من بسط الحماية الى التهديد بالتقسيم
العلاقات السعودية الأميركية تدخل مرحلة كسر العظم
محمد علي الفائز
واحدة من أهم القضايا التي كشف عنها الغزو العراقي للكويت، حقيقة أن
الحكومة في المملكة أفصحت بما لا يدع مجالاً للشك بأن وحدتها
الداخلية تعاني من أزمة وأنها كدولة قابلة للتفكك والتفتيت، خاصة مع
توافر البيئة السياسية المواتية لها خارجياً. ولربما يذكر الجميع ما
تمّ تداوله في الإعلام في تلك الفترة، بأن حركة الرئيس العراقي صدام
حسين استهدفت (صدقاً أم كذباً) تقسيم السعودية الى ثلاثة كيانات
سياسية: شرقية (الأحساء والقطيف) تضاف الى العراق، وغربية (الحجاز)
ويضاف الى الأردن حيث الأشراف الهاشميون الذين كانوا يحكمون الحجاز
كدولة حتى العشرينيات الميلادية، والجنوب (جازان وعسير ونجران) تضاف
الى اليمن.
لقد حرّك الغزو العراقي للكويت هواجس كانت نائمة لدى السعوديين، وتمت
قراءة السيناريو العراقي ـ الأردني ـ الهاشمي كمحاولة تآمر لا تستهدف
الكويت فحسب بل المملكة نفسها. وبغض النظر عن المبالغة في الأمر
آنئذٍ، والتي كانت مقصودة ربما لتبرير الحرب ضد العراق، فإن
السعوديين كشفوا عن مكنوناتهم ومخاوفهم الحقيقية، وكأنهم يعترفون بأن
الوحدة التي أنجزوها عبر الحملات العسكرية والتوسع على قاعدة مذهبية
ليست أبديّة، وربما غير محترمة عند مجاميع سكانية محليّة ترى بأن
الظرف السياسي الإقليمي والدولي الذي ساعد على قيام الدولة الموحدة،
يعمل اليوم كعنصر ضاغط لتفكيك الدولة الى عناصرها الأولية القديمة
المكونة من دول وإمارات كانت مستقلة أو شبه مستقلّة.
لم تكن الحكومة السعودية في تاريخها الحديث تحمل همّاً أكبر من همّ
تفكيك (ولا نقول تقسيم) ما اعتبر (مُلكاً) سعودياً. فالتفكيك عادة ما
يكون للدول التي قامت على أنقاض كيانات مستقلة، أو كانت توسعية أضافت
بتوسعها أقاليم لم تنسجم بشكل كبير مع الجزء الأكبر المكون للدولة،
أما التقسيم فهو للدول التي تعتبر بقدر كبير تاريخية منسجمة في
مجملها.. بالشكل الذي يقال فيه اليوم مثلاً أن الإتحاد السوفياتي
تفكك (لا تمّ تقسيمه) ويصدق الأمر على تيمور الشرقية باعتباره
نموذجاً للإقليم المستقل الذي أضيف بالقوة الى الدولة ثم انسلخ عنها
من جديد. أما الهند مثلاً فهي نموذج للتقسيم لا للتفكيك والإنسلاخ.
لقد كان الخطر الهاشمي عنصر ضغط شديد على السعوديين فيما يتعلق
بمسألة الحجاز، حيث استمرت الطموحات السياسية الهاشمية صريحة واضحة
وفي بعض الأحيان علنية حتى منتصف الخمسينات الميلادية على الأقل،
خاصة من قبل السلطة الهاشمية الحاكمة في العراق، ومن الوصي على العرش
(عبد الإله) بالتحديد. ولعلّ مطالعة لمذكرات أمين المميّز، الوزير
العراقي المفوض في المملكة بين عامي 1955 و 1957 والتي تضمنها كتابه
الموسوم: (المملكة العربية السعودية كما عرفتها) تؤكّد حقيقة المطامع
والأحلام الهاشمية في استرداد عرش الحجاز، وتؤكد من جهة ثانية حقيقة
الخطر الذي يتهدد وحدة المملكة السعودية رغم قيام الدولة القطرية
وبروز عصر جديد قائم على الإعتراف المتبادل واحترام الحدود.
هدأ السعوديون لفترة من الزمن بسقوط الملكية في العراق، وتحسّنت
العلاقات مع الملك الهاشمي في الأردن، وتوحّد الطرفان في السياسة
المعادية للتيار القومي الناصري، لكن كان كل ذلك أشبه ما يكون بظاهرة
مؤقتة، فلم يكن الهاشميون بقادرين على نسيان ملك الحجاز، ولا
السعوديون استطاعوا أو تبنّوا مشروعاً وطنيّاً محليّاً وهويّة وطنيّة
تذيب الفواصل التاريخية الثقافية والدينية والمناطقية أو تحدّ من
تأثيراتها على كيان الدولة وأسسها. على العكس من ذلك، لعبت السياسة
المحلّية دوراً كبيراً في الحفاظ على الخصائص الذاتية للتجمعات
السكانية السعودية، مما أبقى الشعور الخاص بالتمايز متأججاً وكأنه
ينتظر الظرف الداخلي والإقليمي المناسب للتعبير عن نفسه في حركة
انفصالية تعلن عن نفسها.
ربما شعر المسؤولون السعوديون بأن حركة صدام حسين باحتلال الكويت قد
توفر الغطاء المناسب للدعاوى الإنفصالية من جديد والتمرد على الحكم
(النجدي ـ الوهابي). وقد تمّ الإفصاح عن هذه المخاوف بشكل كبير أجبرت
صديق المملكة، السفير الأميركي الأسبق في المملكة جيمس أكنز بأن يكتب
مقالاً يوضح فيه المبالغات في موضوع التقسيم، وإن كان لم يلغ حقيقة
المطامع من بعض دول الجوار. ولكن المقال أزعج السعوديين وردّوا عليه
بشكل لافت يعبر عن الحساسية الشديدة وربما القلق العميق جداً من هذا
الموضوع وتناوله.
