تطرح الثورة الاتصالية بتمظهراتها الثقافية
والمعرفية أسئلة مصيرية من قبيل: هل حقاً نجحت الصورة في وأد
الكلمة؟ وهل تبدّلت وسائل صنع الوعي؟ وهل فعلاً بدأت لحظة إعداد
بيان نعي موت الثقافة؟.
هذه الاسئلة ومثيلاتها تكتسب أهمية خاصة كونها
تضعنا أمام أشد التحديات صعوبة، تلك المتصّلة بتكوين الوعي.
نتج
عن الثراء الإتصالي
لغة
جديدة بات الجميع يفهمها، وهي لغة الصورة التي نتداولها عبر
تظهير لحظة جامدة في الزمن ونتبادلها مع الآخرين، أو لحظة متحركة
نعيشها معاً ونتأثر بإشعاعاتها. فمن خلال الصورة، أصبح بإمكاننا
إستدعاء لحظة من طفولتنا، ولحظات الفرح والحزن في حياتنا
وتقاسمها، ولأن الصورة تحتّل جوهر لحظة ما وتجعلها دائمة، فإننا
نقوم بمشاهدتها مرة بعد أخرى. لقد بات بإمكاننا الآن عبر الصورة،
توثيق ليس الماضي فحسب، بل وحتى الحاضر، فأضحت الصورة الشاهد
الملك والمدوّن لحوادث العالم، بل والحياة التي نكسوها عليه.
فالمصوّرون يسجّلون الحروب، والمظالم، والفقر، والمأساة
الانسانية، والفرح الانساني.
وقد
تكرّس نفوذ الصورة عبر السنين في التأثير على الرأي العام،
بتوثيق الكوارث، وإطلاعنا على الحروب في جوانبها المرعبة، وكان
لدى مصوّري الحروب رؤى عظيمة، حيث أن الصور التي التقطوها تكشف
فظائع الحرب التي قد تساعد في منع وقوع حروب مستقبلية، وكان
بعضهم يعتقد أن الصور التي يلتقطونها ستؤدي الى إنقاذ العالم.
فهناك عدة آلاف من صور حرب فيتنام قد شوهدت بعد أيام من
التقاطها، وتركت أثراً على كثير من الجمهور في أرجاء عديدة من
الكرة الأرضية، وأطلقت مشاعر الغضب والاحتجاج ضد استمرار الحرب
بفعل فظاعة الحرب كما عكستها الصورة. هي ذات الوسيلة التي غيّرت
وجه العالم في الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث لعبت الصورة
الحيّة في تغيير حركة التاريخ، بعد أن أفاق العملاق الاميركي على
صدمة هلع وهو ينظر الى رمزي التفوق يتداعيان في مشهد مشحون
بدلالات حضارية وثقافية، ولا ننسى دور الصورة في حروب المنطقة
بدءً من أفغانستان ووصولاً الى لبنان، وهانحن نعيش حرب الصورة في
العراق التي تكسو المشهد اليومي بؤساً مضمّخاً بلون الدم.
ـ
أصبحت لدينا إمكانية رؤية ومعرفة ما يجري عن
طريق التدفق المتصل للصورة، وبات باستطاعتنا أن نأخذ علماً
بالتاريخ الذي يصنع، وغدا كوكب الأرض في مرمى الكاميرا التي
تمنحنا إمكانية التأمّل في حوادثه. في المقابل، يشكو كثيرون من
سطوة وكثافة حضور الصورة في حياتنا اليومية، بحيث جعلنا داخل
غيمة إعلامية، ففي حين كان الإعلام عموماً يضفي على الأشياء
شكلاً، فإن زيادته تغوص بنا في ما لا شكل له، بسبب سرعة الصور
المتدفقة التي لا تدع مجالاً للتأمل.
وكانت رؤية سدنة الصورة: من أجل أن تحصل على صور
مؤثِّرة،
فأنت، في بعص الأحيان، بحاجة الى أن تصدم الجمهور، فالصور التي
تبقى في الذاكرة وتُستدعى، بصورة دائمة، هي تلك التي تنطوي على
صدمة، أو تحدث هلعاً، فهذه الصور تبقى معنا، وتترك بصمة في
عقولنا، وتربض في ذاكرتنا. بكلمات أخرى، أن قابلية إستدعاء
الصورة يكمن في سطوتها، في تخليق إنطباع بصري يوقظ شيئاً ما في
الشخص الذي ينظر اليها، قد يكون إحساساً بالخطر، أو إحساساً
بالحنان والرقّة. وبالطبع، فلابد أن تبعث الصورة رد الفعل
العاطفي بداخلها الذي يتملَّكنا ويدفع بنا للتفكير.
