هل
أصبحت الدولة مجرد سحابة صيف
دور القبيلة ومستقبلها في المملكة العربية
السعودية
مرتضى السيد
اهتمت الدراسات الأكاديمية خلال العقدين الماضيين بدراسة موضوع
"القبيلة" في بعض بلدان الشرق الأوسط رغم طغيان الإهتمام
بموضوعات أخرى شغلت المنطقة في ذات الفترة، مثل موضوع (الأصولية
الإسلامية) و (الديمقراطية) و (حقوق الإنسان) وغيرها. فبعد فترة
طويلة اعتقد الكثيرون أن دور القبيلة والإنتماء القبلي قد شارف
على النهاية، أو انتهى فعلاً، ونرى أن الحسّ القبلي أعيد توظيفه
في السياسة من جديد، أو جرى التأكيد عليه بشكل غير مسبوق في
بلدان قطعت شوطاً واسعاً في مجال التحديث الإقتصادي والسياسي.
ويسود اعتقاد غامض بأن القبيلة كشكل من أشكال التنظيم الإجتماعي،
المعتمد على روابط القرابة والحيّز المكاني والقيادة، شهدت حالة
من الإنبعاث لأسباب سياسية واجتماعية محليّة إمّا بمعزل عن
الدولة أو تماشياً مع رغبتها بل وإلحاحها أحياناً، فعبرت عن
نفسها بأشكال مختلفة، وامتدّ تأثيرها الى مختلف القطاعات
الثقافية والعسكرية والأمنية.
إن أكثر دول الشرق الأوسط لها صلة وثيقة بموضوع القبيلة، فبعضها
نشأ اعتماداً على بنية قبلية كدول الخليج والأردن واليمن، وبعضها
الآخر تمثل القبيلة من حيث العدد قدراً يزيد أو يقل ولكنه مؤثر
بالنسبة لعدد السكان الإجمالي، كما في العراق، ليبيا، الجزائر،
السودان، تركيا، ايران، مصر وغيرها. ومن هنا فإن جذور الإنتماءات
القبلية لاتزال ضاربة في عمق التاريخ رغم التحولات الكبرى التي
شهدتها الدول القطرية الفتية في المنطقة، وبالتالي فإن دور هذه
الإنتماءات مسألة مفروغ منها الى حدّ ما، وإنما يدور النقاش حول
مدى تأثيرها، وهو أمرٌ تحدده عوامل متغيرة، لها صلة بنشأة الدولة
القطرية نفسها وعلاقتها بالقبيلة وسياساتها العامة، إضافة الى
طبيعة البناء القبلي، وتراث كل قبيلة السياسي منه والثقافي، وغير
ذلك. وهذا يجعل دور القبيلة خاضعاً للمدّ والجزر. قد يتخذ ذلك
الدور أشكالاً مختلفة في التعبير والممارسة، وقد يستخدم من مختلف
الأطراف لصالح الدولة القطرية أو ضدها، لتحقيق أهداف مختلفة
ومتعارضة في كثير من الأحيان.
المملكة العربية السعودية واحدة من الدول في المنطقة التي تسود
فيها الإنتماءات القبلية، ودراسة القبيلة ودورها السياسي أمرٌ
مهم لمعرفة مجريات السياسة اليومية فيها، وهي نافذة يمكن الإطلال
منها على المستقبل الذي تحدده عناصر وتشكيلات إجتماعية عديدة.
وهذه المقالة المختصرة، تحاول:
·
تحديد انحدار وانبعاث الإنتماءات القبلية، أسبابه ونتائجه.
·
تحديد الدور، أو الأدوار التي تلعبها القبيلة في الوقت الحاضر.
·
تحديد الأشكال التي تتمظهر بها القبيلة في التعبير عن ذاتها
وصيانة مصالح أفرادها.
·
تحديد الآثار المستقبلية الناتجة عن تراجع أو تعاظم دور
الإنتماءات القبلية في المملكة.
[1]
انحدار دور القبيلة: الأسباب والنتائج
ثلاثة عوامل رئيسية يمكن اعتبارها سبباً لأفول نجم القبيلة، في
منطقة الشرق الأوسط عموماً وفي المملكة العربية السعودية على وجه
الخصوص.
الأول: قيام الدولة القطرية
فقد وجدت الدولة القطرية نفسها في بداية نشأتها في مواجهة مع
القبائل كهياكل اجتماعية وكثقافة وانتماء. لقد اعتبرت القبيلة
عنصر إقلاق وعدم استقرار بل عنصر خطر وانشقاق، يمنع سيادة الدولة
من التحقق على كل الأفراد، ويمنع تحقق سيطرتها كقوة غالبة قاهرة
على جميع القوى.. كما وجدت الدولة في بداية نشأتها أن الإنتماءات
القبلية تمنع تطور الهوية القطرية (القومية) الوليدة، وليس فقط
كعقبة أمام سيطرة النظام والقانون، وأمام قيام حكومة مركزية.
وبسبب هذه الرؤية، اعتبر الصدام بين الدولة والقبيلة أمراً
حتمياً، كما اعتبر التعايش معها دليلاً على ضعف الدولة.
عدّ بعض الباحثين القبيلة وحدة سياسية إن لم تكن تشكل وحدة
ثقافية متميّزة. وإن وجودها السياسي ـ خاصة ما قبل قيام الدولة ـ
كان حلاّ سياسياً لمشكلة سياسية، بمعنى أنها كانت بديلاً عن
الدولة وعن تشظّي السلطة المركزية، وقامت بدورها حينما كانت
الدولة غائبة، الأمر الذي يستدعي إزالة نقيضها الموضوعي، أي
القبيلة، أو زوالها التلقائي بقيام الدولة، إمّا لانتفاء غرضها
السياسي وانسحاب مهامها الى المركز من جديد، أو لأن مقاومتها
لقيام سلطة مركزية أمرٌ حتمي دفاعاً عن مصالحها وموقعها السياسي،
مما يجعل الإصطدام بين الدولة ودور القبيلة السياسي أمراً لا
فكاك منه. بيد أن هناك من يجادل بأن الصدام ليس حتمياً بالضرورة.
كان الهدف المركزي للدول القطرية الوليدة هو إخضاع القبيلة
لسلطانها بشتى الوسائل الممكنة، بعضها اتخذ صفة دموية في مواجهات
مباشرة ومعارك طاحنة، وفي بعض الأحيان تم تحييدها باستقطابها ضمن
مشروع الدولة لتقويتها والفتك بأعدائها، تاركة للزمن فرصة تفكيك
هيكلها السياسي والإجتماعي. وفي الوقت الذي كانت فيه الدول
الوليدة تسعى جاهدة لخلق أجهزتها الأمنية والعسكرية والسياسية
والإقتصادية بما يعزز قدرتها على الحركة والتأثير عبر شبكة
الإتصالات والمواصلات (استخدام السيارات والطائرات والأجهزة
اللاسلكية) بحيث قضت على عزلة البدو في عمق الصحراء، وأشعرتهم
بقدرة الدولة على الوصول اليهم في أي وقت.. كان موضوع تدمير بناء
القبيلة متوازياً في الأهمية مع خلق تلك الأجهزة، من جهة محاصرة
حركتها ضمن حدود الدولة حيث لعب ترسيم الحدود دوراً مهماً في
تقليص قدرة القبيلة على خلق أزمات حدودية بين الدول المستقلة
وجعلها مكشوفة الغطاء السياسي والأمني.
أدى قيام الدولة الى تفكيك سلطة القبيلة سياسياً، الأمر الذي
مهّد الى إضعافها إقتصادياً ودمجها ضمن قطاعات الدولة المختلفة،
كما أدى في مراحل لاحقة الى استخدام أدواتها وهيكليتها القيادية
الى ضبط عناصرها وكذلك الى ضبط الآخرين بواسطتها ممن يشذّون عن
النظام السياسي والأمني العام.
في المملكة العربية السعودية كانت هناك تجربة مختلفة الى حدّ
كبير عن غيرها، فهي دولة لم يطأها المستعمرون الغربيون، ولم تنشأ
أجهزتها عبرهم، كما هو الحال في كل دول الشرق الأوسط العربية،
وهي ـ وإن كان البريطانيون قد ساهموا سياسياً ومالياً في ظهورها
ـ فقد اتخذت سياسات مختلفة تجاه القبيلة بناء على تجربتها الخاصة
بها. فالمملكة هي الدولة الوحيدة التي كان للقبائل دور بارز
ومركزي في نشأتها من الناحية العسكرية عبر مشروع الإخوان
وتوطينهم في (الهجر). في العادة تنشأ السلطة المركزية أو أنويتها
في مركز حضري ثم تتوسع تلك السلطة وتتعزز بخلق الأجهزة الأمنية
والعسكرية وتمدّ سلطانها الى خارج المراكز الحضرية لتصل الى
القبائل في الصحراء فتتصارع معهم وتخضعهم وتجذبهم اليها. أما في
المملكة، فإن الذي حدث شيئاً معاكساً تقريباً. فقد نشأت السلطة
في مركز شديد التصدع سياسياً، ولم يكن كثيف السكان، ولا يحمل
أهمية استراتيجية من نوع ما. وكانت المشكلة التي واجهت هذا
المركز (الرياض ـ نجد) هي الإمتداد وإخضاع المراكز المدينية
الأكثر أهمية في الشرق والغرب (الأحساء والقطيف والحجاز) بشكل
خاص، عبر التوسع والإحتلال العسكري.
