الخيارات المفتوحة أمام الأغلبية القلقة في السعودية
فؤاد
إبراهيم
ما يربو عن 65 بالمئة من سكان السعودية ولدوا بعد عام 1982 أي مع
بدايات انهيار الدولة الخراجية او دولة الرفاه في هذا البلد. في ذاك
العام بدأ تاريخ العجز المزمن في الموازنة السنوية وفيه أيضاً بدأ
الدين الداخلي بالتراكم ليصل في آخر احصاء له ما يقرب من 185 بليون
دولار اميركي.
خلال العشرين سنة الماضية شهدت السعودية تراجعاً حاداً في المشروعات
التنموية وتعرضت لسلسلة انخفاضات حادة في مجالات الصحة والتعليم
والخدمات العامة، في مقابل النمو الديمغرافي المضطرد والخارج عن
سيطرة وتنظيم ومراقبة الدولة، التي فقدت دورها كمصدر حماية للغالبية
العظمى من السكان.
محرقة التعليم
يمثل
التعليم أحد المجالات المنتجة للقلق بالنسبة لغالبية السكان في
السعودية، ويبدأ ذلك منذ المراحل الاولى، فالجهود تتظافر داخل كل
عائلة من اجل ضمان كرسي لأحد او بعض افرادها في الصف الاول الابتدائي
بمدرسة حكومية مشتملة على معايير قريبة من المستويات المتوسطة. ففي
هذا البلد باتت المقاعد محدودة، إذ لم تعد المشكلة منحصرة في كون ما
يقرب من 50 بالمئة من المدارس هي بيوت مستأجرة حسب المصادر الرسمية
(بالمناسبة فان السعودية هي الدولة الوحيدة في العالم التي تستعمل
البيوت المستأجرة كمدارس) فضلاً عن عدم توافرها على الشروط
والمواصفات الضرورية في المباني المقررة للتعليم، وانما المشكلة باتت
متعلقة بالمصير نفسه، أي مصير مجموعات كبيرة من الابناء الذين باتوا
غير قادرين على الانتظام في الصفوف الدراسية حسب الجدول الزمني
المقرر من قبل وزارة المعارف، حيث يضطر الآلاف من المؤهلين عمرياً
للدخول للمدارس الى البقاء في منازلهم لفترات غير معلومة بعد بدء
العام الدراسي بسبب انعدام المباني او طواقم التدريس.
لقد
ظلت السعودية ولسنوات طويلة تفخر بكونها دولة السبع جامعات، فيما كان
يحظى الملك فهد بتكريم اعلامي بالغ بوصفه أول وزير للمعارف و "رائد
النهضة التعليمية في المملكة". غير أن هذا الاشتعال الاعلامي الكثيف
انطفأ سريعاً بفعل وابل المقالات اليومية التي أمطرت الجرائد اليومية
خلال السنوات الثلاث الماضية لتكشف حقائق صادمة لم يكن يرغب
المسئولون السعوديون بإظهارها. فلم يعد خافياً أن 70 بالمئة من
المدارس الحكومية في الرياض هي مبان مستأجرة، أي بمعنى آخر هي بيوت
سكنية جرى استئجارها من قبل وزارة المعارف وتحويلها الى مدارس، واذا
كان هذا حال العاصمة، فبإمكان المرء تصور حال المناطق الاخرى. وبحسب
الاحصائيات المنشورة أن من بين عشرة آلاف مدرسة سعودية هناك أكثر من
أربعة آلاف مبنى مدرسي مستأجر، وفي حقيقة الأمر أن هذه الاحصائيات
تعتبر جد محافظة فيكفي أن الحكومة وخلال الخمس عشر سنة الماضية لم
تقم بتغطية سوى 20 بالمئة من المبانى المدرسية المطلوبة في مقابل 80
بالمائة من المباني المدرسية المستأجرة.
ومما يزيد الامر سوءاً أنه، وباعتراف وكيل وزارة المعارف المهندس
عبد الله الفوزان أن "هذه المباني(..) لا يتوافر فيها الحد الادنى من
عناصر العمل التربوي". فيما نقلت الصحف السعودية قصصاً حول عدد من
المدارس (المباني) الآيلة للسقوط، ويخشى من انهدامها على رؤوس
طلابها.