ـ أن المعرفة الانسانية عموماً منسوجة من كتلة
تصويرات متفاوتة في تعبيراتها ودلالاتها، وأن مسيرة المعرفة كانت
مترافقة على الدوام مع زيادة الثراء التخيّلي والتراث البصري على
طول التاريخ. نتذكر هنا مقولة
أرسطو: (أن التفكير مستحيل من دون صور)، فالصورة كانت دائماً
عنصراً تحريضياً في الانشغالات الفلسفية، ومدخلاً حتمياً للإجابة
عن سؤال الماهية، التي تعني هيئة الشيء، حيث يتجلى بقاء الأشياء
في استمرارها وبقائها، وما يبقى منها يتم الكشف عنه في الصورة (idea)
حيث يتجلى ماهو كل شيء من نوع جنس ما.
وفي زماننا، أضحت الصورة جزءً من سلطة المعرّفة
الحديثة التي يسيطر عليها الإعلام، كما كانت مصدر إلهام
للفلسلفات الغربية الميتافيزيقية المتناكفة، إذ باتت الصورة
تظهيراً عقلياً للخبرة الحسيَّة. نلفت الى أن الصورة كانت ساحة
مواجهة أيديولوجية بين الكنيسة والدولة في أوروبا، ولذلك جرى
تحريم الصور والنظر اليها كجزء من التجاذب بين الطرفين، وكان
الحكَّام يفرضون حظراً على الصور ذات الطبيعة الدينية كونها
تشكّل خطراً على السلطة السياسية.
وهناك الآن أنواع جمّة من الصور تزداد كل يوم مع
تطور وسائل المعرفة، بما يقرّبنا من حضارة العين، ومن الناحية
التقنية المحض فإن القرية الكونية، التي بشّر بها مارشال
ماكلوهان، هي صناعة صورة،
ظهرت بعد حرب فيتنام في صور أطفال يقتلون بقنابل النابالم، والتي
حرّكت الشارع الاميركي للمطالبة بوقف الحرب العبثية.
ـ بواسطة الصورة، بات بالإمكان استعمال الحواس
كافة (الشم، والسمع، والنظر، واللمس).. فقد أسقطت الصورة الدور
المحايد للمتلقي، وأملت عليه مهمة أخرى ليصبح متفاعلاً، إذ لم
تعد الصورة تسجيلاً للحظةٍ مرئية في مكان ما، إذ تجاوزت وظيفتها
التقنّية ودخلت في عملية الصياغة الذهنية ولعبة الحقيقة والزيف.
فالصورة وإن باتت قادرة على فضح الحدث، ولكنها صالحة أيضاً
للإستعمال من أجل إخفاء حقائق كثيرة، حين تمارس فعلاً ضدياً.
وطالما أن أهم جزء في الصورة هو إيصالها، فإنها، كمنجز غربي بسبب
تقنياتها المتقدمة وتجربتها الطويلة، تدخل في لعبة التنميط
والقولبة والنمذجة في أبعادها الإعلامية والسياسية والثقافية.
وإذا كان الرهان على المنظومات الفكرية التي تحول دون انكسارها
تحت وابل الصور المتدفقة ووسائل الاعلام عموماً، وهي ـ أي تلك
المنظومات ـ ما تمدّنا بمناعة التأثّر من الدسائس الفكرية
للصورة، فإن انشغالات الأخيرة تركّز إما على تعزيز تلك المنظومات
الفكرية أو تفسيخها، بالنظر الى مصادر الصورة ومنتجيها
وانتماءاتهم الأيديولوجية، بما يجعل الخبر مقبولاً أو منبوذاً.
يسرد أدغار موران شواهد عدة: فالألمان الذين أرادوا أن يجهلوا
معسكرات الاعتقال النازية جهلوها، وفي العام 1945، إستقبل السكان
الألمان صور معسكرات الألمان ورواياتها بوصفها أكاذيب دعائية.