الآن يعود موضوع تقسيم السعودية ليطرح من جديد وبصورة أكثر خطورة،
ليس من الأردن أو العراق أو اليمن أو دول الجوار الخليجي، بل من
الولايات المتحدة الأميركية نفسها.. أي من الدولة التي اعتبرت
(حامية) للنظام السياسي في السعودية وللدولة السعودية نفسها. بمعنى
أن (الحامي) تحوّل اليوم الى (مهدّد) للكيان نفسه، وهذا الحامي
الأميركي يستخدم أخطر ورقة يمكن التهديد بها إما للإبتزاز السياسي،
أو لتحقيق التقسيم واقعاً على الأرض في ظروف مستقبلية مناسبة بحجة من
الحجج.
هذا يدفعنا لفتح موضوع العلاقات السعودية الأميركية والتطورات التي
أوصلتها الى مأزقها الحالي، بحيث تحولت العلاقة من شراكة ومصالح حتى
في سياسات الشرّ كما يرى البعض، الى معركة نصف مفتوحة قد تفضي الى
تبنّي خيار تقسيم السعودية أميركياً وبشكل رسمي.
لم يشعر السعوديون بخطورة هذا الحامي في تهديدهم بشكل حادّ إلا بعد
عاصفة الصحراء، فقد بدأت أولى الإشارات من المسؤولين السعوديين
تتناقل في المجالس الضيقة، والدوائر الصغيرة، والتي تفيد بأن المملكة
تتعرّض لمؤامرات جادّة تسعى لتمزيقها، وأن الأميركيين قد اتصلوا
فعلاً بجهات سعودية حجازية وغيرها لبحث إمكانيات قيام ثلاثة كيانات
سياسية أو أربعة.
ومما تمّ تناقله أن السعوديين سارعوا بطلب خروج القوات الأميركية،
عدا بضعة ألوف لازالوا باقين رغم أنفهم لمراقبة العراق وتحركاته
العسكرية. وقبل ذلك طلبوا فوراً من القوات المصرية الخروج: (لكي لا
تتآمر مع الحجازيين) كما قيل حينها! وكان الأميركيون قد التقطوا
المخاوف السعودية، ونفخوا فيها، وأصبحت سلاحاً جاهزاً للإستخدام في
غياب هوية وطنية، وعدم انسجام اجتماعي كان النظام السياسي ولازال
يتغذى عليه في بقائه واستمراره.
يعلم السعوديون بأن أية حركة انفصالية لا بدّ وأن تكون حركة عنفية
مسلحة ومدعومة من دول الجوار. هذا ما تقوله دروس التاريخ الحديث، وهو
ما جربته المملكة نفسها في ثورة حامد بن رفادة بدعم الأردن ومصر من
أجل تحرير الحجاز وإعادته الى وضع الدولة المستقلة كما كان في
العشرينيات الميلادية من القرن الماضي.
ولذا، فإن السعوديين قد شخّصوا مكامن الخطر وهي محيطها الإقليمي كلّه
تقريباً، فحتى دول الخليج أو أكثرها ظهر منها ما ينبيء عن آمال بأن
يأتي يوم وتتمزق فيه المملكة لبضع دول تتساوى معها في الحجم
والإمكانيات والمكانة السياسية. اليمن ومصر والعراق والأردن وبعض دول
الخليج وربما إيران أيضاً، نظر اليها السعوديون بأنها يمكن أن تدعم
حركة انفصالية من نوع ما.. ولكن أملهم بل قل رهانهم الكبير كان يعتمد
على ما اعتبر حقيقة وهي أن الدول الكبرى وبالخصوص الولايات المتحدة
وبريطانيا لا تدعمان مشروعاً انفصالياً طالما أن النظام السياسي في
المملكة حليفاً للغرب يعتمد عليه في مكافحة الأصولية (الشيعية)
المتطرفة ومكافحة الشيوعية، وفي استقرار إمدادات النفط بأسعار رخيصة،
وفي تشجيع سياسة الإعتدال.
لكن هذا الرهان بدأ بالأفول بسقوط الإتحاد السوفياتي، وقد ترافق ذلك
الأفول بالهجوم العراقي على الكويت، فكانا علامة فارقة في تاريخ
العلاقات السعودية مع الغرب عامة ومع الولايات المتحدة بشكل خاص.
لقد بدأت مكانة المملكة في العيون الغربية في التآكل منذ سقوط
الإتحاد السوفياتي، وجاءت أحداث سبتمبر لتضع حدّاً من العلاقة
المتميّزة مع الغرب استمرت منذ تأسيس الكيان السعودي في بداية القرن
العشرين مع بريطانيا.
لماذا وكيف حدث ذلك؟
لم تكن المملكة مسؤولة بشكل مباشر عن تردّي العلاقات مع الغرب، ولا
هي راغبة فيها، بل العكس تماماً، هي تريد إقناعه بأنها لم تتغير،
وأنها الحليف الذي لازال قادراً على تقديم خدماته لأصدقائه، وأنها في
سبيل ذلك تفعل ما تستطيعه لإقناع الحلفاء الأميركيين بأهميتها من جهة
تقديم تنازلات اقتصادية وسياسية واستراتيجية لنيل الرضا. ولكن
للولايات المتحدة وجهة نظر أخرى. فالظروف السياسية العالمية كما
الإقليمية تغيّرت بشكل دراماتيكي، جعل من السعودية أقلّ قدرة على
تلبية المصالح الأميركية في ظل النظام العالمي الجديد.