المدارس الحكومية هي الاخرى تمثل جانباً مأساوياً، فالكثير من هذه
المدارس بنيت منذ زمان بعيد (ويعود أغلبها الى ما قبل ثلاثين عاماً)،
مما يتطلب صيانة دورية ومراقبة هندسية دقيقة لعدم صلاحية الكثير
منها. ينقل عن بعض المدارس أن الطلاب يقومون بدهان جدران فصولهم كجزء
من تعويض نقص الصيانة الحكومية، فيما يقوم بعض التجار بالتبرع لتوفير
أجهزة تكييف لبعض المدارس. إن حال المليوني طالب في المدارس الحكومية
حالياً يكفي للتنبؤ بمستقبل السبعة ملايين طالباً الذين ستستقبلهم
المدارس الحكومية في السنوات القليلة القادمة.
القدرة الاستيعابية للمدارس تتكافأ من حيث الاهمية بالبيئة التعليمية
المناسبة التي شهدت انهياراً حقيقياً خلال العشر سنوات الماضية، ففي
بعض المدارس يضطر كثير من الطلبة للجلوس على الارض لعدم وجود عدد كاف
من الطاولات الدراسية فيما يجلب بعض الطلبة كراسي من بيوتهم للجلوس
عليها داخل فصولهم.
من جهة أخرى، تفتقر الكثير من المدارس الى الكفاءات التعليمية
الحقيقية، فقد تم تعيين عدد كبير من خريجي الجامعات كمعلمين دون
اعتبار لتخصصاتهم، فقد بات مألوفاً أن يتولى متخرج من كلية الزراعة
تدريس مادة اللغة العربية والدين، أو مهندس كيميائي يدرّس التاريخ
والجغرافيا وهكذا..يقول أحد المراقبين أن المثل القائل بأن فاقد
الشيء لا يعطيه لا ينطبق بأي حال على هذا البلد، فقد تجد كثيراً من
الفاقدين يعطون الشيء بل والشيء الكثير مما لا يملكونه.
التعليم العالي يمثل المشهد التراجيدي الواسع من أزمة التعليم في
السعودية قاطبة، فمع نهاية كل عام دراسي، وتحديداً مع بدء التسجيل في
الجامعات تعمل الاسطوانة الحزينة لتردد دراما القبول الذي بات الحصول
عليه نادراً أكثر من ندرة الكبريت الأحمر. صوّر د. أمين ساعاتي،أحد
الاكاديميين السعوديين، في "رسالة هادئة لوزير التعليم العالي" خالد
العنقري مسألة القبول في الجامعات بأنها أزمة حادة "يتعرض لها
التعليم العالي في بلادنا" ويقول "لا يختلف اثنان أن قضية الحصول على
قبول في الجامعات السعودية أصبحت من الأمور الصعبة جداً، بل أصبحت
معضلة حقيقية لا ينالها حتى الحاصلون على درجات الامتياز" ويضيف "إن
درجة الحدة التي بلغتها قضية عدم الحصول على القبول في الجامعات هذه
السنة، لم نشاهد مثلها في كثير من الدول النامية أو المتقدمة لا سيما
وأن المستقبل ينذر بالمزيد من الصعوبات" ثم يوجّه تساؤلاً يحمل
نذيراً " هل يليق بنا أن نضع أولادنا في مأزق شرس كمأزق عدم القبول
في الجامعات".
ومن المفارقات العجيبة أن البحرين والاردن وباكستان والهند ومصر
وغيرها التي يتلقى بعضها مساعدات منتظمة من السعودية أصبحت الكفيلة
باستيعاب عدد كبير من الطلبة السعوديين الذين عجزت جامعات بلادهم عن
استيعابهم في فصولها. فالسعودية حسب مقارنة احصائية تحتل المرتبة
الاخيرة من حيث نسبة الجامعات الى عدد السكان، وبحسب احصائية منشورة
فإنه توجد في السعودية جامعة لكل مليوني نسمة فيما توجد في الاردن
جامعة لكل 375 ألف نسمة، وفي الامارات جامعة لكل 200 ألف نسمة. وهذا
يعني أن السعودية بحاجة الى 80 جامعة وليس الى 8 جامعات حتى تصل الى
نسبة 200 ألف نسمة كما في الامارات.
