غلاسنوست على الطريقة السعودية

 ثمة تحول ملحوظ بدأ يطرأ على طريقة تعاطي المسئولين وكبار أعضاء الاسرة المالكة مع القضايا المحلية. انعكس هذا التحول على الصحافة السعودية منذ نحو سنتين، بغرض امتصاص موجات الغضب والنقد المتزايد ضد سياسة العائلة الحاكمة على المستوى الخارجي ناهيك عن المستوى المحلي. يتفق كثير من المراقبين على أن التحوّل الجديد يأتي في سياق التقارير المكثفة التي باتت تنشر وبصورة شبه يومية عن اعمال عنف ومظاهر السخط الشعبي العام الذي بات يمثل المشهد السياسي شبه اليومي في المملكة.

فالصحافة السعودية المحلية تحوّلت مذاك الى وعاء يستقبل شكاوى المواطنين ازاء العجز الخطير الذي أصاب سياسة الدولة في التعليم والتوظيف والصحة والامن. فقد خصص بعض الجرائد مساحة لرسائل المواطنين التي تحمل في باطنها لغة احتجاجية ضد ما يمكن وصفه بقصور الدولة عن توفير الحد الادنى من الحقوق الفردية.

بالنسبة لمن هم خارج الحدود، تُحتسب تصريحات السفير السعودي في واشنطن ووزير الخارجية سعود الفيصل في نقد الحالة الدينية المدعومة رسمياً وهكذا فتح الملفات الساخنة ذات الحساسية الشديدة في السابق على صفحات مجلة (المجلة) وايضاً جريدة (الشرق الاوسط) اللندنيتين مفاجأة سارة باعتبار أن ذلك مؤشر على بداية مرحلة صحية ستعيشها البلاد بعد عقود من التكتم.

في الستينيات كانت الميزانية السنوية من أسرار الدولة التي لا يجوز نشرها، أو حسب تقرير للخارجية الاميركية أن ربع الميزانية العامة كان حتى وقت قريب لا يدرج في قائمة النفقات، وحسب دبلوماسي عربي سابق فإن هذا القسم من الميزانية يخصص للعائلة المالكة، ويضيف "أن للعائلة حصتها أيضاً في الثلاثة أرباع الاخرى"، اما اليوم فقد اختلف الوضع جوهرياً سيما في ظل ثورة معلوماتية لم تبق امام الحكومة فرصة اخفاء اسرار المشكلات الداخلية فمصادر المعلومة تنوعت، وأن احتكار الدولة لوسائل الاتصال الجماهيري قد تآكل الى حد باتت قدرة الحكومة في التأثير او حتى توجيه المعلومات بطريقة محددة عملاً مكشوفاً واحياناً يثير السخرية.

الشفافية التي بدأت تمارس من قبل بعض المؤسسات والشخصيات السياسية في المملكة تمثل الخطوة الاولى نحو مشوار طويل لا بد ان ينتهي الى برنامج اصلاحي شامل، اذا ما التزمت الحكومة بمنطق الشفافية والخطوات الضرورية التي تتطلبه عملية كهذه تماماً كما تطلبت الغلاسنوست فعلاً تغييرياً شاملاً في الاتحاد السوفيتي.

الشفافية كما وعد الامير عبد الله بترسيخها كأساس للتعامل مع مشكلات المواطنين الملحّة، لم تبدأ سوى بصورة متقطعة ومن طرف واحد، فالشفافية الموجهة للخارج هذه الايام والتي يديرها العاملون في وزارة الخارجية بدءا من وزير الخارجية أو السفراء لا يقصد منها سوى قذف التهم الموجهة الى الحكومة والصاقها بحليفها التاريخي، وحصرياً التيار الديني. اما الشفافية الموجهة للداخل ومشكلات الداخل وأزماته فلم يبدأها الجهاز الاداري للدولة بكل تفريعاته.