والشيوعيون الذين أرادوا أن يجهلوا معسكرات الغولاغ جهلوها،
والفرنسيون الذين أرادوا أن يجهلوا التعذيب في الجزائر جهلوه.
ـ إن مقولة دع الصورة تتكلم، تعبّر عن ذاتها،
تستعيض عن الكلمات بكلمات من نوع خاص، من أجل تحويل المشاهد الى
مستنطق للصورة، مشارك في حوارية صامتة تفوّض الصورة من يشاهدها
مهمة التعبير عنها بكلمات، باتت مقولة قديمة وطوباوية، فالصورة
تشارك بكثافة في توجيه الأفكار المراد إيصالها عبر تلك العلاقة
الحسية المباشرة.
لاشك، أن مصدر قوة الصورة يكمن في كونها بمثابة
نص مرئي مفتوح على اللغات قاطبة، وأنها ثرية بقدر يسمح بقراءات
متعددة..فاحتلال الصورة للطاقة البصرية مهّدت لاختراق المخيال
العام، وبالتالي الانشغال الذهني، وصولاً الى هيمنة المخبوء على
الوعي، أي عبور الرسالة المندّسة في الصورة الى مربع اللاوعي،
بما جعل للصورة مهمة سرّية تتجاوز البصر الى البصيرة.. فانحلال
حدود الصورة يحيلها الى مضخّة معرفية مكتظّة بحزمة دلالات،
وإيحاءات، وتعبيرات لا تنتمي الى مجرد البعد الجمالي منها، فثمة
رسالة غير مرئية تتسرب خارج الحدود الرسمية للصورة، تسهم في
إنجاب كوكبة مفهومية تعكسها على مجمل المناشط الثقافية والمعرفية
المسؤولية عن صنع الوعي. فالمخزون الدلالي للصورة يجعلها أداة
إتصالية عالية التأثير العاطفي والمعرفي، بل تحيلها الى وسيط
حواري ممتد، محدثة غزارة في المعاني والدلالات وحضوراً كثيفاً في
المشهد الثقافي والمعرفي اليومي.
فالصورة باتت القابلة التي تساعد المشاهدين على
أن يلدوا أفكارهم الخاصة، المتطابقة مع الرؤية الثاوية في
الصورة. فهي تملي علينا ما يجب فعله، وتجعلنا نشاهد ما تريد منا
مشاهدته، فنتحرك ونلفظ بطريقة مماثلة. إنها تقودنا إلى نقطة في
منتصف الطريق ثم تتخلى عنا كيما نواصل السير إلى النهاية المقررة
سلفاً. إنها لا تريد منا أن نكون إبداعيين في التفكير، لأن
الصورة التي يفرضها نظام الإنتاج الصناعي، ذات طبيعة غير
حوارية. ففي كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، تحدث رئيس
الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد في الثاني من أكتوبر 1993
(إن ما نسمعه أو نشاهده هو في الواقع ما قررت وسائل الإعلام
الغربية هذه إننا يجب أن نسمعه أو نشاهده)، وأشار إلى (الاهتمام
البالغ الذي تبديه وسائل الإعلام الغربية برقصة المغني مايكل
جاكسون، أكثر كثيراً من إهتمامها بإذاعة شيء يحدث في اللحظة
ذاتها ويتعلق بمذابح، وعمليات قتل جماعية، أو معاملة وحشية يتعرض
لها بنو الإنسان في أماكن أخرى من العالم).
ولأن التقليد هو منتوج بصري بدرجة أساسية، فإن
تعدد الوسائط البصرية يزيد في مساحة التقليد وأشكاله. فقد كان
الطفل الرضيع يقلّد والدته وإخوانه في البيت، ولكن حين يكبر
يشاهد التلفزيون، ويذهب الى الروضة والمدرسة، ويذهب الى السينما
ويمضي وقتاً طويلاً نسبياً في الألعاب الألكترونية ويخرج الى
السوق، وتقع عينه على شريط طويل من الصور المتدفقة التي بالتأكيد
ستنطبع في ذهنه وتنعكس في سلوكه جزئياً أو كلياً.
