النقد الذاتي شرط التغيير والبناء

 

د. فؤاد إبراهيم*
Email: fouad@saudiaffairs.net

 

في ظروف الانتصار تصبح الذات عصية على الانحناء قليلاً للنظر في داخلها وفحص محتوياتها.. فهي تنغمس بصورة تامة في نشوة الانجاز الذي حققته الايديولوجيا، ويبدو في حكم المستحيل أن تكون أيديولوجيا النصر قابلة للمراجعة..

إن المراجعات التي جرت في أغلب مراحل التاريخ كانت تتم في ظروف انكسار سياسي كبير وانحسار ايديولوجي، وهذا ما يجعل مهمة المراجعة ونقد الذات بالغة الصعوبة في التجربة العراقية الراهنة، فالانجاز التاريخي الاستثنائي يعبيء الذات الشيعية الآن الى الحد الذي يشعر فيها الكائن الشيعي غير مكترث لمراجعة من أي نوع..

 وعلى أفق واسع، ومن حيث المبدأ العام فإن المؤمنين من كافة الأطياف العقدية يرفضون وضع مكونات إيمانهم وعقائدهم موضع الاستفهام والفحص، فالعقائد إنما نشأت لتكون مسلمات وأن تنتهي حال تبنيها الى مواقف تسليمية راسخة في أرواح المؤمنين.. فحقل اليقينيات يحظر الدخول اليه بنية نبشه.

هذا ما يجعلنا بحاجة الى صرخات من نوع ما بشّر بها جاك دونت، صرخة من الذات وعليها، صرخة احتجاج على الذات بعد أن إعتدنا الصراخ لحقب عديدة على الآخر الذي ربما كان هدفاً مناسباً ومريحاً لتفريغ شحنات التوتر بداخلنا، ولكن هذا الآخر كان لدى البعض أشبه ما يكون بالمضلّل الذي ألهانا كاملاً وأذهلنا عن الانشغال بأنفسنا..

قبل عقود كان فلاسفة الشيعة نقديين، لا بمعنى أن يتحول النقد الى محمول عدائي، ولا بمعنى أن كل شيء في ذاتنا يجب أن يندثر ويثوى في التراب، فليست تلك مهمة النقد، بل كانوا نقديين بمعنى قادرين وبجرأة عالية على فحص الذات وإخضاع مكوناتها للاختبار والتحقيق في قدرة تلك المكوّنات على الفاعلية والبقاء والديمومة.. فلم يكونوا على درجة من الراحة مما عثروا عليه في التراث كيما يكون مصدر إلهام لهم ولمن يأتي بعدهم، فقرروا نقده بجرأة وأمانة، ولاشك أن مستوى المراجعة الذي وصل اليه في أيران منذ الخمسينيات قد أفضى الى إحداث ثورة..  إن من الخطأ الفادح الوقوع تحت وطأة التأثيرات الدوغمائية للاستنتاجات التي يتوصل اليها المنتصرون، ولكن في المقابل من المعقول جداً أيضاً الوثوق في نوايا النقدييين الذي ينأون عن الاستعمال الفارط للأفكار التسليمية كيما يعززون ما يألفه المؤمنون وان أفضى الى سكونهم واستسلامهم لواقع مليء بكل أشكال التخلف..

لكل عقيدة أدوات تخصيب نشطة أو خاملة، ولكنها تمارس فعل الادامة لمحتويات العقيدة وتعبئة المؤمنين بها، تماماً كما يمكن القول أيضاً بأن ذات الادوات قد تكون في فترة ما أكثر خصباً من فترات أخرى، بحسب قدرة التأثير التي تحملها تلك الادوات وقوة الاقناع التي تنطوي عليها.