لهذا السبب، كان لا بدّ من وجود قوّة عسكرية تقضي على دولة
الحجاز، وعلى إمارة الشرق التي يسيطر عليها العثمانيون، هي لم
تكن موجودة بل يصعب إيجادها. ومن هنا جاء توظيف ثنائية الدين
والقبيلة لخلق جيش بدوي عقائدي قادر على كنس القوى المحلية
الصغيرة في نجد ومجابهة الجيوش المنظمة في الشرق والغرب. كان
وجود جيش الإخوان ضروة لخلق الدولة السعودية، ولم يكن بالإمكان
إخضاع القبائل بالقوة وحدها، وإنّما بسلطة الدين، فكانت الوهابية
الوعاء الأيديولوجي للتوسّع وتكوين المملكة.
كان لا بد من وجود عقيدة تسمو فوق القبلية، وإن مؤقتاً، تستهدف
من الناحية السياسية التوسع، ومن الناحية الدينية نشر "العقيدة
الصحيحة" أي "الوهابية" بحيث تعطي للقبلي البدوي هدفاً أبعد من
أرنبة أنفه.. تعطي للقتال معنى أفضل، وهدفاً أسمى، وغاية أكثر
نبلاً. قبل البدو هذه الإيديولوجية الوهابية، بعضهم اقتناعاً،
وبعضهم رغماً عنه (قبيلة العجمان مثلا) تحت طائلة التهديد
بالقتل، وبعضهم طمعاً في المغنم الإقتصادي. لكن القوى السياسية
التي أدارت معركة تشكيل البنيان العسكري للقبائل ضمن سلك
الإخوانية لم تكن تستهدف الغاية الدينية بالمعنى الحصري، بل كان
الحافز السياسي يلعب دوراً فاعلاً في توجيه المعركة. هذا لا يلغي
حقيقة ان الأهداف المذهبية كانت حاضرة لدى علماء المذهب، فقيام
سلطة توسعية يحقق الغرض الديني وينشر العقيدة "الصحيحة".
لكن لكي تكون العقيدة مرتكزاً أساسياً بحيث تعطي أكلها، لا بدّ
أن تعطى تفسيرات حادّة متطرّفة جامحة وإلاّ فقدت قدرتها على
الحشد والدفع والإستبسال. وكان المذهب الوهابي مهيئاً لأن يلعب
هذا الدور نظراً للبيئة الاجتماعية والجغرافية التي نشأ فيها
والظروف السياسية والتاريخية والفكرية غير الملائمة التي أحاطت
بمناطق ظهوره. ولهذا كان لا بد للمذهب الحاضن أن يبطن عقيدة
التوسع في صورتها الحادّة، وأن تحقن أتباعها بالمشاعر الدينية
المتحفزة نحو تحقيق الغايات السياسية الكبرى: فقد تحوّل غزو
القبائل وتقاتلها مع بعضها البعض الى جهاد ديني ضد الآخر الخارجي
الكافر والمشرك الذي يحل دمه وماله وعرضه في المراكز المدنية
الأخرى، بشكل حفظ وحدة الداخل النجدي، ومنعها من التذرّر في
عملية الإقتتال والتدمير الذاتي.. كما وأعيد تسمية النهب والسلب
دينياً، فكلها أصبحت غنائم، وكان الإمام يتقاضى خمسها.
هذه الروح الناشئة من مزيج من القيم الدينية والقبلية والمتزاوجه
مع وجود قيادة سياسية مدنية واعية لغاياتها، استطاعت أن تنهي
ثلاث كيانات سياسية كبيرة خلال سنوات قلائل: حائل في عام 1921،
وعسير في العام التالي، والحجاز بين عامي 1924-1926م. هذه
النتيجة كانت متوقّعة سواء من تجربة نجد السابقة في القرن التاسع
عشر، أو من تجارب الأمم بشكل عام والتي تقول بأن تحقق التضامن
المذهبي معززاً بالتضامن القبلي في جماعة ما، فإنه يجعلها في
الغالب قادرة على تحقيق سيطرة واستقلال سياسيين.
ومما يجدر ذكره هنا، أن تزاوج الروح القبلية والدينية أدّت الى
قيام امبراطوريات عديدة، كما ويجب التذكّير هنا بالإتفاق الذي تم
بين محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب قبل نحو قرنين من
الزمان، والذي يفهم منه وعي الطرفين لما يمكن أن يحققه هذا النوع
من التزاوج.
ما وددت التأكيد عليه هنا هو حقيقة أن القبيلة في المملكة كانت
أحد ثلاثة أطراف وقع عليها عبء تشكيل الدولة السعودية الحديثة:
رجال المذهب الوهابي، والعائلة المالكة، والقبائل النجدية بشكل
أساس. الطرف الأول وفّر الغطاء الديني القادر على الحشد والإطار
الأيديولوجي للتوسّع، أما الطرف الثاني فقد مثل القيادة السياسية
الواعية بمهامها وأهدافها، في حين أن الطرف الثالث شكّل وقود
الحرب، والجيش الذي اقتحم الكيانات الأخرى الأكثر نضجاً فاقتلعها
من الجذور.
المعنى الذي يمكن أن نصل اليه هو أن القبيلة في المملكة العربية
السعودية ليس فقط لم تكن ضد إقامة الدولة، بل كانت أحد صنّاعها
الأساسيين. بيد أنه وبمجرد أن قامت الدولة، وبالتحديد بعد
استكمال احتلال الحجاز بسقوط جدة والمدينة المنورة في يناير
1926م، أخذت القبيلة تلعب دوراً معاكساً، ليس بالضرورة ضد قيام
الدولة، وإنّما على قاعدة تحصيص السلطة بين الأطراف التي ساهمت
في صناعتها. فبعد انتهاء احتلال الحجاز، استكملت العائلة المالكة
آخر الأراضي التي يمكن إضافتها الى الإمبراطورية الوليدة، وبدا
أن زمن الغنائم قد ولّى وشبح الأزمة الإقتصادية يطرق الأبواب،
وأن قيمة الجيش الإخواني آخذة الى الإنحدار بعد انتهاء المعارك،
بمعنى أن دورهم قد استنفذ أغراضه.
حاول قادة الجيش الإخواني (وهم زعماء القبائل) أن يواصلوا
(الجهاد) ضد العراق والأردن وسوريا ودول الخليج، فالجهاد لا يعرف
الحدود، والأمبراطوريات الدينية لا تتوقف عند الحدود والفواصل
الثقافية والدينية والعرقية
خاصة إن كانت في أوج زخمها وانتصاراتها، ولكن الملك عبد العزيز
أدرك مبكراً بأن ساعة التوسّع قد دَنَت، وأنه من الغباء المخاطرة
بمواجهة النفود البريطاني في الشمال والشرق، أو الدخول الى ما
كان يسمية بـ (عش الزنابير) في اليمن.. ولذلك حاول إقناع الإخوان
وضبطهم دون الإفصاح بشكل واضح عن المخاطر التي تتهدد ما بنوه،
وراح يؤكد على أحقيته باعتباره (الإمام) بأن إعلان الجهاد من
حقوقه (وحده) وأنه لا يحق لأحد أن يقوم بالجهاد (غزو المناطق
المجاورة) بدون إذن منه. وبالطبع فإن هذا لم يقنع قادة جيشه
الإخواني، الذين لا يعيرون اهتماماً ـ حسبما تلقوه من حقن ديني ـ
بموازين القوى ولا بالمخاطر، بل بأداء الواجب الديني الذي يستهدف
إدخال المشركين، وهم كل من لا يرى معتقدهم، في الإسلام.
في نفس الوقت، تنبّه بعض قادة الإخوان الى أن نضوب موارد
(الجهاد) خاصة بعد أن قطعت بريطانيا مساعداتها المالية المباشرة،
يمكن أن تعوّض عن المناطق المفتوحة خاصة في الحجاز، وقيل أن زعيم
عتيبة (ابن بجاد) طلب توليته حاكماً على المدينة المنورة، وهو
أمرٌ رفضه الملك عبد العزيز.
وبدأت الأمور تتعقد بين القيادة السياسية وقادة الجيش الإخواني
القبلي، الذين أخذوا يحصون أخطاء الملك العديدة، وكيف أنه تغيّر
كثيراً في مسلكه وسياساته بعد احتلال الحجاز، وأخذوا ينشرون
اعتراضاتهم في نجد ويهيجون أتباعهم ويهاجمون المراكز الحدودية
التابعة لدول الجوار في العراق والأردن، مما تطلب عقد مؤتمر نجدي
لم يسفر عن نتائج مرجوة رغم أن رجال الدين كانوا الى جانب الملك،
وهو أمرٌ عدّه الإخوان محاباة له، وخلافاً لما لقّنوهم إيّاه.
وأخيراً تطوّر الأمر الى مواجهات عسكرية عديدة، اختتمت بمعركة
السبلة 1928م، التي فُني فيها الجيش الإخواني أو أكثره، واعتقل
القادة العسكريون (قادة القبائل) ثم تمت تصفيتهم في السجون. وفي
عام 1932 أعلن رسمياً قيام "المملكة العربية السعودية" فكانت
إشارة الى نهاية عصر التوسع وتأسيس الدولة، وبداية لبناء
مؤسساتها واستقرارها.
