إنقسام الأمراء يؤجل الإصلاحات السياسية

 

 الإصلاح حتمي في المملكة، والعائلة المالكة ليست مختارة في هذا الشأن؛ إنّه أمرٌ مفروض عليها داخلياً وخارجياً. التوقيت قد يكون عاملاً مهماً في بروز ملامح الإصلاح السياسي، ولكن العائلة المالكة قدمت إشارات متناقضة بشأنه؛ ففي حين يتقدم الأمير عبد الله بإشارات عزمه الإقدام عليه، بل ويعد بتحقيقه.. تأتي إشارات متناقضة من جناح آخر في السلطة (الجناح السديري) توحي بالتشدد، مما يعزز الإنطباع بأن العائلة المالكة لا تزال منقسمة على ذاتها بشأن أمور عديدة، وأنها مشغولة بالصراع على السلطة وتقاسم حصصها، أكثر من انشغالها بمطالب التغيير.

الإحساس العام بين النخبة السعودية يميل الى الإعتقاد بأن التيار المتشدد لازال الأقوى داخل العائلة المالكة، مستنداً في ذلك الى مبررات عديدة منها:

إن العائلة المالكة حين حوصرت بالمشاكل، وحين بدأ الرأي العام يميل الى الإعتقاد بحقيقة (ضعف الدولة أو نظام الحكم) وأخذ بالتحفّز لممارسة حقوقه وتحدّي الحظر عليه.. حين حدث ذلك، رأى الجناح المتشدد (الأمير نايف بالخصوص) أنه لا بدّ من إيقاف هذا التمدّد الشعبي، وإظهار العائلة المالكة بأنها لا تزال قويّة، وأنها تستطيع أن (تضرب بيد من حديد) كما كانت تفعل في الماضي. بكلمة أخرى، فإن الغرض من التشدد أو العنف هو تأكيد الذات قوّةً وعنفواناً وبطشاً، وترسيخ مفاعيل الخوف والرهبة لدى الشعب ونخبه وكسر إرادتهما التي بدأت بالإنطلاق.

هناك تبرير آخر للتشدّد، وهو إقتناع الشريحة الأقوى والأكبر بين أمراء العائلة المالكة، بأن ما يطالب به الآخرون لا يدخل ضمن الحقوق، بل هو تعدٍّ (من الشعب) على حقوق العائلة المالكة في حقها المطلق في الحكم وفي (تملّك) الدولة. وهذا ما دعا الناشط السعودي الدكتور علي اليامي ـ المقيم في واشنطن ـ الى ابتداع مصطلح جديد في دعوته (في البرلمان البريطاني في كلمة له حول الإصلاحات في السعودية تحت إشراف المعهد السعودي في 14 يناير الماضي) الى (تغيير المِلْكِيّة ـ التملّك) Changing Ownership، أي تغيير ملكية الدولة من العائلة المالكة الى الشعب كشرط أساسي لتحقيق الحريات. ذات الأمر أشار إليه الدكتور متروك الفالح في دراسته عن تداعيات أحداث سبتمبر على السعودية.

التبرير الثالث هو تفكّك العائلة المالكة نفسه واختلافها حول موضوع الإصلاح. ولا يبدو حتى الآن أن الأمير عبد الله قادر على فرض ذاته كرأس للدولة بدون منازع، وإن كان هذا الأمر غير مستبعد الحدوث في المستقبل رغم صعوبته الشديدة. ومع ذلك، فإن دخول العائلة المالكة بدون إجماع حقيقي في العملية التغييرية قد يسبب مصاعب لجميع الأطراف، وقد يؤدّي ذلك الى انشقاق علني في أجهزة الدولة بأكثر مما هو عليه الآن (والذي يتمظهر في صيغة تقاسم الحصص) وربما زاد الأمر سوءً إذا ما تطلبّت ظروف النزاع استدعاء (الشارع ونخبه) لصالح هذا الجناح أو ذاك، على النحو الذي شهدته المملكة من صراع على الحكم بين عامي 1958-1964، ولنفس الأسباب: الإصلاح! وكأن في ذلك إعادة للتاريخ بعد حوالى نصف قرن. ولا نظن أن الأمراء ـ بمن فيهم ولي العهد ـ يريدون تكرار تلك التجربة التي كادت تعصف بالحكم، والتي تغلّب في النهاية فيها دعاة الإستبداد، وهم من يمسك بعصب السلطة اليوم. في مثل هذه الظروف قد تكون الأمور أخطر بكثير مما حدث في التاريخ، فاحتمالات تطوّر النزاع الى استخدام كل الأسلحة الدينية والسياسية والعسكرية والإعلامية والشعبية أمرٌ غير مستبعد، إذا ما تمّ خرق التوازنات داخل العائلة المالكة.

