ملاحظات سريعة حول: الإنتفاضة المغيّبة

  

الدكتور حمزة الحسن

شكراً لراصد على فتح ملف «انتفاضة المنطقة الشرقية» في مناسبته، وهي شهر محرم، ولي في هذه العجالة ملاحظات سريعة حول تلك الإنتفاضة وددتُ طرحها:

  الملاحظة الأولى

 في كل أمة وجماعة هناك محطات سياسية تتوقف عندها في تاريخها، تستذكرها وتحييها كجزء من تاريخها وهويتها، وتستخدمها كأداة رافعة لتحسين واقع أتباعها ومستقبلهم. والشيعة في المملكة مرّت بهم انعطافات قليلة لم تُستذكر، أو لم تُثمّر ويتمّ التوقّف عندها، ودراستها، وترميزها، وجعلها من صميم ثقافة جمهورها. لكن انتفاضة محرم 1400هـ، كانت ولاتزال ـ من وجهة نظري ـ أهم حدث تاريخي مرّ بشيعة المملكة في العصر الحديث. أولاً، كونه حدثاً كبيراً صنعوه بأنفسهم، ودفعوا فيه الكثير من دماء ابنائهم، ولم يفرض عليهم فرضاً مثل «احتلال منطقتهم على يد الملك عبدالعزيز عام 1913م/ 1331هـ»؛ وثانياً، لأن تبعات الحدث كبيرة للغاية أسست لمرحلتين تاريخيتين لا يمكن لأي باحث في تاريخ الشيعة في المملكة إلا وأن يشير اليهما، وهي مرحلة ما قبل الإنتفاضة ومرحلة ما بعدها. الذين ولدوا من المواطنين الشيعة بعد الإنتفاضة، أو كانوا صغاراً غير مدركين أثناء قيامها، قد لا يكونوا قادرين على معرفة الفرق بين المرحلتين، كونهم لم يعيشوا الأولى، ولم يدركوا ما تغيّر بعد الحدث حيث دخلنا عهداً جديداً مختلفاً عما مضى. والإختلاف بين المرحلتين ليس في جزئية واحدة: وإنما هو اختلاف في الرؤى الفكرية وفي المواقف السياسة وفي حركة الجمهور وفي تطلعاته وفي أوضاعه الإقتصادية وغيرها. وبالتالي لا يمكن معرفة قيمة الإنتفاضة وآثارها إلا من خلال مقارنة واضحة بين المرحلتين.

  الملاحظة الثانية  

لا يمكن لأي باحث لآثار الإنتفاضة «انتفاضة المحرم 1400هـ» إلا أن يتوقف عند آثارها الإيجابية على الشيعة كمجتمع. تلك الآثار الإيجابية كانت في الواقع أكبر بكثير من التضحيات التي قدّمها المجتمع من قمع واعتقال ودماء وحصار وإهانة وتمييز. هذه النتيجة ـ حسبما أظن ـ يتفق معي بشأنها كل القيادات التي قادت العمل السياسي الشيعي في مرحلة ما بعد الإنتفاضة، وقد سمعتُ من بعضهم على الأقل هكذا تقييم للواقع الذي رأوه بأنفسهم. الذي حدث كان أشبه ما يكون بزلزال أدّى الى تغيير داخلي لدى الشيعة أنفسهم، والى تغيير في الرؤية تجاههم.

