الـدسـتـور..

والإطـار الـقـانـونـي

 

إعداد: عبد الله الراشد

 

القانون والسياسة: في النظرة الاولى، يبدو أن القانون والسياسة هما ضجيعان غريبان. إن مفهوم القانون ينقل صورة لتسوية التعارضات في المناخ الهادىء لقاعات المحاكم، فيما تحشد السياسة، على العكس من ذلك، صورة أشد حدّة حيث السلطة وليس القانون هي الاساس في حل النزاعات. ولكن في الواقع، فإن السياسة والقانون وثيقا الصلة. وفي الحقيقة، إن تطور السياسة الغربية كان محاولة لايقاع الحكام الشموليين في شراك الكابح أو الزاجر القانوني. وبحسب تعبير A.V.Dicey، الفقيه القانوني البريطاني في القرن التاسع عشر، إن الهدف كان استبدال (حكومة القوانين) بـ (حكومة الرجال). إن النظام القانوني، الذي يوفّر كلاً من الحماية للحقوق الفردية والوسيلة لتسوية الخلافات بين المواطنين والدولة، هو الانجاز الرئيسي للسياسة الليبرالية. وكما يضعها الفيلسوف الانجليزي جون لوك في اقرن السابع عشر (أينما ينتهي القانون يبدأ الطغيان). إن حكم القانون يوفّر أيضاً إطاراً لانشاء اقتصاد السوق القائم على العقد. من وجهة النظر الليبرالية، فإن القانون ليس مفصولاً الى حد كبير عن السياسة بوصفها إنجازاً له.

في القرن العشرين، تفارق القانون والسياسة كحقلين إكاديميين، ولكن ثمة حاجة الآن للتوفيق بينهما وجمعهما. إن ثمة سبباً لذلك، وهو تفجّر صناعة الدستور بعد عام 1945، أولاً بين الدول المستقلة جديداً في أفريقيا وآسيا وتالياً بين الدول ما بعد التسلطية في أوروبا وأميركا اللاتينية. بالاضافة الى ذلك، فإن عدة ديمقراطيات ليبرالية بما في ذلك بلجيكا، كندا، وهولندا، والبرتغال، واسبانيا والسويد، قد تبنّت دساتير جديدة منذ عام 1970. وسنحاول فيما يلي مناقشة الدساتير.

إن تنامي النزعة القضائية للحياة السياسية تعتبر سبباً آخر للتوحيد والجمع بين دراسة القانون والسياسة. في العالم الغربي، إن إرادة القضاة للدخول الى المضمار السياسي قد تزايدت، وأن الفعالية القضائية لم تعد ظاهرة اميركية بصورة رئيسية فحسب. إن تقنين السياسة الدولية هو السبب النهائي لبدء إعادة الصلة بين القانون والسياسة. فهناك المزيد من الاتصالات الدولية التي تجمع على مطلب المزيد من التنظيم القانوني. إن القضايا العالمية مثل الهجرة، والتجارة، والنقل، والبيئة يتم تعريفها ومناقشتها في إطار قانون سهل وصعب.

 

الحكم الدستوري

تعريف الحكم الدستوري: هو الحكومة التي تدار بواسطة القانون، إنها تضع حدوداً على نطاق عمل الحكومة، وترسي الحقوق الفردية وتخلق الفرص للاصلاح في حال تجاوزت الحكومة صلاحيتها. إن الحكم الدستوري هو ميزة تعريفية للتفكير الليبرالي الذي يسود في الغرب وبخاصة في الولايات المتحدة.

ومن أجل فهم الدور السياسي للدساتير، فإننا يجب ان نفحص فكرة الحكم الدستوري (أو النظام الدستوري أو الدستورية). وهذا يرجع الى حكم القانون. إن المشرّع البريطاني A.V. Dicey عرّف هذا المصطلح الهام إن لم يكن بصورة دقيقة على أنه (تفوق مطلق أو هيمنة القانون النظامي كما يتعارض مع نفوذ السلطة العشوائية.. وهذا يعني، من جهة أخرى، المساواة أمام القانون، أو خضوع كل الطبقات بصورة متساوية لقانون الأرض الاعتيادي) (أنظر: Dicey, 1959, first pub. 1885).

في أوروبا، فإن حكم القانون كان، بناء على ذلك، وسيلة للتغلب على النظام الاقطاعي، والتي لم تكن الحقوق تحت ظله ذات صفة عامة وشاملة وإنما اعتمدت على موقع الشخص في التراتبية الاجتماعية.

إن حكم القانون يؤهل، بدرجة حاسمة، أولئك المواطنين المتأثرين بعمل الحكومة لتحدي ذلك العمل في المحاكم المستقلة، بما يعني أيضاً توقّع أن تلتزم السلطة التنفيذية بالأحكام الصادرة عن المحكمة. ولذلك، فإن الحكم الدستوري هو كابح وزاجر للحكومة، بما فيها الحكومات الديمقراطية (وعليه فإن الانتقاد المتشدد هو أن الدساتير ليست شيئاً آخر غير حكم الميت على الحي). فقد نشأت ـ الدساتير ـ لتفرض كابحاً على الحكام الشموليين ولكن أيضاً لتوفّر غطاء مساوياً للاقليات المهدّدة في النظام الديمرقاطي من قبل الاغلبيات الجامحة. في هذا السياق، إن الحكم الدستوري يشكل حجر الزاوية للديمقراطية الليبرالية.

إن الولايات المتحدة هي الشاهد الرئيسي للنظام الدستوري، فقد بنيت البلاد على تدشينات وضعت من قبل الآباء المؤسسين في فيلادلفيا سنة 1787. فهناك تم وضع أول دستور مكتوب وواضح، والذي أصبح الانجيل السياسي لأمريكا. إن أفكاره المركزية ـ الحكومة المحدودة وانبثاث السلطة ـ انحفرت في الثقافة الاميركية، لتخلق ليس كثيراً من المبادىء التي يمكن التناظر بشأنها كإطار يستقر بداخله التنظير السياسي. وأكثر من ذلك، فإن المحكمة العليا قد أصبحت المؤسسة القضائية الأكثر نفوذاً على الارض حيث أنها أمّنت (وفي بعض الاحيان بعد تأسيسها) دور تسوية الخلافات الدستورية، إن النزعة الدستورية تغمر العملية اليومية للسياسة الاميركية.

في المقابل، فإن بريطانيا مثال الديمقراطية حيث الحكومة الدستورية أقل تأميناً، وينشأ ذلك، جزئياً، لأن الدستور ليس مصنّفاً أو مجموعاً في وثيقة محددة، وليس أيضا محصّناً في القانون الاساسي، ولكنه دستور غير مقيّد بتقاليد أو أعراف والتي هي بحسب التعبير المجازي الصادم لمارشال (1984) (كمنزلق ينسل منه حنكليس أو أنقليس). والأكثر أهمية، كما يشير الى ذلك بروسر (Prosser, 1996) إن تقاليد الملكية مازالت تمنع تطور الدستور البريطاني. وبالرغم من أن لدى الملكية الآن القليل من السلطة السياسية المباشرة، ففي القانون مازال الشعب يعامل الى حد ما كرعايا، وإن ذلك قد أخّر تطوّر الحقوق الجلية للمواطنين. وحتى وقت قريب، على سبيل المثال، كان من المستحيل بالنسبة للشعب أن يقاضي كثيراً من المؤسسات العامة حيث أن هذه الهيئات مثّلت النظام الملكي، ولأن الملكة هي من الناحية الفنية مصدر القانون، فإنها لن تكون شخصياً خاضعة لهذا القانون. إن معاملتهم كرعايا، فإن الشعب غالباً ما يتصرف على هذا الاساس، بما يؤدي الى الاخفاق في تأكيد تلك الحقوق المنبثة في القانون العام.

إن كل الدول تقريباً لديها دساتير، ولكن هناك البعض فقط من لديه حكم دستوري، والسبب في ذلك أن الحكم الدستوري هو مفهوم ثقافي أكثر من كونه مفهوماً قانونياً (أنظر: Franklin and Baun, 1995). إنه يرجع الى قبول حكم القانون من قبل الطبقة السياسية الحاكمة، وبدونه يكون الدستور نفسه في حكم العدم. إن الانظمة التسلطية من النادر ما تتخلص من الدستور ولكن دائماً ما يكون ذلك مجرد ورقة التين التي يراد منها أن تغطي السلطة العشوائية، وعليه، فإن الدستور بدون ثقافة داعمة او مساندة وخصوصاً بين النخبة، يظل بقيمة محدودة للغاية.