أزمة القبول في الجامعات ليست مقتصرة على الطلبة الحاصلين على معدلات
متدنية بل اكتسحت الأزمة الكثير من الطلبة الحاصلين على العلامة
الكاملة، أي 100 بالمئة، وهم فئة ليست بالقليلة وبخاصة بين الطالبات،
ويكفي استشعار خيبة الأمل التي تصيب المتفوقين وهم يعودون ادراجهم من
مكاتب التسجيل وقد قوبلوا بالرفض، فإما أن يلجأوا للدراسة في الخارج
مع توفر المكنة المالية لدى عوائلهم أو التآكل الداخلي عبر الانتظار
والروتين المميت بحثاً عن مقعد ذهبي في أية كلية أو معهد. فهناك
مجاميع عديدة من طلبة الثانوية العامة التي توقف بها قطار التعليم
وأصبح قسم كبير منهم الرأسمال الجاهز القابل للاستثمار في مشاريع
اجرامية بحثاً عن دور ومصدر للعيش و املاء للفراغ القاتل في بلد لا
مجال فيه لافراغ شحنات الفراغ بصورة صحيحة وعلمية، وليس غريباً أن
يشكل هذا القسم من الشباب مادة سياسية واجتماعية شديدة الانفجار في
المستقبل.
في موازاة ذلك تنشأ مشكلة الصحة. فالمستشفيات الحكومية فقدت
مصداقيتها في تحقيق الحد الادنى من العلاج لغالبية السكان وبات
اللجوء للمستشفيات الخاصة ذات النزعة التجارية المفرطة مهرباً
للكثيرين ممن عجزوا عن الحصول على رعاية صحية مناسبة في مستشفيات
الدولة، وقد فتح اخفاق الدولة شهية كثيرين من اجل المرابحة السريعة
في مجال المشاريع الصحية.
هذا الهاجس الذي يبدأ مع النسبة المتبقية من السكان أي ما بين 30 الى
35 بالمئة يحيلها الى مجرد نائب عن الدولة في تحمّل أعباء عجزت هي عن
القيام بها هي في الاصل من صميم وظائفها. إن انغماس هذه النسبة من
السكان في البحث عن حلول او ضمانات للغالبية من السكان وهم الذين
ولدوا في زمن لم تعد الدولة فيها قادرة على توفير ضمانات في الحدود
الدنيا أي في التعليم والصحة، وهذا ما وضع كلا من الغالبية القلقة
والاقلية النائبة في عملية افتراس داخلي تفضي الى استنزاف المجهودات
المادية والنفسية للاقلية لصالح اغلبية لم تعد تمثل الدولة بالنسبة
لها اطاراً يستحق الانضواء بداخله، فضلاً عن الاحساس بالجميل نحوه.
ويتواصل بناء القلق وسط الغالبية في طول المراحل التعليمية الحكومية
ما قبل الجامعية، مع الالتفات الى الاعداد الكبيرة التي تترك الدراسة
في مراحل مبكرة بسبب ظروف معيشية سيئة او اوضاع دراسية متخلفة، او
اختلالات تربوية ونفسية تشجّع بعض افراد الغالبية على الانسحاب من خط
السير العام نحو طوابير العاطلين.
ومع وصول الابناء الى السنة الاخيرة من المرحلة الثانوية يتم اعلان
التعبئة العامة داخل الاقلية، ففي هذه السنة يتحدد مصير الابناء
ومستقبلهم، اذ المقاعد الجامعية ستكون مكفولة لفئة قليلة من خريجي
المرحلة الثانوية الحائزين على نسب تتراوح بين 95 الى 100 بالمئة.
وكيما يضمن هؤلاء نسب كهذه تعكف الاقلية على توفير كل شحنة نفسية
ومجهود ذهني وطاقة علمية من اجل اعانة افراد الاغلبية كيما يصلوا الى
تلك النسبة التعجيزية.
