حكم القضاء في المزيني

حـريـة وطـن

 

شهد الشهر الماضي تطوّراً ملحوظاً على الساحة المحلية، وأمكن القول بأنه كان شهر الكلمة بإمتياز، فقد صدرت عدة تقارير حقوقية محلية ودولية حول انتهاكات حقوق الانسان على مستوى حرية التعبير، وحقوق المرأة، وسجناء الرأي والاصلاح السياسي. وتخللت هذه التقارير قضية الحكم على الدكتور حمزة المزيني الاكاديمي المعروف والكاتب البارز في الصحافة المحلية والذي كانت له مطالعات نقدية بالغة الاهمية للمنهج التعليمي الرسمي المسؤول عن إشاعة أفكار التشدد وتشجيع ظاهرة العنف. لقد فتحت قضية المزيني الجدل على أفق واسع حول العلاقة بين المؤسستين الدينية (ممثلة في الجهاز القضائي المشتق منها) والسياسية، وحول مستقبل حرية التعبير.

إن حكم القضاء في الاستاذ حمزة المزيني لم يكن حكماً على شخص بل حكماً على قيمة ومبدأ، فقد حكم القضاء بجلد وسجن الحرية والكرامة والصدق، بل وجلد الوطن وسجنه، إنه الاستبداد الديني ممثلاً في جهاز القضاء وما ينتمي اليه ومن يعمل بداخله.. إنها النزعة الاقتلاعية والاجتثاثية لدى المتصاهرين مع الطاغوت السياسي، من أجل ترسيخ القيم المتعفنة، والتي تتكأ على رطانة دينية مستهلكة لجهة تحقيق أغراض التحالف.. إن هذا الجهاز الذي بات مرتعاً لكل الطامعين في نيل المنصب والثروة، والمتواطئين مع علية القوم، بات متورطاً حد الجريمة في إصدار الاحكام الظالمة التي لا دخل فيها لشريعة السماء، بل هي تلبية لاملاءات المصلحة، والمصلحة المادية فحسب.

لقد عاد التحالف الديني ـ السياسي ليعبّر عن نفسه مجدداً عن طريق التوسل باللغة الوعظية والانذارية بنكهتها الدينية والتي أثبتت التجارب المتوالية إخفاقها الفادح والمدمّر.. لقد بات من المصلحة العليا للدولة التخلي عن استعمال اللغة الدينية لأنها لم تعد تختزن ما يكفي لجرعة واحدة من الاقناع من أجل الاستتار بها لقمع الحريات العامة ومصادرتها.

يغفل القائلون بأن الدولة مستهدفة من جهات محلية وأجنبية وربما غيبية، عن عمد وسابق إصرار حقيقة كون الاستهداف الحقيقي موجّه لحرية الشعب وكرامته، وأن المسؤول الأول عن ذلك كله هم ولاة الأمر بدرجة أساسية. لم يعد الأمر بحاجة الى مزيد من المساجلات الكلامية الفارغة من أجل إثبات صدقية وجدارة البديل الاصلاحي، ولم يعد الأمر بحاجة الى مزيد من الشهادات لإثبات الاجماع الوطني على هذا البديل. فقد عبّر السكان بوضوح شديد عن موقفهم من الأجندة الاصلاحية الحكومية، فكانت الانتخابات البلدية في المرحلة الاولى والثالثة دليلاً عملياً على أن ما أرادت الطبقة الحاكمة إقراره لم يحقق الرضا بين المعنيين بتلك الاجندة.

إن من أفدح الاخطاء التي إقترفتها الدولة هو توسلها بالدين في شؤون الدنيا، لأنها بذلك أفسدت الدين والدنيا معاً، وإن توظيف طبقة العلماء من أجل تحقيق مآرب السياسة الدنيوية لا يقل فساداً وفداحة.. لقد بات أكثر من ضرورة تجنيب العلماء مهازل السياسة التي  أنضبت مصداقية العلماء، وحرمتهم من نعمة التأثير الروحي في جمهور الاتباع بفعل انغماسهم طوعاً حيناً وكرهاً احياناً كثيرة في شؤون السياسة الدنيوية بتأثير من أهل الحكم. إن سجل الاقترافات بصبغتها الحمراء القانية في بعض الاحيان، تفرض على أتباع العلماء إعانتهم على الخلاص من بلاء الوقوع تحت ضغط السلطة، وإخراجهم من مجال التأثير السياسي المباشر، درءا لاقتراف المزيد من الاخطاء الدامية.. ولاشك أن جهاز القضاء بات اليوم أكثر من أي وقت مضى في عين العاصفة، وهو يجسّد الاختلال العميق في بنية السلطة، ويعبر بجلاء عن استشراء الفساد في الجهاز الدولتي.

إن التواطىء المشين بين الامراء والعلماء في مجال القضاء لم يضرّ بالعدالة، التي ذبحت على الطريقة الدينية غير الشرعية، ولكن أضرّت بمجمل المؤسسة الدينية التي بات الحديث عنها بطريقة تهكمية يترجم معاناة المتظلمين الذين أخفق الحملة الافتراضيون لميزان العدل عن تحقيق النصفة من أنفسهم وممن جبلوا على ظلم العباد.