إن الانظمة الشيوعية قد أنتجت نقيضاً مفيداً للتقليد الغربي، حيث إنها رفضت صراحة الفكرة الغربية للحكم الدستوري من خلال التركيز على الحكومة المحدودة، والحقوق الفردية، والملكية الخاصة. ويسأل الشيوعيون، ما هو الذي طلبه التقليد الغربي غير التأكيد والتشديد على الأمر الواقع؟ في الدول الشيوعية، فإن الدساتير كانت ذات قيمة قليلة، فليس هناك شيء يحول دون اضطلاع الحزب بمهمة بناء النظام الاشتراكي، وأن مهمة الحزب كانت على درجة كبيرة من الاهمية كيما تكون خاضعة لحدود شكلية. وعليه، فإن الانظمة الشيوعية كانت خاضعة لقيادة الحزب أكثر من كونها مقيدة بالدستور، وهي نقطة جرى التشديد عليها في الدساتير نفسها. فعلى سبيل المثال، فإن الدستور الصيني يمنح حقوقاً محددة الى الكل ولكنه يضيف بأن تلك الحريات مشروطة بدعم المبادىء الاشتراكية، بما في ذلك دكتاتورية البروليتاريا. وفي تضاد رئيسي مع الفكر الغربي، فإن الشعب قد يخسر حقوقه الفردية لسنوات عديدة فيما إذا ما وجد متلبساً بجرم الاخفاق في دعم المبادىء الاساسية ـ الكرت الاصفر للرطانة السياسية. والى جانب التشديد على سيادة الحزب، فإن الدستور الشيوعي يشدد أيضاً على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية مثل حق العمل.

وعلى الضد من أماني الليبراليين الغربيين، فإن سقوط الشيوعية لم يؤد الى قيام حكم دستوري في أوروبا الشرقية. إن كثير من بلدان ما بعد الشيوعية، وخصوصاً الدولة المتناسلة من الاتحاد السوفييتي، قد انزلقت ببساطة من نظام لا دستوري الى آخر لا دستوري. ويرجع ( Acherson, 1995, p.14)  الى دول الحزب الواحد مابعد الشيوعية، حيث أن الاقتصاديات شبه الحرّة تغذي الفساد المتفاقم. وحتى إنتخاب حكومة اصلاحية عام 1997، فإن الإئتلاف الحكومي في رومانيا تشكّل من عناصر شعبوية، ووطنية، وجماعية أو بالاحرى العناصر غير الموجّهة التي تفتقر الى النية لبدء التحول الدستوري الديمقراطي على النمط الغربي (Pogany, 1996, p.584).

وحتى في مركزها الغربي، فإن فكرة الحكم الدستوري تواجه تحديات جديدة. وبالخصوص، فإن الانظمة الثقافية المتعددة تفرض صعوبات شديدة (Slaughter, 1994). إن كثيراً من الجماعات الاثنية والثقافية تطالب باعتراف رسمي وحماية لأوضاعها، وأمثلة ذلك الشعوب الاصلية، والاقليات الدينية، والنساء. وعلى أية حال، فإن فكرة حقوق الجماعة تتقعّد بصعوبة  الى جانب التقليد الغربي للحقوق المتساوية لكافة الافراد (Jones, 1994). إن هذه المشكلة بالخصوص تعتبر حادة حين تريد الجماعة قياساً للحكومة الذاتية، بما يشمل الحق في السيطرة على أعضائها بطريقة تسير على الضد من الروح الليبرالية للدستور الوطني. على سبيل المثال، قد تصرّ بعض الجماعات على التعليم الديني أو الزيجات المعدّة لأبنائهم، أو على التعامل المختلف (غير المتكافىء) للرجال والنساء. إن مثل هذه المطالب لا تنسجم بسهولة مع الاطار الليبرالي. المثال الآخر، العديد من الشعوب الاصلية في أمريكا لا تقبل الملكية الخاصة للأرض (من السخف، كما يقولون، بيع الهواء)، يبقى، أن فكرة الملكية الخاصة هي جزء من النظام الدستوري الغربي. إن الاعتراف الدستوري بجماعة، المتعارض مع الحقوق الفردية،  مستهجن في التقليد الليبرالي الغربي.

 

الدساتير

يرتّب الدستور الهيكلية الرسمية للحكومة، ويحدد سلطات ومؤسسات الحكومة المركزية، وهكذا التوازن بين الحكومة المركزية والمستويات الاخرى من الحكومة. إضافة الى ذلك، فإن الدساتير تحدد حقوق المواطنين وفي ضوء ذلك فهي تضع حدوداً على الحكومة كما تحدد الواجبات تجاهها.

يمكن النظر الى الدساتير من طريقين او زاويتين مختلفتين: الاولى تعكس الدور التاريخي في الغرب لتحديد سلطة الدولة على مواطنيها. من وجهة نظر الليبرالي النمساوي Friedrich Hayek (1960) فإن الدستور ليس سوى جهازاً لتحديد سلطة الحكومة. في نفس السياق، يعرّف Carl Friedrich (1937) الدستور على أنه (نظام من القيود المؤثرة والمنظّمة على عمل الحكومة). وبوحي من هذه المقاربة وإنعكاس لها، فإن لائحة الحقوق (Bill of Rights) تشكل الآن جزءاً من كافة الدساتير المكتوبة تقريباً. إن أول لائحة حقوق تتألف من 10 تعديلات ألحقت بالدستور الاميركي في سنة 1791. وتغطي اللائحة هذه الحقوق مثل حرية الدين، والكلام، والصحافة، والاجتماع (والأكثر شؤماً) حق الشعب في الاحتفاظ وحمل السلاح. وتنزع الدساتير الحديثة كيما تكون أكثر طموحاً في إفاداتهم حول الحقوق، وفرض الواجبات على الحكام مثل تلبية كافة حقوق المواطنين في العمل والرعاية الصحية. إن الحالة المتطرفة هي الدستور البرازيلي لعام 1988 (Howard, 1993). إن هذه الوثيقة الطويلة قدّمت وعوداً فارهة عديدة بحيث تطلّبت جلسات مراجعة خاصة للكونغرس في عام 1993 ومرة ثانية في 1997 لتخفيض زخم الالتزامات الواردة فيها. ولكن رد الفعل البرازيلي للدستور الوارف والمزخرف كان غير عادي. وفي الغالب، فإن التعهدات الكبيرة التي قطعت لجهة رعرعة صناعة الدستور كان يتم تجاهلها حين يأتي الحديث عن من يجب عليه أن يدفع.

الزاوية الثانية في النظر الى الدساتير تتجاهل دور الدساتير في كونها ترتّب هيكلية الحكومة. يصفDuchacek (1973) الدساتير على أنها خرائط السلطة، فالدساتير ـ بحسب وجهة نظره ـ توصّف التوزيع الرسمي للسلطة داخل الدولة. إن الدساتير تحدد ممرات أو مسارات السلطة، وتكشف عن إجراءات صناعة القوانين والوصول الى قرارات. ولذلك، فإن الدستور هو شكل من الهندسة السياسية التي يجب أن تخضع للمحاكمة شأنها في ذلك شأن أي بنية أخرى من حيث كونها تقف امام اختبار الزمن. وعليه، فإن الدستور الاميركي، الذي مازال يسير من قوة الى قوة بعد مرور أكثر من مائتي عام، يجب أن ينظر اليه على أنه إنتصار. فقد حدد الانقسام الكلاسيكي بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والتي تعمل جميعها في إطار فيدرالي. ويناقش Sartori (1994, p.198) بأن الخاصية التعريفية للدستور هو توفير إطار للحكومة. وبحسب قوله (إن الدستور بدون إعلان الحقوق لا يزال دستوراً، فيما الدستور الذي يكون جوهره ومركزه ليس توفير إطار الحكومة لا يعد دستوراً).

ويشتمل الدستور النموذجي على أجزاء عدة (Duchacek, 1991). إن مقدمة الدستور تبحث عن دعم شعبي للوثيقة مع اعلان حيوي للمبدأ، الذي هو غالباً مكيّف من أمريكا: (نحن شعب الولايات المتحدة، وفي سبيل تشكيل إتحاد كامل تماماً، نقر بالعدل، ونضمن السلام الداخلي، ونوفّر الدفاع المشترك، ونطوّر الرفاه العام، ونضمن مباركة الحرية من أجلنا ومن أجل إزدهارنا، نقر ونثبّت هذا الدستور للولايات المتحدة الاميركية).

