الأكثر انفتاحاً سياسياً والأقل صراحة في دعم أميركا هو الأكثر أمناً واستقراراً
صعوبة الموازنة بين ضغط الشارع والتهديد الأميركي

خالد شبكشي

نتيجة لأحداث سبتمبر، فإن الحكومة السعودية بشكل خاص، وحكومات الدول العربية بشكل عام، تواجه مأزقاً غير عادي فيما يتعلق بالموازنة بين متطلبات الضغط والتهديد الأميركيين للتعاون فيما يسمّى بمكافحة الأرهاب والحرب ضد العراق وربما إجراء تغييرات سياسية داخلية، وبين متطلبات الشارع السعودي شديد العداء للولايات المتحدة وحلفائها والذي يميل الى تأييد كل عملٍ ضدها وضد المتحالفين معها. وعداء الشارع السعودي لأميركا ليس انعكاساً لموقفها من العائلة المالكة، وهو موقف يتسم بالرعونة والضغط من أجل بعض الإصلاحات في المجالات السياسية، وإن كانت فظاظتها مهينة للكرامة الوطنية.. وليس بالضرورة نابعاً من إيحاءاتها ـ وتسريباتها الإعلامية ـ عن مهام مستقبلية تستهدف وحدة الدولة السعودية نفسها. فهناك بين السعوديين من يرى في الضغط الأميركي فائدة ما لإحداث التغيير، الذي لا بدّ أن يمرّ ـ من وجهة نظرهم ـ عبر ضغوط داخلية وخارجية متواصلة. كما يرى بعض هؤلاء بأن الضغط الأميركي على العائلة المالكة مفيد في تخفيف قبضة عنفها، خاصة وأنها كانت فيما مضى تستقوي بالخارج لقمع الداخل.

مسألة العداء الشعبي هي على الأرجح نابعة من أمرين أساسيين: أولهما سياسات أميركا في الشرق الأوسط، وبالخصوص تجاه القضية الفلسطينية (والعراقية حالياً)، وإن كانت المسألة الأفغانية قد استثارت التيار السلفي في المملكة بنحو خاص. وثانيهما، دعم الولايات المتحدة للعائلة المالكة وتغليبها المصالح الآنيّة المتسمة بالنهب، على مصالح دائمة وثابتة قائمة على المصالح المشتركة. لم تكن العائلة المالكة قادرة على مواجهة التغيير بأدواتها المحليّة لولا توفير الغرب عموماً مظلّة لكل الممارسات المنافية لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذا العامل الثاني لم يعد قائماً إن صدقت النوايا الأميركية، وما رشح من خلال مشروع الشراكة الشرق أوسطية الذي أعلنه كولن باول في ديسمبر الماضي، وإن كانت الشكوك لاتزال قائمة بشأن تلك النوايا.

أما النخبة الحاكمة في المملكة، فهي إذ تجابه بضغط داخلي وخارجي من أجل (الحقوق الإساسية للمواطنين) فإنها أعطت الإشارات الى الأميركيين بأنها بصدد التنازل بشأن قضايا عديدة: إقتصادية نفطية، وسياسية في مجال الحرب ضد الأرهاب والأنظمة غير الموالية لأميركا، بل وأحياناً بعض التنازلات الداخلية فيما يتعلق بإصلاح مناهج التعليم. لكن هذه النخبة لم تبد حتى الآن استعداداً لتقديم تنازل سياسي داخلي لشعبها، وهو ما جعل العائلة المالكة وكأنها تحابي الأميركيين للبقاء في السلطة، بثمن يدفعه الشارع السعودي نفسه، ومن هنا تصاعدت النقمة الشعبية ضد الحلف الأميركي ـ السعودي.

ولا يخفى أن الولايات المتحدة وضعت نظام الحكم في المملكة أمام تحدٍ خطير، فالوقوف غير المشروط معها ووفق معاييرها وضمن الخطة التي ترسمها والغاية التي تسير باتجاهها، يعني على الأرجح صداماً بين الحكومة وشعبها تكون هي الخاسر الأكبر منه. ولا يبدو أن الولايات المتحدة مهتمة كثيرة بهذه النتيجة، أو على الأقل غير مبالية بأية نتائج تترتب عليها، رغم أنها لا تخدمها على المدى البعيد. والمدهش، أن العائلة المالكة بدت وكأنها تحاول الموازنة قدر الإمكان بين الوقوف مع أميركا ومشاريعها، والوقوف الى جانب شعبها تجنّباً لغضبة انفجارية غير مضمونة النتائج، وذلك باستخدام خطابين محلّي ينزع لإدانة الحرب على العراق، وخارجي يميل الى التكتم والصمت عن الدعم المقدم للقوات الأميركية من تسهيلات عسكرية في أراضيها، وتقديم خدمات استخباراتية لملاحقة (النشاط الإرهابي) حسب التعريف الأميركي.