وكان رهط من المثقفين الفرنسيين في القرن الماضي،
أمثال ميشيل فوكو، انتقد الإفراط في استنزاف حاسة الإبصار بفعل
ما أنتجته هذه الحاسة في العالم الحديث، لانه يفضي، في جوهره،
إلى إلحاق الضرر بالعقل. فقد محقت الصورة سلطة المثقف، بوصفه
حارساً تقليدياً على المعرفة وأداة لتغيير الواقع، فقد أنزله
الإعلام الجماهيري إلى مستوى المتلّقي والمراقب. ويرى فوكو بأن
مجتمعنا الحالي ليس هو مجتمع المشهد، لكنه مجتمع المراقبة، فنحن
لسنا في قاعة المسرح ولا على خشبته، لكننا موجودون داخل منظومة
الرؤية الكلية الخاصة بالمراقبة.
ـ تاريخياً، أفضت التحوّلات الجوهرية في المجال
الإتصالي الى هزّات ثقافية، بما يجعل العلاقة الجدلية بين وسائل
الإتصال ومسار الثقافة صميمية. ولكن هذه العلاقة لا تعبّر
بالضرورة عن طبيعة توافقية بينهما، من حيث الإرتباط بين التطوّر
الإتصالي والمضمون الثقافي، فليس كل تطوّر إتصالي يشي بعمق
ثقافي، ذلك أن عصر ثقافة الصورة، في نظر المثقّف، بمثابة جناية
كبرى على الثقافة الإنسانية، كونها صادرت مفهوم الثقافة،
وأغراضها، وأريد من المثقفين أن يكونوا أزلاماً يعملون لخدمة
سدنة الصورة، بما ينذر بموت الثقافة. لا يكفي تضييق المسافات
والأمكنة إتصالياً من أجل تسهيل التداول الثقافي بين الشعوب،
ولكن ثمة إشكالية جوهرية تحيق بهذه المهمة، حين تحيل من الثراء
الإتصالي الى مصدر تسطيح ثقافي، عبر تشجيع أشكال ثقافية بليدة
تخدم مشاريع تجارية معينة، وتحويل الثقافة الى مادة تسلوية
وترويحية منفلتة. إن الطلاق بين العالم التقني والعالم الثقافي
يتسبب في، الى جانب كونه أبرز مسببات موت الحداثة، اندثار
القضايا الكبرى والقيم الكبرى، التي دافع عنها روّاد الحداثة،
فيما أطلقت الصورة العنان لسيادة التقنية.
فقد بات المثقف مطوّقاً بضراوة الصورة، التي نزعت
منه سلطة كان يتمتع بها فيما مضى، على وقع تقهقر متواصل لدور
الكلمة المكتوبة، التي يعوّل عليها في صنع رؤية للعالم وتغييره،
فقد خرجت السيطرة من مجالها الثقافي التقليدي وانتقلت إلى مراكز
جديدة، تضطلع بدور صنع الرؤى والتأثير فيها، ممثلة في أبطال
الصورة الذين يتربّعون على عرش الثقافة الجماهيرية من نجوم
الغناء، وأبطال الأفلام وكرة القدم، ومصممي الأزياء..فهؤلاء
يحققون انتشاراً كونياً، ويضخُّون قيماً استهلاكية تغمر الكيانات
الثقافية بكل تجيهزاتها الإتصالية، ووعودها المثالية، وتسلب منها
قدرة المجابهة مع مارد الصورة العابر للقارات، فقد سبقت الصورة
إلى تحقيق فكرة القرية العالمية، وصولاً إلى تفكيك المنظومات
الثقافية والقيمية السائدة، فغلبة الصوت والصورة القائمين على
التقنية بمثابة ضغط شديد على الأداة الرئيسية لتجربة الثقافة
الرفيعة المستمرة، أي الكلمة المطبوعة، بحسب ايريك هوبزباوم.
ـ زمن الصورة الخام قد أدبر، وأصبحنا أمام اكتظاظ
تأويلي، حيث تفتح آفاق التأمل على وقع الاشعاعات الثقافية
المنبعثة من مسامات الصورة، لا بوصفها ذاتاً محنّطة أو تسجيلاً
محايداً للحظة زمنية، بل بكونها حافظة لمعانٍ مضغوطة، تنبّث لحظة
بلوغها نقطة المشاهدة، أي أنها تصبح خاماً حين تفقد وظيفتها،
باعتبارها مادة للإبصار، فهي عمياء لا ترى لأن غرضها أن تمنح
رؤية، وهي تجهل ذاتها ما لم تلق من يكتشفها ليحيلها الى مصدر
معرفي، وهنا تفقد الصورة عذريتها وتزول حياديتها، لأنها تكون
خاضعة تحت تأثير المعاني المتعددة المستخرجة منها، وفق النزوعات
الأيديولوجية لقراء الصورة، الذين يعملون آلات التأويل والفهم
واللغة لصوغ مفاعيلها الداخلية، والتي تعبّر عن نفسها في علاقة
حوارية تكون أحياناً ذات طبيعة صامته وأحياناً فاعلة، تترجمها
مواقف ومشاعر وربما ألفاظ.