ويحدد القسم التنظيمي سلطات مختلف مؤسسات الحكومة. إن لائحة الحقوق تغطي الحقوق الفردية وربما الجماعية أيضاً، وتشمل الوصول الى الاصلاح القانوني، وعليه تضع حدوداً على الحكومة، وأخيراً، فإن إجراءات التعديل تعرّف القوانين التي بموجبها يتم مراجعة الدستور.

إن ثمة تمييزاً تقليدياً بين الدساتير المكتوبة وغير المكتوبة، ولكن يبقى أن ليس هناك دستور غير مكتوب بالكامل، وحتى الدساتير البريطانية والنيوزلندية غير المكتوبة تشتمل على تشريعات وقانون عام. إن التقابل بين الانظمة المصنّفة وغير المصنّفة، هي التحديد بصورة تفصيلية في وثيقة مستقلة موحدة أو هيئة قوانين. إن دستور ألمانيا، على سبيل المثال، تم وضعه في القانون الاساسي المصادق عليه عام 1949. إن دساتير كل من بريطانيا ونيوزلندا واسرائيل هي غير إعتيادية كونها ليست مرسمنة بطريقة ما.

إن إجراءات التعديل على درجة كبيرة من الاهمية. إن أغلب الدساتير جامدة، وهذا ما يجعلها مقبولة لمصالح مختلفة داخل البناء. وبشكل خاص، فإن الاطار الجامد يحدد مقدار التلف الذي يحصل في السلطة بفعل المعارضين السياسيين، حيث يجب عليهم الالتزام بالقيم المؤطّرة في التسوية الدستورية. إن الدستور الصارم يقدّم أيضاً فائدة عامة، مثمّنة من قبل الليبراليين، وهي عبارة عن قابلية التنبوء بالخاضعين له. في المقابل، إن الفائدة الرئيسية للدستور المرن هي تكيّفه مع الظروف المتغيرة. في نيوزلندا على سبيل المثال، سمحت هذه المرونة في الدستور الى إعادة صياغة النظام الانتخابي والادارة الحكومية في البلاد في الثمانينيات والتسعينيات. وسواء كان للأفضل او للأسوأ في العديد من البلدان فإن تغييرات راديكالية كهذه تطلبت تعديلاً دستورياً.

من الناحية العملية، رغم ذلك، فإن العديد من الدساتير الصارمة قابلة للتكيّف أكثر مما تبدو عليه. خذ الولايات المتحدة على سبيل المثال، ففي النظرة الاولى فإن الدستور الاميركي يبدو بدرجة كبيرة على أنه غير مرن ـ حيث يتطلب التعديل الدستوري أغلبية بثلثي الكونجرس والمصادقة بثلاثة أرباع الولايات. يبقى، أن الدستور لا يزال خاضعاً ـ وليس عن طريق التعديل الرسمي ـ الى التفسير القضائي المتغيّر. إن المحكمة العليا أصبحت ماهرة في تكييف الوثيقة القديمة مع الازمنة الجديدة. وعليه، فإن تعارضاً بين الدساتير المرنة والجامدة يكمن في أن السلطة القضائية في الدساتير الجامدة تدير عملية التطور بينما في الاولى يتسلم السياسيون زمام الأمر.

إن التعديل المستمر هو إشارة على أن النظام السياسي (والدستور) في حالة إنهاك. إن تعديلات كثيرة أيضاً هي انهزام ذاتي، حيث أنها تخفّض الاحساس بأن الدستور يقدّم وصفة مستقرة للحكم. لقد شهدت بلجيكا وكندا تغييرات دستورية في رد فعل على خلافات بين جماعات اللغة. إن التعديل الدستوري قد يعكس مشاكل ولكن يبدو أنه بمفرده غير قادر على حلها.

 

صناعة الدساتير

بحسب ما كتب المنظّر السياسي الانجليزي جون ستيوارت ميل (الطبعة الاولى 1861) فإن الدساتير (هي من عمل الرجال.. إن الرجال لا يستيقظون في صباح صيف ما ليجدوا هذه الدساتير وقد انبثقت). وعليه، كيف تخرج الدساتير الى الوجود؟ في الغالب، إنهم يشكلون جزءا من بداية نقيّة عقب فترة اضطراب. وتشمل هذه الظروف تغيير النظام (على سبيل المثال إنهيار الشيوعية)، وإعادة الاعمار بعد الهزيمة في الحرب (على سبيل المثال اليابان بعد 1945)، أو الفرض الخارجي (على سبيل المثال نفوذ الاتحاد السوفييتي في أوروبا الشرقية بعد 1945)، والاستقلال (على سبيل المثال معظم أفريقيا في الخمسينيات والستينيات). لقد كانت الثمانينيات والتسعينيات فترات مشغولة من قبل صانعي الدساتير: فقد كان هناك 17 دستوراً جديداً قد تم وضعها في أوروبا الشرقية بين 1991 و1995 وأكثر من 30 دستوراً في أفريقيا خلال التسعينيات (أنظر: Vereshchetin, 1996).

إن الدساتير هي، لذلك، وثائق مصممة لخلق وتحديد نظام جديد، ولكن هذه الدساتير نادراً ما تولد في إحتفال. إن أغلبها هي نتاج أزمة، فمن يفضّل دستوراً جديداً إذا كان كل شيء يسير على ما يرام؟ وعادة، فإن الدساتير هي عبارة عن توافقات تمت بين لاعبين سياسيين ربما كانوا للتو في نزاع ومازالوا لا يثقون في بعضهم.إنها مناوشات وهدنة محكمة في كلمات ناعمة ودقيقة (Weaver and Rockman, 1993). من الامثلة على التسويات المناقشة تشكّل السود والبيض الذين عملوا على دستور 1996 في جنوب افريقيا، في محاولة لتلطيف الديمقراطية لتنبعث من التاريخ الخصامي لنظام الرق في الماضي القريب.

وحتى الدستور الاميركي لعام 1787 كان يوصف بانه ( شيء من المخاصمات والتوافقات). وفي صيغته الكاملة، فإنه منظومة من الاقتراحات المتنافرة التي رقعت ببعضها، بل وأكثر من ذلك حسبما اعتقد كثير من مؤطريها (أنظر: Finer, 1997, p.1495). حملت في أزمة ووضعت عن طريق توافق، فإن الخطر بأن الدستور لن يمنح الحكام الجدد الصلاحية المطلوبة لحكم فعّال. إن الدستور الاميركي، على سبيل المثال، يقسّم السلطة الى نقطة حيث أن نقادها يدّعون بأن الحكومة وبخاصة الرئيس غير قادر من الناحية العملية على الحكم (Cutler, 1980). إن بعض الدساتير لا تعمل أكثر من تمرير حزمة المشاكل السياسية غير المحلولة الى الجيل اللاحق.

إن السؤال المركزي حول الدساتير هو: متى تنجح في خلق إطار سياسي مستقر؟. من الناحية الجوهرية، كما يبدو، أن ذلك ممكن حين لا تحاول هذه الدساتير كثيراً فعل ذلك. إن روح وهكذا رسالة الدستور هي من المحتمل للغاية أن تنتعش حين يعكس الدستور المصالح والقيم المهيمنة. إن الدستور الاميركي ثبّت حكومة مركزية محدودة، مخلّقة، كما يضع ذلك الرئيس جون آدمز، من (الضرورة الطاحنة للامة الحائرة). في حال خلقت مركزاً أشد قوة، كما أراد بعض المؤسسين ذلك، فإن الدستور قد يغرق تحت تأثير المعارضة من الولايات والمستوطنين المتحررين ذهنياً.

على العكس من ذلك، فإن الدساتير الليبرالية ـ الديمقراطية والتي أوصى المستعمرون الراحلون في الخمسينيات بالدول الجديدة في أفريقيا وآسيا قد أخفقت لأنها لم تأخذ في حسبانها التفاوتات الاجتماعية والثقافات غير الديمقراطية. وكان من السذاجة الافتراض بأن الدساتير الغربية ستصدر في ظروف أو شروط مختلفة في العالم النامي، فكثير من هذه الدول خضعت تحت حكام تسلطيين. إن البدايات النقيّة أصبحت بدايات خاطئة. على أية حال، إن الانتشار الواسع لعملية إعادة الدمقرطة لتلك الدول عبر الحرب الباردة كشف عن عودة جزئية بصورة حازمة للحكومة الدستورية، وبالخصوص في أميركا اللاتينية.