 في التغيير الداخلي، فإن الإنتفاضة «وهنا يلاحظ أن الشيعة استخدموا هذه المفردة قبل أن تفرض نفسها على العالم بحيث تشير الى الإنتفاضة الفلسطينية التي انطلقت عام 1987م، وتكررت فيما بعد بذات الإسم» كانت بمثابة انفجار ألم داخلي بوجه الحكومة التي اعتمدت سياسة «إهانة» الشيعة والإنتقاص من حقوقهم، واعتبارهم هملاً لا حول له ولا طول، تمارس بحقهم أبشع أنواع التمييز دون أن تلقى سوى احتجاجات باهتة كان يقوم بها الوجهاء في مكاتباتهم لرجال السلطة. ذلك الإنفجار أنبأ عن وجود مخزون ضخم من التذمّر بسبب سوء المعاملة والإحتقار الحكوميين، ولهذا حين انطلقت الإنتفاضة عل شكل مظاهرات لتتوسع وتشمل كل المدن والقرى ويشارك فيها النساء، كانت المفاجأة لدى الطرفين: الحكومة، والحركة السياسية التي حرّضت على الإنطلاق والتظاهر. فالتجاوب الشعبي كان أكبر بكثير ـ كما لاحظ أخي الدكتور فؤاد ابراهيم ـ مما كان متوقعاً، أما الحكومة فيكفي أن أشير الى أن الأمير أحمد بن عبد العزيز نائب وزير الداخلية كان يقول حين انطلقت مظاهرة في الأحساء: «قندهار قد تتحرك، ولكن الأحساء! لا!».. وكان الملك فهد نفسه ـ وقد كان ولياً للعهد ـ قد هدّد باستخدام مدافع الميدان لقصف المدن الشيعية، وأوصل بعض تحذيراته الى الوجهاء الشيعة آنئذ.

 «الإنفجار» الذي نتحدث عنه لم ينعكس فقط على الزخم في المظاهرات، وإنما استمرّ متتابعاً فيما بعد على شكل إمداد الحركة السياسية المعارضة التي اتخذت من الخارج مقرّاً لها، بالموارد البشرية والمالية والتعاطف الى أبعد الحدود. هذا لا يعني أنه لم تكن هناك جهات تعارض، ولكن زخم الدعم الذي حصلت عليه المعارضة الشيعية في المملكة كان كبيراً، بل أكبر مما حصلت عليه حركات شيعية أخرى في العراق والبحرين وغيرهما.

 لقد كان مجتمعنا الشيعي محافظاً، ولا نقصد بالمحافظة هنا في جانبها الديني، وإنما في البعد السياسي، الذي كان يتغذّى على مقولات دينية، وجد شبيه لها في مواقع شيعية أخرى. وكانت الإنتفاضة بمثابة تدشين لعهد جديد من المفاهيم والرؤى والوعي. بمعنى أن التطور الذي حدث كان بسبب تغيير عميق في منظومة الأفكار والمفاهيم، جعل الناس يقرأون ثورة الحسين بصورة مختلفة، قراءة تثويرية تنويرية، ويسيّسون مناسبة محرم لخدمة واقع جماعة بشرية كانت مجهولة حتى في محيطها الوطني. ولولا التغيير الثقافي الذي تواصل بعد الإنتفاضة، لكانت الأخيرة قد أصبحت نسياً منسيّاً، ولما أُمكن البناء عليها فيما بعد كرافعة في المطالبة بحقوق المواطنين الشيعة. الرسالة التي أوضحتها الإنتفاضة هي أن المجتمع الشيعي أصبح واعياً بحقوقه، واثقاً بنفسه، مستعداً للتضحية، من أجل تغيير سياسات التمييز الطائفي. والإنتفاضة فوق هذا وذاك، هيّأت الفرصة لتبلور الكفاءات الشيعية في ميادين حسّاسة سياسية وثقافية وأدبية وفكرية، لهذا فإن معظم الوجوه المساهمة اليوم في النشاط الثقافي والسياسي والفكري والإجتماعي هي من نتاج تلك المرحلة، وتلك الإنتفاضة: مشايخ وشعراء وسياسيين وحقوقيين وفنانين ونساء يقتحمن العمل الإجتماعي والسياسي ويدفعن ضريبة الجهاد، وغير ذلك. لقد اختصرت الإنتفاضة على الشيعة المسافة الزمنية للوصول بالمجتمع الشيعي الى مرحلة معقولة من النضج، وأوجدت حراكاً ثقافياً رائداً على مستوى المملكة، وربما حتى على مستوى بعض العوالم الشيعية الأخرى.

 في البعد الخارجي، ارتفعت مكانة الشيعة بسبب الإنتفاضة، فهذا المجتمع «الذي كان نائماً حقاً!» والفاقد لشرائط النهوض والتمرد على واقعه السيء، أظهر قدراً كبيراً من التحدّي، الى حدّ استخدمت فيه السلطة قواتها الجوية والبرية والحرس الوطني بل حتى القوات البحرية شاركت في «قمع انتفاضته» وهناك وثائق معلومة نشرت تدل على ذلك، فضلاً عن أن عدداً من الشهداء قتلوا برصاص طائرات الهيلوكبتر «مثل الشهيد فيصل الجامد» التي أصابت أيضاً عدداً من المواطنين في منازلهم «الشهيدة فاطمة الغريب».