الثاني: انهيار النظام الإقتصادي للقبيلة
قاد الإنهيار السياسي لسلطان القبيلة ودورها في المملكة بعيد
نكسة الإخوان الى انهيارات متتالية على صُعُدٍ مختلفة. فالقبائل
التي أقبلت على الهجر وتخلّت عن حياة الترحّل، معتمدة بالدرجة
الأولى على مكاسب الغزو (الجهاد) بدأت بالتخلّي عن مستوطانتها
(بعضها على الأقل) وبدأت بالعودة ثانية الى حياة الترحّل،
ربما كان ذلك ردّة فعل سياسي على الهزيمة العسكرية القاسية، رغم
أن التعاليم الدينية تحرّم "التعرّب بعد الهجرة" وتعتبره كفراً.
أيضاً فإن بعض فروع القبائل رأت الهجرة الى خارج سلطة ابن سعود
نفسه، شمّر هاجرت الى العراق وبعض أفرع العجمان أرادوا أن يكونوا
تحت سلطة الكويت.
والهجر اليوم فقدت دالّتها الدينية التي أعطاها إياها الإخوان،
وأصبحت مجرد تجمع عشائري تبنى فيه بيوت متقاربة للعشيرة
المستقرة، دون الحاجة الى الترحال وراء الإبل، فهناك من يقوم
برعيها من العمال الوافدين، كما أن (وايتات المرسيدس) تأتي
بالماء والعلف الى عمق الصحراء.
ورغم توقّف مشروع الهجر التوطيني القائم على أسس عقدية، وكذلك
انهيار نظام الإعتماد على الحروب العسكرية كمصدر للعيش، فإن
عدداً من القبائل في المملكة، وفي بلدان عربية أخرى، اضطرّت الى
الإستيطان بالقرب من المناطق الحضريّة، وممارسة دور (الشاوي/
راعي الماشية) بدل البداوة الأصيلة (رعي الإبل) في القفار، رغم
ما يحمل في طياته من (ضعة) حسب الأعراف القبلية. والسبب يعود
بالدرجة الأساسية الى الجفاف الذي ضرب الجزيرة العربية مرات
عديدة في العقود الماضية، خاصة بين عامي 1958 و 1965 والتي أدت
الى هجرة كبيرة لقبائل البادية لم يجر استثمارها وتعزيزها فما
لبث أن قامت هجرة معاكسة بمجرد أن انتهت أزمة الجفاف.
لم تكن هناك أراضٍ زراعية تلزم القبائل بالإستمرار في الإستقرار،
ولم تكن السلطة المركزية قبيل عصر النفط قادرة على توفير الحدود
الدنيا للسكان البدو ورجال القبائل عموماً، وهو أمرٌ لم تشهده
قبائل مستوطنة في بلدان عربية أخرى. ففي العراق على سبيل المثال،
وفي حركة سياسية بارعة منها، قامت السلطات البريطانية المنتدبة
على ذلك القطر، بسنّ نظام للأراضي الزراعية، أعطت بموجبه مساحات
شاسعة لشيوخ القبائل ضمن حدود (ديرتها) فأصبح شيوخ القبائل رجال
إقطاع، أغنياء بممتلكاتهم الجديدة، وتحوّلوا في الجملة من عنصر
مهدد للنظام السياسي الوليد هناك الى داعم له، بل أصبح عدد من
أولئك الشيوخ الى (أفندية) يقيمون في العاصمة معتمدين على الدخل
المتأتي لهم من الأراضي، وبذلك وقعت شروخ حادة في هيكل القبيلة
وثقافتها، ونشأت حزازات بين قيادتها وأفرادها العاديين، رغم أن
الشيوخ امتلكوا قوة مالية قادرة على إرضاء أفراد القبيلة، كما
امتلكوا كلمة في السياسة الوطنية وظّفت في بعض الأحيان لخدمة
القبيلة.
ترافق مع ترسيم الحدود بين المملكة وجيرانها، محاصرة لهجرات
البدو الطبيعية، وإن لم يكن بشكل كامل، فقد استمرت هذه الهجرات
مخترقة الحدود السياسية العراقية والسورية وحتى التركية
والإيرانية الى الثمانينات الميلادية..
ترافق مع ذلك بناء مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية بشكل خاص،
مما أدّى الى القضاء على عزلة البدو الى حد كبير، والى ازدياد
البون بين قدرات القبيلة في مواجهة قدرات الدولة التي أصبحت
معززة بالطائرات والأسلحة الجديدة الفتاكة.
وحتى قبل مجيء النفط، كما هو الحال في عدد من البلدان العربية،
أصبح جهاز الدولة أكثر قدرة على تقديم تعويضات للقبائل، عبر
الأراضي الزراعية كما كان في العراق، أو عبر الهبات المالية التي
كان الجهاز الضريبي يتحصّل عليها، وبذلك كانت هناك إمكانية
لتقديم الخدمات الإجتماعية للقبائل وجذبها الى الإستقرار، وشراء
رؤوسها، واستخدامها كوسيط بينها وبين أفراد القبيلة من أجل ضبطهم
أمنياً. أضف الى ذلك صار بإمكان الدولة توفير فرص عمل بديلة
وبالخصوص في المجال العسكري حيث أُلحق ما تبقى من الإخوان بـ
(الجيش الأبيض) الذي سمي فيما بعد بـ (الحرس الوطني)، بحيث يتلقى
رجال القبائل رواتب منتظمة في وظيفة تتناسب مع شخصياتهم
وذهنياتهم.
ومع تصاعد المداخيل النفطية، وانهيار النظام الإقتصادي القبلي
القائم على ما يشبه الإكتفاء الذاتي، أصبحت القبائل ورجالها
مرتبطين بشكل مباشر بالدولة وأكثر اعتماداً على مواردها.
وهكذا تمّ إنضاب سلطة القبيلة سياسياً، وتدمير اقتصادها الرعوي،
فأضحت القبيلة، في المملكة إضافة الى ما مثلته الإنتكاسة
العسكرية منذ تدمير الإخوان، مهيضة الجناح، سلبيّة مطواعة بيد
السلطات السياسية.
الثالث: انهيار النظام القيمي لدى القبيلة
يدور الجدل السياسي حالياً حول مدى تأثير عمليّة التحديث التي
خاضتها المملكة وغيرها منذ الستينات وحتى الآن في إحداث تغيير
جوهري في المفاهيم والاعراف والولاءات القبلية. ذلك أن نجاحاً
دائماً للدولة القطرية لا يمكن أن يتمّ دون إحداث نقلة في
التفكير والمعايير القيمية للمجتمع القبلي. فانهيار سلطة القبيلة
سياسياً وعسكريا واقتصادياً إنما هو وسيلة لتحقيق تلك الغاية
والتي ينشد منها إلغاء العصبيات والإنتماءات القبليّة وغيرها،
وتوحيد المجتمع على قاعدة الإنتماء الوطني والثقافة الوطنية،
وهما أمران ضروريان لبقاء كيان الدولة. ولذا فإن مقاييس النجاح
بنظر البعض تتمحور حول هذا الجزء من التغيير الثقافي والذهني،
وبدونه تأخذ عملية "إخضاع القبائل" صفة مؤقتة غير مدمجة، فإذا ما
حدثت أزمة سياسية غير متوقعة، فإن حالة الإخضاع السلبي تنتفي،
ويعود تفعيل الروابط والولاءات القبلية في العمل السياسي غير
الوطني، بشكل تصبح معه القبيلة حزباً سياسياً له أركانه الثقافية
والقيادية إضافة الى مصالحه الخاصة به.
مما لا شك فيه، أن نظام القبيلة القيمي قد تغيّر بفعل عوامل
التحديث الاقتصادي. فالتعليم والإعلام والخدمات الإجتماعية
والمواصلات وشيوع أجهزة الإتصال، سببت انقطاعاً لم تدرك أبعاده
كاملة بشأن الولاء السياسي القبلي والتميّز اللغوي والثقافي
للقبيلة، بل ربما أدى الى ما هو أبعد من ذلك وهو نسيان تاريخ
القبيلة ورموزها وتراثها السياسي، خاصة بين تلك القبائل التي
تمتعت في الماضي بمثل هذا التراث (بنو خالد، وشمّر، وغيرهما).
لم يعد شيخ القبيلة يحظى بالإحترام الذي كان يتمتع به بين
أفرادها، ولم يعد يلعب أيضاً دوراً مهماً لخدمة أبناء القبيلة أو
يتحمل مسؤوليات ذات أهمية بشأنها، سواء في حل الخصومات او إعلان
الحرب أو توزيع النهائب او حبس المجرمين الخ. باختصار أصبح دوره
احتفالياً، لكنه قابل لأن يتفعّل إذا ما أُتاحت الظروف السياسية
والإقتصادية ذلك.
ورغم أن الولاء السياسي هو ما تطلبه القبيلة من عناصرها، أصبح
الولاء في مجمله عاطفياً معتمداً على الروابط الإجتماعية
والعائلية وعلى القدر الباقي من التراث التاريخي والثقافي
للقبيلة نفسها. هذا الولاء قد يسيّس أيضاً كما التراث الثقافي
ضمن الشروط الموضوعية للوضع السياسي العام للمملكة.