المتغيرات الدولية
الذي تغيّر في الجانب الأميركي (والغربي عامة) يمكن رصده على النحو
التالي:
* أولاً ـ سيادة رؤية تقول أن الإسلام ككل خطر على الغرب
وحضارته، وأن إسلام السعودية المعتدل (الأميركي حسب سيد قطب) الذي
وقف ضد الشيوعية وضد الإسلام الثوري الإيراني أثبت أنه إسلام خطر.
وسواء كان إسلاماً شيعياً أم سنياً أم وهابياً، معتدلاً أم أصولياً،
فإنه بعد سقوط الإتحاد السوفياتي أصبح في مقام العدو، فالغرب بحاجة
الى عدو جديد يحفظ وحدته ويشحذ عزمه ويبقيه الأقوى، وقد تم التعبير
عن هذا بادئ الأمر من ثاتشر رئيسة الوزراء البريطانية، ثم عبر
تصريحات ودراسات غربية عديدة انتهت بـ (صراع الحضارات) لصمويل
هنتنغتون. وجاءت أحداث نيويورك، فقطعت الشك باليقين، وخطأ المراهنة
على الإسلام السعودي المعتدل الذي استخدم بفعالية ضد الشيوعية وضد
ايران الشيعية. وهنا فإن المملكة تبدو وكأنّ دورها انتهى بسقوط
السوفيات، ولا يمكنها أن تلعب الدور نفسه في مكافحة الإسلام حتى وإن
افترضنا أن النظام السياسي يريد فعل ذلك. في هذه المعادلة الجديدة
يصبح الروس ـ أعداء الأمس ـ أكثر قرباً لدى الإستراتيجي الأميركي من
السعودية في تحقيق أهدافه الكونية.
* ثانياً ـ انحسار الدور الإقتصادي السعودي نفطياً بالإعتماد
على البدائل النفطية من روسيا وبحر قزوين (وربما العراق في
المستقبل)، وكذلك تراجع الدور الإقتصادي السعودي القادر على تمويل
مشاريع أميركا السياسية مثلما كان يحدث في أفغانستان أبان الغزو
السوفياتي أو تمويل الكونترا في أميركا اللاتينية، وغير ذلك من
المواقع التي كان النفوذ السياسي الغربي ـ الشرقي يتصارع حولها.
أيضاً لم تعد السعودية مصدراً للرساميل وأصبحت تعاني من مشاكلها
الإقتصادية الخاصة التي يتوقع لها أن تستمر الى سنوات وسنوات. ومع ما
هو معلوم من أن السعودية ساهمت في تحطيم أسعار النفط في منتصف
الثمانينيات لإرهاق إيران في حربها ضد العراق، وبنصائح أميركية
معروفة وموثّقة، فإن الأميركيين اليوم لا يبدون أية امتنان للحليف
الذي ضحّى بمصالحه السياسية والإقتصادية من أجلهم. إن المعاناة
الإقتصادية السعودية الحالية تعود في جزء كبير منها لمسايرة أميركا
في استراتيجياتها وخططها التي لا تتقاطع بالضرورة (بل في الغالب) مع
المصالح الوطنية.
* ثالثاً ـ ظهور البدائل العسكرية، ليس إسرائيل فحسب، بل حتى
في قلب الدول الخليجية وعلى حافة الجزيرة العربية في البحرين والكويت
وقطر وسلطنة عمان حيث تنتشر القواعد والأساطيل الأميركية ومراكز
قيادتها (رأس مسندم والعديد والدوحة مثلاً). وربما أُضيف في المستقبل
العراق وأفغانستان ودول آسيا الوسطى وغيرها. ومن يدري ربما كان اليمن
والصومال من بين تلك البدائل. وما يخلص له هنا، أن هناك دولاً عديدة
لم تعد متحفظة على الوجود العسكري الأميركي على أراضيها، ولم يعد
وجود الأميركيين فيها مكلفاً مثلما هو الحال في السعودية (تفجير
الخبر عام 1986 على سبيل المثال). فإذا ما أبدى السعوديون انزعاجهم
من الوجود الأميركي الحالي، خشية تدخله لإسقاطهم، او اختطاف ما تبقى
لهم من استقلال في قرارهم السياسي، فإن دولاً صغرى مجاورة توفر
البديل دونما مراعاة للموقف السعودي. ومع أن السعوديين حتى الآن لم
يطلبوا رسمياً خروج ما تبقى من قوات وقواعد أميركية، فإنهم يخشون
الطلب، لأنه يمثل أداة إضافية ودليلاً آخر على تراجع مكانة النظام
السياسي السعودي في عيون حلفائه، وبالتالي فإن على هذا النظام أن
يوفر وسائل حمايته بنفسه من شعبه أو من الخارج، هذا إذا ما افترضنا
أن الأميركيين لن يناصبوا النظام السعودي العداء أو يعيدوا تصنيفه في
الأقل على أساس أنه ليس من بين الحلفاء. وبعبارة أخرى: الحكومة
السعودية لا تستطيع أن تقول لا، وأميركا لا تخشى من قولها.