وعموماً، فإن الشعور الجمعي في العائلة المالكة يقول: إن لم نتفق على الإصلاحات السياسية، فالأمور تسير (حسب ما اتفق عليه سابقاً). وإن مقاومة الإصلاح بوحدة العائلة المالكة، خير من دخولها فيه مشتتة متنازعة بشأنه، لأن كلا الطرفين سيكون خاسراً. إذ لا فائدة من إصلاحات ـ من وجهة نظرهم ـ تؤدّي الى تمزيق العائلة المالكة أو الى المزيد من إضعافها، أو حتى تسقيطها شعبياً، او كشف الخلافات بين أجنحتها الى العلن.

إن العائلة المالكة وقد أدركتها موجة الأحداث السياسية العاصفة منذ أحداث سبتمبر لم تتح لها فرصة لتدبّر أمرها في هدوء، ووفق مدّة زمنية اعتادت أن تطيلها الى سنوات وسنوات فيما مضى، مثلما كان الحال بعيد حرب الخليج الثانية. في الوقت الحالي هم مطالبون تحت ضغط الأحداث على إجراء التغييرات بسرعة لا تتفق معها سجيتهم ولا مع طبيعتهم المماطلة والمحافظة خاصة بالنسبة لأشخاص ذرّفوا على الثمانين من العمر، فضلاً عن أن الولايات المتحدة والوضع الداخلي لا يميل الى إعطائهم فرصاً زمنيّة حتى تخرج الإصلاحات بالطريقة التي يريدونها.

وزيادة على هذا، فإن أكثرية الأمراء  ينتابهم الرعب من أن تكون الإصلاحات مهما صغر حجمها بداية العدّ العكسي للعائلة المالكة.. ذلك أن التنمية السياسية عملية متواصلة، وفتح ثقب ولو كان بالإبرة الصغيرة قد يؤدي الى (فرقعة) كبيرة فيما بعد. وإذا كان الأمراء على استعداد للتنازل بصورة من الصور عن بعض صلاحياتهم الآن، فإنهم يشعرون بأن زخم التغيير قد يزيلهم من الوجود في المحصلة النهائية. والأمراء أنفسهم يتحدثون ـ فعلاً ـ عن تجربة غورباتشوف، وكيف أدّت الى النهاية غير المأسوف عليها للإتحاد السوفياتي، لكنهم قد لا يريدون أن يتذكروا أن المصير نفسه حدث في يوغسلافيا بدون إصلاحات، وهو النموذج الأقرب للتطبيق في السعودية، والأكثر شبهاً بها.

حقاً .. إن الإصلاحات المتأخرة جداً (قد) تودي بنظام الحكم وتطيح بالدولة نفسها. ومما لا شكّ فيه بأن الإصلاحات في السعودية متأخرة.. بل هي متأخرة جداً، ولكن شروط سقوط الدولة السعودية لم يتحقق بعد، لكنّ كما تنبّأ الكثيرون ـ وبينهم الدكتور الفالح والدكتور خالد الرشيد في دراسته الرائعة حول إشكالية الوحدة ودوافع التقسيم في السعودية ـ فإن الإصلاحات قد تمضي على الأرجح بسلام في السعودية، وتأخيرها أكثر قد يؤدي الى انهيار الدولة بنوازع تقسيمية داخلية ودفع خارجي. وكان المفكر السعودي تركي الحمد، قد أشار بطرف في أحد مقالاته الى هذا الأمر (واللبيب بالإشارة يفهم) حين قال بأن الإصلاحات في السعودية كان ينبغي أن تتمّ في التسعينات حين أعلنت الأنظمة الثلاثة، أي قبل عقد من الزمان. وفي مقالة آخرى تحدث عن توقف إصلاحات خرتشوف في الخمسينيات وكيف أنها بعد ثلاثة عقود غيّرت مجرى التاريخ.

باختصار مفيد، هناك من يعتقد بين الأمراء، أن الحكم السعودي قد يستمر فترة أطول مع (الإستبداد) منه مع الديمقراطية والتغيير التدريجي الذي (قد) يتحول الى راديكالي. كأنّ التحليل هذا يصوّر (الدولة) السعودية برجل مبتلى بمرض خطير رفض العلاج منه مدّة من الزمن لعدم قناعته بأنه في الأصل مريض، فتطوّر المرض وهو يعتقد حين بدأ يشعر به بأن كبسولات الأسبرين والمهدئات تحلّ مشكلته. وحين اقتنع بخطورة المرض، رفض إجراء العملية الجراحية، باختصار خوفاً من الموت مفضلاً أن يموت حتف أنفه!