ولأن المقاعد في السبع الجامعات (ومع الفات الانتباه الى ان ثلاثاً
منها لا تصلح للدراسات الحديثة) محدودة، فإن أعداداً غفيرة من خريجي
الثانوية تضطر اما للبحث عن دورات تعليمية او تدريبية ذات تأهيل
متواضع او الانقطاع عن التعليم، فيما يلتحق قسم آخر بالجامعات، وهناك
ايضاً يبدأ القلق ازاء نوع التخصصات المرغوبة، فمقاعد الطب محدودة
ليس للحاصلين على معدلات عالية فحسب بل زائداً "الواسطة"، فكثير من
الطلاب الحائزين على معدلات عالية يضطرون للقبول بتخصصات غير
المتطابقة مع ميولهم، لأنهم تعثروا بلجنة تقييم الكفاءة او لم يحصلوا
على ما يعرف شعبياً بـ "كرت الواسطة".
كان الاعتقاد قبل عدة سنوات أن مجرد التحاق الابناء بالجامعة سيضعهم
على سكة الخلاص في المستقبل، وبالتالي سيضع حداً للقلق الناشب وسط
العوائل الممثلين للاقلية السكانية، ولكن ظهر فيما بعد أن عشرات
الآلاف من خريجي الجامعات باتوا يمثلون جزءا كبيراً من مجتمع
العاطلين عن العمل. فشركات ومؤسسات مصانع القطاع الخاص تستقبل يومياً
مئات طلبات الوظيفة من خريجي الجامعات. فبعد التخمينات المتفاوتة حول
نسب البطالة في السعودية، تم حسم الامر رسمياً حيث قدّرت المصادر
الرسمية السعودية بأن نسبة العاطلين عن العمل تربو على 32 بالمئة.
بطالة في بلد الستة ملايين عامل اجنبي
ثمة مفارقة صادمة حقاً أن بلداً يضم بداخله ما يربو عن 6 ملايين
أجنبي يعملون في القطاعين الحكومي والخاص، يشهد تزايداً حاداً في
نسبة البطالة. قدّر مدير جامعة الملك عبد العزيز بجدة قبل أكثر من
سنة في زيارته الى لندن نسبة البطالة بـ 28 بالمئة، وهذا التصريح سبب
ازعاجاً كبيراً للعائلة المالكة، ولكن وزيرا سابقاً زاد على ذلك وقال
بأن النسبة تصل الى 32 بالمئة.
والجدير بالذكر أن الاجتماع الذي ترأسّه الامير نايف بن عبد العزيز،
وزير الداخلية قبل عدة أشهر وحضره وزير العمل والشئون الاجتماعية كشف
النقاب عن افتقار الحكومة لآليات رصد دقيقة لحجم البطالة. ففي هذا
الاجتماع سأل الامير نايف وزير العمل عن عدد العاطلين عن العمل في
السعودية فأجابه بأن الوزارة قد انتهت للتو من تحديث أجهزتها وستقوم
بعملية احصاء لعدد العاطلين من العمل في القريب ان شاء الله.
أزمة التوظيف ليست مولوداً جديداً، بل تمتد الى مرحلة ما بعد أزمة
الخليج الثانية، حيث توقفت وبصورة شبه كاملة المشاريع التنموية،
ودخلت البلاد في دورة أزمة اقتصادية حادة عكست نفسها في تزايد معدلات
العجز في الميزانية السنوية ثم في حجم الاقتراض الداخلي والخارجي،
بالاضافة الى الالتزامات المالية في مجال التسلح والامن.
الجامعات السعودية لم تعد مصدراً لتأهيل الموظفين للاجهزة الحكومية
وشركات القطاع الخاص، بل يصدق على الجامعات السعودية السبع نعت السبع
العجّاف التي تخّرج دفعات من العاطلين عن العمل يصل تعدادهم السنوي
نحو 40 ألف طالباً. واذا كان حملة شهادات البكالوريوس في العلوم
التطبيقية هم، حتى منتصف التسعينيات، الأوفر حظاً في المجال الوظيفي
بقطاعيه العام والخاص، فإنهم اليوم بحاجة الى انتظار شهور وربما
سنوات قبل أن تنزل عليهم مائدة من السماء لانقاذهم. فمكاتب العمل
والعمال وهكذا اقسام التوظيف في الشركات الخاصة تستقبل وبشكل يومي
مئات من استمارات طلب الوظائف.