* رابعاً ـ ظهور بدائل سياسية، فالمملكة خسرت أولاً الكثير من
قدراتها على الحشد السياسي خلف السياسة الأميركية، لأسباب اقتصادية
وعدم قدرتها على الدفع، ولتغير المناخ الدولى بعد سقوط الشيوعية،
ولانشغالها بمشاكلها الخاصة، ولتقلّص مساحة الإهتمام المشترك بين
أميركا والسعودية وتمحور الإهتمام الخاص حول فلسطين وهو موضوع لا
تستطيع السعودية تقديم تنازلات كبرى فيه رغم محاولاتها المستميتة
(مبادرة الأمير عبد الله مثالاً)، وإن كانت تقود بصفة عامة الإعتدال
ولكن ضمن حدود معيّنة. وقد حاولت الإدارات الأميركية السابقة جرّ
السعودية الى مسألة التطبيع مراراً ولكنها لم تحصل على كامل منيتها
في عهد كلينتون. ولكن بعد أحداث سبتمبر، ظهرت المبادرة السعودية
(مبادرة ولي العهد) التي نادت بالتطبيع مع إسرائيل، وذلك لتنفيس
الإحتقان في العلاقات الأميركية السعودية، وإن جاء على حساب القضية
الفلسطينية نفسها.
لم يشعر الأميركيون بالإرتياح من الموقف السعودي تجاه الحرب
الأميركية في أفغانستان، مع أن المعارضة السعودية كانت إسمية، وكانت
إدارة الحرب الأميركية تتم من القاعدة الأميركية في الخرج
(السعودية). ربما يحدث الأمر ذاته تجاه الموضوع العراقي، فرغم أن
السعودية ليس من صالحها إسقاط صدام عبر الغزو العسكري، وينتابها
القلق من احتمال سيطرة الأكثرية الشيعية على الحكم هناك، ورغم أنها
أعلنت اعتراضها على الغزو المحتمل، إلا أنها على الأرجح ستقف الى
جانب الولايات المتحدة في حملتها العسكرية. فالإعتراض من وجهة نظر
بعض الأمراء لا معنى له ولن يؤثر على ميزان القوى، وسيكون مكلفاً على
السعودية نفسها في المستقبل. وهناك من ينظّر لتبني موقف مؤيد للحملة
الأميركية من أجل تخفيف الضغط الأميركي المتوقع على نظام الحكم في
المملكة. الدول الأخرى، كالأردن والكويت بالتحديد ستكونا الى جانب
تركيا بوابة مشرعة للحملة بمجرد أن تبدأ، ولا يستبعد أن تعلن
السعودية تأييدها العلني آنئذ ضمن ترتيب ما يحفظ ماء الوجه.
* خامساً ـ الأولوية الإستراتيجية لأميركا بعد سقوط السوفيات
هي محاربة الإسلام والدول الإسلامية تحت غطاء محاربة الإرهاب. وفي
هذا المجال فإن ما تستطيع أن تفعله السعودية لدعم هذه الإستراتيجية
الأميركية قليل، وحتى هذا القليل تريده بعيداً عن العيون المحلية
لتفادي ردود فعل الشارع، بعكس ما يريده الأميركيون صريحاً وعلنياً
وقوياً وبأقصى الحدود وبدون (معكم ولكن)، بل وفق سياسة من ليس معنا
فهو ضدنا. الأمر الجديد الأكثر إزعاجاً للسعودية هي أنها أصبحت نفسها
ضمن قائمة المستهدفين بسياسة مكافحة الإرهاب فكيف تستطيع والحال هذه
أن تساهم فيها، خاصة إذا كان النظام السياسي نفسه غير قادر على
الإيفاء بمتطلبات السياسة الأميركية، بل قد يكون هو نفسه متهماً
بتشجيع الإرهاب عبر سياساته التعليمية والإقتصادية وربما أيضاً بسبب
عدم ديمقراطيته التي تفرز نماذج متطورة من الإرهابيين بالمنظار
الأميركي. بعبارة أخرى، فإن السعوديين يفترقون مع الأميركيين حلفاء
الأمس في تعريف الإرهاب، كما في وسائل معالجته، والسعوديون هنا هم
جزء من المشكلة وليسوا طرفاً في الحلّ، وقد لا يراد للنظام السياسي
السعودي أن يكون طرفاً فيه.
المملكة من وجهة النظر الأميركية فرّخت مدبري تفجيرات نيويورك،
وروجت سياسات التطرف الديني، وساعد انغلاق النظام السياسي وسياساته
الداخلية على تخريج شرائح إجتماعية متطرفة.. وعلى هذا الأساس هناك من
يدعو لأن تعتبر السعودية عدواً باعتبارها حاضنة كبرى وأصيلة للإرهاب
وليس أفغانستان أو العراق. وهذا التحليل هو أشد ما يزعج المسؤولين
السعوديين ويضعهم في مواجهة مباشرة مع الإستراتيجية الأميركية. ولا
يخفي الصقور الأميركيون انزعاجهم من السعودية ونظام الحكم فيها، وقد
بدأوا يميلون الى الإعتقاد بنفاد أهمية النظام السعودي، وضرورة
تغييره، بل وتضاءلت أهمية بقاء المملكة موحدة خادمة للإستراتيجية
الأميركية. ولقد عبّرت تصريحات نقلت عن بوش ضيقه من الملك فهد، كما
أن صقور وزارة الدفاع وبعض الصهاينة في الخارجية الأميركية بدأوا
يلوحون بعصا التمزيق لإجبار نظام الحكم في المملكة على الإنصياع
لمتطلبات سياساتهم الجديدة على أقل التقادير، وفي أقصاها يتم إحداث
تغيير جذري في شكل الدولة نفسها خدمة للسياسة الإسرائيلية القديمة
التي عرضها أبا ايبان في الخمسينيات الميلادية من القرن المنصرم.
لهذه المتغيرات السياسية والإقتصادية والإستراتيجية لم تعد النظرة
الأميركية اليوم للمملكة كما كانت قبل عقدين من الزمان. هي بنظرهم
أشبه ما تكون بدولة نصف كسيحة إقتصادياً وسياسياً. لقد خدمت
الإستراتيجية الأميركية في عهد القطبين، والآن آن لها أن تستقيل أو
يقال نظام الحكم فيها، أو كليهما معاً. لقد استنفذ الأميركيون
أغراضهم من السعودية، ولم تعد الأخيرة قادرة لقصور ذاتي أن تتماشى مع
نهج العضلات الأميركي الجديد.
