إنتفاضة 1400هـ
الدكتور فؤاد إبراهيم
قبل
ثورة نوفمبر 1979 كان الوضع الاجتماعي والتنظيمي لـ «حركة
الرساليين الطلائع» قويا ومستقرا، ويتمتع بقاعدة شعبية عريضة،
وكذلك أنصار أشدّاء بين الشيعة، ولذا نجح في التغلب على الصعوبات
التي واجهته من قبل التيار المحافظ، الذي كان يعارض أي نوع من
المواجهة السياسية من قبل الشيعة.
وبما أن الأحزاب السياسية محظورة بصورة رسمية في البلاد [1] ،
فإن المطالب السياسية يمكن أن تظهر بين القطاعات غير المعنية
مباشرة بالسياسة. وهذا ما يعبر عنه الكاتب ديفيد ايستون بقوله
«المطالب تردم الهوة الفاصلة بين القطاعات السياسية وغير
السياسية في الحياة» [2] . فكانت تعقد النشاطات السياسية في
المساجد والحسينيات، وهي مؤسسات غير سياسية، ولكنها منابر لتحشيد
الجمهور في أوقات معينة ولأسباب محددة. وهذه المؤسسات غير خاضعة
لسيطرة الدولة، كونها تموّل تقليدياً من قبل الشيعة، ما يجعل
التحكم فيها صعباً.
كانت الأيدلوجيات والرؤى السياسية الشيعية تبث في المساجد
والحسينيات. لذا كان من غير المستغرب أن تبدأ المعارضة الشيعية
بالتحرك في الأماكن غير الخاضعة تحت تأثير المؤسسات الدينية أو
سيطرة الدولة، دون تجاوز المجال الذي ضحّى الشيعة، منذ عقود،
لحمايته.
لم
يكن للمساجد والحسينيات أي دور سياسي إلى حين انتصار الثورة
الإسلامية في إيران. كانت هذه المؤسسات ينظر لها من قبل الغالبية
الشيعية على أنها تجسيد للتضامن الإجتماعي الشيعي. وبعد عام
1979، وعلى الرغم من وجود مساجد وحسينيات تقليدية، إلا أن دورها
أخذ بالتغير بشكل دراماتيكي، فقد أصبحت هذه المؤسسات منافذ
للعديد من الحركات السياسية والدينية داخل المجتمع الشيعي .
إضافة إلى ذلك، أصبحت بعض المرجعيات الشيعية معروفة بتوجهاتها
السياسية حسب مدى مشاركتها السياسية.
ففي كل مواكب عاشوراء، تحولت الحسينيات إلى مراكز تجمع للشيعة
حيث كانت المسيرات تبدأ بخطابات الشيخ حسن الصفار وخطباء آخرون
أعضاء في «حركة الرساليين الطلائع» مثل الشيخ فوزي السيف، أو
مقرّبين منها مثل السيد مرتضى القزويني. خلال عشرة الأيام الأولى
من محرم في نوفمبر 1979، كان قائد منظمة الثورة الاسلامية (IRO)
الشيخ حسن الصفار، قدّم رؤية ثورية جديدة عن الإسلام الشيعي،
ولم يكن شيعة المنطقة الشرقية معتادين عليها. الصفار، وانطلاقاً
من خبرته البارعة في علم النفس الإجتماعي، عرف كيف يشحذ همم
الجماهير، فكان يصرف معظم محاضراته لمعالجة الحواجز النفسية التي
تعيق الإرادة الشيعية. كان يركز على أن الخوف هو السبب الرئيس في
خمول الشيعة.
«إن الخوف المبالغ فيه والذي يقيد العقل وينهك الجسم ويعيق
التقدم وتفجر الطاقات، هو المرض الذي تعاني منه الغالبية العظمى
من مجتمعنا» حسب الصفار. فمن وجهة نظره، أن الشيعة يعانون من خوف
مفرط من كل شيء: الفشل، الإجهاد، الألم، الحكومة، مراكز القوى
المستقبل والموت. «إن هذه الظاهرة الخطرة التي تسيطر على مجتمعنا
هي التي تمكّن الطغاة من الإستمرار في القمع وجعلهم أغبياء
(إستحمار)»[3] .