 الإنتفاضة أعادت الإعتبار للمجتمع الشيعي ضمن محيطه الوطني، كما لفتت أنظار العالم الى هذه الجماعة التي تقطن أغنى منطقة في العالم وتعيش الحرمان والإضطهاد. أتذكر أنه وحتى عام 1983م، كان هناك بعض من المواطنين لا يعرفون أن هناك مواطنين شيعة في المملكة!، فضلاً أن يعرفوا أوضاعهم ومشاكلهم وحرمانهم. وقد اعتدتُ أن أقول لعدد من الإخوه، أنه وبعد تلك الإنتفاضة، يكاد لا يخلو كتاب كتب عن السعودية بعد 1979م، إلا وتطرق الى موضوع الشيعة، والى انتفاضتهم، والى أنهم فئة محرومة مضطهدة لأسباب دينية وسياسية، والى إدراك حقيقة أنهم يعيشون على بحيرات من النفط تغذي العالم. لقد وضعت الإنتفاضة الشيعة في المملكة على قائمة الإهتمامات الحقوقية والسياسية الدولية، وإن لم يكن كل ذلك بناء على شعور نبيل يتعاطف مع واقعهم البائس، فعلى الأقل لأن بيد الشيعة ـ ولازالوا ـ إمكانية التأثير على إمدادات النفط العالمية.

 لربما كان الخوف على النفط وإمداداته، هو الذي حدا بالأميركيين أن يقترحوا على الحكومة السعودية، بأن يحسنوا من أوضاع الشيعة.. كانت تلك المقترحات قد جاءت بناء على تقارير استخباراتية قدمها أميركيون. قال أحد مراكز الأبحاث الأميركية، أنه وفي وقت الإنتفاضة كان مجموعة من رجال المخابرات الأميركية قد استقروا في بيت مستأجر في مدينة سيهات وكانوا يراقبون الأوضاع. وحتى الصهاينة الإسرائيليين اهتموا بالإنتفاضة من زاويتهم الخاصة، ووجدوا في أساليب نضال الشيعة تشبّهاً بالفلسطينيين، وقد أصدر معهد دايان في بداية الثمانينيات الميلادية الماضية دراسة عن تلك الإنتفاضة، نشرت هي وغيرها تباعاً في ذكرى الإنتفاضة السنوية، في مجلة «الثورة الإسلامية».

  الملاحظة الثالثة

 نجحت الإنتفاضة في إنضاج وبلورة الخيارات السياسية للمواطنين الشيعة في المملكة، ولاتزال التجربة مستمرة لحصر الخيارات وترشيدها. لم يكن المجتمع الشيعي قبل الإنتفاضة مسيّساً، أو يدرك الأبعاد السياسية، بل كان لا يتعاطى مع الشأن السياسي في مجمله، وإن كان من الصحيح القول بأن المتعاطين مع الشأن السياسي ـ على مستوى المملكة ـ كانوا أيضاً قلة، وأن بعض القوى الشيعية يومها كانت أكثر تسييساً من نظيراتها. في وقت الإنتفاضة، لم يدرك المقتحمون الجدد فضاء اللعبة السياسية، وبشكل كاف، الأبعاد السياسية لنهج التمييز الطائفي الذي تقوم به الحكومة، ولهذا تقلبت الحركة المعارضة بين عدد من الخيارات، طابعها العام معارض، وكانت كلما جربت خياراً واكتشفت احتمالية عدم تحقيقه المطلوب تراجعت عنه.