متغيرات الرؤية السعودية للتحالف مع أميركا
ويُطرح في مقابل النظرة الأميركية المتغيرة للسعودية ودوافعها والتي
أدّت الى تغييرات سياسية عميقة مستقبلية خطيرة على النظام السعودي لم
يكن مستعداً لها، يُطرح تساؤل حول وجهة النظر السعودية تجاه الولايات
المتحدة، وما الذي تغيّر فيها، بالشكل الذي جعل الخلاف بينهما أعمق
من أن يجسر.
الرؤية السعودية الحالية تفيد بالتالي:
ألف
ـ إن العلاقات (المتميّزة) مع الولايات المتحدة الأميركية، ولا نقول
الطبيعية أو الإعتيادية، مكلفة سياسياً، فهي تنتقص من شرعية النظام
السياسي، خاصة في هذه الظروف التي تبدو فيه الولايات المتحدة كعدو
شرس ضد كل العرب والمسلمين، أو على الأقل هكذا ينظر الجمهور المسلم
والعربي إليها، وهو ما بدأ الإعلام السعودي ـ ولأغراضه الواضحة ـ
تبني مقولة عدائها للإسلام والمسلمين. إن علاقة (متميزة) ولا نقول
(طبيعية) مع أميركا فقد مبرراته منذ زمن وطنياً وقومياً وإسلامياً،
والنتيجة فإن مثل هذه العلاقة تؤدي الى اعتبار النظام السياسي
السعودي أو النظر إليه كعميل للولايات المتحدة أو متحالف مع أعداء
الأمة والوطن، وتسرّع من اصطدام الدولة ونظام الحكم فيها بالجمهور
الغاضب من أميركا ومن يتماشى مع سياستها. ويبدو أن حكومة المملكة
تدرك اليوم حجم العبء الذي تتحمله في علاقاتها مع أميركا، الى درجة
أن وزير الدفاع سلطان بن عبد العزيز، عبّر عن حقيقة أن الهجوم
الإعلامي والسياسي الأميركي ضد الحكومة السعودية قد رفع من رصيدها
شعبياً، وهذا صحيح. كما أن الأمير عبد الله ولي العهد في زيارته
الأخيرة لأميركا أفاد بأن بوش يدرك أن الرأي العام السعودي ضد بوش
شخصيا.
يضاف الى هذا، فإن الحكومة السعودية تستند الى ما يعبر عنه في العلوم
السياسية بالشرعية التقليدية (دينية بالدرجة الأساس) فهي لا تعتمد
على شرعية وطنية قائمة على انتخاب، كما أن ما يعتقد أنه شرعية
تاريخية (ملك الآباء والأجداد)، لا يحوي رصيداً كبيراً في الإقناع،
فضلاً عن تآكله. وهذا ما يجعل موقفها من أميركا محرجاً لشرعيتها.
باء
ـ والمملكة ترى في العلاقة المتميزة مع أميركا مكلفة اقتصاديا، فثمن
العلاقة شراء لأسلحة وصفقات مشبوهة هدفها إرضاء أميركا أكثر من كونها
حاجة عسكرية حقيقية، فضلاً عن أن المملكة اعتادت حشد السياسات
العربية والإسلامية عبر الدعم المالي الذي تقدّمه، وهي الآن غير
قادرة على الدفع، وإذا ما فعلت ذلك فسيزداد الوضع الإقتصادي الداخلي
سوءً الأمر الذي سينعكس على الوضع الأمني والسياسي بمزيد من التدهور.
جيم
ـ لقد تعززت قناعة سياسية لدى المسؤولين السعوديين تفيد بأن الذهاب
وراء مشاريع أميركا ستوصلهم الى الحضيض وأن ذلك قد يعجّل بنهاية
النظام بدلاً من حفظه واستمراريته. والحقيقة أن السعوديين ومنذ حرب
الخليج الثانية شعروا أن أميركا تحولت من موقع الحامي الى موقع
المهدد، وهو شعور كشفت عنه الأيام الحالية بأجلى صورها. فصارت
السياسة السعودية تجاه أميركا تعتمد على قاعدة (إبعاد الأذى) وليس
طلب العون والحماية، كما كان سابقاً. فغاية المنى اليوم كف شرّ
أميركا وتهديدها. أيضاً فإن شعوراً خجولاً بدأ يتسرب لدى بعض
المسؤولين السعوديين الكبار يفيد بأن العائلة المالكة لا تكبر
سياسياً اعتماداً على الدور الأميركي، بل تسقط داخلياً وخارجياً
وتتورط في معارك تشعلها أميركا ثم تتركها تغرق فيها. ربما من هذه
الزاوية تولدت قناعة الطاقم السياسي بضرورة إصلاح العلاقات مع إيران
وحلحلة الخلافات الحدودية مع الجيران.
كيفية تحقيق الرضا الأميركي
إذا كانت كلتا الدولتين قد تشكلت لديهما رؤى مختلفة عن الآخر.. ماذا
تريد أميركا من السعودية لترضى عنها؟
ما تطلبه أميركا كبير لا تستطيع السعودية تحمّله، وإذا ما تحمّلته
فإن دور العائلة المالكة ربما يكون قد شارف على الإنتهاء والإنطفاء:
أولاً،
هي تريد من المملكة المساهمة الفاعلة في مشاريع السياسة الأميركية
عامّة والمتعلّقة بالإرهاب، والخاصة المتعلّقة بالشرق الأوسط
وبالخصوص موضوعي الحرب ضد العراق وتسوية القضية الفلسطينية وفق
المصلحة الصهيونية. بعبارة واضحة، تريد الولايات المتحدة تغيير وجه
السياسة الخارجية السعودية وفق المتطلبات الأميركية الغربية الحالية.