على الرغم من أنه يعترف بأن الخوف هو سمة فطرية في الطبع
الإنساني، إلا أنه يرى إمكانية التعامل معه، من خلال توجيهه نحو
الخوف من الله، والذي يستلزم التمسك بالبرنامج الإلهي من قوانين
وفرائض والإبتعاد عن المحرّمات والآثام والتوجه نحو الأعمال
الصالحة. كما أنه يعني تطبيق القيم السماوية والإستهزاء بالقيم
المؤقتة والخاطئة. الرساليون هم أولئك الذي يجسدون الخوف الصحيح
من الله، ويحملون المسؤولية السماوية ويعملون من أجل تطبيق الحق
والحرية والإزدهار. [4] . الناس الذين يسحقون من الحكومات
الإستبدادية أو الدمى يجب عليهم التحرك بسرعة لتخليص أنفسهم من
الحكومة والتي تشكل مصدر الخوف. «انتظار الخطر حتى يقع، هو أسوأ
من الخطر نفسه، لذا من الأفضل أن يهاجم الخطر» [5] . الصفار
أيضاً انتقد النظام التعليمي ضمن المجتمع الشيعي في المنطقة
الشرقية والذي يعتقد أنه السبب في تسخير الشيعة. الخوف من
الحكومة جعل شعبنا ذليلاً وضعيفاً [6] .
وفيما يتعلق بالموت، تساءل الصفار، إذا كان الموت لا مفر منه،
لماذا نجعل الموت يهاجمنا؟ إنه الإنسان الذي عليه أن يأخذ زمام
المبادرة لمهاجمة الموت لأنه يمتلك أهدافا سامية، ويحمل راية
مقدّسة، وعملاً عظيماً، حتى يرمي بنفسه في المخاطر والمجازفات
للدفاع عن الحق في سبيل الله [7] . وفي توسّله بلهجة متعالية،
يهدف الصفار إلى التأكيد على السلطة العالية للدين على الجمهور
الشيعي العام، والذي يجب عليه الامتثال لإملاءات الدين من خلال
ممثليه الافتراضيين، وفي نهاية المطاف النهوض من أجل الإحتجاج
السياسي.
وعشية السادس من شهر محرم 1400 الموافق 25 نوفمبر 1979، وخلال
عاشوراء خرجت جماهير الشيعة في القطيف والأحساء إلى الشوارع بعد
قراءة عاشوراء التي ألقاها الشيخ حسن الصفار والسيد مرتضى
القزويني وخطباء آخرون. المعزون الشيعة قرروا إحياء مراسم
عاشوراء بصورة علنية والتي أخذت منحى سياسياً، فيما تدخّل الحرس
الوطني الذي يرأسه الملك عبد الله. ومع تسارع أحداث محرم وبلوغها
الذروة في الأيام الأخيرة من عاشوراء، أصرّ الشيعة على إحياء
مراسم عاشوراء في استشهاد العباس بن علي (أخ الحسين) وإبن الحسين
علي الأكبر والحسين بن علي عليهم السلام. وفي هذا للحظة تصل
الجذوة الدينية أقصاها.
استخدم الخطباء المتضامنون مع «حركة الرساليين الطلائع»
الحسينيات لتحريك الشيعة في المنطقة، وبالتالي تحدي الحظر الرسمي
بممارسة الشعائر بصورة علنية، في إشارة إلى عزمهم كسر الحظر
الحكومي. وعشية السابع من محرم (26 نوفمبر)، أحيا الشيعة مواكب
العزاء التقليدية والتي نتجت عنها مسيرات في أنحاء المنطقة شارك
فيها حوالي سبعين ألفا والتي ما لبثت أن تحولت إلى مصادمات عنيفة
مع قوات الأمن المرابطة في المنطقة. وعندما تدخلت الشرطة وجنود
من الحرس الوطني لتفرقة التجمعات المشاركة في مواكب عاشوراء في
القطيف في 28 نوفمبر، قرر الشيعة المقاومة وسادت حالة من الهياج
والتي ما لبثت أن انتشرت في أجزاء أخرى من القطيف والأحساء.