صحيفة الفاينانشيال تايمز نشرت في 24 يونيو من العام الماضي مقالاً
اعتبرت فيه مشكلة البطالة أكبر تحد يواجه البلد في الوقت الراهن.
وذكرت الصحيفة بأن ستين بالمئة ، أي ما يعادل نحو 12 مليون من السكان
هم دون سن 25 سنة، ليس لهم أعمال تنتظرهم. كما ذكرت الصحيفة أنه
بينما ينمو عدد السكان بشكل كبير فإن الاقتصاد لا يحقق، في مواجهة
هذه التحديات الراهنة والمستقبلية، نمواً يذكر. ومن الحقائق التي
توصلت اليها الصحيفة أنه بينما يشكل السعوديون 60 بالمئة من السكان
فإن نصيبهم من اجمالي حجم القوة العاملة لا يتجاوز 25 بالمئة. وتؤكد
الصحيفة بعض الحقائق التي باتت معروفة لدى المجاميع التي تجوب اجهزة
القطاع الحكومي التي أقفلت أبواب التوظيف فيها بإحكام.
لقد سعت الحكومة لاجبار الشركات الاجنبية على اعانتها في استيعاب جزء
من البطالة المتفاقمة عبر خطط السعودة، الا أن هذه الشركات لم تستجب
لضغوط الحكومة، والسبب في ذلك أن هذه الشركات مازالت غير مطمئنة
لاستقرار الاوضاع السياسية والاقتصادية وأيضاً للنظام القانوني
السائد في البلاد رغم الدعوات التي اطلقها بعض الصحافيين السعوديين
خلال هذه السنة لجهة اجراء تعديلات قانونية جوهرية تساهم في تشجيع
الشركات الاجنبية على فتح ابوابها للسعوديين. وهو نفس السبب الذي
يحول دون وصول كثير من شركات الاستثمار الاجنبية الى الاراضي
السعودية، بل ووصول رؤوس الاموال السعودية المستثمرة في الشركات
الاميركية والاوروبية كما أشار رئيس تحرير صحيفة الشرق الاوسط في 17
أغسطس من العام الماضي. فهذه الشركات لا تريد أن تتحول الى جمعيات
إغاثة لحل مشاكل الدولة. كبديل عن ذلك، انصرفت خطط السعودة الى
سيارات الليموزين والبقالات والسوبرماركات وهي قطاعات لن تستوعب سوى
ذوي الكفاءات المتدنية. هذه السعودة في شكلها البدائي البسيط لا تمثل
توجّهاً جديّاً في السياسة الاقتصادية السعودية، فسياسة السعودة ليست
مستندة، حسب الفايننشال تايمز، على خطة توظيف متكاملة تأخذ في
اعتبارها التعليم والتأهيل وهي اشارة الى المحسوبيات والاعتبارات
المناطقية والقبلية والمذهبية. وفي كل الاحوال، فإن الحكومة بحاجة
الى توفير مليون وظيفة عاجلة في غضون الخمس سنوات القادمة.
المقارنة التي عقدتها صحيفة الفايننشال تايمز بين نيوزلندة والسعودية
تحمل بداخلها سؤالاً مركزياً ليس حول السياسة الاقتصادية السعودية بل
وحول النظام السياسي برمته. فقد أعربت الصحيفة عن دهشتها بأن بلدا
مثل نيوزيلندا، وهو بلد غير نفطي ولا يوجد به معادن ولكن ناتجه
القومي يمثل ضعف الناتج القومي السعودي.
في ظل هذه الازمة الخانقة، تتزايد الانتقادات ضد بعض الامراء
والمسئولين الحكوميين بشأن المال العام، حيث يكثر الحديث عن استملاك
كثير من الامراء للاراضي العمومية ومزاحمة الناس في ارزاقهم،
واستقطاع جزء كبير من ميزانيات الوزارات والدوائر الحكومية، حتى بات
الناس يطلقون نعوتاً ساخرة على بعض الامراء فهذا (أبو الاشباك) اشارة
الى الامير سلطان وزير الدفاع، فيما يوظف البعض القصة المتناقلة عن
علاء مبارك وضلوعه في مشاركات متعددة بما في ذلك أصحاب التاكسي
لتوصيف حال الامير محمد بن فهد، أمير المنطقة الشرقية، ونزعته الى
مقاسمة التجار وحتى اصحاب العربات الصغيرة.
