دعوة ولي العهد للمشاركة السياسية

 تصف الدواء لمرضى آخرين

 

هل هي أحجية سعودية لم نشهد لها مثيلاً من قبل، أن تتقدّم دولة متخلّفة من حيث التنمية السياسية عن كل جيرانها العربيات وغير العربيات، بمشروع إصلاح سياسي داخلي على نطاق عربي عام؟ أليس مستغرباً أن يدعو أكثر النظم العربية والإسلامية محافظة ومعاداة للتغيير ـ خاصة في جانبه الثقافي والسياسي ـ أنظمة أخرى هي في أغلبها أكثر تطوراً منه من حيث هامش الحريات السياسية والمدنية ووجود المؤسسات الدستورية الى الإصلاح السياسي؟

أم هي مصادفة أن تكون دعوة ولي العهد السعودي وصفة دواء للآخرين لا تعالج العلل التي تلمّ ببلاده؟ ألم يكن الأولى بهذا الأمر، وبتلك الدعوة والمبادرة، أنظمة الحكم الأكثر ولوجاً في التغيير والإصلاح، والتي قطعت شوطاً في مضماره؟

هل عنى رجل السعودية الأول الإصلاح السياسي فعلاً، أم كان يقصدُ أمراً آخر؟ ولماذا لم يبدأ بما سبقه إليه آخرون، حتى تكون هناك مصداقية للدعوة أو المبادرة السعودية؟ أم أن ما سمي بالمبادرة لا يعدو استجابة ملتوية للأطروحة الأميركية التي أعلن عنها كولن باول مؤخراً حول دمقرطة الشرق الأوسط؟ نحن هنا نتحدث عن بيت النجار صاحب الباب المخلوع أو المكسور، وعن أضحوكة تصدير الديمقراطية من السعودية الى كوريا الشمالية وكوبا!

الإهتمام بتصريحات الأمير عبد الله الأخيرة أثارت فضولاً كثيراً لرجال الصحافة والإعلام في الداخل والخارج، ولدى المواطن العادي الذي يترقب بين اليوم والآخر إعلاناً من الحكومة السعودية تفتح آفاق التغيير وتعلن بداية مرحلة جديدة من تاريخها من خلال إشراك المواطن في صناعة القرار السياسي، والتمتع بحرية التعبير والتشكّل والإنتخاب.

بالرغم من أن تصريح الأمير عبد الله مثيرٌ في عباراته، ومع أننا لا نريد أن نشكّك في نواياه، لكننا أما تحليل الأحجية السعودية التي استدعت التساؤلات آنفة الذكر.

هل يريد الأمير عبد الله الإصلاح؟ نعم، ونضيف للجواب كلمة أخرى: (ولكن)!

بالرغم من أن الأمير عبد الله وهو الرجل الأول في الدولة مع إصلاحٍ من نوعٍ ما لا نعلم حدوده، وإن كنّا نستكنه غايته، وهو البحث عن الإستقرار السياسي الداخلي، ومنع البلاد من الإنفلات نحو الأسوأ، خاصة وأن الحرب ضد العراق توشك أن تقع، وكذلك محاولة امتصاص الضغوط الأميركية الخارجية.. بالرغم من هذا، فإن تصريحات الأمير تعني أنه (غير قادر على الإصلاح)! أو بعبارة مخففة: إنه غير قادرة على مواجهة التيار الأقوى المعارض له داخل العائلة المالكة، والذي يقوده تحديداً وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز وأمير الرياض سلمان. كأنّ الأمير أراد إيصال رسالة عبارة عن (أُحجية) تفيد بأنه مع الإصلاحات، إذ لا يُعقل أن يدعو إليها الدول الأخرى وهو لا يعمل بها، وسيواجه بذات الأسئلة التي عرضت في بداية المقالة.