السلطات السعودية التي غاضتها حركة جهيمان في مكة، كانت قلقة من
الأحداث في المنطقة الشرقية. ولهذا السبب تم نشر عشرين ألفا من
قوات الحرس الوطني في المنطقة لإخماد الإنتفاضة. استمرّت
المسيرات خمسة أيام رغم محاولات وجهاء الشيعة والشرطة لوقفها.
ولكن عندما فتح الحرس الوطني النار على الجموع في القطيف، تظاهر
الشيعة في الشوارع في رد فعل غاضب، وإصرار على إيصال صوت مظالمهم
ومطالبهم. وفي التاسع والعاشر من محرم، تم تطويق منطقة القطيف
وانتشرت الأخبار عن سقوط قتلى.
رفعت المسيرات الشيعية شعارات مطالبة بحق المساواة مع نظرائهم من
السنة «لا سنية لا شيعية ... وحدة وحدة اسلامية» مظهرين انتمائهم
المذهبي «نحن شيعة جعفرية»، وما نريده هو الحرية «دين النبي واحد
ما في تفرقة» [8] .
قتل
الحرس الوطني عشرين شخصا وجرح أكثر من مئة. أربعة منهم كانت
اعمارهم بين 17 - 19 عاما، وسبعة بين 20 - 30 عاما وثلاثة بين
30- 40 عاما وواحد كان عمره 60 عاما. ثمانية كانوا طلابا في
المدارس الثانوية، وثمانية كانوا عمالاً، وامرأة وأستاذ مدرسة،
وإثنين من موظفي ارامكو [9] .
وفي محاولة لتهدئة حالة الغضب في المناطق الشيعية، قامت الحكومة
باعتماد استثمارات ضخمة في تحسين البنية الاقتصادية والنظام
التعليمي وبعض الخدمات المحلية. تغيرات كبيرة حدثت في الفترة ما
بين 1980 و 1985. تم رصف الشوارع، تشيدد عدد من المدارس
والمستشفيات وتوزيع أراض، ومنح قروض وبناء نظام صرف صحي وافتتاح
مجمعات تجارية. هذه المتغيرات أبطنت إعترافاً غير مباشر بالتمييز
الطائفي الرسمي الذي كانت تعتمده الحكومة ضد المناطق الشيعية.
على
أية حال، فإن التحسّن النسبي في أوضاع المنطقة لم يكن مجانيّاً،
فقد كانت الحكومة تهدف، من وراء ذلك، إلى فرض سيطرتها على منطقة
تقع بمحاذاة آبار النفط. التمييز ضد الشيعة لم يتوقف ولكنه أخذ
أشكالاً أخرى. وفي محاولة منها لبسط سيطرتها على المنطقة استخدمت
الحكومة وسائل قمع قاسية ضد النشطاء الشيعة. صرف المليارات من
الدولارات من قبل الحكومة السعودية في السنوات التي تلت
الانتفاضة كان لها الأثر الكبير في نظرة الشيعة للحكومة. ولكن
القول أن الشيعة أصبحوا «محصنين من التأثير الإيراني» [10] هو
أبعد ما يكون عن الصحة، مع أن الأوضاع الاقتصادية للشيعة تحسنت،
إلا أن التمييز الطائفي، والأبعاد السياسي والتهميش الثقافي
استمر في تغذية غضب الشيعة.
الثورة العفوية للإنتفاضة حسب قول الشيخ الصفار «أكثر مما كان
يتوقعه أي شخص»، فهي تعد علامة بارزة في تاريخ شيعة السعودية.