بات التفسير السائد حول تصارع الامراء على المال العام بأنه تعبير عن
عدم ايمان الامراء باستمرار الدولة. وفي موازاة ذلك، تتنشط بيئة
الفساد الاداري حيث المحسوبيات والواسطة في الدوائر الحكومية
واعتبارات الوشائج القبلية والمناطقية التي باتت شفيعاً لكثير من
الباحثين عن وظيفة، أو امتيازات ادارية.
وبصورة اجمالية، فإن أزمة التوظيف في السعودية تتفاقم بصورة حادة
وتقف الدولة عاجزة عن وضع حلول جذرية، وهذه الأزمة المتراكمة،
بمعدلات سنوية، تحمل بداخلها قابلية انفجارية سريعة وتدميرية.
فالجرائم المنظمة والسطو المسلح على البنوك والبيوت والمحال التجارية
تمثل ارتدادات أولية لصدى الازمة.
إضطراب أسطورة (الجزيرة الآمنة)
كان الاعتقاد بأن الاعلان عن أنظمة الحكم الثلاثة في الاول من مارس
1992 ستضع البلاد على سكة الاستقرار السياسي وستنهي حالة الانتظار
التي عاشتها البلد طيلة ثلاثة عقود من الوعود بإدخال اصلاحات سياسية
جوهرية في هياكل الدولة. ولكن هذا الاعتقاد تبدد سريعاً على وقع دوي
انفجارين هائلين في الرياض منتصف نوفمبر 1995 والخبر في يونيو 1996
ومازالت البلاد تشهد آثارهما حتى هذه اللحظة.
وكان بإمكان الحكومة السعودية استيعاب الرسالة التي بعث بها هذا
التحول الانفجاري الخطير في البلاد، باعادة تقويم الاوضاع الداخلية
وتبني سياسة اصلاحية شاملة وجادة، الا أنها توسّلت بنفس العقلية
الامنية التقليدية عبر تشديد الاجراءات الامنية من قبيل شن حملات
اعتقال واسعة النطاق، وزرع نقاط تفتيش على الطرق الموصلة بين المدن
والمناطق، وتكثيف اجهزة الرقابة والتنصت والملاحقة. لقد تشاغلت
الدولة عن جذور الازمة الحقيقة، والتي كان الانفجاران افرازاً
طبيعياً لها وانصرفت الى تشديد قبضتها الامنية واشاعة أجواء من
التوتر.
وها هي البلاد تشهد حالياً توترات أمنية شديدة بفعل الاجراءات
التعسفية التي تتبعها اجهزة الامن السعودية، والتي لم تسفر سوى عن
المزيد من الانفلات الامني، فسلسلة الانفجارات في الرياض رغم صغر
حجمها وحوادث الجوف وخميس مشيط، والمصادمات التي تقع في الرياض وجدة
أمام مؤسسات حكومية وعسكرية، اضافة الى عشرات الحوادث الصغيرة
المتكررة بشكل شبه يومي تمثل تعبيرات عن ردود الفعل المباشرة على فشل
السياسة الامنية التي تتبعها الحكومة السعودية.
ورغم محاولة الحكومة اطفاء بؤر التوتر في مناطق عديدة الا أن الاصرار
على التعامل مع الحقوق المدنية والسياسية للسكان بعقلية رجل الامن
يضع البلاد برمتها في أجواء الاحتجاج السياسي العلني.