زيارة ولي العهد لحي الشيمسي قبل شهرين اكتسبت صدى اعلامياً ولم تتحوّل الى فعل تغييري في هذا الحي وباقي الاحياء الفقيرة المنتشرة في طول المملكة وعرضها، وكان يفترض أن تفتح الزيارة لهذا الحي ملفاً ظل شديد الاغلاق، وهو ملف الفساد المالي داخل الاسرة المالكة. فلم يكن سكان حي الشميسي بحاجة الى مبادرة الوليد بن طلال ببناء دور سكنية لهم، فيما كان الأولى ان ينظر الى كمية النقود التي في يد الوليد وباقي الامراء الكبار كيما يواجهوا السؤال الضروري في مثل هذه الحالات: من أين لك هذا؟

فملف الفساد قد تجاوز الحد، وفي كل صفقة تجارية بين المملكة وشركة أجنبية كانت هناك رشوة مليونية (مئات الملايين)، بدءا من الصفقات النفطية ومروراً بالصفقات التجارية ذات الطابعين المدني والعسكري.  وهناك صقور تتنافس على الرشاوى والعمولات، وهذه الصقور باتت معروفة الاسماء والادوات المستعملة في الحصول على حصص مقررة سلفاً في كل صفقة، فقد حصد بعضهم من صفقة اليمامة في صورة رشاوى (يسمونها عمولات تحسيناً للقبح) ما يعادل خمسة مليارات على الاقل. والامثلة على الرشاوي باتت مستفيضة ومعلومة للجمهور.

ملف الفساد في السعودية، لو قدر له أن يفتح بصورة صحيحة وجادة، سيشعل بلا ريب خلافاً داخل العائلة المالكة، وستبدأ لعبة الحساب والعقاب بداخلها، ولذلك يحاول الامراء تجنب الحديث عن الفساد المالي للحيلولة دون الوصول الى مرحلة تقادف التهم، ولعبة التلاوم.

وبطبيعة الحال، فإن الفساد المالي ليس وحده الملف الساخن الذي يتطلب درجة اكبر من الشفافية، فهناك ملفات ساخنة اخرى بحاجة الى استعلان ومكاشفة مع المواطنين ولن يكون التعليم والصحة وحدهما الملفين الاخيرين. فالمديونية المتراكمة التي بلغت حداً مخيفاً تكاد ترهن دولة وشعبها بأكمله لرحمة البنوك الدولية التي نعلم جميعاً من تجارب دول عربية مجاورة كيف أصبحت بفعل اعتمادها على المساعدات والمعونات الاقتصادية والمالية من هذه البنوك الى ضحايا لمشاريع اقتصادية وسياسية موجهة، اضافة الى البطالة المتزايدة والتي تجاوزت المعدلات المحتملة دولياً، الى ملف القضاء الذي بات العمل به وبقوانينه وأجهزته مستحيلاً، ولا حاجة لتكرار الحديث عن الانظمة الثلاثة الاساسي والشورى والمناطق فيكفي عرائض دعاة الاصلاح وما تحمله من تقييمات نقدية شاملة لهذه الانظمة.

الشفافية التي يراد للمملكة ان تشهدها هي انتقائية ولا تتجاوز حد الاعتراف بالمشكلة ويخشى ان يكون اعترافاً مؤقتاً لظروف اقليمية ودولية ضاغطة، وفي حدود السلطة المقررة لولي العهد أما الشفافية التي تكون بداية لحل المشكلة وتشمل مجالات أخرى مثل الدفاع والداخلية وإمارات المناطق فثمة إرادة عليا من رأس الدولة ومن رؤوساء هذه الاجهزة باطفاء الاضواء الكاشفة فيها.

في واقع الامر أن هذه الانتقائية في اعتماد مبدأ الشفافية مع القضايا المحلية تعكس صورة الوضع داخل العائلة المالكة تجاه مجمل القضايا، ولذلك قد لا يكون مستغرباً أن تسمع الشيء ونقيضه من الحكومة، فالارباك والازدواجية والتناقض في أداء الحكومة، وبخاصة بين افراد العائلة المالكة باتت سمات بارزة في السياسة السعودية، ولذلك فالشفافية ستظل من طرف واحد قبل حسم مسألة الخلافة.