 كانت الإنتفاضة بمثابة انفجار للأحاسيس، تبعها شيء من الترشيد السياسي، بل أن البناء السياسي المنظم والمعارض قام ـ بشكل كبير ـ على منتجات تلك الإنتفاضة. ماذا يريد الشيعة؟ في البداية جلّ ما كانوا يريدونه منحصراً في مسألتين: حرية التعبير الديني، والإهتمام الخدماتي بمناطقهم. لكن كيف يمكن تحصيل ذلك؟ لقد فشلت وسائل الوجهاء في تحقيق ذلك «أي فشلت طريقة المعاريض والوفود التي للأسف لا زال البعض يكررها اليوم»، وفشلت الحركة الوطنية السياسية التي تسعى للتغيير في إيجاد حل. حين قامت الإنتفاضة زاد التمييز الطائفي، وكانت الحكومة تريد أن «تثبت» أن طريقة الإعتراض لن تحل المشكلة، ولن يدفعها ذلك الى التنازل، وبالتالي زادت من التضييق في بعض الجوانب الإقتصادية، وخاصة في مجال التوظيف، وقمعت التحركات السياسية بالسجون والمعتقلات، وقد استشهد العدد من الأخوة تحت التعذيب في السجون «الشهيدان سعود حماد، مهدي خميس مثالاً».

 في بحثه عن طريقة لاستخلاص حقوقه، رأت الحركة السياسية الوليدة بأن الموضوع الطائفي سياسيٌ بالدرجة الأساس، وان النظام لا يريد حل المشكل بالتي هي أحسن، وبالتالي لا بد من «إسقاطه». ولكن كيف: والمجتمع الشيعي محاصر، لا توجد أدوات لديه للقيام بذلك؟ سريعاً تمّ تغيير الهدف بعد تجربة قصيرة، فعادت الحركة تطرح الإصلاح السياسي كبوابة لحل المشكل الشيعي، باعتبار ذلك المشكل جزءً من منظومة مشاكل سببها جمود النظام السياسي وانحرافه عن مفاهيم المواطنة وتأكيده على النزعات الطائفية والمناطقية. لكن لا توجد حركة إصلاحية وطنية حقيقية في المملكة، في فترة الثمانينات وحتى بداية التسعينيات، حيث ظهرت المؤشرات الأولية لذلك بعيد أزمة الخليج، لكنها أخمدت. في تلك الفترة وبسبب ان الشيعة متقدمون سياسياً على المناطق الأخرى، وبسبب أن النظام ألقى في روع الجميع، أن الشيعة ليس فقط عملاء ويريدون اسقاط النظام بل يريدون قيام حكم شيعي.. لذا كان الرأي العام المحلي غير الشيعي بعيداً عنها، رغم جهود المعارضة الشيعية للظهور كقوة وطنية على استعداد للتعامل مع اية قوة اخرى، بمن فيهم السلفيين.

 إزاء هذا، ظهر في أواخر الثمانينيات بدايات العودة الى «المطالب الشيعية الصرفة» ولكن الطابع السياسي الوطني العام بقي حتى عودة المعارضة عام 1993، كما توضح ذلك أدبياتها خاصة مجلة «الجزيرة العربية». تصوّر بعض الأخوة بعد التحولات السياسية التي حدثت في المملكة في بداية التسعينيات، أن هناك إمكانية للعودة بالملف الشيعي الى الداخل وحلّه بالتفاهم مع الحكومة، أو على الأقل العودة الى البلاد وتنشيط الحركة السياسية ضمن بيئتها المحلية. هذه الفكرة كانت الأساس الذي ابتني عليه خيار الحوار مع الحكومة فيما بعد، وهو خيار يلحظ إمكانية الفشل وضرورة «بناء حركة سياسية داخلية» وللأسف لم يحدث كلا الأمرين لا حلت المشكلة ولم تُبنى حركة سياسية جديدة ناهضة.