ـ تنبّه العالم، مؤخراً، بفعل الإرتدادات
الإنقلابية للصورة، الى أن الاخيرة كسرت مفهوم الحيادية، بعد أن
كانت تمثّل التجلي الأمثل للحقيقة، فقد بات بإمكان الصورة أن
تبطن أيديولوجية صانعها..فصنمية الصور، أنها لاتقول كل الحكاية،
على حد عبارة جان بودريار. وبإمكان الصورة أن تكون غير محايدة
بالإحتجاب كلياً أو جزئياً. في بعدها الإعلامي المباشر، بدا
واضحاً للمراقبين للتقارير التلفزيونية الأميركية والبريطانية
حول المعارك بين إسرائيل وحزب الله في جنوب لبنان منذ نهاية
يوليو 1993، أن هناك إنحيازية واضحة للموقف الاسرائيلي، فلم تأت
التقارير المصوّرة تلك على ذكر موضوع الإحتلال الاسرائيلي لأراضٍ
لبنانية ولا الغارات الجوية الوحشية على الأحياء المدنية وعمليات
التهجير الجماعية، والسبب في ذلك أن المالكين متعاطفون مع
اسرائيل. وفي مثال شبكة سكاي البريطانية، الذي يمتلك روبروت
مردوخ 50 بالمئة من أسهمها، ليس باستطاعة أحد أن يقدّم رأياً
خارج قناعة الملاّك. وحسب توم بايستو، فإن بإمكان المحررين
الحصول على أكبر قدر من الحرية التي يمنحها لهم الملاّك، وأن
المحررين الذين يبقون على غير انسجام مع نظرة الملاّك للواقع
الدولي لا يعمِّرون طويلاً في مواقعهم.
ما يشي به هذا الموقف المخادع، أن الصورة تمارس
فن صنع واقع آخر غير الواقع الفعلي، وذلك يشل ملكة الرؤية للعين
في الكشف عن الحقيقة، فالصورة تصنع حقيقة مضادة أحياناً، بما
يحيل إلى خطر آخر يمكن تفسيره على هذا النحو: أن اجتياح الصورة
عطّل غريزية البحث عنها، فحضورها الكثيف واللحظوي أسبغ عليها
مشروعية واقعية، إذ لم يعد هناك رغبة التحرر منها، فقد تدجّنت
الحاسة البصرية بفعل تمكيث الصورة، في سياق عملية تعليب للوعي
عبر حزمة إملاءات غير مباشرة تفرضها الأجواء النفسية للصورة، فهي
تصنع مناخاً قهرياً لصنع القرارات وتشكيل العواطف، وصوغ الافكار،
وتحقق ذلك تحت وطأة إدمانها، دون إحساس منا بالعدوان أو الإنتهاك
لحقنا في الإعتقاد الحر. فالإنبهار الفائض للصورة يخدعنا فنقابله
بالسماح بتسلله الى المخبوء في لاوعينا لجهة إحداث تعديل في
منظوماتنا الفكرية، ليخرج وعينا على هيئة الصورة الإفتراضية بل
والوهمية للواقع.
ـ إننا أمام شكل من أشكال القرصنة الثقافية، التي
تعيد تشكيل الوعي الفردي والجمعي تحت تأثير اجتياحات الصورة
المنتجة بوحي ملاّك الإتصال، الذين يصونون مصالحهم عبر تحويل
الجمهور الى مدمني الصورة، بكل المواد المدسوسة فيها، ثم
يسلمونهم إلى رجال السياسة كيما يحقنونهم بمواقف تخدم أجندة
معدّة سلفاً. فالسينما تكون للطبقة الحاكمة بمثابة الضمان
للإستقرار عن طريق ما تهيئّه للحكومات من قوة في التأثير على
جماهيرها، يخبر عن ذلك سلسلة طويلة من الأفلام السينمائية التي
تقدّم كمادة توجيه في حروب الولايات المتحدة مع خصومها حول
العالم.