إن هدف صنع الدستور هو لمنح الحكام الجدد الادوات للحكم بصورة فاعلة. يبقى، أننا هنا بحاجة للوصول بدون عزل أي جماعة ضالعة في تصميم ووضع الدستور، بما يشمل أولئك الذين يخشون أنهم مقدّر عليهم المعارضة. إن هذا يعتبر موازنة دقيقة، فالمقارنة بين الدستور الايطالي لسنة 1948 مع التفاهم الفرنسي لعام 1958 توضح النقطة. فبينما بقيا كل من الدستورين على قيد الحياة، فإن الدستور الايطالي أثبت بأنه أقل نجاحاً. إن العلامة الفارقة في الدستور الايطالي هو (garantismo) أي  بمعنى أن كافة القوى السياسية مكفولة بحصة في النظام السياسي. وعليه، فإن الوثيقة تؤسس لجمعية بمجلسين تشريعيين قويين وحكم ذاتي ممتد. إن هذه الضوابط على السلطة يقصد بها منع دكتاتورية ما قبل الحرب من التناوب. من الناحية العملية، فإن (garantismo) ساهم في الحكومة غير الفاعلة وفي النهاية في انهيار أول جمهورية بين 1992 و1994.

في المقابل، فإن دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة قصد تركيز السلطة أكثر من ضبطها. وكان ذلك رد فعل على عدم استقرار السلطة التنفيذية التي تخللت الجمهورية الرابعة. في فرنسا، فإن أهداف الجمعية المكبوحة او المقيدة والسلطة التنفيذية القوية قد أنجزت بوضوح، بالرغم من أن الحل الخيالي للسلطة الهجينة والذي يخلط الحكومة الرئاسية والبرلمانية لا يزال يسبب مصاعب. ولكن الدستور الفرنسي استمر على قيد الحياة لأنه، وعلى العكس من إيطاليا، لم يشجع حكومة فاعلة.

 

النظر القضائي والمحاكم الدستورية

النظر القضائي هو حسب تعريف سميث (1989) هي (سلطة المحاكم العادية أو الخاصة التي تعطي تفسيراً رسمياً وموثقاً للدستور والملزم لكافة الاطراف المعنية). وتغطي هذه السلطة ثلاثة أجزاء رئيسية: الحكم على قوانين محددة بأنها دستورية، حلحلة النزاع بين الدولة والمواطنين حول الحريات الاساسية، وحلحلة النزاعات بين المؤسسات المختلفة أو مستويات الحكومة.

ليست الدساتير فرضاً ذاتياً بقدر ما هي صنع الذات. ولابد  أن توجد مؤسسة ما لتطبيق الدستور، لمواجهة من يقوم بتكسير القوانين والممارسات التي تشكّل هجوماً على مبادىء الدستور. إن هذا يقيّم السلطة التي تقع في حوزة الجهاز القضائي. سواء كان للأسوأ أو الأحسن، فإن النظر القضائي يعطي القضاة غير المنتخبين موقعاً فريداً في وفوق السياسة ـ فبإمكان السلطة القضائية تجاوز القرارات والقوانين التي تصدرها الحكومات الديمقراطية. في الواقع، إن المحكمة العليا في الهند قادرة أيضاً على تجاوز التعديلات على الدستور نفسه. وأكثر من ذلك، فإن السلطة القضائية يتم تحديدها جزئياً بواسطة الدستور نفسه، حيث أن التفسير يتفاوت بدرجة لا مناص منها بحسب المزاج السائد في كل زمن. وبحسب رئيس المحكمة العليا الاميركي Hughes الذي أشار مرة (نحن نعيش تحت دستور. ولكن الدستور هو ما يقوله القضاة). وفي الغالب، فإن القضاة لا يتفقون فيما بينهم على تفسير الدستور، وإن ربع الاحتجاجات القضائية فحسب والتي يتم التوصل اليها من قبل تسعة قضاة في المحكمة العليا الاميركية تشكل إجماعاً (أنظر: Hodder William, 1996, p.20).

إن المحاكم الدستورية، التي تتمتع بموقع متميز، تعبّر عن مفهوم ليبرالي للسياسة، وتفرض تقييداً على سلطة ليس الحكام فحسب ولكن الانتخابات أيضاً التي تولّدها. إن النظر القضائي يؤدي الى استقرار وتحديد الديمقراطية.

وتعرّف المحاكم الدستورية على أنها تلك المحاكم الخاصة المنفصلة عن العملية القضائية العادية، والتي بإمكانها التعليق وإبداء الرأي في القضايا الدستورية دونما الحاجة الى مناسبة متصلة بقضية محددة. وهذه المحاكم هي أقرب الى السياسة منها الى القضاء في الشكل بالقياس الى محاكم الاستئناف، مثل المحكمة العليا الاميركية، والتي ترأس التراتبية القضائية النموذجية او السائدة.

في الواقع، إن من المستبعد جداً أن تكون السلطة القضائية مطلقة التأهيل، وسبب ذلك أن الدساتير نفسها تضع قيوداً على القضاة من جهة كونهم قادرين على القول ما يشأون عن تلك الدساتير. فرؤوساء المحاكم العليا هم فقط (سادة غير أحرار للمستند الذي يتحدد قيمته في دفاعهم عنه) (Rousseau, 1994, p.261). الأكثر أهمية، أن تأثير الاحتجاجات القضائية للمحاكم تعتمد على مقامها بين أولئك الذين يضطلون بتطبيق قراراتها. وبعد ذلك كله، فإن السلطة الوحيدة لدى المحكمة هي في أقوالها، أي الصرّة والسيف الموجودان في مكان آخر. وعليه، فإن المحاكم يجب أن تأخذ في نظر الاعتبار المناخ الواسع للرأي داخل الفضاء الذي يعملون بداخله. وهكذا، وكما استنتج أوبرين O’Brien (1993, p.16) بشأن المحكمة العليا الاميركية:

إن نفوذ المحكمة على الحياة الاميركية كانت في لحظة ما غير ديمقراطية وأيضاً ومناهضة للأغلبية. ولكن هذه السلطة، والتي تنبع من اعطاء معنى للدستور، تقع بصدق، بحب الأقوال البيضاء لرئيس المحكمة العليا (على موافقة فقط الشعب الحر).

إن النظر القضائي قد يحدد حكم الاغلبية ولكن يتم فعل ذلك بواسة تطبيق الديمقراطية الليبرالية. وكما لاحظ سميث (1989) فإن وظيفة النظر القضائي قد تخوّل به المحاكم العادية او الخاصة. إن أستراليا وكندا والهند والولايات المتحدة هي أمثلة على المقاربة السابقة، فيما تزاول أعلى محكمة دور محكمة الاستئناف لمجمل النظام القضائي. في الولايات المتحدة، فإن الدستور يضع السلطة القضائية في محكمة كبرى واحدة، وفي محاكم أدنى كما يقضي بذلك الكونجرس من وقت لآخر. إن القضايا الدستورية يمكن أن تثار وتطرح في أي جزء من النظام القضائي العادي، فيما يتم إختيار المحكمة الكبرى للحكم على تلك القضايا التي اختارتها والتي لها أهمية واسعة.

إن القارة الأوروبية (الشرقية والغربية) تفضل محاكم دستورية خاصة، منفصلة عن النظام القضائي العادي. وهذه المحاكم هي حديثة، ولكن تبدو إنها إختراع ناجح. في أوروبا الغربية، تم تبني هذه المحاكم بعد عام 1945، كما، على سبيل المثال، في ألمانيا الغربية،  والنمسا، واليونان، وأسبانيا، وفرنسا. والى حد ما، فإن هذه المحاكم قد أصبحت (القاعة الثالثة) للسياسة. ويفيد (Shapiro and Stone, 1994, p.405) بأنه (في حال سيطرة السلطة التنفيذية على العملية التشريعية، فإن تأثير المحاكم الدستورية قد يواري في بعض الاحيان البرلمانات).

ومع إنهيار الشيوعية، فإن المحاكم الدستورية قد انتشرت الآن الى معظم الانظمة مابعد الشيوعية، على سبيل المثال، روسيا، وهنغاريا وبولندا. إنهم يمثلون قصة ناجحة في التاريخ المختلط للدساتير مابعد الشيوعية. إن المحكمة الهنغارية، على سبيل المثال، قدّمت إحتجاجات هامة حول موضوعات مثل عقوبة الاعدام، والاجهاض، والملكية الخاصة.