لقد تعثرت جهود السلطة فيما يبدو، في تأسيس نظام قيمي موازٍ قادر
على صهر الإنتماءات الفرعية، سواء كانت قبلية أو مناطقية أو
مذهبية لأسباب مختلفة، بعضها يتعلق بغياب مشروع وطني ثقافي
وسياسي، وبعضها يعود الى طبيعة القبيلة نفسها التي قاومت معاميل
الصهر. ولذا يعتقد أحد الباحثين بأنه "رغم الإنحلال الهيكلي
للقبيلة كتنظيم اجتماعي غير محدّث، فإن الإنتماء والتضامن
القبليين لا يزالا مظهرين بارزين في مجتمعات الشرق الأوسط".
ما أردتُ التأكيد عليه هنا بالتحديد، هو أن القبيلة في المملكة
بشكل خاص، وإن فقدت سلطانها ومكانتها، فإنها احتفظت بقدر غير
قليل من عوامل بقائها، وأهم تلك العوامل بقاء نظامها القيمي
ومعاييرها الثقافية، والتي يمكن البناء عليها في تأسيس دور جديد
للقبيلة يمكن أن يفعّل سياسياً في مراحل لاحقة.
[2]
عوامل انبعاث دور القبيلة في المملكة
خمسة أسباب يمكن الإشارة اليها كأسباب لانبعاث دور القبيلة
مجدداً في المملكة:
أولاً ـ
الافتقار الى مشروع لتنمية الثقافة والإنتماء الوطنيين. ويعود
جذور هذا الأمر الى طبيعة نشأة الدولة التي كانت قائمة على
التوسع العسكري، وطبيعة المجتمع السعودي شديد التنوّع ثقافيا
وطائفياً ومناطقياً، إضافة الى مشكلة النظرة البدائية لموضوع
الحكم والسلطة، باعتبارها امتيازاً فريداً ومغلقاً بالمنتصرين،
كل هذا جعل النظرة الى موضوع الوطنية بوصفه خطراً قد يفضي الى
انفراز قيادة على أسس مختلفة، والى تعزيز وحدات داخلية قادرة على
إضعاف من يمسك بالقرار السياسي. إن مواجهة الروح القبلية كان
يتطلّب تأسيس مشروع وطني أوسع، وهذا المشروع لا شك له كلفة عالية
من وجهة نظر السلطة الجديدة. فهو يعني إقحام مجاميع السكان في
العملية السياسية المحلية، مستنداً الى ثقافة تعطي الأفراد
والجماعات حقوقاً سياسية تقلّص من سيطرة السلطة المطلقة. وهذا
أمرٌ لم يكن مرغوباً فيه.
إن غياب المشروع الوطني حتى في حدوده الدنيا، ترك فراغاً كبيراً
ملأته الثقافات والإنتماءات الفرعية غير الوطنية (وبينها
القبلية) وتربعت على عرشه لمدّة طويلة دون مزاحم حقيقي. ومن أجل
تحجيم الخطر الماثل من القبيلة والإنتماءات القبلية، اتبعت دول
الشرق الأوسط عموماً منهجاً موحداً لمكافحتها، وكثير من تلك
الدول ذهب لأبعد من ذلك، وهو تقويض الإنتماء القبلي من أساسه
وليس هيكل القبيلة الظاهري ونزع أظفارها وأنيابها العسكرية
وتمثيلها السياسي لشريحة من الناس. وفي المملكة، لم يكن الهدف
أكثر من تحجيم خطر القبيلة على الصعيد الأمني، ولذلك هندست
سياسات وبرامج اجتماعية ينحصر هدفها في هذا الإطار. بمعنى آخر،
فإن الدولة في السعودية وربما في اماكن اخرى من الشرق الاوسط لم
تتعمد إلغاء الإنتماء القبلي والثقافة القبلية (وربما الأصح أنها
لم تكن قادرة على إلغائه أيضاً) بل أرادت البناء على هذا الكيان
الإجتماعي وتوظيفه لمصلحتها، وقد نجحت في ذلك بالفعل، ولكنها لم
تنف الخطر.
إن التجربة الوهابية في مراحل الدولة السعودية الثلاث، ورغم
التأكيد على الإنتماء الديني، فإنها لم تلغ القبلية بل بَنَت
عليها قواعدها، وشذّبت بعض تصرفات القبليين، دون الحرص على إيجاد
ثقافة وطنية أوسع تذوب في بوتقتها الثقافات والإنتماءات الفرعية.
إن هذا الإستثمار للقبيلة بعد تحييد خطرها، أو جعلها سلبية غير
قادرة على النهوض بمشروع يشكل خطراً على الدولة، إنما هو استثمار
مؤقت يرتهن بقاؤه بعاملين أساسيين هما: المال والقوة. ولذا
استعملت سياسة العصا والجزرة مع القبائل عامة، فالمال مهدّئ بلا
شك، وقد سكب الكثير منه عبر العطايا المباشرة والتوظيف في أجهزة
الأمن والعسكر، كما أن الحكومة تبدي دائماً مظاهر القوة،
وتستخدمها إن تطلّب الأمر، مما يجعل القبائل غير ميّالة الى
الإنشقاق وتهديد الأمن سواء توجه التهديد مباشرة الى أجهزة
الدولة او الى قبائل أخرى تتنافس معها أو لا تزال الثارات
القبلية موجودة بينها.
يضاف الى ذلك أن الحكومة السعودية اعتمدت إناطة الإدارة المحلية
كرؤساء البلديات والمحافظين ورؤساء المراكز في المناطق التي
تسكنها قبائل، أناطتها بأشخاص من خارج القبيلة غرباء لا يدينون
بالولاء إلاّ للسلطة المركزية، خاصة بين قبائل تعتبر معادية
تاريخياً (شمّر مثلاً). وقد لوحظ أن "جميع زعماء القبائل في
العربية السعودية لا يتكلمون على ممثل الحكومة إلا بنبرة استهجان
في صوتهم" بل أصبحوا موضع احتقارهم وإن لم يعلنوه، ويسع أفراد
القبيلة دائماً الى "تهميش دور ممثل الحكومة قدر الإمكان" من
خلال تقوية دور شيوخهم بالرجوع اليهم لفضّ المنازعات. إن إمارة
الزعماء القبليين هي الأكثر إثارة للجدل، فهناك الجميع ضد الجميع
والى حد ما ضد الحكومة، حيث أعصاب النظام تكون مشدودة الى أقصى
حدود التوتر.
ثانياً ـ
تصاعد الأزمة الإقتصادية وفشل الإحتواء الذي اعتمد سياسات مؤقتة
قائمة بدرجة أساس على توفير الرفاه الإقتصادي. فقد أصبحت قدرة
الحكومة اليوم بسبب الضائقة الإقتصادية المستمرة منذ منتصف
الثمانينيات، محدودة للغاية سواء في استرضاء القبائل مالياً، أو
في استيعاب تطلعاتها السياسية. ذلك أن واحداً من أهم التطورات
التي شهدتها القبيلة في المملكة، هو وجود عدد غير قليل من
المتعلمين وحملة الشهادات العليا بين رجال القبائل، وهؤلاء بعكس
ما يتصور من أنهم تركوا روابطهم القديمة، يقومون بتعزيز تلك
الروابط وتفعيلها سياسياً، بعد أن أصبح استيعاب تطلعات هذه الفئة
سواء في الجهاز البيروقراطي او السياسي غير ممكن في الوضع
الحالي. هذا الأمر أضاف أسناناً جديدة، بل أنياباً قاطعة
للقبيلة، فالنخب القبلية رغم مظهرها الحديث، تستند الى ثقافة
قبلية عميقة، وتحاول البحث لها عن دور في السياسة الوطنية، وحين
لم تجد لها منفذاً، عادت الى قواعدها القديمة تشدّ من أزر
لحمتها، وتعيد نشر تراثها داخل المملكة في كتب ودراسات، الى أن
تسنح فرصة واضحة للعب دورها عبر البوابة القبليّة.
ثالثاً ـ
ضعف دورالمؤسسة الدينية في القيام بتنشئة الهوية الوطنية من جهة
إذابة الروابط والثقافات القبلية، وكذلك عجزها عن تحقيق مشروعية
دينية للبنيان السياسي قادرة على الصمود. وفي الحقيقة فإن عكس
ذلك هو ما حدث. فقد تظافرت الروح الدينية والقبلية معاً لتأكيد
الهويات الفرعية، وجرى استخدام الدين وبصورة لافتة، خاصة في
السنوات الأخيرة، لضرب قاعدة السلطة السياسية ولربما بناء الدولة
نفسه.