ـ كان الرأي العام الغربي بحاجة الى صورة تكسو
الفكرة النمطية عن الإسلام، كما غرستها وسائل الاتصال الجماهيرية
في الغرب، فالصورة تتيح رؤية الإسلام واقعاً مجسّداً، ولكنها
رؤية مستمدة من صور يخيّل للغربي أنها هي الواقع الفعلي للإسلام،
ولذلك يبقى الأخير ضلالاً، ولا عقلانياً، وإرهاباً، لا يفرّق فيه
بين المعتدل والمتطرف، فالكل سواء في الصورة النمطية عن الاسلام.
لا غرابة، حين يحجب صانع الصورة في الغرب وجه الضحية حين يكون
عربياً ومسلماً، ويشعل ضوءً كثيفاً على الضحيّة الافتراضية،
جندياً، أو جاسوساً، أو مهرّباً قدم من خلف المحيطات البعيدة.
ـ حقّقت الصورة، في اختطاف الزمن وإلغائه عبر
السكون النهائي فيه، إنتشاراً زمكانياً، بحيث تصبح الصورة
إنبلاجاً كونياً، بمعنى أنها جعلت المجال الثقافي الانساني
خاضعاً تحت تأثير سلطتها المطلقة العابرة للحدود، فليس هناك
منطقة مستقلة خارج هذا المجال، فالصورة تخترق كل أجزائه..هذه
الصورة التي باتت محتكرة بدرجة كبيرة من قبل مؤسسات ذات أحجام
إتصالية كونية وتهيمن على الثقافة الإنسانية تستعمل في الوقت
نفسه لتبرير الحروب، وتصدير القيم الغربية، وإخضاع العالم إلى
نمطية ثقافية موحّدة، تنسجم مع النزعة الاستهلاكية والارتهان
الحضاري للغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة.
وليس ثمة شك، أن للصورة سطوة الحضور في هذا
السجال، وتكاد تنفرد بهذه الخصوصية. فالتقنية المتنامية للصورة
وهبتها قدرة توليد المخيال، حيث يتم تعطيل طاقة المشاهد في
استنباط وتحفيز مخياله الخاص النابع من إحساسه بجمالية الصورة
المنطوية على محرّضات لتصعيد المخيال.
فيما مضى، كان الاشتغال منصباً على البحث عن صورة
لحادثة واقعة، ولكن التكنولوجيا الإتصالية قلبت المعادلة فأصبحت
الصورة صانعة للخبر، بل باتت ثرية في مفرداتها غير الملفوظة.
فصانعو الصورة أرادوها متجاوزه للحد الأنطولوجي، المنحبس في
توثيق وتوصيف لحظة تاريخية بمكوّنيها الرئيسيين الزماني
والمكاني، فأحالوها خطاباً مفعماً بدلالات ثقافية مضطردة. فلم
تعد الصورة قطعة بصرية مجردة، فهي تقع خارج المجال الزمكاني
للصورة، وتنفتح على أبعاد أخرى ثقافية وسياسية وإجتماعية، تحتشد
لمهمة تشكيل الوعي. بهذا التشويه للوجه الجمالي للصورة، يتم
استدماج الخيال بالواقع كنزوع متعمّد للتسلل إلى مركز الوعي
للعبث بمكوّناته، وتخليق ذاكرة ثقافية جديدة تستمد قوتها من
سلسلة الإندماجات المتدفقة بلا انقطاع من الصور المتخمة بدلالات
ورموز مموّهة. فالصورة أصبحت كبسولة دلالات ثقافية تتفتق دفعة
واحدة، بخلاف الكتابة التي تبث دلالاتها على امتداد النص.
وكلمة أخيرة: إن أسوأ ما اقترفته الصورة جنوحها
المتعمّد الى تسليع وتزوير هوية الثقافة في عملية تحوير لدورها
التوعوي، ما جعلها قاصرة عن ممارسة دور التغيير والإصلاح.
*
ملخّص ورقة قدّمت لمؤتمر (ثقافة الصورة)، نظّمته جامعة فيلادلفيا
في إربد بإلاردن في الفترة ما بين 24 ـ 26 أبريل 2007
|