وفي ألمانيا، تمارس المحكمة الكبرى الفيدرالية الفاعلة نفوذاً واضحاً، وحيث أن السلطة السياسية لا تزال تحت غمامة بعد 1945، فإن قرارات المحكمة تجاوزت على موضوعات أخرى مثل الاجهاض، والاصلاح الجامعي وتمويل الاحزاب السياسية. وفي الفترة مابين 1951 و1990، فإن المحكمة قضت بأن 198 قانوناً فيدرالياً (أي حوالي 5 بالمئة من الاجمالي) ناقضت القانون الاساسي (Keating, 1993, p.276). في صياغة مذكرات جديدة، فإن صانعي السياسة في المانيا يتوقعون رد الفعل المحتمل للمحكمة، ويجادل كومرز(1994)  Kommers بأن تأثير المحكمة الالمانية هي متساوية بالكامل مع نفوذ المحكمة العليا الاميركية. فالولايات المتحدة والمانيا هما ثقافتان قانونيتان ولكن لدى المحكمة الفيدرالية الاميركية ميزة العمل داخل مجتمع يقبل بدرجة أكبر بالتنظيم القانوني.

في فرنسا، أصبحت المحكمة الدستورية (Conseil Constitutionel) قوة هامة أيضاً، فقد كان الهدف منها في الاصل هو مساعدة السلطة التنفيذية في السيطرة على السلطة التشريعية، وقد تسلّمت الآن سلطة تقييد الجهاز التنفيذي. لقد شدّدت على حق ابطال صلاحية التشريع غير الدستوري، وقد فعلت ذلك في حوالي نصف المذكرات القانونية السبعين التي تم تمرير المداولات القضائية بشأنها بين 1981 و1986 (Kesselman, Krieger and Allen, 1987, p.184).

ولكنها المحكمة الكبرى الاميركية التي تقدّم مثالاً أصلياً على النظر القضائي. ومن السخرية، فإن الدستور نفسه لا يحدد دور المحكمة في الفصل في الخلافات الدستورية. وبخلاف ذلك، فإن هذه الوظيفة قد تم اكتسابها تدريجياً بواسطة رؤوساء المحاكم العليا انفسهم، والتي يؤكد Marbury v. Madison (1803) بأنها كانت حاسمة. وبرغم أن نشاطاتها اخذت شكلاً قانونياً، فإن وظيفة المحكمة العليا كانت سياسية بصورة واسعة، وبالمعنى الحقيقي إنها تتربع على النظام الدستوري. فهي مسؤولة عن حماية الحقوق الدستورية للأفراد، كما أنها تنظر في دستور تشريعات الكونجرس وعمل السلطة التنفيذية. إن أحكامها القضائية قد تكون أبعد من ذلك، فعلى سبيل المثال فإن الحكم الفردي في 1982 (Immigration and Naturalization Service v. Chadha)، أبطل أقساماً لا تقل عن 49 تشريعاً. إن المحكمة قد فرضت أيضاً ضوابط هامة على الرئاسة، وفي سنة 1974، على سبيل المثال، حكمت المحكمة بأن على الرئيس نيكسون تسليم تسجيلات شريط المناقشات السرية حول قضية واترجيت، وقد ختم هذا القرار مصير الرئيس بصورة مؤثرة.

وكما هو الحال بالنسبة لمعظم الهياكل القضائية، فإن المحكمة العليا تفضّل مبدأ الوقوف بجانب القرارات، (أي الالتزام بالسوابق). وفي بعض الاحيان، رغم ذلك، فإن المحكمة تنقلب بوقاحة على سوابقها القانونية. إن التنافر او التناقض قد أثبت بأنه مصدر قوة، تمكّن المحكمة من تكييف الدستور مع متغيرات المزاج الوطني. على سبيل المثال، فإنه بعد صراع الساقة ضد الصفقة الجديدة، فإن المحكمة تنازلت عن حق الحكومة الوطنية في تنظيم الاقتصاد.

وفي بعض الاوقات،  غيّرت المحكمة وبصورة متعمدة رأيها وسعت لقيادة الامة. إن أهم هذه المبادرات، كانت تحت قيادة رئيس المحكمة العليا Warren في الخمسينيات والستينيات، المتعلقة بالحقوق المدنية للسود. وفي قرارها الرئيسي والاجماعي (في Brown v. Topeka 1954)، فإن المحكمة حظرت التمييز العرقي في المدارس، وقد عكست المحكمة بصورة دراماتيكية سياستها السابقة بأن تكون تسهيلات (منفصلة ولكن متساوية) للسود تندرج في الدستور.

وبالرغم من الالتزام بالسوابق، فإن المحكمة قد بدت في بعض الاوقات متعاطفة مع نقد Viscount Snowden للسوابق:

(كل التقدم الانساني قد تم عن طريق تجاهل السوابق، واذا ما استمر الانسان في كونه عبداً للسوابق، فيجب علينا العيش في الكهوف والعيش على المحار والحبوب البرية).

إن المحكمة الكبرى في الثمانينات والتسعينيات هي أكثر محافظة ولكن لاتزال قادرة على تأكيد ذاتها.

 

الفعالية القضائية

وترد الفعالية القضائية الى إرادة القضاء للمغامرة خارج القرارات القانونية من أجل التأثير على السياسة العامة. إنها على الضد من القيد القضائي. وهذه الفلسفة المحافظة تقضي بأن القضاة يجب عليهم ببساطة تطبيق القانون (بما يشمل الدستور)، بصرف النظر عن دلالات السياسة وقيم القضاة أنفسهم. إن المصطلحين تطورا بالارتباط مع المحكمة الكبرى الاميركية ولكن لديهما تطبيقاً واسعاً في حقبة السياسة القضائية.

مع التحرك العالمي الواسع نحو حكومة أكثر ديمقراطية ودستورية، فإن القضاة يكسبون نطاقاً سياسياً أكبر. في باكستان، فإن البلاد تحكم من قبل العسكر لأكثر من نصف تاريخها تقريباً، وأن المحكمة الكبرى اتهمت رئيس الوزراء بالعصيان في 1997، معجّلاً بأزمة سياسية. ولكن التوكيد القضائي يرى غالباً في الديمقراطيات الراسخة. على سبيل المثال، فإن المحكمة العليا الاسترالية تحت السير أنتوني ماسون Sir Anthony Mason (رئيس المحكمة العليا في الفترة ما بين 1987 ـ 1995) كشفت بوقاحة عن (الحقوق الضمنية) في الدستور والتي ظلت غير مكتشفة عن طريق  السلف المترددين الجبناء. لقد أصدرت المحكمة الكبرى الهولندية قانون حالة هامة في قضايا بدا أن البرلمان غير قادر على التشريع بشأنها، مثل الاجهاض، والاضربات، القتل الرحيم او القتل بدافع الشفقة للمرضى الذين لا يرجى شفاؤهم (euthanasia).

لقد وضعت المحكمة الكبرى في اسرائيل في الاعتبار المناشدات من قبل الفلسطينيين بأنه في بعض الحالات فإن الجيش الاسرائيلي قد تجاوز صلاحيته في المناطق المحتلة. وفي العالم الغربي، فإن التدخل القضائي في السياسة العامة قد تنامت، مسجلاً تحوّلاً  من الحكومة الى إطار الحكم بصورة عامة (Tate and Vallinder, 1995).

مالذي يفسّر خضوع السياسة للتشريع القضائي؟ إن العامل المركزي يبدو كونه النطاق المتناقص للمؤسسات السياسية والايديولوجيات الاخرى، بما يدع فضاءً يشاء النظام القضائي الدخول اليه والزعم بأنه منه. وعليه، فإنها الطبيعة المتغيرة للسياسة، وليست التطورات الحاصلة داخل النظام القضائي نفسه، هي المفتاح الرئيسي. على سبيل المثال، فإن ثقة الشعب الاسرائيلي في الاحزاب السياسية قد ارتكست مع ان الثقة في النظام القضائي تبقى عالية (Edelman, 1995, p.408). إن فساد أيديولوجية الجناح اليساري، قد سمحت أيضاً لنطاق قضائي أكبر. إن الاشتراكيين كانوا دائماً مرتابين في القضاة، معتقدين بأنهم مدافعون أقويا عن الوضع القائم (status quo)، وأنهم يفتقرون للمشروعية الديمقراطية. وعليه، في السويد، على سبيل المثال، فإن ارتكاس قوة الديمقراطية الاجتماعية قد أعطى مساحة اكبر الى القضاء المقيّد تقليدياً (أنظر: Holmstrom, 1995). في بريطانيا، إن تحييد الامتياز الملكي، والذي سمح للدولة للزعم بأنها فوق القانون، وأنها أعطت كذلك فرصاً أكثر للقضاة. وفي العالم الديمقراطي، فإن جماعات المصالح، والاحزاب والمواطنين الواعين حقوقياً قد أصبحوا أكثر نزوعاً الى مواصلة صراعهم في الحقل القضائي. وأخيراً، فإن المعاهدات الدولية أعطت القضاة رافعة اضافية بإمكانهم استعمالها لكسر القيد القضائي. إن وثائق مثل الاعلان العالمي لحقوق الانسان لهيئة الامم المتحدة (1948)، والمعاهدة الاوروبية لحقوق الانسان (1950)، قد أعطت القضاة تأسيساًً شبه قضائي والذي يبنون عليه ما تم النظر اليه في السابق على أنها تصريحات سياسية الى حد بعيد.