يلزم وقوف أغلبية هذا الوطن في وجه من يلوذون بلغة الاتهامات الدينية من أجل تهشيم قيمة الحرية ومصادرتها، فالدين لم ينصّب وكيلاً عنه من هؤلاء كي يرشدنا الى ما هو حلال وما هو حرام، كيف وبهذا الدين قد صار في أسر السياسي الذي لا يرى في غير مصالح الدنيا غاية ومآلاً. إن رفع الوصاية الدينية عن هؤلاء العلماء ضرورة قصوى دينية وسياسية، لأن استمرار هذه الوصاية وفي طورها الحالي يعني استمرار الاستبداد في شكليه السياسي والديني.. لقد سأم دعاة الحرية من تلطيخ القيم بدعاوى دينية لخدمة أغراض سياسية وفئوية محضة. ويلزم، في اضطراد مع ماسبق، تجنيب كتاب الله وسنة نبيه المصطفى معارك السياسة وأغراضها، أفكلما دعيت العائلة المالكة الى الاصلاح وانصاف الرعية من نفسها، واحقاق الحق الذي عليها وابطال الباطل الذي ساد فيها لجأت الى آيات الذكر الحكيم واحاديث الرسول الكريم، فتجعل منها غطاء لباطلها ومانعاً لحق العباد.

لقد أسرف العلماء والأمراء في النيل من الحريات العامة، وأفرطوا في تشديد الخناق على النص الديني، بفعل التفسيرات الضيقة والحرفية، وعاضدها أهل الحكم بالافراط في الاستعمال الساخر لمصطلح (الخصوصية) التي باتن ترهن مصير المجتمع والدولة لخيارات عقيمة وتسوق الجميع الى جحيم المستقبل المجهول.. إن احتكار الحقيقة الدينية وحق تفسير النص الديني متظافراً مع إحتكار الحقيقية السياسية وحق تفسير الاحوال الاجتماعية لا يزيد الا خبالاً، فليس من عقم في هذا المجتمع حتى ترى فيه هاتان الطبقتان: العلماء والأمراء، رأياً سديداً ومسلكاً رشيداً ينجيه من عذاب أليم ويكفيه تبعات القصور التكويني الذي هو عليه منذ أن نشأت الدولة السعودية وحتى قيام الساعة رغم ما شهده المجتمع من تطوّر ذهني وترق فكري، وبات مدركاً تماماً لما يجب أن يكون عليه مساره ومسيرة الدولة معه.

ليس قرار ولي العهد في الغاء الحكم على المزيني هو مربط الفرس، فهذا القرار الباطل يجب أن يندثر لحظة ولادته لأن مجرد صدوره يعد وصمة يجب محوها على الفور، ولكن ما ترافق مع ذلك الحكم أيضاً هو انكى من ذلك، حيث  قرار وزير العدل الى المحاكم الشرعية بإحالة قضايا ما وصفه بـ (الكتّاب المنحرفين) في الاعلام الى الشرع وأن يخضعوا جميعاً لحكم الشريعة، وذلك بناءً على مارفعه رئيس مجلس القضاء الأعلى الشيخ صالح اللحيدان. ومع أن القرار جرى تعديله لاحقاً بأن تحال قضية الكتّاب الى وزارة الاعلام، الا أن النقاش بهذه الطريقة الاسفافية ينطوي على مبيّتات كاشفة عن منهجية معلولة في التعامل مع الكلمة، يدل على ذلك استعمال توصيم معلّب (كتّاب منحرفين) كتهمة جاهزة تعقبها قائمة عقوبات، سيما في حال تطبيق نظام وزارة الاعلام الذي يملي على الكتّاب المحافظة (على عقيدة سلف هذه الامة) وما في هذا النظام من مواد قابلة للتفسير الاحادي والاتهامي يكفي لانزال اقصى العقوبات بأصحاب القلم. وطالما أن حرية التعبير (حسب المادة السادسة والعشرون) مشروطة باندراجها ضمن (الاهداف والقيم الاسلامية والوطنية) الخاضعة بطبيعة الحال لتفسير الحكومة، فإن الحرية تصبح مسلوبة المضمون ومقيّدة بإذن القابضين عليها.

لم يكن أصحاب الكلمة الحرة بحاجة الى (مكرمة) من المقام السامي لكي يصون لهم حرية منقوصة ومنتقصة، عن طريق تشكيل لجنة للنظر في القضايا الاعلامية مؤلفة من عضو من الاعلام وعضوء من وزارة الداخلية وقاض شرعي، وثلثا هؤلاء خصوم تكوينيين لحرية التعبير، فإذا كان الثالث متواطئاً أدركنا مصير الحرية.