كان هناك تعويل بقدر ما على الدين/ المذهب الوهابي، للتخفيف من
حدّة العصبيات القبلية وتأسيس انتماءات فوق قبلية، ولكن الدين
هنا ليس فقط غير كافٍ للتعويض عن نقص الإنتماء الوطني، بل يمكن
اعتباره سلاحاً ذو حدّين. فالروح القبليّة إذا ما تظافرت مع
الروح الدينية (المتعصّبة) تقود على الأرجح الى مواجهة النظام
السياسي القائم بغية استئصاله. كما أنه وحسب التجربة التاريخية
الحديثة للمملكة، فإن الإنتماءات القبلية تغلّبت على الإنتماءات
الدينية في حركة الإخوان، وكان ـ ولا يزال ـ لوقوف المشايخ في
الجملة الى جانب سلطة العائلة المالكة أثرٌ كبير في إرساء قواعد
دينية للطاعة والولاء، ولكنها لم تكن وليست في الوقت الحاضر
كافية، بالنظر الى حقيقة أن المؤسسة الدينية أصبحت لا تمثل ما
يسمى بالإسلام الشعبي، وبالتالي أضحت قدرتها في تأطير الأفراد
دينياً وسياسياً غير فاعلة بما فيه الكفاية.
لا ننس أيضاً، أن الروح القبلية في حركة جهيمان العتيبي في
نوفمبر 1979، أعادت إليه نزعة الثأر نظير ما لحق بأجداده وأبناء
قبيلته في أواخر العشرينيات الميلادية من القرن الماضي. وقد وظّف
جهيمان تلك الروح القبلية في إطار حركة دينية تنزع الى تكفير
المشايخ الرسميين وتتهمهم بممالأة السلطات والتدليس، كما هو واضح
من رسائل جهيمان نفسه، وليقوم بعدها بمواجهته الدامية بالاستيلاء
على الحرم المكي الشريف.
ولذا يمكن القول، بأن الروح الدينية لا تعني بالضرورة إضعافاً
للروح القبلية، بل قد تشدّ أزرها وتقدم حوافز جديدة ضد السلطة
السياسية. ولربما يمكن الجدل، بأن القيم الدينية هي من أقوى
عوامل انحلال الروابط القبلية وغيرها، وهذا صحيح ويصدق في المجمل
على المذاهب الإسلامية. لكن المذهب الرسمي، وبسبب طبيعته
المتشددة، فنشأته واستمراره قائمين على عدم الإسترخاء مطلقاً في
مواجهة الخصوم أين وأنّى كانوا، كما أن القائمين عليه في المجمل
لا يبحثون عن قواسم مشتركة بقدر ما يبحثون عن تأكيد الخصوصية
المختلفة المكفّرة والمخرجة للملّة للمختلف. وبهذا يمكن استخدامه
ضد الآخر الداخلي والخارجي ضمن الإطار الإسلامي العام، كما ضد
السلطات القائمة في المملكة، وأيضاً ضد غير المسلم بشكل مجمل.
هذه النزعة الحادّة في الفكر والعقائد والممارسات، قد يخفف من
غلوائها شيء من الرخاء الإقتصادي، وبطش سلطان الدولة، لكن
لا يعوّل عليه كثيراً في تخفيف نزعة الإنتماءات الأخرى، خاصة وأن
المذهب نفسه نشأ عصبوياً مناطقياً وفي بيئة قبلية، لاتزال تتفاخر
الى اليوم بانتماءاتها وأمجادها، وتميّز بين أفرادها (قبيلي
مقابل خضيري مثلاً) حتى بين المشايخ أنفسهم. ولربما أفادت أحداث
السنوات الماضية في توضيح حقيقة أن النزعة القبلية قد تتخفّى
وراء النزعة الدينية وليس العكس، ولربما كان أقسى أنواع التطرف
هو ذاك الذي امتزجت في حامله نزعتا القبيلة والمذهب معاً. ومن
هنا قد لا يكون مأموناً التأكيد على الولاء السياسي للأسرة
الحاكمة عبر البوابة الدينية، فتخطّي عقبة الولاءات القبلية قد
تنقلب حادّة في حال كان حاملو الرسالة الدينية غير أكفاء، وإذا
ما كانت الممارسات الخاطئة صاعقة البطلان وغير قابلة للتغطية
بمشروعية دينية أو وطنيّة.
رابعاً ـ
استخدام أدوات التحديث في تعزيز الهوية القبلية، والهويات
الفرعية عموماً، وكذلك في مقاومة التشظّي المكاني لأفراد
القبيلة. إن أفراد القبيلة، وبالنظر الى المصالح الإقتصادية
الخاصة بهم، توزّعوا مكانياً حسب موقع العمل، وحسب نوعيّته
أيضاً.. هذا التشظّي الظاهري، لا يعني بالضرورة فقدان عوامل
اللحمة والإرتباط. فكثير من العناصر القبلية المتشابهة تلتقي
وتشكل روابط في المدن والأماكن التي تتواجد فيها لتفعل العلاقات
القبلية والعائلية. كما أن عوامل التحديث والإتصال ساهمت في
تسهيل التواصل والتفاعل بين أفراد القبيلة وتعزيزها بدلاً من
إعاقتها. والأهم من كل هذا، فإن الروح القبلية في المملكة ـ
حسبما يظهر ـ قد أُعيد انتاجها على قاعدة المصالح الإقتصادية،
خاصة مع تردّي الوضع الإقتصادي للأفراد والجماعات. بمعنى أن شبكة
العلاقات القبلية والعائلية وحتى المناطقية والمحلية يجري
استثمارها لمجابهة المشاكل المتفاقمة.
وبمعنى آخر، فإنه بالرغم من عوامل التحديث التي يعتقد أنها قد
أدت الى إضعاف بنية القبيلة، فإنه أمكن استثمار بعض منتجات
التحديث، لإعادة تشكيل الإنتماءات القبلية، وتعزيز الهوية
الفرعية للأفراد. فالتواصل عبر الهاتف والإنترنت والمواصلات
العامة، واستخدام الطباعة والنشر وغيرها، قدّمت فرصاً كبيرة
لإحياء تراث القبيلة وعناصر وجودها للأجيال الجديدة التي لولا
ذلك، ما حفظت ذاكرتها التاريخ والتراث الجمعيين. وبذا يمكن القول
بأن القبيلة التي شهد الباحثون والمؤرخون ما يعتقد أنه مذبحها
بقيام الدولة القطرية، استطاعت ان تكيّف نفسها قيمياً عبر "نظام
المصالح" المتولّد من تراجع اعتماد القبائل على اقتصاد الدولة،
كما استطاعت أن تحفظ بقدر ما هيكلها وبعض أعرافها وقيمها عبر
وسائل التحديث الى الحد الذي أمكن لها ليس فقط الحفاظ على هوية
أفرادها، بل تدعيمها والقفز بها بقدر لا بأس به من القوة
والعنفوان.
أضف الى ذلك، أدّت عملية التحديث غير المتوازنة الى خلخلة في
القيم القديمة، أدّت في بعض الأحيان الى ردّ فعل معاكس، وهو
التشبّث بالتراث القبلي والديني. يصف أحد الباحثين قبيلة الدواسر
في جنوب المملكة (وادي الدواسر) وتأثير التحديث عليه بأنه "بعدما
بقي الوادي مغلقاً بإحكام على امتداد قرون بقرار من سكانه،
اجتاحه فجأة سيل من الغرباء. ولكن لم يعن هذا أن الحقد الدفين
على العالم الخارجي سيخلي الطريق لنظرة أوسع أفقاً. بل على العكس
فتحت مشاهد الشوارع الشبيهة بعمران بابل بقية الروح القبلية حية
بعناد وشراسة".
من جهة ثانية، أدّى التحديث غير المتوازن الى سريان الفساد
الإجتماعي في قطاعات من البدو على حاشية المدن الكبرى أو في
أحيائها حتى أصبحوا مصدر إقلاق للأمن. فإذا كانت الثارات
والنزاعات بين القبائل تركة معروفة من الماضي، تستطيع السلطات أن
تبقيها في نطاق السيطرة حتى الآن.. فإن "الفساد الجديد الذي ينذر
بخطر أكبر بكثير يتمثل في ظاهرة التحلل الإجتماعي المرتبط بسياسة
التحديث السعودية: عمليات سطو مسلح يقوم بها بدو مهمشون وتعاطي
المخدرات على نطاق متسع. وليس من المصادفة أن حي النسيم على وجه
التحديد، والذي يشمل مساحة واسعة من الرياض توطن فيه بدو سابقون
من سائر أنحاء البلاد، أصبح يعرف مؤخراً بأنه (شيكاغو الرياض)..".
خامساً ـ
تآكل أسس العلاقات بين الطبقة السياسية الحاكمة والقبائل، بعد أن
أصبحت العائلة المالكة نخبة مدنيّة تسمو فوق كل النخب، وترى
نفسها أعلى من أن تصنّف قبليّاً أو تُربط بقبيلة، أو توضع بنديّة
مع القبائل الأخرى. بل أنها ترى نفسها فوق كل العوائل المالكة في
العالم العربي، إمّا لأنّها تملك سلطة على أرض لا يملكها غيرها
من حيث الحجم، وإمّا لأنها تزعم لنفسها رسالة دينية تحملها،
وإمّا لأنها ترى نفسها أرقى عرقياً من كل العوائل الملكية الأخرى
بمن فيها العائلة الهاشمية الشريفية التي كانت تحكم الحجاز
والعراق والتي تحكم الأردن الآن، رغم أنها تنتسب الى الرسول (ص).
