموز من هذا التيار بقتل المعارضين (العلمانيين) و (الشيعة) كتلك الدعوة التي جاءت من الشيخ عائض القرني بالقول: (هذه أول مرة في تاريخ المملكة تتم فيها الدعوة الى حرب أهلية وبهذه الصورة العلنيّة الإستفزازية). وكان القرني قد شنّ هجوماً على المخالفين له في محاضرة حملت عنوان (سهام في عين العاصفة) قال فيها: (كيف إذا أُخذت رؤوسهم بسيف ولي الأمر الذي يحمي رسالة التوحيد فصلبهم بعد صلاة الجمعة وقطف رؤوسهم.. ومن أعظم ما ينتظرون سيف العدل المشهور الذي أخذ رؤوس قطاع الطرق والمدبرين للفتن والمروجين للجرائم وهم أعظم من يروج للجرائم ويدبر الفتن، فجدير بالسيف أن يأخذ رؤوسهم). واستفسر القصيبي: (من هم يا أخي هؤلاء؟ ثلث الشعب السعودي؟! نصف الشعب السعودي؟! من هم هؤلاء الذين تريد أن تقطف رؤوسهم، وهذا تعبير ما سمعناه إلا منك منذ خطبة الحجاج في مسجد الكوفة؟!).

(3) عبد العزيز الخضرـ الوطن ـ 21/1/2004. عدم التفريق هذا يؤمن به عدد كبير من الباحثين: انظر مثلاً المحامي والناشط الإصلاحي عبد الرحمن اللاحم: ـ الوطن 13/11/2003 الذي رأى ان العنف جاء عبر مقدمات مثل التكفير والتبديع والتفسيق وأنه مازال يمارس تحت الشمس وفي وضح النهار عبر المنابر وفي المدارس وعبر المنشورات دون تدخل من القيادات الدينية والسياسية. وانتقد السلطات الدينية الرسمية من أنها كانت صامتة ولا تثب إلا اذا كفرت الدولة، وقال ان الخطاب الرسمي لم يتخلص من لوثة العنف والتطرف، ومع الإختلاف بين السلفيين حول الموقف السياسي من الدولة فقد (جمعتهم لغة العنف لأنهم ببساطة نهلوا من المعين نفسه: ثقافة دينية ملغمة). واتهم المنضوين تحت مسمى التيار الوسطي (كالحوالي والعواجي) بأنهم ساهموا في ترسيخ ثقافة العنف وأنهم (مازالوا يدعون الى تكميم الأفواه ومصادرة حريات الناس بالأدوات نفسها وبالخطاب الإقصائي ذاته وكأنهم أصبحوا أوصياء على المجتمع الذي لا نعلم متى يبلغ سن الرشد). بل أنه اعتبر التيار الصحوي أو الوسطي ممثلاً سياسياً لجماعات العنف التي تطالب بالمزيد من التشدد.

أيضاً تحدث تركي الحمد عن (وهم الوسطية) بين السلفيين السعوديين الذين يطلقون على أنفسهم صفة الوسطية ويتهمون غيرهم بالتطرف والغلو؛ وقال ان الوسطية مفهوم غامض، وتساءل عن معيار الوسطية ومحدداته الزمانية والمكانية ورأى انها (الحرية والأمن والعدل)(انظر: د. تركي الحمد، وهم الوسطية، الشرق الأوسط 3/5/2004م).

(4) عبد العزيز الخضر، الوطن، 26/11/2003