ندرك تماماً صعوبة المراجعة مع انفجار مشاعر الزهو بالمنجز السياسي وفي خضم انبعاث الهويات المقموعة والمقهورة، فأبناؤها يجدون الآن فضاءً رحباً للتعبير في العلن عن تراكمات تاريخية مغمورة.. وهنا تبدو الحاجة شديدة الالحاح من أجل ولادة نخبة إصلاحية قادرة على ترشيد الانفلاتات العاطفية والايديولوجية ورفد الشارع بأفكار جديدة قبل أن يتم اختطاف التشيع مرة أخرى من قبل الكاريزمات الشعبية التي تتقن الرطانة الخطابية بكل أشكالها العاطفية والتعبوية.. وليس في ذلك إفتئات على حق أحد في التعيبر عن أفكاره بوسائل سلمية ومشروعة.. فالحديث يدور هنا عن صناعة وعي متقدم لشارع بات مؤهلاً بإمتياز للعب دور في صناعة تاريخ جديد للتشيع وللدولة العراقية الحديثة.

ينبّهنا ألتوسير الى نقطة جوهرية تعين على فحص ماهية الصراع الدائر في العراق وربما في أغلب الساحات المكتظة بصراعات تبدو في ظاهرها فكرية الا أنها كما يقول ألتوسير هي صراعات سياسية داخل الفكر، حيث يتمترس المتصارعون خلف تحصينات أيديولوجية ولكنهم ينشدون غايات سياسية محددة.

 

منبّهات عاجلة في العراق

إن ثمة فائضاًَ هائلاً من المشاريع السياسية تزدحم في الساحة العراقية، وتنجب العديد من الاسئلة مع حفنة قليلة من الاجابات، وفي الوقت نفسه فإن هذه المشاريع تتحرك الآن دونما أغطية أيديولوجية، أي دون رؤية ومسوّغات فكرية وايديولوجية تفسّر طبيعة التباينات في المواقف السياسية.. إن أول تفسير لهذه الفجوة السحيقة بين المشروع السياسي والايديولوجية الشارحة لها هو أن التجربة العراقية تندرج في سياق عمليات التغيير التي جاءت من الخارج، أي أن الاطاحة السياسية بالنظام وبالدولة تمت بفعل خارجي، وبالتالي فإن الطروحات الايديولوجية التي حملها وبشّر بها الطيف السياسي العام في العراق فقدت مفعولها وأثرها الفعلي على الارض، بخلاف التجربة الايرانية التي شهدت مخاضات تحول فكرية طويلة نسبياً ومرّت بعملية مراكمة ايديولوجية عميقة الى حدا ما، بحيث بتنا نعرف الآباء الروحيين والايديولوجيين للثورة الايرانية، فيما لم تنجب التجربة العراقية آباء ورموز يمكن الاشارة اليهم أو التعرف عليهم في ضوء التجربة الراهنة.

هناك طيف من الاسئلة أنتجتها التجربة العراقية وهناك قلة ضئيلة من الاجابات وستبقى هذه التجربة موّلداً نشطاً للاسئلة المتصلة بتكوين الدولة والعلاقات الداخلية ومرتبطة أيضاً بالهوية والانتماء والرؤى الايديولوجية لكل المواقف والتحولات.

هناك بلا شك توتر بين القطري والقومي والاممي في الهوية العراقية الآن، وسيبقي هذا التوتر الى أمد غير محدود أي الى اللحظة التي تحسم فيها هوية العراقييين.. هناك هويات كلية لدى كافة مكوّنات الشعب العراقي (الاسلام المسيحية اليهودية العروبة الكردية، التركمانية، الاشورية والكلندانية..) وهناك هويات شبه كلية (التشيع والتسنن والتفريعات داخل المسيحية) وهناك هويات فرعية (المنطقة والعشيرة والحزب والانتماء الديني والسياسي والمرجعي).. فالعراقي الشيعي شأنه شأن نظرائه في العراق وخارجه ينتمي الى الاسلام في ميراثه الروحي ومنظومته الطقسية العبادية وقيمه الدينية وهو عروبي في ثقافته ووتواصله الفكري والادبي وهو مذهبي في تمظهره الاجتماعي والسياسي، وإن الاطار المذهبي قد احتوى بداخله الروابط التقليدية القبلية والعشائرية والمناطقية وإن فوارز هذه الروابط تبدو عرضية في ظل وجود المذهب الذي يشكل الفارز الرئيسي بينه وبين المذاهب الاخرى.. فهل يعاد ترتيب أولويات الانتماء كيما تولد هوية جامعة لكل العراقيين، ويصبح العراق هوية كلية فيما تصبح باقي الانتماءات مكوّنات الهوية الفرعية...وهذه الهوية لن تولد الا بإعادة وعي تكوين الدولة نفسها والمبدأ الذي يجب أن يسود الفئات الاجتماعية المنضوية بداخله، الدولة بكونها ضرورة عقلية تنشأ نشوءا تعاقدياً، وتكفل مصالح جميع المتعاقدين.. هناك حاجة شديدة الالحاح من أجل صياغة ايديولوجية وطنية تعلو فوق الانتماءات الخاصة والهويات الخاصة وتبني ايديولوجية التنوع الثقافي، حيث أن المواطنة والحقوق المدنية الكاملة لا تتطلب هوية ثقافية خاصة، أو نموذج فيدرالي غير متمركز يقدم درجة عالية من السيادة المحلية.