الفاصلة بين القبائل السعودية والعائلة المالكة لم تكن أبعد منها
اليوم من أي وقت مضى، والفاصلة الذهنية والإجتماعية كبيرة
للغاية، كما أن العلاقة اتخذت شكلاً يمكن وصفه بأنه (استعلائي)
منذ زمن بعيد، أو من زاوية معاكسة اتخذت صفة (استجدائية) من جهة
القبائل نفسها. بمعنى أن الرابطة تقلّصت جداً وانحصرت بموضوع
العطايا والشرهات وما أشبه، وحتى هذه الرابطة التي كانت تؤمن
شيئاً من الهدوء بين رجال القبائل ضمرت وربما يكون لها في
المستقبل آثار كارثية على العائلة المالكة.
ما وددت المجادلة بشأنه هنا، أن التباعد النفسي والسلوكي
المتصاعد بين العائلة المالكة وشرائح اجتماعية عديدة، وفي
مقدمتها القبائل، ينذر بدق أسفين في سياسة الإحتواء التي مورست
تجاه القبائل، الأمر الذي سيطلق سراحها لتعود الى ممارسة دور
أكثر استقلالية عن الحكم إن لم يكن ضدّه. هذا من جهة، ومن جهة
أخرى فإن القبيلة ككيان اجتماعي تجد نفسها مضطرة لتفعيل أدواتها
الثقافية لمواجهة مشاكل لم تكن مهيئة لمواجهتها، بل ظهرت بصورة
فجائية، خاصة في المجال الإقتصادي.
في المجال الإجتماعي، ربما وجد بعض الباحثين في مراحل سابقة من
التاريخ السعودي، وساعدهم في ذلك شيء غير قليل من الجهل بالعادات
والأعراف القبلية، أن سياسة الإحتواء للقبائل قد جاءت عبر
مصاهرتها، حتى أنه يقال ويكتب في بعض الأحيان بأن الملك عبد
العزيز لم يترك قبيلة إلاّ وأصهرها، ليخلص الى نتيجة أن سياسة
الإحتواء عبر المصاهرة أو ما كان يعرف (زواج لمدة ليلة) كانت
حاسمة في تهدئة القبائل السعودية وتطويعها أمنياً.
حتى لو صدق هذا القول، فإنه لم يستمر حتى اليوم. فالقبائل
السعودية رفيعة الشأن، كانت في بداية تأسيس المملكة تنظر الى
نفسها بشيء من النديّة مع العائلة المالكة، وكانت الأخيرة قبل
حيازتها لكامل السلطة تراعي بعض الأعراف القبلية في مضمار
الزواج، وإن كان قد اتخذ مساراً أحادياً منذ بدايته.. بمعنى أن
أمراء من العائلة المالكة بإمكانهم الزواج من نساء قبليات، ولكن
لا يمكن لأفراد قبليين مهما بلغ شأنهم الزواج من فتيات العائلة
المالكة، خشية أن يؤسس ذلك لمطالبات لاحقة بتحصيص السلطة أو
تقسيمها، واقتصرت المداخلات العائلية لآل سعود على أفخاذ قبائل
محددة مثل السدارة، وآل ثنيان، وآل الشيخ.
يضاف الى هذا، بأن شخصاً واحداً فقط (وهو الملك عبد العزيز) دخل
في اتون الزواج المكثف من فتيات قبليات وهي زيجات لم يكن عمر
الكثير منها سوى ليلة واحدة، او أسابيع على أكثر تقدير، وقد
انقطع هذا النوع من التزاوج بشكل شبه كلي وإن لم ينته تماماً.
قيل أن تلك الزيجات كانت من أجل تضميد جراح القبائل المهزومة
عسكرياً، ورآه البعض مستهدفاً تأكيد الإنتصار السعودي أكثر من
كونه وسيلة احتواء وإسدال الستار عما مضى، ومن أمثال ذلك زواج
الملك من الرشيدية بعد سقوط حائل، ومن زوجات رؤساء القبائل
المهزموين المقتولين، مثل عبد العزيز بن فيصل الدويش وغيره.
على أن هناك مبالغة فيما يبدو بآثار ونتائج زيجات الإحتواء،
فإضافة الى أن أثرها محدوداً ومؤقتاً، تشير مطالعة سريعة لأبناء
الملك المؤسس (عبد العزيز) الى حقيقة أن ستة فقط من مجموع
الأبناء الـ 45 ولدوا لأمهات كنّ ينتمين الى قبائل صريحة النسب،
مثل عبد الله وأمه من شمر (الفهدة بنت عاصي بن شريم) والملك سعود
وشقيقه تركي ولدا من أم (خالدية)، إضافة الى مشهور وأخويه
الشقيقين ولدا من أم تنتمي الى قبيلة (الرولة). أما بقية الأبناء
فولدن لأمهات يعدن بنسبهن الى السدارة (السديريين) والى آل
الشيخ، وأخريات من العائلة المالكة (فرعي الجلوي والثنيان). في
حين أن نحو 17 من الأبناء ولدن لأمهات كنّ (جواري) ويجري التمييز
ضدهم حتى بين الأخوة ـ أبناء عبد العزيز ـ أنفسهم.
ومما يؤكد أن الإحتواء القبلي كان محدود الأثر، ما قيل أن إحدى
زوجات الملك عبد العزيز الرشيديات حاولت قتله بالسم فأصابت عينيه
بالعمى شبه الكامل، وأن قاتل الملك فيصل كان من أم رشيدية، فضلاً
عن أن العلاقة بين آل الرشيد وآل سعود لاتزال بمثابة النار تحت
الرماد. وفي الوقت الحاضر، لا أحد بين الأمراء يمارس سياسة
الزواج من أجل الإحتواء، رغم أن القبائل لاتزال تحمل إمكانية ولو
نظرية بتهديد السلطة الأمنية والسياسية القائمة.
[3]
الدور الحالي والتمظهر الذاتي للقبيلة
حتى الآن، فإن نظرة السكان المدينيين لأولئك الذين يغلّبون
الإنتماءات القبلية على غيرها، بأنهم لازالوا يمثّلون مخزوناً
كبيراً من القوة تستخدمه العائلة المالكة في أجهزتها الأمنية
والعسكرية، وبالتحديد في جهازي المباحث العامة والحرس الوطني.
لقد جرى توجيه النزعة القتالية لدى القبائل بتوظيفها في صفوف
الحرس الوطني بدل استئصالها، واختزل دور غالبية شيوخ القبائل الى
دور شهود نيابة عن قبائلهم في الديون الحكومي، وإن كان هناك من
يحاول الخروج عن هذا الدور كشاهد على رجال قبيلته (معرّف).
ورغم أن تغييرات هيكلية أُدخلت على الجهازين، إلاّ أن مفاعيل
القبيلة لاتزال حاكمة فيهما، وأن النظرة إليهما خاصة من قبل
المنتمين الى جهاز الحرس الوطني، تميل الى اعتبار الإنتماء اليه،
ولو من الناحية الإسمية والوظيفية، مجرد مصدر دخل لا يستلزم
الحضور ولا العمل الحقيقي. وإذا كان جهاز الحرس قد قسّم بين
القبائل النجدية في أكثرها على شكل ألوية، واعتمد فيه نظاماً لا
يلغي التراتب القبلي في أكثر الأحيان، فإن جهاز المباحث يقوم
اليوم في أكثره على عناصر قبلية من الجنوب.
كلا الجهازين، بنظر الكثيرين، يعملان كدرع لحماية العائلة
المالكة، سواء من القوى المدينية أو الدينية أو حتى من الجيش
النظامي نفسه. لقد جرى امتصاص وربما الغاء خطر الجهاز العسكري
مجملاً (حرساً وجيشاً) من خلال اللعب على التناقضات بينهما، ومن
خلال ترجيح قبيلة على أخرى، بين الفينة والأخرى داخل الحرس
بالتحديد. فالقبيلة الأثيرة اليوم، والتي ينظر اليها بحسد من
نظرائها، قد تقلّص مكانتها وتعطى لأخرى تنتظر دورها. وحتى
التعيينات في الجيش النظامي هي في الأساس تعيينات مناطقية
بالدرجة الأولى وقبلية بالدرجة الثانية، وقد أصبح الجيش خلال
العقود الثلاثة الأخيرة يتألف من قاعدة قبلية جنوبية بشكل كبير،
مع إزاحة القيادة الحجازية واستبدالها بقيادة نجدية.
لكن هذا الدور الذي تلعبه القبلية، والذي تمسك بخيوط توازناته
الحسّاسة العائلة المالكة، أدّى الى إضعاف الجهاز العسكري وشلّه
بشكل مضطرد عن القيام بمهامه في الدفاع عن حدود المملكة، وهي
وظيفة يبدو أنها ليست على أجندته منذ وقت طويل. فالمهم، أن تلعب
الأجهزة العسكرية دورها في ضبط الامن الداخلي وحماية النظام قبل
كل شيء، أما إذا تعرّضت البلاد الى خطر، فالقوات الأجنبية ـ
الحليفة والصديقة موجودة.