لكن هذه السياسة لم ترض الطرفين: الأميركي والشعبي، ولاتزال العائلة المالكة غير قادرة على الإمساك بعصا التوازن نظراً للمطالب الحاسمة لكلا الجانبين. الولايات المتحدة، تريد موقفاً سعودياً لا يتخفّى ولا يوازن، مبدؤه من ليس معنا فهو مع الإرهاب بل هو إرهابي، موقف لا تراعى فيه القوانين المحلية ولا المعايير الأخلاقية بما فيها مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. أما الرأي العام السعودي، فيشعر بهشاشة العائلة المالكة، وضعفها أمام الأميركي، ويطالبها بموقف صلب تجاه القضايا العربية والإسلامية، ليست قادرة على اتخاذه.

لكي تكون العائلة المالكة قادرة على مواجهة ضغوط الخارج، فإنها بحاجة الى تطوير مؤسساتها السياسية لتزيد التحامها مع شعبها. ويسود الإعتقاد بأن الأحداث الحالية تقدّم فرصة مثالية لإحداث تغيير كبير في مسار العملية الديمقراطية حيث أتاحت الأحداث الأخيرة للحكومة السعودية فرصة للتعرف على جذور العنف لديها، وأنها بالتالي لن تجد حلاً لتلك المشاكل سوى في إعادة النظر في هياكلها السياسية والإقتصادية والإعلامية.

لا شك بوجود قلق كبير يوجد بين المسؤولين السعوديين لم يشعروا به من قبل، فالولايات المتحدة لم تظهر هذه المرّة بمظهر الحامي لنظام العائلة المالكة، بل بمظهر المؤدّب المهدّد الآمر باتخاذ نهج معين. وفي المقابل فإن هذا النظام يتعرض في الوقت نفسه الى تهديد غير عادي من قوى استطاعت أن تهزّ أعماق الولايات المتحدة نفسها. لهذا فإن هناك أملاً بأن تميل العائلة المالكة ـ في المحصّلة النهائية ـ باتجاه الإصلاح الداخلي كوسيلة أولى لتحصين نفسها أمام المخاطر التي تبدو اليوم داخلية وخارجية على حدّ سواء.

غير أن هذا التفاؤل قابل للتبدّد، فأميركا تريد من نظام الحكم أمرين متعارضين في ظاهرهما: إصلاح سياسي من جهة، وقمع لقوى لا تعجب أميركا أو تتهمها بالإرهاب. كما أن إجبار أميركا للأمراء السعوديين على تبنّي سياسات وتقديم تنازلات حساسة مخالفة للشعور العام، يدفع بهم الى الإصطدام بشعبهم أو ببعض شرائحه الفاعلة. ومثال ذلك، الإلحاح الأميركي على مسألة الدعم السعودي للحرب ضد العراق، والإصرار على استخدام القواعد السعودية والأجواء السعودية للإنطلاق منها نحو الحرب.

حسب رأي بعض المحللين، فإنه القضاء على الإرهاب وعبر العنف هو في مقدمة الأجندة الأميركية، والغرب بمجمله على استعداد لغض النظر عن تجاوزات حقوق الإنسان إن تطلّب الأمر. أما دعوات الديمقراطية وحرية التعبير فهي وإن كانت عاملاً في مواجهة التطرف، فإنها لا تحتلّ أولوية مهمة في الأجندة الأميركية الحالية. ويرى أصحاب هذا الرأي، أن هناك خشية على (أنوية) التوجهات الديمقراطية في بلدان عربية عديدة، وأهمها المغرب والأردن والكويت واليمن، ففي هذه الدول، جرت اعتقالات واغتيالات، وخرق القانون دون أن ينبس أحدٌ بشفة، وإلا أصبح إرهابياً هو الآخر. وفي بلد مثل السعودية، التي لم تخطو بعد خطواتها الإصلاحية السياسية الأولى، وحيث لا يوجد إنجاز سياسي يخشى عليه، كما لا يوجد أملٌ واضح بحصول تطور قريب بشأنه، تكمن الخشية الحقيقية في انجرار الحكومة والبلاد برمتها نحو العنف. فأقل خطأ يُرتكب أو سياسة خطأ تمارس دون مراعاة للمشاعر الداخلية قد تأتي بكارثة غير محسوبة.

أياً كانت الإحتمالات الناجمة عن المحافظة على التوازن الصعب، بين مشاعر الجمهور وطموحاته، وبين متطلبات السياسة الأميركية، فإن السعودية تريد أن تتبرّأ من مسؤوليتها أمام العالم وربما أمام شعبها من أحداث العنف التي هزت أميركا حيث المساهمة السعودية فيها واضحة، وذلك من خلال انتهاج سياسات إقتصادية وسياسية (لا تعني بالضرورة إصلاحية) وتعليمية قد يكون مغالى بشأن الكثير منها. ومن جهة ثانية تريد السعودية أن لا تنعكس آثار أحداث سبتمبر والحرب المتوقعة في العراق عنفياً على الوضع الداخلي. ربما أمام كل دول الخليج فرص الهرب من العنف المحتمل، كل حسب قنواته السياسية والتعبيرية، فالأكثر انفتاحاً ربما يكون الأكثر أماناً (الكويت والبحرين)، والأكثر مرونة في الإستجابة لضغط الشارع وتنفيس احتقانه قد يكون الأقدر على إدارة الشارع وضبطه، كما أن الأكثر صراحة في إعلان التوافق مع الولايات المتحدة ودعمها، قد يكون الأكثر تعرضاً لمخاطر العنف.