الغضب العام كان شديدا. الحكومة السعودية صعقت من حالة الهياج
لدى الشيعة وحاولت على وجه السرعة احتواء الوضع الخطر في المنطقة
الشرقية. فقامت باستدعاء الخطباء وأمرتهم بالتعهد بعدم بث خطابات
تحريضية، والتي يمكن أن تؤدي إلى الثورة والعنف. ولكن الوضع تغير
بشكل دراماتيكي بواسطة إذاعة طهران «القسم العربي» والتي كانت
تحت سيطرة أعضاء من «حركة الرساليين الطلائع»، حيث خصصت ساعات من
جدول برامجها للإنتفاضة في المنطقة الشرقية. كما أنها كانت تحث
الشيعة على الإستمرار في الإحتجاج ضد الحكومة السعودية والمطالبة
بالحريات الدينية.
وبصورة عامة، كانت الانتفاضة رمزاً للقمع الذي كان المجتمع يرزح
تحته تاريخيا [11] . ولكنها، كما ظهر، حولت رؤية الشيعة لأنفسهم،
بكونهم مجموعة محرومة الى مجتمع تحدّى سياسة الحكومة التمييزية.
في
نوفمبر 1980، قدّم وجهاء الشيعة عريضة لنائب الملك في ذلك الوقت
فهد بن عبدالعزيز، يدينون سياسة الحكومة التمييزية ضد الشيعة.
«نحن نشتكي من فداحة الإضطهاد والذي يجب أن لا يستمر كما تم
بيانه وإيضاحه. فنحن لم نتلق أي نتيجة إيجابية وهذه المطالب تمثل
الحد الأدنى من مطالبنا» وتابعوا بالقول: «فنحن لم نأتِ من فراغ
ولسنا مفلسين أخلاقيا لدرجة أن لا أحد منا جدير بثقة هذه
الحكومة». العريضة ركزت على أمرين هامين: الأول هو التمييز
الطائفي والمتمثل في حرمان الشيعة من حقوقهم الدينية، والثاني
يتعلق بالأوضاع الإجتماعية-الإقتصادية للشيعة والتي تم رفعها من
فترة طويلة ولكن دون تحقيق نتائج ايجابية [12] .
لعل
التطور الأهم الذي أعقب الانتفاضة كان ولادة منظمة الثورة
الاسلامية في ديسمبر 1979 والتي مثلت فصلاً جديداً في العلاقة
بين الحكومة والشيعة. وكونت المنظمة المخرج السياسي للشيعة. ففي
بلد يحظر رسمياً جميع الأحزاب والتجمعات والحوارات العلنية أو
انتقاد الواقع السياسي، إضطرت المعارضة الشيعية لأن ترفع صوت
الإحتجاج من الخارج، وذلك بتأسيس مكاتب معارضة ومراكز إعلامية
ومنظمات حقوقية في ايران ولبنان ولندن وواشنطن. أجبرت الحكومة
السعودية المعارضة الشيعية على تطوير خيارات سياسية أخرى وآليات
مختلفة، التي لم تكن متاحة لأعضائها من مزاولتها داخل البلاد.
[1] مرسوم ملكي رقم 217/23 صادر بتاريخ 11 يونيو 1956 يحظر
بموجبه تأسيس الأحزاب السياسية. المرجع: هلين لاكنر: «بيت مبني
على الرمال: الاقتصاد السياسي للعربية السعودية» لندن 1978 -
صفحة 89
[2] ديفيد ايستون - تحليل أنظمة الحياة السياسية - شيكاجو 1965
- صفحة 53
[3] حسن الصفار - كيف نقهر الخوف - دالاس 1984 - صفحة 47-48
[4] المصدر السابق - ص 25
[5] المصدر السابق - ص 31
[6] المصدر السابق - ص 91
[7] المصدر السابق - ص 108
[8] حتى الفجر - ص 25
[9] مجلة الثورة الاسلامية - العدد العاشر - يناير 1981 - صفحة
28-37
[10] ر.كز رمضاني - التشيع في الخليج الفارسي - ص 46
[11] مضاوي الرشيد و لولوة الرشيد - سياسة الاحتواء السياسة
السعودية ضد المعارضة القبلية والدينية
[12] مجلة الثورة الاسلامية - العدد 54 - اكتوبر 1984 - صفحة
6-8
|