تعاظم النزعة الامنية لدى الحكومة يعيد ادخال البلاد في دوامة عنف
اخرى منتظرة، في وقت أحوج ما تكون فيه الحكومة الى استجداء مصادر
الاستقرار في ظل تفاقم أزماتها الداخلية. فالبلاد توشك سماع دوي
انفجارات اخرى اشد ايلاماً. فاضافة الى القنبلتين الموقوتتين وهما:
الطلبة غير الحاصلين على قبول في الجامعات السعودية والذين يتزايد
تعدادهم بصورة سريعة، والقنبلة الاخرى هي البطالة المليونية
المتفاقمة، وهؤلاء جميعاً يشكلون القوة الاحتجاجية الكبرى في البلاد،
اقول اضافة الى ذلك فإن التحولات السياسية الوشيكة مع اقتراب ساعة
الصفر في الحرب على العراق والتغييرات الدراماتيكية التي من المتوقع
ان تشهدها المنطقة بعد الحرب، اضافة الى الضغوط المتزايدة من اجل
الاصلاح السياسي، فإن الاصرار على العنف كخيار في العلاقة بين الدولة
والمجتمع سينجم عنه انفراط الروابط القائمة بينهما.
رسالة قلقة
من خلال قراءة اجمالية لمسيرة هذه الغالبية، مسيرة تتكرر مشاهدها ان
لم يكن بصورة أسوأ بالنسبة للفئات العمرية الاقل فالأقل، يمكن
للمراقب ان يقرأ الحالة النفسية العامة التي تعيشها الغالبية من
السكان. وهنا ستتدخل عوامل اخرى في تعزيز مشاعر القلق في عملية نهب
واسعة النطاق لغالبية تواجه انسداداً شديداً في أفق لم يعد بالامكان
تنبوء ما سيسفر عنه من آثار.
البث الفضائي بما يحمل من قيم انفتاح وما يحدث من خلخلات نفسية
وثقافية في عملية مضادة لتراخي وسائل التوجيه الرسمية وضعف قدرتها
على المنافسة، فضلاً عما تمثله الدولة بكامل حمولتها بالنسبة
للغالبية، قد خلق بيئة نفسية لغالبية ناقمة على اوضاع محلية ووجدت في
قنوات البث الفضائي وسائل تعليم على تحويل المشاعر الناقمة الى أعمال
احتجاجية، فجاءت في تعبيرات مادية متنوعة: سرقة بنوك ومؤسسات حكومية
وبيوت الاثرياء، وجرائم قتل منظمة، ومحاولات انتحار (نحو 600 حالة
سنوياً مسجلة بصورة رسميةً)، واعمال تخريب، واحتجاجات شللية تعبّر عن
نفسها في مخالفة اشارات المرور، والتسابق بالسيارات في المناطق
الآهلة للسكان، والاستعراضات الليلية، والتجمعات في المقاهي وفي
الشوارع العامة حتى ساعات متأخرة من الليل.
ممارسات الاغلبية هذه لم تعد موجهة للدولة وحدها بل صارت موجهة لكل
من يقف امامها بمن في ذلك الاقلية الراعية لتلك الأغلبية والمتكفل
الرئيسي بأعبائها.
ليس غريباً اذن ان تكون أعمال العنف التي شهدتها السعودية مؤخراً هي
من أفراد تلك الأغلبية القلقة المثخنة بكل مشاعر القلق التي لاحقتها
طيلة سنوات تكوينها، ولم تعد ترى سوى خيار المواجهة مع خصومها
المباشرين وفي مقدمتهم الدولة نفسها التي حاولت ان تأتي اليها بقائمة
فروض وواجبات دون أن تكفل اليها حقاً واحداً من حقوقها وهو حق العيش.
ويشتد وضوح المشهد حين نعرف بأن الدولة باتت عاجزة ليس عن ضمان الحد
الأدنى من حاجات الغالبية ولكنها الآن اكثر عجزاً في تبرير عجزها،
وهذا من شأنه تهديم أسس مصداقيتها كدولة تملك سلطة فوقية في ضبط
رعاياها وادارتهم، ومن الطبيعي ان يفضي ذلك الى تآكل أسس مشروعيتها
أيضاً.