إلاّ أن التغييرات الهيكلية في الجيش القبلي (الحرس الوطني) يمكن
أن تفرز مخاطر غير محسوبة في المستقبل. فتحديث الحرس بأسلحة
جديدة، وابتعاث الكثيريين الى الخارج للتعليم، وكذلك تطعيمه
بخريجي الجامعات وحملة الشهادة الثانوية، قد رفع من سقف مطامح
أفراده وضباطه على حد سواء. كما أن التحولات السياسية الكبرى
التي شهدتها المنطقة خلال العقدين الماضيين ألقت بظلال من الريبة
والشك على ولائه، خاصة وأن تحولات جرت على صعيد المؤسسة الدينية
وتمردها على النظام، او على الأقل انشقاقها بين مؤيد ومعارض،
الأمر الذي شقّ أيضاً القاعدة الإجتماعية التي تحتضنها، في ظل
استقطاب وزخم إعلامي وسياسي شديدين، جعلت من كل أفراد المملكة ـ
أياً كانت مواقعهم ـ ضمن دائرة التأثير لا فكاك منها.
المراد من هذا كله هو التأكيد على أن القبيلة وإن كانت تمثل
الخزان البشري للقوى العسكرية والأمنية عموماً، وهو أمرٌ يعد
أهمّ تجلّ ملموس لها.. فإن الولاء السياسي المختلط أحياناً
بالولاء الديني للعائلة المالكة يتآكل بين الجنود والضباط، كما
بين المواطنين العاديين أيضاً.
ونظراً للتحولات والإنعطافات الإقتصادية والسياسية التي مرت بها
المملكة، فإن القبليّة أخذت تطرق الأبواب السياسية والإجتماعية
بعنف، ويتجلّى ذلك في قضايا عديدة بينها:
التمظهر الأول ـ
محاولة القبائل حشد أتباعها المتفرقين بين مناطق المملكة،
وأحياناً جذب أولئك القاطنين خارج المملكة خاصة من دول الخليج،
تأكيداً للآصرة القبلية، ومحاولة إيجاد برامج خاصة بأبناء
القبيلة لحلّ مشاكل أفرادها الإقتصادية، وتشكيل صناديق تبرعات،
وتفعيل العلاقات بين الأفراد أنفسهم، واستثمار ما لديهم من مخزون
علاقات اجتماعية لتوظيف العاطلين عن العمل. وقد تنبّهت السلطات
الى مخاطر هذا الأمر، فألغت اجتماعات عديدة، واقتحمت مضارب نصبت
لها بقوى الأمن والشرطة. حدث هذا لقبيلة بني خالد في المنطقة
الشرقية قبل نحو أربع سنوات. وحدث ذات الأمر لقبيلة تميم في
المنطقة الوسطى قبل نحو عامين.
وصف أحدهم اجتماعات شمّر ـ أعدى أعداء آل سعود على النحو التالي
ـ: بغية تعزيز التلاحم القبلي وتعميق الإنتماء للقبيلة "تعقد
شمّر اجتماعات (سرية) يفضل أن تكون في كثبان النفوذ شمال حائل.
وفي بقعة لا يستطيع أن يعثر عليها في ظلام الليل إلا البدو، تقام
خيمة ضخمة مصنوعة من شعر الماعز، وفي الأمسية المتفق عليها تحضر
سيارات الجيب من طراز تويوتا شاقة الطريق على إطاراتها العريضة
المصممة للرمل. ويُزيّن الموضوع الرئيسي للمنتدى القبلي بالضأن
المشوي وبراميل من الشاي والقهوة، ويجري إحياء المحاربين القدماء
الذين عاش بعضهم في زمن معركة واترلو، ويُستثار الحاضرون بأفعال
الغدر وخرق أعراف الصحراء المبهمة بقدر ما هي أزلية، لتبقى
ذكراها حية بتوارثها من جيل الى آخر. وتُفتح جروح قديمة ويُدعك
فيها الملح بلا حساب، وتنهض ثعالب صحراوية صعبة المراس وتلقي
أناشيدها في مدح قبيلتها وذم عنزة وسط تصفيق حاد داخل الخيمة.
ولأمسية واحدة يعود الوضع كما كان عليه من قبل: شمر فوق الجميع.
الحكومة تعرف بالطبع ما يجري ولكنها لا تتحرك إلا إذا هددت
الأمور بالإنفجار حقاً. وحينذاك يُمنح أسوأُ قادة الحلقة من
المغالين شعرياً بعضَ الوقت في زنزانة حتى تهدأ أعصابهم".
ولأن نجحت الحكومة في فضّ التجمعات الظاهرة الكبرى، فإنها لم
تنجح فيها كلها، ولا بالنسبة لتلك التي تجري للأفخاذ، ولم تلغ
جذوة الحاجة للتعبير الدافعة لأفراد القبائل، وهي في أكثرها
قبائل مستقرة.
لقد رأت السلطات السعودية في تلك الإجتماعات تحدّ سياسي بالغ
لسلطانها، واستهانة بقوتها، واستعراضاً لعضلات قوة كان الكثيرون
يظنّون أنها قد ضَمُرَتْ منذ زمن بعيد.
التمظهر الثاني ـ
التفتت القبائل الى تسجيل تراثها ونشره. بدأت برموزها فكتبت
عنهم، وبعاداتها وتقاليدها، بل وتاريخها السياسي (الخوالد مثلاً)
كما سرّبت الكثير من ثقافتها عبر الشعر النبطي فأحيته، ونشرت ما
أمكنها نشره، واحتفظت بالباقي (الذي يسبب مشاكل مباشرة مع
السلطات السياسية) الى وقت آخر قد يحين في وقت قريب، أو أنها
طبعته خارج المملكة (في الكويت مثلاً حيث تنتشر كتب عن أكثر
القبائل السعودية). في الوقت الحالي تزخر سوق الكتاب السعودي
بكمّ هائل من هذا النوع من الكتب الجهوية القبلية، حتى أن المرء
يستطيع أن يجادل بأن ما يكتب عن الهويات الفرعية (مناطقية
وقبلية) أكثر بكثير مما يكتب عن المملكة العربية السعودية كدولة
وكنظام سياسي.
إن هذا النشر المكثّف للتراث القبلي، شعراً ونثراً وتاريخاً
ورجالاً، لدليل على خلل ما في السياسة الحكومية. إنه مؤشر على
بداية تمزّق جديد، لا تستطيع معه السلطات مكافحته بالمنع وسلطات
الرقابة في وقت وفرت فيه التكنولوجيا كل وسائل القفز فوق الحدود
والأسوار. وهو دليل آخر على عمق أزمة الهوية الوطنية في المملكة،
بل على غيابها المأساوي، وعلى نقص في الثقافة الوطنية لم تحلّه
كبسولات الأسبرين المتأخرة التي جاءت في المنهج السعودي (التربية
الوطنية) قبل بضع سنوات.
ولا شك أن النزعة باتجاه احياء التراث القبلي، يستهدف إحياء
التلاحم الداخلي بين أفراد القبيلة، وحلّ مشاكلها الآنية التي
عجزت السلطات عن حلها في الحقلين الإقتصادي والإجتماعي، كما
ويستهدف تسييس الثقافة القبلية في وقت يُحظر فيه النشاط السياسي
الوطني العام، وفي وقت يحتكر فيه القرار السياسي لعشرين مليون
مواطن بضعة أفراد.
ولعلّ طغيان الشعر الشعبي هذه الإيام، رغم تجريده من أسنانه
السياسية، أي حظر تداول (الرزف) أي شعر الحرب القديم منه
والحديث، يعكس مدى التوجّه نحو التراث القبلي بشكل عام. إن الشعر
الشعبي القبلي القديم لا يتكون من مجرد أبيات جذابة قليلة، "فهذا
الأدب سجل لتاريخ الجزيرة العربية قبل أن يستأثر آل سعود
بالسلطة. وللحفاظ على السلام تفضل القوة السائدة عدم نبش
التاريخ".
إن التراث الشعري للقبائل واهتمامها بالقصائد المتوارثة والتي
تحفظ فيها حية ذكرى الماضي البطولي يلامس وتراً عصبوياً حساساً.
إن الشعر الشعبي أداة تثقيف سياسي الى جانب كونه عنصراً مهماً من
عناصر الثقافة الخاصة. لهذا كان لا بدّ من منع هذا النوع من
الشعر (الرزف على وجه التحديد)، لأنه "الوقود السري الذي يبقي
نار المرجل القبلي مشتعلة".
سأل أحد الباحثين الغربيين شمرياًً: لماذا يفسح المجال لنشر شعر
قبيلة عنزة (عدو شمر اللدود) ولا ينشر شعر شمّر؟ فكان الجواب
"لأن شعر شمر يدور في الغالب حول الحروب مع القبائل الأخرى".
ولكن الباحث لم يقتنع فعلق بالقول: "ولكن لدى عنزة من أغاني
الحرب ما لا يقل عن أغاني الحرب عند شمر. السبب الحقيقي هو، بلا
ريب، أن آل رشيد، الذين كانوا في السابق أخطر منافسي آل سعود، هم
من شمر. عنزة من الجهة الأخرى كانت الحليف التقليدي للسعوديين..
إن ذكر إسم آل رشيد مازال من المحرمات في حائل بعد مرور ستين
عاماً على قهر المدينة".