بطبيعة الحال، فإن الفعالية القضائية قد سارت بصورة أبعد في بعض الديمقراطيات اكثر من غيرها. وفي المراتب العالية المقارنة للفعالية القضائية، فإن الولايات المتحدة تأتي دائماً في القمة، ثم تليها كندا واستراليا والمانيا وايطاليا واسرائيل واليابان وفرنسا والمملكة المتحدة ثم السويد. وتبدي الولايات المتحدة كل المميزات التي تدعم الفعالية القضائية. وتشمل هذه: الدستور المكتوب، الفيدرالية، الاستقلال القضائي، لا محاكم ادارية منفصلة، الوصول السهل الى المحاكم، تقليد قانوني عام، تقدير عالي للقضاة وحكومة محددة (Holland, 1991, p.7). إن الولايات المتحدة هي عقد وجيش من المحامين سيظل دائماً منشغلاً بلا طائل بالمصطلحات.

إن قلة من هذه الشروط متوفرة في بريطانيا، البلد الوحيد من بين الدول الديمقراطية القليلة التي تعمل بدون نظر قضائي. فهناك، تتماسك السيادة البرلمانية، وأن على القضاة العثور على وسيلة أخرى لاخضاع السياسيين. على أية حال، فحتى في بريطانيا فإن الفعالية القضائية تزداد، بما يعكس الى حد كبير التأثير الاوروبي، وأن القضاة البريطانيين أثبتوا بأنهم على استعداد للاشتراك في المحكمة الاوروبية حيث أنها سعت الى تأسيس نظام قضائي يصلح للعمل في كافة الدول الاعضاء. بالاضافة الى ذلك، فإن النظام القضائي الوطني قد نما بثقة حيث أنه شهد خسارة الحكومة لقضايا في المحكمة الاوروبية (Woodhurst, 1996 p.439). إن ظهور الجيل الشاب من القضاة، وبعض النزاعات العامة بين السلطة القضائية والوزراء المحافظين حول سياسة الحكم القضائي، قد شجّع أيضاً القضاة كي يصبحوا أقل تبعية أو ثانوية.

في الديمقراطيات الاخرى والتي لديها تقليد القيد القضائي قد بدأت أيضاً بالتحرك في اتجاه فاعل. خذ إليك كندا، ونيوزلندا، ففي كندا تم الحاق ميثاق الحقوق والحريات بالدستور في عام 1982، الامر الذي منح القضاة دوراً أكثر بروزاً في الدفاع عن الحقوق الفردية. وفي السنوات العشر التي تلت اعلان الميثاق، فإن المحكمة الكبرى ألغت 41 تشريعاً، مبدية مصلحة خاصة في حماية حقوق المتهمين في ارتكاب جرائم (Morton, 1995, p.58).

لقد وضعت نيوزلندا لائحة الحقوق في عام 1990، بما يكفل حماية (حياة وأمن الفرد)، وأيضاً تؤسس لحقوق ديمقراطية تقليدية ومدنية (على سبيل المثال، حق التصويت وحرية الاعتقاد والاجتماع والحركة). على أية حال، فإن القضاة في نيوزلندا غير قادرين على كبح التشريع الذي ينتهك لائحة الحقوق. ومن أجل حماية السيادة المبجّلة للبرلمان، فإن عضو البرلمان يتلقى بصورة مجرّدة نصيحة من المدعي العام حول ما اذا كانت مقترحات تشريعية متوافقة مع الحقوق الاساسية (Mulgan, 1997, p.178). تتبنى بريطانيا دار منتصف الطريق المماثلة لادخال المعاهدة الاوروبية لحقوق الانسان في القانون البريطاني. إن مقاربة نيوزلندا تكشف بأن الفعالية القضائية يمكن ان يتم استيعابها حتى في البلدان ذات التقاليد الفاعلة للسيادة البرلمانية.

 

الاستقلال القضائي والتجنيد

تقبل الديمقراطيات الليبرالية الاستقلال القضائي بوصفها عنصراً جوهرياً لحكم القانون. وفي بريطانيا كما في النظام القضائي الاميركي، فإن القضاة يبقون في مناصبهم مدى الحياة طالما حافظوا على الالتزام الاخلاقي. وفي القارة الاوروربية، فإن السلطة القضائية تخضع بصورة كبيرة لسيطرة الدولة أكثر من بريطانيا والولايات المتحدة، ولكن يبقى القضاة في مأمن في أعمالهم. وبعد الحرب، فإن القضاة التي تم تعيينهم خلال الحقبة الفاشستية في ايطاليا والمانيا ثبت من الصعب بصورة حرجة ازالتهم. بطبيعة الحال، فإن استقلال السلطة القضائية ليس بالضرورة يعني قضاءا محايداً. فالقضاة بصورة عامة يرون مهمتهم بوصفهم حاملين لقيم مهيمنة، وعليه فإنهم يهدفون الى استقرار المجتمع. إن قاعدة التجنيد الضيق  للسلطة القضائية هي بدرجة كبيرة مقتصرة على الذكور والبيض والطبقة الوسطى بما يعزز النزعة المحافظة.

إن الاستقلال القضائي يثير مشكلة كيفية إختيار القضاة، وإن التصميم المفضَّل يعتمد على الوزن المعطى للاستقلال القضائي من جهة، وإستجابة الرأي العام أو التوازن الحزبي من جهة ثانية. إن الاستيعاب من قبل قضاة آخرين هو ضمانة بالغة التوكيد على الاستقلال ولكن الانتخاب الديمقراطي، كما يتم مزاولته في بعض الولايات المتحدة، يوفّر استجابة للاهتمامات الشعبية.

بالنسبة للمحاكم المكلّفة بالنظر القضائي، فإن الاختيار يتعلق عادة ببعد سياسي واضح. في الولايات المتحدة، فإن المحكمة الكبرى مهمة للغاية حيث أن المناصب فيها (مرشّحة من قبل الرئيس ولكن تخضع لموافقة مجلس الشيوخ) هي قرارات رئيسية. إن مصادقة مجلس الشيوخ تتعلق عادة بمعركة حامية بين حلفاء الرئيس وخصومه.

إن التجربة القضائية والقدرة القانونية للمرشح قد يكون لهما مدخلية أكثر من الايديولوجية، والمحازبة، والتاريخ الشخصي النزيه. في جنوب أفريقيا، يعيّن رئيس الجمهورية القضاة الرئيسيين، بعد التشاور مع هيئة الخدمات القضائية التي تشمل ممثلين من كل من خبراء قانونيين والسلطة التشريعية. في الدول الاوروبية، فإن أعضاء المحاكم الدستورية عادة ما يتم إختيارهم من قبل المجلس، رغم أن في رومانيا وبلغاريا يختار الرئيس أيضاً بعض الاعضاء. وعليه، فإن العوامل السياسية تؤثر على تعيينات المحكمة، مستبعدة التمايز الحاد بين القانوني (التشريعي) والسياسي.

وفي حال تم تعيينهم، يواصل القضاة تطوير عملهم. وهذا يعني أن فحوى قراراتهم لا يمكن دائماً التنبوء بها بموجب التعيين. إن المثال الكلاسيكي هو Earl Warren: لقد أصبح رئيس القضاة في المحكمة العليا الاميركية في 1953 ولكنه أفزع الرئيس ايزنهاور بأحكامه الليبرالية. فقد وصف ايزنهاور لاحقاً تعيينه لهذا القاضي بما نصه (إنه أكبر خطأ أحمق اقترفته في حياتي). إن النقطة الحاسمة هنا هي المنصب. فبينما يبقى رؤوساء القضاء الاميركيون في مناصبهم مدى الحياة، مع النظر الى (سلوكهم الخيّر)، فإن المحاكم الدستورية في أوروبا تحدد عادة مدة بقاء قضاتها لفترة واحدة من سبع الى تسع سنوات، وهذا يعكس البيئة السياسية للمحكمة الدستورية بصورة فريدة وتحديد تاثير القاضي الفرد.