فهل أراد الأمير بمبادرته إبلاغ الشعب السعودي بأنه مع الإصلاحات ولكن في فمه ماء؟

أم أن الأمير أراد إصلاح الوضع السياسي السعودي الداخلي، وغلّف ذلك بأن وضعه في إطار أوسع؟ أي أنه أراد إخراج الإصلاحات في السعودية وكأنها استجابة لقرار عربي، وليس لضغط أميركي غربي، أو داخلي شعبي، فالأمراء يمنحون المكرمات (جمع مكرمة) ولا يستجيبون الى ضغوط، وما يعطونه (تفضلاً) وليس (حقّاً). إذا كان الجواب بـ (نعم) فهذا يفترض أن أمراء العائلة المالكة الكبار توصلوا الى إجماع بشأن الإصلاحات وبحدودها عبر مفاوضات شاقّة وطويلة، نظراً للخلافات الواسعة بين الأجنحة المختلفة، والتي ظهرت على السطح مراراً وتكراراً وصارت معلومة للقاصي والداني.

لغة الخطاب السياسي الملكي السعودي بدأت بالتغير، دون أن يعني ذلك بالضرورة الشروع في الإصلاح أو القناعة به، وإنّما من أجل الإلتفاف عليه وعلى دعاته. في العقد الماضي كان الحديث يخلط بين الحداثة والتحديث، أي بين التنمية السياسية والتنمية الإقتصادية والإجتماعية. فالتحديث موجود وهذا صحيح، ولكن بلا حداثة، أي بلا تغيير سياسي. وكان الأمراء يتحدثون عن نظام الحكم ـ ولازال بعض جهلة المدافعين عنه في الخارج يفعلون ـ وكأنه أرقى ما وصلت إليه البشرية، وأن (سياسة الباب المفتوح) أعرق من كل الديمقراطيات وأفضل، وحين تسأل عن الديمقراطية يقولون إن هناك شورى، والدستور هو القرآن، وبالتالي ليس هناك شيء ينقص الشعب السعودي.

الخطاب السياسي اليوم يقول: "نعم نحن بحاجة الى الإصلاح"، بمعناه العام، أو "الإصلاح مطلوب"، أو كما قال أحدهم: "الإصلاح مفيد!" و"ضروري في كل زمان ومكان"! ومثل هذه العبارات تكافئ وتساوي (=) لا تغيير ولا إصلاح. إن موجة الدعوة الشاملة للإصلاح والتغيير القادمة من مختلف شرائح المجتمع السعودي، بما فيها الدعوة الى احترام حقوق الإنسان، دفعت بالعديد من الأمراء الى عدم الإصطدام بل والترحيب بها من أجل استخدامها ضد الإصلاح وضد حقوق الإنسان ودعاتهما.

إننا أمام محاولة لتفريغ كل المعاني والمفاهيم من محتواها الحقيقي. مثلما حدث من قبل مراراً وتكراراً وآخرها ما زُعم من إصلاحات عام 1993 حين أُعلنت الأنظمة الثلاثة (نظام الحكم ـ أي الدستور ـ، ونظام المقاطعات، ونظام مجلس الشورى) فماذا استفاد المواطن من هذا كله؟ لا شيء تقريباً.

أراد الأمراء القول بصورة من الصور للمواطنين: حسن! هاكم ما تريدون! دستور مثلما هو عند الآخرين لا قيمة له، وبرلمان لا يحل ولا يربط ولا يناقش أمراً ذا قيمة ومفتاحه بيد الملك وإخوته الكبار، ونظام المقاطعات يخفف من المركزية التي تزعمونها! هذا بالأمس، واليوم إذا ما طولب بالإصلاح فالجاب: ليكن ذلك. فنحن أيضاً مصلحون! وتطالبون بحقوق الإنسان: نحن مع حقوق الإنسان! كيف لا ونحن نطبق الشريعة؟! وتبدأ اللعبة كسابقتها حيث تفرغ الإصلاحات، إن قامت، من محتواها.