فبالأمس كان دور السعودية: مكافحة الشيوعية والقومية وحركات التحرر
والتحرير (حتى فيتنام) عبر استخدام الإسلام. واليوم فإن الدور
المطلوب منها: استخدام كل الأدوات والإمكانات الممكنة لمكافحة
الإسلام نفسه بكل أشكاله وألوانه وتمظهراته المختلفة.. أصولياً كان
أم شعبياً أم معتدلاً. وبعد أن كان تنشيط الحركات السياسة الدينية
هدفاً، صار تدميرها اليوم ضرورة، ويجب شطبها من ساحة السياسة
المحلية.
بيد أن المملكة التي كانت هيكليتها وذهنيتها ومصالحها في فترة
الخمسينيات وحتى الثمانينيات متطابقة مع المصالح الأميركية الأمر
الذي جعلها قادرة على لعب دور مكافحة الشيوعية، ليست اليوم قادرة على
تغيير هيكلها العظمي بل حتى جلدها وشكلها. فهي بلد تحمي المقدسات،
وبلد قام على أسس دينية وحروب دينية، وهو بلد يلعب فيها العلماء
دوراً مهماً في السياسة والإعلام والتعليم والقضاء وغيرها، وهو بلد
قام على مكافحة الإصلاح السياسي الداخلي بالإعتماد على شرعية دينية
وإن كانت ناقصة. إن تغيير كل هذا يبدو شبه مستحيل وغير ممكن. ولذا
قيل بأن المملكة لو خيرت بين فعل هذا وبين غضب أميركا وتهديدها،
فإنها (قد) تختار الأول، فهو من الناحية المنطقية أكثر ضماناً
للإستمرار من متابعة المطلب الأميركي.
ثانياً،
إن أميركا تريد إحداث تغيير جذري في المملكة، يبدأ بتغيير العقلية
الشعبية والعداء للغرب وأميركا والصهاينة، من خلال تغيير المناهج
التعليمية، وتغيير النظم والقوانين عبر ضغط منظمة التجارة العالمية،
وتغيير القضاء بحجة حقوق الإنسان وتحسين سجل المملكة في هذا الشأن،
ولربما يأتي في وقت لاحق تغيير النظام السياسي نفسه، وليس المنظومة
الفكرية والإقتصادية والقانونية والقضائية والإدارية فحسب، رغم أن
كثيراً من هذه المطالب مطروحة من قبل النخب السعودية نفسها.
ثالثاً،
على الصعيد الإقتصادي، فإن أميركا تريد تدفقاً رخيصاً للنفط، ويبدو
أن الإدارة الأميركية راضية الى حدّ كبير عن سياسات المملكة الملتزمة
بالسياسة الأميركية في هذا المجال باعتبارها أحد أكبر مصدري النفط.
ومع ذلك فالإدارة الأميركية لا تريد أن ترهن نفسها نفطياً لأحد، خاصة
بلدان الشرق الأوسط والمملكة بينها، وهي تطمح الى تقليص أهمية النفط
والإمدادات العربية بالقيام باستثمارات خارج حدود هذه المنطقة.
رابعاً،
من الناحية العسكريةً، كانت الولايات المتحدة تسعى لأن تحصل على موطئ
قدم لها في الشرق الأوسط عبر وجود سلسلة من القواعد الثابتة تتيح لها
التحرك بسهولة وقيادة عملياتها في بقاع مختلفة من العالم. والمملكة
وإن خبرت القواعد الأميركية مبكراً (قاعدة الظهران العسكرية التي
تأسست في الأربعينيات الميلادية مثلاً) إلاّ أن أميركا كانت تقدّر
الحرج السعودي من وجود عسكري أميركي مكثف. في تلك العقود الخوالي كان
العداء العربي منصباً على الإنجليز والفرنسيين، والإدارة الأميركية
لما تنغمس بعد في مستنقع مشاكل الشرق الأوسط، أما اليوم فالغضب
الشعبي منصب عليها بشكل محدد.
لكن الإدارة الأميركية أصبحت اليوم أكثر إلحاحاً على أصدقائها
وحلفائها بل أكثر ضغطاً مصحوباً بالتهديد لهم إن لم يوافوها
بمتطلباتها، ضاربة عرض الحائط المواقف الشعبية، والمخاطر التي قد
تحدق بهؤلاء الحلفاء والأصدقاء ومصالحهم، بل ودون النظر الى مشاعرهم
وتطلعاتهم وأمنهم. والسعوديون كان يتحرجون من استهلاك سمعتهم، ولكنهم
وجدوا تبريراً من صدام بغزوه الكويت، ولكن مع ثورة الجمهور، وظهور
تحريض بن لادن، وانفجارات الخبر والرياض، أصبح الوجود العسكري
الأميركي في السعودية، بغض النظر عن وظيفته الملحة وعدد المتواجدين،
عبئاً باهظاً على كاهل السعوديين، ليس في المجالين السياسي
والإقتصادي، بل أنه بات مصدر اضطراب وتجييش معاد للعائلة المالكة
بشكل يمكن القول أنه يسرع في عملية تآكل شرعية النظام السعودي
وبالتالي تهديد بقائه.