 

السلطة القضائية في الانظمة التسلّطية

لم يكن للاستقلال القضائي أي دور في الدول الشيوعية، فقد أصبحت السلطة القضائية هناك أداة للقوة عن طريق اعادة البناء التسلطي للمجتمع. ففي عهد ستالين، كشف نظام القضاء السوفييتي عن انحيازية إجرائية. فقد أوقعت إتهامات إجمالية غامضة مثل (نزعات خطرة إجتماعية)، (عدو الشعب)، أولئك المشتبه في كونهم معارضين للنظام. وخلال فترة الخمسينيات والستينيات هيمن البوليس في الصين على النظام القانوني مستعملاً المحاكم كأجهزة تعليمية لتحذير المواطنين من السلوك السيء. إن القضاة في الدول الشيوعية تم اختيارهم بناء على (الذهنية الحزبية) لديهم، وكان يتوقع منهم أن يضعوا هذه (الفضيلة) في الاثر الخير في المحكمة.

ولكن كما هو الحال بالنسبة لكثير من الجوانب الاخرى للسياسة الشيوعية، فإن هذا الوضع كان قد تبدّل قبل ثورات 1989. وحتى الانظمة التسلطية بإمكانها اكتشاف خاصية تطبيق القوانين بصورة ثابتة. فحين كان يقاضي مواطن مواطناً آخر، أو حتى حين تقاضي شركة أخرى فإن مصالح الحزب الشيوعي تتحقق بصورة مؤكدة من خلال تسوية القضية عن طريق القانون. ولذلك، فإن المحاكم تراقب مقياس (القانونية الاشتراكية). في الصين، أيضاً، أصبحت القوانين أكثر دقة بعد فجوة الثورة الثقافية. إن القوانين وبخاصة بعد موت ماو كانت تسنُّ للتحقيق في الجرائم ومحاكمة المتهمين، وقد يسود القانون طالما أن الحزب لم يكن متورطاً بصورة مباشرة.

في الانظمة التسلطية غير الشيوعية، يواصل الحكام ابقاء السلطة القضائية في رباط محكم، على الاقل في القضايا ذات الايقاع السياسي العالي. وفي أندونيسيا، فإن الرئيس سوهارتو هو فوق القانون. وأن وزارة العدل تدير المحاكم وتدفع مرتبات القضاة، والقضاة يدركون الدلالات وراء ذلك. إن كثيراً من  الانظمة غير الديمقراطية تستعمل بصورة مفرطة اعلان حالة الطوارىء الذي هو معفي من التحقيق القضائي. فما إن يتم فرضها، فإن مثل (حالات الطوارىء) هذه تستمر لعدة سنوات، وربما عقود. إن الاجراء القضائي غالباً ما يرتّب لصالح مدعي الدولة، إنه تكتيك شائع لاستعمال المحاكم الخاصة التي تقدّم عرض الحكومة دون حضور كثير للاستقلال القضائي. ومثل كثير من الحكام التسلطيين، فإن رئيس بيرو فوجيموري وجد بأن المحاكم العسكرية مفيدة لهذا الغرض. لقد مال فوجيموري أيضاً الى فصل القضاة غير المرغوب فيهم، وهي سياسة بلغت حافاتها القصوى لدى الرئيس المصري جمال عبد الناصر في 1969. فقد تخلص من 200 قاض مرة واحدة: (مجزرة القضاة).

إن هذا النمط من الخضوع القضائي للسلطات التنفيذية التسلطية تصبح أكثر واضحة تحت الحكم العسكري، وإن المحكمة الكبرى الارجنتينية، على سبيل المثال، قبلت بصورة روتينية الاحكام التي اصدرتها بصور فنية الحكومات العسكرية غير الشرعية. إن الجنرالات سيطروا على وسائل القهر والقضاة عدّلوا قراراتهم كيما تناسب تلك الوسائل. وفي أغندا، هناك حالة متطرفة، حيث أن الرئيس عيدي أمين قتل رئيس القضاة. إن التسلطية وحكم القانون غير متوافقين، وإن الرداء الاسود هو حماية بائسة ضد الصارم المسلول. يبقى أن إرادة القضاة لرفع رؤوسهم فوق الحاجز غالباً ما يعتبر مؤشراًَ مبكراً على التحرر الذي يفضي الى الانهيار النهائي للسلطة العشوائية.

 

القانون الاداري

القانون الاداري (Administrative law): يصمم المبادىء المحددة التي تحكم عملية صناعة القرارات من قبل هيئات القطاع العام، ومن الناحية المبدئية الجهاز البيروقراطي. على سبيل المثال، لابد لقرارات موظفي الخدمة المدنية البريطانيين أن تكون ضمن صلاحياتهم، وثانياً أن تتخذ بناء على إجراء عادل، وثالثاً تتوافق مع نظام العدالة الطبيعي، إن القانون الاداري يحدد أيضاً العلاجات للخروقات لتلك المبادىء.

وحيث يضع القانون الدستوري المبادىء الاساسية التي تحكم العلاقة بين المواطن والدولة، فإن الحقل المنفصل من القانون الاداري يغطي القوانين التي تحكم هذا التفاعل في التنضيدات التفصيلية. وحيثما نمت الحكومة، فإن القانون الاداري بناء على ذلك يتوسع. إن الاسئلة الاعتيادية التي أثيرت بخصوص القانون الاداري هي: هل تمت تقوية المسؤول لصناعة قرار ما (تلك هي الجدارة؟). هل تم اتخاذ القرار بطريقة صحيحة (على سبيل المثال بقدر كاف من التشاور)؟ ماذا يجب فعله إذا ما تم اتخاذ القرار بصورة غير صحيحة أو كانت له نتائج غير مرغوبة (تلك هي المسؤولية)؟ إن مثل هذه الاسئلة تثار في كافة الدول الحديثة، وأن الانظمة الديمقراطية الليبرالية تبحث عن إجابات شبه قانونية. وبينما يكون التركيز التقليدي للقانون الاداري على أعمال الحكومتين المحلية والمركزية، فإن نطاقها قد يمتد، بصعوبة الى حد ما، الى المؤسسات والمنظمات العامة التي تعمل وفق عقد مع الحكومة.

إن نكهة القانون الاداري ينتقل بواسطة محتواه، بما يغطي مجالات مثل الخلافات المتعلقة بالهجرة، والتطبيقات التخطيطية، وقضايا الضريبة، والتوظيف، والامن الاجتماعي. في هذه المجالات، من المحتمل جداً أن يواجه المواطن الانشغال البيروقراطي الكثيف. إن مثل هذه الموضوعات ليس لها نظائر في القانون التجاري والخاص وعليه فإنها بحاجة الى معالجة منفصلة.

وهناك ثلاث طرق للتعامل مع مشكلة تنظيم الادارة. الاولى كما هي سارية في القارة الأوروبية وتقضي بتأسيس نظام منفصل للمحكم الادارية. وتعتبر فرنسا المثال الأكثر نفوذاً للمقاربة الانفصالية هذه. إن مجلس الدولة (Conseil d’Etat) يقف على قمة نظام دقيق للمحاكم الادارية. إن كافة القرارات الادارية تتخذ بواسطة الوزراء ويخضع مسؤولوهم للتقييم من قبل المجلس. ومن خلال قانون الحالة الخاصة بها، فإن المجلس طوّر مبادىء عامة لتنظيم السلطة الادارية. إن الحكومة تشاور المجلس بكل ما يتعلق بالتشريع المقترح، إن إمتياز المجلس وإستعلانه الممنوح للأحكام يمكّنه من ضبط السلطة التنفيذية حتى في بلد لديه تقليد دولة قوية ( Dreyfus, 1990, pp.142-3).

إن الحل الثاني، المفضّل في البلدان الانجلوـ أميركية والتي لديها تقليد قانوني، يكمن في إنكار المائز بين القانون الخاص والعام. إن الفكرة من وراء ذلك، والتي من النادر ما يتم تحقيقها بالكامل من الناحية العملية، هي أن نظاماً قانونياً عاماً واحداً يجب تطبيقه على المعاملات الخاصة والعامة. على سبيل المثال، إن التوظيف في القطاع العام يمكن تنظيمه بواسطه ذات القوانين التي تغطي القطاع الخاص، فليس هناك حاجة لتشريعات خاصة. إن قوة هذه المقاربة التكاملية تكمن في كونها تتفادى الخلافات الحدودية بين المحاكم العادية والادارية. إن القضية هنا أن القطاع العام سيقلّص كثيراً من مهام الشركات الخاصة، بما يثير مشاكل للفلسلفة الانفصالية. وأيضاً، يتطلب نوع واحد من القانون نظام محاكم موحد. وعلاوة على ذلك، فإن الفلسفة التكاملية تعكس مفهوماً معتدلاً للمجال العام. فالدولة تلتزم بنفس القوانين شأنها شأن مواطنيها.