إن إسقاط الحكم عن الدكتور المزيني من قبل ولي العهد ليس منقبة لمن أسقطوا الحكم بالنظر الى فداحة السابقة الخطيرة في المقام الأول، حين أصدر القضاء حكمه الغاشم بالسجن والجلد لشخصية وطنية وصاحب رأي حصيف وفوق ذلك رجل عرفته الصحافة والدوائر الاكاديمية بالنزاهة والاخلاص للمهنة العلمية. إن هذه السابقة بكل ما فيها من وقاحة واسفاف قد لطخت كل من شارك أو بارك أو حتى صمت، لأنها عار بكل ما في الكلمة من معنى.. إن الذي أصدر الحكم جهاز تابع للدولة، وبالتالي فإن اسقاط الحكم لم يكن يمحو عاراً قد شاع صيته السيء، وكان يفترض أن لا يجرؤ القضاء في البدء على تجاوز حدود الحرية المقدّسة، حتى لا يحتاج الى تدخل من ولي العهد كي يوقف اختراقاً فاضحاً من قبل جهاز دولتي موصوم بالفساد. ولا نعلم منقبة في تصريح ولي العهد (لا عبد الله ولا غير الله يستطيع أن ينقض الحكم الشرعي)، فكيف يسبغ على حكم كهذا شرعية، واذا كان كذلك فلماذا أوقف تنفيذ الحكم اذا كان شرعياً، مع ادراكنا للفارق بين النقض ووقف تنفيذ الحكم.

من المدهش حقاً أن يعكف القضاء الشرعي على تحطيم حرية الكلمة، متسربلاً بنزعة تصفية الحسابات الايديولوجية، فيما يضرب صفحاً عن أولئك الذين حللوا بفتاويهم إهراق الدم الحرام، وإشاعة الخراب والدمار، وقتل الابرياء، فليت من يتولى القضاء إستوعب تماماً رسالة المزيني في الاصلاح الفكري والاجتماعي قبل أن يجرؤ على وضعه على محك القضاء بكل مافيه من ابتذالات لفظية ومداولات قانونية هابطة. لقد أفصح المزيني عن رؤية اصلاحية من أجل تجنيب البلاد والعباد المزيد من الدماء واحتكار حق الله لمصادرة حقوق الآدميين.

يخبر واقع الحال عن أن العلماء يقعوا ضحية قوتين تدفعهم لتبني أحكام إقتلاعية واقصائية وهما: قوة الحكم وقوة الشارع.. فالطبقة الحاكمة تزاول ضغطاً مستمراً على العلماء للخضوع لممليات السلطة، والشارع يزاول ضغطاً على العلماء لتنفيذ ممليات اجتماعية وسياسية. وتحت وطأة هذين الضغطين يصبح العلماء في مواجهة أعداء افتراضيين تطلق عليهم مسميات خصامية مثل: ليبراليين، وعلمانيين، وحداثيين، وأهل ضلال، وأهل بدع.. وتبقى القائمة مفتوحة على مسميات اخرى مطلوبة في المعاركة الحالية والمؤجّلة.

 لقد باتت دعوى تطبيق الشريعة سلاحاً يشهر لضرب الحرية ومصادرتها، وتخريب أسس العدل وتقويضه، وليس لصيانة الحرمات، وإشاعة السلام الاهلي، وضمانة الحريات الفردية والعامة، وترسيخ قيم العدل والحرية والمساواة. فالذين يطالبون بتطبيق الشريعة إنما يأملون في تطبيق سياسة التمييز ضد الآخر، لأنهم يدركون بأن الشريعة المقصودة هي مصممة على مقاسات خاصة لا تصلح كإطار قانوني يحكم الفئات الاجتماعية من أطياف فكرية وسياسية واجتماعية ومذهبية متنوعة. لقد هال أولئك الذين ملئوا الدنيا زعيقاً وصراخاً مطالبين بتطبيق الشرع فانبروا لمناشدة من أوغروا صدورهم بوقف تطبيق الشرع ضد من فجّر ودمّر وقتل، بإسم الوسطية في الدين فيما يطالبون بإنزال أقصى العقوبات ضد أصحاب الرأي والكلمة الحرة. فقد خانتهم لياقتهم الفكرية والنفسية وضاقت صدورهم عن تحمّل من أفصح في الهواء الطلق وعلى مرأى ومسمع العالم كله عن رأي لا يرجو فيه غير اصلاح وجه وطن يحاول ان يخرج للدنيا بغير تشويه خلقي، بعد أن داهمته البلايا والمنايا من أرجاء الدنيا، بفعل حماقات السياسي والديني معاً.

هؤلاء الذين صفقوا وهللوا لحكم قضاء بات في دائرة الاتهام، يصدرون عن عقيدة تنزيهية اقصائية إزاء الاخر، فقد حقق القضاء رغبة قارّة في صدورهم، وكانوا فيما مضي يقولون بأن العلمانيين باتوا يسرحون ويمرحون دون رادع من شرع ولا مانع من دولة، تماماً كما هو شأن بقية الطوائف المذهبية التي طالها (التحريم السلفي) والتي يطلق عليها مسميات: الرافضة والصوفية وغيرها. إن مثل هذه النزوعات المتطرفة لا توحي بانقشاع التطرف من الفضاء الفكري المحلي، لأن مثل تلك النزوعات تعبر عن الرغبة الجامحة لمصادرة الحرية بل وتدميرها من أجل احتكار وسائل التعبير وتطبيق مبدأ (من لم يكن معنا فهو ضدنا).