أضف الى ذلك، إن الوجود العسكري الأمريكي (مركز القيادة) في السعودية
أشعر العائلة المالكة بقلق بالغ لم تكن تشعر به من قبل، فهذا الوجود
ترافق مع وجود اتساع فجوة الخلاف بين البلدين اميركا والسعودية، وفي
ظل شعور سعودي بأن أميركا أضحت عنصر مهدد لوجود العائلة المالكة
ولوحدة المملكة، ومن هنا فإن القلق السعودي يبدو مشروعاً، ولكن
العائلة المالكة غير قادرة على قول كلمة لا، أو كفى أو اخرجوا. وهي،
وإن لم تكن تتمنى أن يتعرض هذا الوجود للنقد الشعبي المباشر
والمتصاعد، فإن بعض الأمراء يرحبون بهذا النقد ضمن حدود بشكل يساعدهم
في إيصال رسالة الى الأميركيين، بضرورة الخروج من المملكة. وقد عبر
الأميركيون عن ذلك وأعلنوا أن لديهم البدائل القريبة من الخليج وهي
أكثر أمناً كقطر والبحرين. بل أن الأخيرتين عرضتا تبرعاً مجانياً
استضافة الوجود الأميركي الإضافي الموجود في السعودية، الأمر الذي
أقلق السعوديين أيضاً. فلو كان هذا الوجود بعيداً عن الجزيرة العربية
لكان الأمر هيناً، أما أن يكون على أطراف حدودها، فلا ينظر إليه إلا
بزيادة ريبة.
أوراق الضغط الأميركية على السعودية
بيد أن التساؤل الملحّ هو: لماذا تخشى الحكومة السعودية الولايات
المتحدة؟ لماذا لا تستطيع أن تقيم علاقات طبيعية معها بدون تميّز
يرهقها؟ وما هي أوراق الضغط الأميركي على السعودية؟
موضوع الحماية: لا يشعر المسؤولون السعوديون بقلق من التهديد الداخلي
الشعبي، فهم يعتقدون بقدرتهم وكفاءتهم الأمنية والعسكرية على مواجهته
وسحقه. هذا الشعور المغالى فيه أحياناً، ربما تدعمه التجارب الماضية
للنظام نفسه، فقد قضى على حركات عصيان شعبية، وحركات مسلحة مدعومة من
الخارج أحياناً، كما أبدى قدرة تحصينية هائلة لمكافحة الإنقلابات
المحتملة من قوات الجيش النظامي، وواجه بعنف وقسوة المظاهرات
الإحتجاجية على مدار العقود الماضية. ليس هنا ـ إذن ـ ما يقلق بال
العائلة المالكة.. بل أنها تشعر باسترخاء في اتخاذ قراراتها السياسية
المحليّة، أنّى شاءت وكيفما شاءت، وطالما هي تمتلك هذه القدرة
(القمعية) فإنها لا تشعر من الناحية النظرية ولا العملية بأنها في
حاجة الى تغيير مؤسساتها، أو فتح باب الإصلاح السياسي، فالرأي ما يرى
أمراؤها، والقرار لهم ومن حقهم وحدهم، هذا هو اعتقادهم، ولا نظن أنهم
في طريقهم الى تغييره في المدى المنظور.
هذا الأمر قادهم ربما الى استنتاج خاطئ يقول بأن الشعب أو بعض قواه
الحيّة غير قادرة على تشكيل تهديد للعائلة المالكة إلاّ في حال وجود
عدو خارجي رافد، ولذا فإن الخطر هو بالضرورة خارجي ومن الدول
المجاورة. هذا الخطر من وجهة النظر السعودية يصعب التصدي له بدون
وجود منظومة تحالف مع دول كبرى تؤكد حماية المملكة ونظام الحكم فيها.
حدث هذا في حقب سابقة مع مصر والعراق وإيران بصورة خاصة وذلك عبر
التحالف مع بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، اللتان شكلتا أداة
ردع ضمنية لتلكم الدول. وكثيراً ما أعلن الرؤساء الأميركيون بأن
حماية النظام السعودي جزء من حماية الأمن القومي الأميركي، كما أعلن
ذلك الرئيس كارتر صراحة عام 1979.
ضمن هذه الحدود يمكن للأميركيين الإدعاء بأنهم ساعدوا النظام السعودي
على الإستقرار، وحموه من الهزّات، التي كان بعضها داخلياً، من جهة
توفير المعلومات الإستخبارية عن المؤامرات الداخلية والخارجية معاً.
ولكن المملكة تستطيع ـ إن كانت تخشى حقاً الخطر الخارجي المجاور ـ
قطع جذور الخطر على النظام والدولة معاً، عبر إصلاح العلاقات مع تلك
الدول وهي عربية وإسلامية، والتعامل معها بشفافية، وتوكيد المصالح
الإقتصادية، إضافة الى أن ما لدى المملكة من قوة قادرة على خفض حجم
المخاطر.
وهنا يجب أن نتنبه الى حجم المبالغات القائلة بحماية أميركا للمملكة،
فهي مبالغات لا تستند الى أساس قوي: فحتى الآن لم نرَ للأميركيين
(عدا ما زُعم في موضوع العراق) أثراً بيّناً لتلك الحماية. لكن
المشكلة هي أن المسؤولين السعوديين أنفسهم غير مقتنعين ربما بقدرتهم
على حماية أنفسهم من الأعداء الخارجيين، خاصة بوجه تحديات تقسيم
المملكة وتفتيتها. أما الأخطار الداخلية فحلولها بيد الأمراء أنفسهم،
لكنهم لا يمتلكون مشروعاً وطنياً يعزز الوحدة الداخلية، ولربما كان
الصحيح أنهم لا يريدون قيام مشروع وطني يفضي الى تقليص هيمنتهم وإن
كان لا يلغي دورهم.