إن أخطر أزمات الدولة القطرية في المشرق العربي تمثلت في الاخفاق الذريع الذي منيت به سياسات الدولة في تحقيق الاندماج الوطني الشامل.. فقد قامت أغلب أنظمة الحكم في الوطن العربي على أساس نزعة احتكارية شاملة لكل مصادر الثروة والسلطة، وأصبحت الدولة بكاملها مجرد حقل صيد لفئة محدودة من الناس..

في المقابل، إن الثقافة الشيعية التقليدية القائمة على أساس مبدأي التقية والانتظار واعتزال حكومات الظلمة ومقاطعتها ساهمت في إضاعة فرص اندماجهم في المجتمع قبل السلطة وأدى بهم للانفصال عن النسيج الاجتماعي ومقاطعة السلطة الدنيوية الغصبية امتثالاً لمبدأ الخلاص وتمهيداً لظهور المخلّص، فهناك نزعتان متعاضدتان بصورة عفوية تدفعان باتجاه عزل المجتمع عن كيانية الدولة ودينامياتها وهناك ثقافة انعزالية تحظر الاقتراب من مجال عمل الدولة فضلاً عن الولوج اليه والاندغام فيه.

بكلمات أخرى، لم يكن التناقض الامكاني بين ايديولوجية الدولة وسلوكها السياسي وحده المسؤول عن استحالة الفصل في المنازعة المتواصلة مع الشيعة وباقي الجماعات التي تشعر بفداحة الخسارة.. هناك كتابات تحدثت عن إصرار المرجعية الشيعية على النأي بعيداً عن محيط السلطة والتعامل معها فضلاً عن التفكير والتخطيط من أجل استبدالها.

في علاقة فئة من المجتمع والدولة هناك ثلاثة خيارات: الاحتواء التام بحيث تذوب هذه الفئة في المجتمع كأن تتحول طائفة من ديانة الى ديانة اخرى سائدة أو غالبة، التعايش بين الفئات على اختلاف تحدراتهم القومية والعرقية والدينية، والخيار الثالث هو الانفصال... وإن الخيار الامثل حسب أريند ليجفارت من أجل درء الانفاصل هو فتح الباب امام كافة الفئات للمشاركة في السلطة، كونها تشعر بأنها جزء من هذه السلطة وأن لها فائدة محددة منها لا ترغب في التفريط فيها من أجل مكاسب مجهولة او غير مقدرة تقديراً صحيحاً.

ولا جدال في أن التعايش والعيش المشترك هو  الخيار المصيري والنهائي للشعب العراقي، ولا يمكن للتعايش أن يسود مالم تمارس كافة الفئات عملية نقد ذاتي ومراجعة لمتبيناتها من أجل إزالة الانسدادات العقدية والنفسية والاجتماعية والتي تحول دون التقارب وقبول الآخر والائتلاف معه.. لابد من ولادة نخب أو جماعات يعقوبية داخل الفئات الاجتماعية العراقية من أجل توليد أفكار في التغيير والاصلاح وتعين على إزالة الانغلاقات الفكرية من أجل صناعة فضاء رحب للتسامح وبناء وحدة وطنية صلبة على قاعدة التنوع.  

 

 

 

*الكلمة التي ألقيت في الثامن والعشرين من شهر رمضان المبارك لعام 1426هـ في مؤسسة الامام الخوئي (قدس سره)