 المهم أنه في تلك الفترة ـ وقبل العودة 1993 ـ ظهرت فكرتان، الأولى تلحظ الإشارات القائلة بأن: إسقاط النظام غير ممكن، والعيش ضمن نظام طائفي تمييزي هكذا غير ممكن أيضاً، وبالتالي فإن التفكير بـ «الإستقلال» عن الدولة القائمة ومهما كانت الظروف والتبعات أمرٌ محبّذ، ولم يكن لأصحاب هذا الرأي مؤيدين إلا قلّة. والفكرة الأخرى قامت على رؤية تقول بأن المملكة مجتمع متعدد ثقافياً ومذهبياً، وأن مشكلة الشيعة كما غيرهم من الفئات المهمشة جاءت بسبب احتكار أقلية «نجد» لكل مناحي الحياة السياسية والدينية والثقافية والإقتصادية والعسكرية وغيرها. والحل بناء على ذلك يقوم على أساس «الشراكة» السياسية وليس «المشاركة» في النظام السياسي. أي اعتماد نظام يقوم على «المحاصصة» مقابل السياسة القائمة على «الإستئثار». ولكن ما هي الأدوات التي تستطيع بها حركة سياسية فرض هذا الأمر على السلطة المتطيّفة؟ كان الجواب حينها: استخدام ورقة الضغط بـ «الإنفصال» باعتبارها «آخر الدواء». فإن لم تتحقق المشاركة السياسية، وغُلّقت كل الأبواب، فإن الظروف ستضغط بشكل طبيعي باتجاه «التقسيم» شئنا أم أبينا. هذا الخيار كان صعباً أيضاً، خاصة وأن الإنفصالية اعتبرت بمثابة «سبّة عار» وأنها قد تكون ناقضاً دينياً باعتبار أن الإسلام يدعو الى «الوحدة». وفيما بعد أحداث سبتمبر، ظهر في الأُفق إمكانية «الإصلاح السياسي» من خلال العرائض التي قدّمت، وقد كانت البديل الأفضل للجميع، بل كان الإصلاح السياسي خشبة انقاذ لكل المواطنين وللدولة نفسها. لكن الآمال تبخرت كما هو معلوم. فخيار الإصلاح السياسي لم تتوفر شروطه بعد، وليس في نيّة النظام أن يتبرع من نفسه ليقوم هو بإصلاح نفسه، مدركاً بأن الإصلاح يعني «تحصيص السلطة» عبر صناديق الإقتراع، ويعني إدخال مشاركين سياسيين جدد لا تنظر اليهم المؤسستان الدينية والسياسية إلا بعين الريبة والشك.

 واليوم يدور الشيعة بين خيارين أو حركتين: حركة تتعاطى مع النظام على أمل أن يأتي حل ما، اختراق ما، تفكيك جزئية هنا وأخرى هناك. وقد استمر هذا الخيار منذ 1993 وحتى الآن. والخيار الآخر، يرى العودة الى مسألة تحصيص السلطة، والضغط بورقة الإنفصالية. هذا الأخير يرى بأنه إذا كانت الإنتفاضة وما تبعها «13 عاماً من النضال» قد قدّمت شيئاً للمجتمع الشيعي، فإن خيار الحوار مع السلطة بالصورة التي هو عليها لم يقدم شيئاً يعتدّ به، رغم مضي «14 عاماً». إن الأصوات التي تعالت مؤخراً حول تشكيل حركة معارضة جديدة، تكشف عن حقيقة أن المجتمع الشيعي قد وصل في خياراته مع السلطة الى طريق مسدود، أو شبه مسدود. وإذا كان من البديهي أن لا تبادر السلطة باتجاه ايجاد حل إلا بالضغط السياسي والشعبي، فماذا بقي من أوراق لم تستنفذ؟

 وملخص القول بأن انتفاضة المحرم 1400هـ، أخرجت الشيعة من الإنحصار في المطالب الصغيرة «مسجد وحسينية وتربة وكتاب» فالمساجد اليوم ينقصها المصلون، والكتب تبحث عن من يقرؤها، وإنما الإنتفاضة من أجل تحسين وضع الشيعة على الأرض ولا يكون ذلك إلا بالمشاركة الفاعلة في العمل السياسي واجتراح المبادرات. لقد تحددت الخيارات اليوم، بعد أن مرّت حركة المجتمع السياسية بآفاق متنوعة وانحصرت خياراتها، وتراكمت تجربتها، وبالتالي لا بد من حل يجيب على سؤال: ماذا نريد؟ وكيف؟