في الواقع، إن المحاكم الخاصة يتم نادراً تفاديها بصورة كاملة، وحتى الولايات المتحدة لديها محاكم مكرّسة لقضايا الضريبة، والعسكريين، وبراءة الاختراع. فإذا لم تكن هناك محاكم خاصة، فإن المحاكم الادارية تستثمر ذلك لفائدتها. فهذه المحاكم، التي تتعامل على سبيل المثال مع الاستئناف المتعلقة بقانون التوظيف وتنظيمات الامن الاجتماعي، هي غير رسمية نسبياً. إنها أسرع، وأرخص، وأكثر مرونة (رغم أنها في الغالب أكثر سريّة) من المحاكم. في بريطانيا، تسوّي المحاكم الادارية، وليس المحاكم العادية، معظم القضايا الادارية.

أما المقاربة الثالثة للتنظيم الرسمي للبيروقراطية هي عبر الاشراف الاداري (Administrative supervision). لقد أدخل بيتر الكبير (Peter the Great) هذا الجهاز الى روسيا في سنة 1722، ويتم استعماله الان في كافة أنحاء أوروبا الشرقية. إن الضابط الذي يعرّف كنائب عام أو وكيل يشرف على قانونية الاعمال الادارية وبامكانه تعطيل القرارات في انتظار حل قضائي او غيره. لقد أحيت روسيا دور النائب العام او الوكيل في عام 1992. ويجب أن نفرّق هنا بين النائب العام والمحقق (اي على وزن ديون المظالم الذي يحقق في شكاوي الاشخاص على الحكومة). إن المحقق هو ابتكار غربي، ووظيفته ليست صناعة قانون إداري ولكن للتحقيق في الدعاوى المتعلقة بسوء الادارة في قضايا فردية، إن دور النائب العام هو أوسع، بما يشمل مبادىء وأيضاً قضايا.

 

القانون الدولي والانظمة

القانون الدولي هو نظام من القوانين والذي تعتبره الدول والمؤسسات الاخرى ملزماً في العلاقات المشتركة، وهو نابع من المعاهدات، التقاليد والمبادىء المقبولة والنظرات الخاصة بالسلطات القانونية. إن مصطلح (القانون الدولي) صكّه الفيلسوف الانجليزي جيريمي بنتام في سنة 1780.

إن القانون الدولي غالباً ما يتم إهماله كونه منفصلاً عن العالم الحقيقي للسياسة، وإن المجادلة هنا أنه بدون سلطة سيادية لفرضه، فإن القانون الدولي ليس شيئاً آخر غير القناعة الادبية. فقد كتب الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز (1588-1679): (حينما لا تكون هناك سلطة مشتركة، فلن يكون هناك قانون). ولابد من الاشارة الى أن المنظمات المتداخلة مع الحكومة قد تزاول بعض النفوذ على الدول، وعليه يجب علينا الاقرار بالدور الذي يلعبه القانون الدولي. إنها كثافة مطلقة، صلبة وناعمة على السواء، تتجلى من خلال عشرة آلاف أو نحو ذلك من الاتفاقيات المسجّلة في هيئة الامم المتحدة. وتغطي هذه الاتفاقيات مجالات عديدة مثل التجارة العالمية، والبيئة وحقوق الانسان. في المجمل العام، فإن الدول تمتثل لهذه الشبكة المعقدة من القوانين. وكما كتب هنكين Henkin (1968, p.47) (كل الدول في الغالب تحترم أغلب القوانين الدولية وتقريباً كل واجباتها في كل الاوقات). وفي الواقع، إن القانون الدولي قد ينال احتراماً وتطبيقاً أكبر مما يفعله القانون الوطني (أو كما يطلق عليه المحامون الدوليون القانون البلدي)، وعليه فإن انعدام فكرة هوبز السيادية لم تمنع من ظهور مجتمع دولي محكوم بالقانون (Bull, 1977).

وكما أسلفنا في تعريف القانون الدولي فإن هناك أربع مصادر رئيسية يعتمد عليها القانون وهي:

ـ المعاهدات

ـ العرف

ـ المبادىء العامة التي حظيت بقبول الامم المتحضّرة

ـ السلطات القانونية

إن تشريعات محكمة العدل الدولية والتي ينبع منها التصنيف تفرض على رؤوساء المحكمة تطبيق تلك المصادر للتوصل الى قرارات. وعلى أية حال، فإن محكمة العدل الدولية قد تأسست في 1946 وأن عالم اليوم يتطلب تفسيراً أشمل للقانون الدولي. على سبيل المثال، فإن إعلانات (وليس قرارات) الامم المتحدة هي التي عادة ما تنال صفة قانونية. إن الهيئات التي تصنّف القانون، مثل هيئة القانون الدولي (1947)، تساعد أيضاً على تطويره. وبصورة أكثر عمومية، فإن القانون السهل يتألف من مستويات وأهداف متفق عليها على المستوى الدولي، وإن مثل هذه المعايير قد لا تناسب المصنفات التقليدية للقانون ولكنها ترشد الى كيف يجب على الدول أن تتصرف.

ولذلك، فإن الصورة المتطورة تكشف عن القانون الدولي المندك في السياسة العامة المشروطة (أي التي يتوقف تحققها على تحقق أشياء أخرى). ويوظّف علماء السياسة مصطلح النظام الدولي لجهة صناعة السياسة الدولية في قطاعات محددة. إن النظام (regime) هو فكرة واسعة أكثر من كونه مؤسسة (institution)، وأن ثماره تشمل القانون ولكنها تذهب الى أبعد من ذلك. إن النشاطات التعاونية للنظام قد تتسلط على المؤسسة مثل منظمة الطيران المدني العالمية او منظمة الملاحة الدولية، وعلى أية حال فإن دور النظام الدولي يكمن في المعايير المشتركة مثل التطلعات المشتركة، ليس في هيئة تنظيم رسمي. إن الامثلة الجلية لمثل هذه الانظمة تشمل التجارة العالمية، والمال والنقل الجوي، والمحافظة على الحيتان، والطاقة النووية.

ويتألف النظام الدولي من ترتيبات حاكمة معدّة وموجهة من قبل دول لتنسيق تطلعاتها وتنظيم جوانب السلوك الدولي في مجالات مختلفة. وهذا يعني أنه في بعض المجالات مثل التجارة العالمية فإن المتخصصين من مختلف الدول والهيئات غير الدولتية يتعاونون على إعداد المعاهدات، الاتفاقيات، والاعلانات.

في النظام الدولي، فإن المتخصصين الذين يعملون بموجب سلطة حكومة بلادهم يسعون الى تأسيس مستويات وسياسات لتنظيم مجال قضيتهم الخاصة. إن المناظرة داخل موقع المؤتمرات التي تعطي تعبيراً واضحاً لفكرة النظام هي شأن فني يتعلق بالمشاركين من مختلف المنظمات التي تسهم في تطوير علاقات الثقة والتبادل. إن صانعي السياسات في النظام يتمتعون بصورة حاسمة بسلطة جوهرية ممنوحة من سادتهم السياسيين. وطالما أن المفاوضين لا يسببون متاعب في بلدانهم، فإنهم يكتسبون مكانة معتبرة. وعليه فإن الانظمة الدولية، وصانعي السياسات يشكلون ناديهم الخاص الذي يعرف أعضاؤه أو يعتقدون بأنهم يعرفوا ماذا يجب فعله. واعتماداً على تجاوز الاولويات السياسية للحكومات، فإن الاعضاء يسعون للتقدم بإتجاه اهدافهم المشتركة. وفي الغالب، فإن الحكومات تكون مسرورة للاضطلاع بمسؤولياتها الموكلة اليها، وأن يتم الالتفات الى أنها تقوم بفعل ذلك، وخاصة حين تكون كلفة ذلك منخفضة. وبعد ذلك كله، فإن التجمع أو الحشد يساعد على بناء مصداقية في المجتمع الدولي بما يسمح للحكام بالشعور بالامان بدرجة أكبر في مجال سيادتهم، بالدقة لأنهم مقبولون كشركاء كاملين في الانظمة الدولية.