هل تنقل الدولة بعضاً من امتيازاتها الى الاغلبية القلقة؟
ان النمو السكاني بوتائر متزايدة خلق مجتمعاً يافعاً ومشاكساً في ذات
الوقت، وذلك للاسباب التالية: أولا، أن النمو السكاني يولّد عبئاً
اقتصادياً متزايدا، وحتى تحافظ الدولة على مستويات متوازية من الثراء
من منظور فردي فلا بد ان يحقق الاقتصاد السعودي نمواُ بمعدل يتجاوز
10 بالمئة سنوياً. ثانياً فإن النمو السكاني المتزايد يفرض ضغوطاً
على الحكومة من اجل تخصيص مبالغ طائلة في حقل التعليم من اجل استيعاب
الناشئين الجدد، كما يتطلب رعاية صحية وخدمات اجتماعية بمعدلات
سريعة. وفيما تنخفض مداخيل الدولة ويتزايد النمو السكاني فإن ذلك
سيقود الدولة الى عنق الزجاجة أي أن ثمة ضغوطات ستتعاظم على الحكومة
الى مستوى تكون فيه عاجزة عن ارضاء السكان، وخصوصاً حين يضاف الى ذلك
ارتفاع مستوى توقعات السكان من الدولة في مقابل انخفاض ثروتها.
اما لماذا تكون الدولة عاجزة فهذا مرده الى كون الدولة في بلادنا قد
تحولت الى موقع متخم بالمصالح والامتيازات، وخزّان الثروة والوجاهة
والقوة والقهر في مقابل رعاياها الذين أجبروا على اصطناع كل حيلة من
اجل التقرب من الدولة كيما ينالوا جزءا من ذلك الخزّان الذي تمسك به
فئة متنفذة.
وكطبع أصيل من طبائع الدولة الريعية في بلادنا فإن مصادر الثروة
محتكرة بالكامل من قبل الماسكين بزمام القدرة والقوة، وهم وحدهم
أصحاب القرار في أن يمنحوا او يمنعوا. ولكن دوام الحال من المحال كما
تخبرنا تجارب الدول الريعية، فإن تناقص ثم نضوب مصادر الثروة
الطبيعية كفيل بالاطاحة بقوامية أهل القدرة والقوة.
في السعودية، كمثال بارز، بدأت أركان الدولة الريعية بالتصدع منذ عام
1982 وهو العام الذي يؤرخ فيه للعجز المزمن الذي بات لصيقاً
بالميزانية السنوية والتي فيها يمكن اختبار حيوية الاقتصاد الوطني،
كما يتعرف من خلاله على حجم الازمة وطبيعة الاداء وكمية الديون
المتراكمة.
وكان يفترض في أوضاع اقتصادية منذرة كهذه ان تبدأ الدولة بالتخلص من
جزء من اعبائها ونقل جزء آخر من امتيازاتها كيما تساوي بين الغرم
والغنم وبين الخسارة والتعويض، ولكن هذا ما لم يحصل، فقد تأخرت عملية
الخصخصة الى مرحلة بات ينظر اليها كمهرب للدولة من مشاكلها، اذ لم
ينل قرار التخصيص سوى القطاعات شبه المعطوبة، وكأن الدولة باتت
مصدّرة للأزمات وليست موّلدة للحلول.
وما يزيد الطين بلة ان الدولة وهي تنقل جزءا من امتيازاتها السابقة،
تدرك تماماً ان ما تنقله قد تم تنضيبه او تجفيف ثمرته، اذ لا يؤمل
قطف ثماره الا بعد اعادة تأهيله والتي تستغرق سنوات وهذا يعني ان
الغالبية القلقة ستزداد عدداً وقلقاً.
هذا الابطاء المقصود او لنقل العابث في التخلص من جزء كبير من حمولة
الدولة ونقله الى الاغلبية القلقة لا يقلل من احتمالات المواجهة
العنيفة بين الاغلبية القلقة والدولة، وإن خفف مؤقتاً مخاطر عاجلة.
واجمالاً، فإن ثمة أزمات حادة تتجه الى تفجير الوضع السياسي في
البلاد، ما لم تقدم الحكومة الى اصلاحات راديكالية جذرية، تفسح
الطريق أمام القطاع الخاص كي يقوم ببناء جامعات أهلية ومشاريع
اقتصادية تستوعب العاطلين عن العمل، اضافة الى ادماج القوى السياسة
والاجتماعية في اجهزة الدولة وتكسير احتكار السلطة وفتح باب المشاركة
السياسية وتقليص صلاحيات ومخصصات العائلة المالكة، وضمان الحقوق
السياسية والدينية والثقافية لكل فئات الشعب ورفع اشكال التمييز
الطائفي والمناطقي والقبلي.
|