"الحكومة تريد وئاماً، هدوءاً، سلاماً اجتماعياً. وهي تعرف أن
هناك تحت السطح غلياناً من التعصب الديني والعصبية القبلية
ومشاعر مريرة لا تجد لها متنفساً في الحاضر المحروس بعيون
ساهرة".. أما طريقة الحكومة في تفادي المشاكل فهي السماح لمن
تأمنهم بنشر بعض التراث القبلي الحسّاس خارج المملكة وليس
داخلها، ولربما حاولت في بعض الأحيان بإثارة نزعات قبليّة لأهداف
سياسية. وفي إحدى المرات كادت أن تقع حرب قبلية بسبب كتاب. ففي
عام 1981، نشر محمد السديري في بيروت ديواناً باسم (أبطال من
الصحراء) ذكر فيه من الأبطال شيوخ عشائر شمر وعنزة في القرن
التاسع عشر الذين اقتتلوا بضراوة مع بعضهم البعض، يعتقد مارسيل
كوربرشوك أنه لولا قيام الدولة السعودية لما زالوا يقتتلون الى
اليوم، ودليله أنه وجد مخطوطة على بعد 100 كيلومتر من حائل تقول:
"اللعنة على كل شمر، حتى على جنينهم في بطن أمه". وحين وصلت بعض
نسخ من كتاب السديري الى المملكة قامت قائمة شمر لانحيازه الى
عنزة التي أظهر الأخيرة كما لو كانت منتصرة "وكان هذا بمثابة صب
الزيت على نار المبارزة الشعرية التي تشتبك فيها القبيلتان حتى
هذا اليوم".
والهدف من هذا النزاع الشعري ليس تمزيق العدو بالكلمات الى أن
يأتي وقت الأفعال، بل الأهم هو "الحفاظ على الإحساس بالمشاعر
القبلية حياً.. فإن أفضل وسيلة لبناء مثل هذا التلاحم هي معاداة
جيرانك".
ومع الخوف الرسمي المتصاعد من حمّى القبليّة زادت الحكومة
السعودية من رقابتها على ما ينشر من تراث قبلي حتى ان الرقابة
اليوم أصبحت أشدّ كثيراً مما كانت عليها قبل أربعة عقود ، إذ
أفلت يومئذ بشكل مدهش عدد من الكتب والأعمال مثل أعمال الشاعر
حميدان الشويعر الهجائية.
هذه الروح القبلية متعاظمة النزعة لم تطفئها أدوات الحظر
الإعلامي. فعلى سبيل المثال إن تجنّب الإشارة الى الماضي المشحون
بين شمر والسعوديين باعتباره من المحرمات "من شأنه إبقاء الذكرى
حية"،
و "ذوو الشأن في الرياض يدركون ان الروح القبلية القديمة سترفع
رأسها برغم الحظر الرسمي".
حين تحدث أحد الشمريين أمام أحد الباحثين الغربيين عن شمر في
مجمع عام، صرخ أحدهم من بعد (أوه! كفى بالله عليك! ما جدوى إثارة
الأمر؟). ويعلق الباحث: "برغم كل الولاء المعلن بحماسة للملك
والمملكة، بدأت أتساءل ما إذا كان هذا النوع من الرقابة مؤشراً
الى تيارات مضادة دفينة في الوعي السياسي. هل كان هذا الصمت
اليائس نوعاً من الدليل الضمني على أن النزعة الشمرية لم تخل
الطريق حتى الآن للهوية السعودية برغم كل التثقيف بها؟".
التمظهر الثالث ـ
عودة النزعات الجاهلية والثارات القديمة بين بعض القبائل، وصلت
الى حدّ الإحتكام الى الرصاص والمدافع الرشاشة. والغريب كل
الغرابة، أن بعض تلك المعارك كانت كما في الجاهلية الجهلاء قبل
قرون وقرون، تدور حول بئر ماء يسقط فيها قتلى وجرحى!،
يتنادى بعدها شعراء كل قبيلة للتفاخر بالإنتصارات وإلهاب المشاعر
تأكيداً للهوية الخاصة "نحن وهم"
وبعض الثارات كانت قبل قيام الدولة فجمدت لبعض الوقت لتعود من
جديد بعد بضعة عقود، ويستكمل الأحفاد مسيرة الأجداد وأجداد
الأجداد.
فآل سعود مجرد (سحابة) أو (غيوم) طارئة تستطيع أن تخفي حدّة
العصبية بالقوة والجبروت وسوف يأتي يوم (وبتعبير القبائل نفسها)
الذي تنقشع فيه الغيوم ويثأر الثائرون القبليون الذين قدموا على
مضض آيات الولاء لحكامهم:
يوم تشرون الفشق ويش فيه من اللزوم
كون يشرى لا بدت حاجته يقضى بها
كون يذخر في نهار عسى حظّه يقوم
قايمٍ معنا ليا ما اقتبس مشهابها
ديرةٍ ما دون حدّانها واهج سموم
ما زكت مِلكٍ ولا زيد كلٍِ هابها
.. والله لو ان السما ما على شمسه غيوم
ما نساير حق حدّانها طلاّبها
والمسألة ليست محصورة في التمظهر ضد الآخر القبلي، بل ضد الدولة
نفسها، وضدّ العائلة المالكة، وهذا ليس جديداً، فكثير من
المعارضات المهمة وظواهر السخط والتمرّد في المملكة لم تخل بصورة
من الصور من غلالتها القبلية، وفي بعض الأحيان كانت في جوهرها.
لنأخذ ثورة الإخوان الأولى بقيادة رؤوس القبائل (مطير وعتيبة
والعجمان بل وبعض أفرع الرولة) الدويش وابن بجاد وابن حثلين
وغيرهم. ولنأخذ ثورة الحجاز في الثلاثينيات على يد حامد بن رفادة
زعيم قبيلة بلي، حيث تمظهرت المناطقية متظافرة مع الإختلاف
المذهبي لمواجهة المد النجدي ـ الوهابي من اجل تحرير الحجاز.
ولنتذكر ثورة قبائل الريث في الجنوب في منتصف الخمسينيات، وحركة
جهيمان العتيبي في نوفمبر 1979، وقبلها ضمت معارضة العائلة
المالكة في الستينيات في نجد أفراداً قبليين وجذوراً عائلية
عميقة، فبعد طرد سعود من الحكم 1964 وتولي فيصل الملك رسمياً،
تشكلت جبهة التحرير الوطني العربية بزعامة الأمير طلال بن عبد
العزيز بغرض الإطاحة بالملك فيصل اشترك فيها ابراهيم ابو طقيقة
أحد مشايخ قبيلة الحويطات، وسالم ابو دميك شيخ قبيلة بني عطية..
بل أن الملك سعود، وحسب مذكرات صلاح نصر، عرض على عبد الناصر
مباشرة خطته أسماها (خالد بن الوليد) لاسترداد عرشه، وكان من
الخطة أن تشاغل قبيلة شمّر الحكم السعودي على الحدود الشمالية،
فيما تنقضّ قوات مدربة من اليمن لتهاجم المملكة من الجنوب.
واليوم هناك سخط كبير ضد سياسة التمييز الرسمي بين القبائل، كما
ضد تمييز القبائل ضد سكان المدن. المملكة بلد التمييز الرسمي
والتناقضات الحادّة، ليس فقط على الصعيد الطائفي: شيعة وسنة
وسلفيين وهابيين، وليس فقط على الصعيد المناطقي، بل على الصعيد
القبلي أيضاً. فهناك قبائل مغضوب عليها تحدّت سلطان آل سعود
وحاربتهم، فحرمتهم من تبوّأ مناصب مهمة في الجيش أو الحرس او حتى
في البيروقراطية الرسمية. أكثر من هذا يمكن أن يقال. فالى منتصف
السبعينيات تقريباً، كان الشمريون ممنوعين حتى من العمل في حقول
النفط، ولازالوا محرومين من أمور كثيرة شكا منها قادتهم في
الخارج،
الأمر الذي يضطّر أفراد القبيلة أحياناً الى التحايل للهروب من
التمييز القبلي الرسمي، بتقديم رشوات من أجل تغيير الحرف (ش)
الذي يرمز الى شمر في هوياتهم، الى الحرف (ع) والذي يشير الى
انتماء حامل الهوية الى قبيلة عتيبة!
ولا شك أن مثل هذا التمييز الرسمي الفجّ لا يحول فقط دون بروز
انتماء وطني صادق، بل يكرّس العداء للطبقة الحاكمة. فقد لوحظ أن
الملك خالد، الذي كان الأكثر بداوة بين الملوك السعوديين، كان
المفضل لدى الشمريين يليه عبد الله، الذي يتمتع بينهم بشعبية
بسبب أمه الشمرية، وتعتبر طريقة لبسه للعقال منكساً نحو المقدمة،
طريقة شمرية معروفة في الظهور بمظهر الأنيق أو الشديد البأس. كما
لاحظ مارسيل كوربرشوك أن دليله الشمري لم يترحم على أحد من
الملوك السعوديين سوى خالد، فسأله: "وماذا عن الملك فيصل؟ ألم
يفرض مقاطعة نفطية خلال حرب اكتوبر عام 1973م، أولم يكن معروفاً
بصرامته وتقواه؟. كلا، كلّه استعراض. إذ كان فيصل متزوجاً من
امرأة تركية متغربنة".
خلاصة القول، أن القبلية، كما المناطقية والمذهبية الطائفية،
رافقت كل حركات المعارضة والسخط في المملكة..
وهذا واحد من أهم أسباب فشلها على الصعيد الوطني، لكنه قد يقود
الى نجاحها فيما دون ذلك، خاصة إذا تراخت قبضة السلطة وتصاعد
السخط، والذي تبدو مؤشراته واضحة للعيان اليوم.
|