أيضاً فإن المسؤولين السعوديين يقفون أمام تحديات التقسيم بدون سلاح
سياسي أو مبادرة أو مشروع يحبط ما يدبّر للمملكة. فالأمور متروكة
لتطورات الأحداث، والبطء السعودي في الحركة والرد السياسي (وليس
القمع) يمثل فرصاً ذهبية للمخططات الخارجية.
الموضوع الإقتصادي: ليس هناك امتيازات اقتصادية أميركية تقدم
للسعودية، لكن الولايات المتحدة قادرة أن تهدد السعودية بالحظر
الإقتصادي بسبب أو بدون سبب، وقادرة على تجميد أرصدتها، وقادرة على
منع السعودية من سحب استثماراتها كسندات خزينة. والسؤال هل تستطيع
السعودية تجنّب ذلك والبحث عن بدائل؟ هل تستطيع القيام بأعمال
استباقية؟
موضوع الإصلاح السياسي وحقوق الإنسان: على الأرجح فإن الولايات
المتحدة لا تريد أو لا تلحّ على ديمقراطية في السعودية تفضي الى قيام
حكومة وطنية، أو يدخل فيها إسلاميون، وحتى إن رغبت فلسبب أمني محض..
وهي أيضاً بعد أحداث نيويورك لا تهتم كثيراً بموضوع حقوق الإنسان في
السعودية، بل تدفع باتجاه قمع المعارضين خاصة (الأصوليين) بنظرها
والمتطرفين المعادين للولايات المتحدة وإن أدّى ذلك الى خروقات واسعة
لمبادئ حقوق الإنسان.
لكن هذا لا يعني أبداً، سواء في المملكة أو غيرها من الدول العربية،
أن الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، لن يستخدم هاتين الورقتين في
الضغط على المملكة وتشويه سمعتها، وربما في استصدار قرارات ضاغطة
بشأنها دولياً وإعلامياً، وقد يؤدي ذلك الى فرض عقوبات من نوع ما
عليها. والعائلة المالكة هنا، لا تمتلك رؤية واضحة لموضوع حقوق
الإنسان، ولا تجد نفسها معنية بالتغيير السياسي الذي يبني العلاقة
بين الحاكم والمحكوم ويعززها بوجه التهديدات الخارجية، ويقلّص من
استثمار القوى الخارجية لها، خاصة وأن مطلب الإصلاح أضحى مطلباً
شعبياً ملحّاً.
لهذا، يحتمل جداً أن تثار مواضيع حقوق الإنسان والإصلاح السياسي بوجه
العائلة المالكة وتستمر الى أمد بعيد، رغم أن من الأفضل لها أن تبادر
باستخدام السلاح ذاته قبل أن يشهر بوجهها وتترتب عليه ضغوطات لا قبل
لها بمواجهتها، كأن تعتبر الحكومة السعودية ديكتاتورية يجري مواجهتها
وتهديد العائلة المالكة بإسقاطها والتآمر عليها باعتبارها غير شرعية.
خلافات العائلة المالكة: وهي ورقة تستخدمها الولايات المتحدة اليوم
كما في الأمس لتحقيق مصالحها ولضرب وإخضاع من لا تريد، واستصدار
سياسات تخدمها. ومن المؤسف حقاً، أن هناك ما يشبه المباراة بين
الأجنحة المتنافسة، كلٌ منها يبعث برسائل متنوعة الأشكال تفيد بأنه
الأكثر حرصاً وضماناً للمصالح الأميركية في المملكة، وبالتالي فهو
يتوقّع الدعم في حلبة المنافسة على المُلك.
موضوع التقسيم: وهو كما ذكرنا من أخطر المواضيع التي تهدد المملكة
ومستقبل العائلة المالكة فيها. ربما هي أيضاً الورقة الأكثر إيلاماً
للدولة والمجتمع، وأخطر ما يمكن لدولة أن تهدد به، خاصة بالنسبة
لدولة مثل المملكة التي تعاني من شروخ هيكلية في بنيانها وفي ظل نظام
له الكثير من الأخطاء والنواقص في مجال صناعة هوية وطنية وتحقيق دمج
وطني حقيقي، مما يشجع سيناريو تقسيم السعودية. أيضاً فإن هناك دول
مجاورة تتمنى تقسيم السعودية وليس اسرائيل فحسب. يضاف الى ذلك أن
هناك نزعات انفصالية قوية ألهبتها السياسة الحكومية بسبب التمييز
الطائفي والمناطقي بين المواطنين عبر تغليب فئة اجتماعية على أخرى،
والترويج لثقافات تجزيئية على حساب الثقافة الوطنية، وعبر مقاومة
الإصلاح السياسي بالشكل الذي يبقي فيه الوحدة السياسية خادمة للمصالح
الفئوية، وبالتالي لا تترك خياراً للآخر إلا الدعوة للإنفصال
والإنخراط في مشاريع تقسيمية كوسيلة وحيدة أمام الإنغلاق السياسي.
ما يمكن استخلاصه هنا، هو ان العلاقات السعودية الأميركية لا يبدو
أنها ستعود الى سابق عهدها، وأن الإدارة الأميركية والغرب اليوم ليسا
حريصين على بقاء المملكة موحدة، بل يمكن القول أن خيار تقسيم المملكة
هو الأقرب. وبناء على هذه المعطيات فإن الحكومة السعودية لا تواجه
المشروع الغربي برؤية واضحة بحيث تحصن وضعها الداخلي بإصلاح علاقاتها
مع شعبها وتجاوز نقاط الإشتباك، بل يبدو على العكس من ذلك، إنها
سائرة لتدعيم (فئوية) الدولة والتنكر للقوى الإجتماعية الأخرى، مما
يفتح المجال واسعاً لتغييرات جذرية في البلاد، قد تكون بوابة التقسيم
أوسعها.
|