  الملاحظة الرابعة  

منذ أن وقعت الإنتفاضة عام 1400، نوفمبر 1979م، وحتى بداية التسعينيات كانت الإحتفالات تقام في ذكرى الإنتفاضة، وكانت البيانات تصدر، بل وتصدر أحياناً بعض الكتب، فضلاً عما يتم نشره من مقالات ودراسات وتحليلات في المجلات العامة والنشرات الخاصة. لا أفهم ولا أدرك المغزى السياسي من توقف الإحتفالات بتلك الإنتفاضة التاريخية بعد الحوار مع الحكومة وعودة الإخوة الى الداخل. فإذا كان الوضع «تحسّن» فإحياء الذكرى دليل على ذلك التحسّن، ودليل على تكريم أصحاب الجهد الحقيقي من الشهداء والمعتقلين وعوائلهم. وإذا كان الوضع لم يتحسّن ولم يتغيّر، فالإحتفال بالإنتفاضة وسيلة من الوسائل لاستعادة المواطنين لحقوقهم، هذا إذا ما تركنا الجوانب المهمّة في عملية الإحياء نفسها، وهي صناعة ذاكرة تاريخية جماعية جهادية للأجيال الجديدة كي تقوم تلك الأجيال بالبناء عليها والإستفادة من دروسها لتحقيق الغايات النبيلة التي استشهد الكثيرون من أجلها.

 يبدو أن البعض ليس فقط يقرأ العلاقات بين المجتمع الشيعي والسلطة بشكل خاطئ، بل تمتد القراءة الخاطئة لتشمل فهمه لحركة المجتمع. وإذا كانت المسألة تعود الى الخوف ـ وهو غير مبرر، فعلى الأقل هناك وسائل لتجاوز الخوف في هذا الزمن عبر الإنترنت وعبر إقامة الإحتفالات خارج المملكة نفسها. ويبدو لي أن مشروع الإنتفاضة وذكرياتها تدفع باتجاه خيارات سياسية مختلفة عن تلك المتبناة في الوضع الحالي القائم، لا يريد البعض أن يتراجع عنها، أو ليس له القدرة على التراجع عنها. إن تبيان أسباب الإنتفاضة، يعيدنا الى المربع الأول من الجهاد؛ وإن تذكّر نتائجها يبثّ الروح من جديد في الأجيال لكي تطالب وتقاوم وتجاهد، بدل أن يرمي البعض أكواماً من الثلوج على تلك الأجيال لتهدئتها وتبريدها ونزع فتائل النقمة لديها على واقعها السيء. والمطلوب هو: إحياء الإنتفاضة في كل عام، ووضع تعريفات بالشهداء وكيفية استشهادهم، وتوضيح تفاصيل المواجهات، واستخلاص العبر، وتقويم المراحل الماضية من أجل استعادة المبادرة والروح من جديد.

 هناك تراث كبير للإنتفاضة. ليس فقط صورها، وليس فقط أسماء وصور شهدائها وكيفية استشهادهم، بل وهناك تحليلات ودراسات نشرت ولاتزال تنشر. وهناك شعر كثير في الإنتفاضة، وأذكر هنا بالتحديد ديوان «النفط والدم» وبالقصائد التي نشرت تباعاً في مجلة الثورة الإسلامية.. وزيادة على ذلك، هناك صور ولقطات غائبة عن الجيل الجديد، بل حتى الجيل القديم الذي شهد الإنتفاضة كل في موقعه. كانت الإنتفاضة ملحمة حقيقية. لقد سيطر المواطنون على مدنهم وقراهم، وسيطروا على مراكز شرطة كما في العوامية، وكان هناك رصدٌ لحركة السلطة وتفاصيل في المكالمات والإتصالات التي كانت تجري بين القيادات العسكرية والسياسية. ثم هناك وثائق الإنتفاضة، وحركة الوجهاء، وتفاصيل عمل السلطة بعد الإنتفاضة، وهناك تقارير كتبها معتقلون بأنفسهم بعيد تلك الأحداث، لقد اعتقل ما يقارب 1100 شخصاً، وهناك تجارب لأشخاص أصيبوا بالرصاص ونقلوا الى مستشفيات خارجية للعلاج. وما هو مطلوب: تقييم القيادات الميدانية والسياسية لحدث الإنتفاضة، باعتباره منعطفاً جوهرياً غيّر واقعنا كمواطنين الى الأبد، ويجب أن يُبتنى على ذلك التغيير تغييرات تأسيسية أخرى.