لا.. ثم لا.. لهيئة الصحفيين السعوديين المعيّنة

 

عبد العزيز الخميس*

 

تفضل ولي النعم والأمور ممثلا بحكومتنا الرشيدة بالموافقة على إنشاء هيئة للصحافيين السعوديين. وعد بعض كتابنا ذلك التفضل وتلك الإشارة السامية بالموافقة، على أنها تطور كبير في المسار الصحيح، لكن يبدو أن هؤلاء تناسوا أركانا أساسية في العمل المهني وتنظيم شؤونه وشجونه أهمها أن العمل النقابي لا ينشأ بقرار حكومي ولا تنال شرف الموافقة عليه سوى السلطة القضائية والتشريعية حيث يتم تنظيم أعماله عبر استقلالية محايدة، فلا هو عمل يقع تحت مساءلة الحكومة، ولا يقع في دائرة اختصاصاتها بل هو عمل أهلي يقبل عليه مواطنون يريدون تنظيم أمورهم وحماية واقعهم ومستقبلهم المهني.

وحين يتدخل وزير الإعلام فيوافق على إنشاء تجمع للصحفيين، فإن ذلك تطفّل غير مسبوق ولا يعني سوى أبوة في غير محلها، فما للوزير وشؤون الصحفيين الداخلية خاصة أنه يقضي جل وقته في رقابته لهم، ويعمل على سلامة وقوة الحاجز الذي يمنعهم من ممارسة عملهم في حرية مسئولة. فالوزير حين يومئ بموافقته السامية، ويعين من طرفه أحد المقربين لسلطة ولي أمره رئيسا للجنة التحضيرية المكلفة من قبله بإنشاء الهيئة.. لا يعدو عن كونه يتصرف وكأن الهيئة إدارة داخل وزارته. وحينما يختار شخصا مقربا من ولاة أمره رئيسا فهو ينتهك حق الصحفيين في اختيار من يشرف على أعمال هيئتهم في أهم مراحلها وهي تأسيسها.

وقد يجد الصحفيون السعوديون العذر لوزير الإعلام السعودي في تصرفه هذا، فهو إبن لبيئة ديكتاتورية تمارس سلطاتها وكأن البشر في داخل حدودها رعية دهماء لا يستطيعون تنظيم أمورهم دون أن تمتد إليهم يد ولي الأمر الأذكى والأعرف، وكما يقول المثل الشعبي النجدي الشيوخ أبخص (أي أعرف)، فالوزير هو أعرف من الصحفيين بمهنتهم وشئون وظيفتهم، وهو الذي يحدد لهم بنود أعمال هيئتهم، بل لو تفضل وهو الأبخص في أن يعين مجلس إدارة هيئتهم من موظفيه الكثر الذين لا يحسنون سوى كتابة التقارير عن إعلاميينا لأراحهم من عناء الاجتماعات وتقليب الأمور وإنجاز الانتخابات.

مرّ تأسيس هيئة الصحفيين السعوديين بمراحل عديدة.. فالفكرة قديمة لكن لأن العمل المهني النقابي مرفوض جملة وتفصيلا من قبل الحكومة السعودية، فالتجمعات المهنية المستقلة تعتبر أمرا منكرا خاصة بعد احتجاجات عمال شركة النفط ارامكو في الستينات بعد نكبة حزيران 1967، جعلت هناك حساسية شديدة لدى النظام من هذه التجمعات، ولم يسلم منها سوى نقابة السيارات في مكة والتي أصبحت في وقتنا الراهن نقابة للتجار لا للعمال.

وبعد أن حدثت كارثة 11 سبتمبر وبدأت الأعين الحمراء الأمريكية تتفحص الثوب السعودي بتمعن، بدأ التحرك المزوق لتأسيس هذه الهيئة حتى ترد هجمات تشير إلى كبت الحريات الإعلامية إلى درجة أن الإعلاميين لا يتوفر لهم كيان مستقل يرعى مصالحهم. ولم تقبل وزارة الإعلام ممثلة بوزيرها رغبة مهنية بحته بل هي التي أومأت بإشارة خضراء لثلة من الزملاء أن يسعوا لإنشاء هيئتهم، وأغرب ما في الأمر هو أن أي عمل نقابي مهني يبدأ بأن يجتمع أبناء المهنة ويكونوا نواة تعمل على توسيع وإنشاء مشروعهم النقابي.. لكنه في المملكة بدأ باجتماع بين وزير الإعلام وشخص واحد مقرب من الأسرة المالكة والذي منحه الوزير بأمر من وزير الداخلية البطاقة الخضراء لإنشاء الهيئة واختيار مسئوليها ممن ليست لديهم الرغبة في الكفاح من أجل حرية التعبير، إذ ليس لديهم سوى الكفاح من أجل الحصول على اكبر قدر من الشرهات من الأمراء.

حينما تشرف حكومة ما على نشاط نقابي فهو قمة الكذب على النفس والذات المستقلة، وبالتالي لا يرجى من الذئب خيرا إذا منح حق الإشراف على حظيرة الأغنام. وهم يريدون من هذه الهيئة أن تكون حظيرة للأغنام. وعوضا عن أن ينتظم صحفيونا في جبهة تكافح من أجل حقنا الطبيعي في التعبير عن هموم شعبنا وان تكون لدينا القدرة على انتزاع مكاسب مهنية ليست محصورة في تحسين أوضاعنا المادية بقدر ما هي في توفير بيئة قانونية ومهنية تشجعنا على أن نؤسس مرآة إعلامية حقيقة ترعى مصالح مواطنينا، يريدون من هذه الهيئة أن تكون ملحقا صغيرا في الحوش الخلفي لوزارة الإعلام السعودية، وهو ما لا يقبله معظم الصحفيين السعوديين ولن يرضوا لهيئتهم أن تكون هشة تهتم بالأمور الشكلية، وتتفانى في أن تكون غطاء للقمع الفكري والإعلامي، وان يشكل خريطتها ضابط من المباحث العامة.

تحديد وزارة الإعلام السعودية مهمة الهيئة أمر لا يقبله عاقل، فما هو هذا الكيان التافه الذي يراد من إعلاميي بلادنا أن يرقصوا فرحا لمنة تأسيسه؟ وهل عليهم أن يتجاهلوا أن الرئيس المعين من الدولة هو طرف ومالك لمؤسسة إعلامية، بينما تريد الحكومة أن تؤسس هيئة تنظم العلاقة بين الصحفيين والمؤسسات الصحفية، وهل يعدو هذا عن كونه استمرار في نفس المنهج والنمط المتخلف في أن الشعب العامل ليس سوى إمّعة وأبنائه جهلة يجب أن يدير أمورهم وان يكون الحكم عليهم أحد الشيوخ الباخصين في الأمر، حتى لو كان هذا القطاع العامل ممن يفترض فيهم الثقافة والمعرفة. إن الأمر لا يعدو كونه حلقة ضمن سلسلة النصيحة في الأذن وبعد الأذن التي تحدثنا عنها سابقا.

يعتقد بعض أخوتنا العرب ممن يهمهم أمرنا بحكم اللحمة والصلة والشفقة أن أمورنا تتحسن، وما قبول الأمير عبد الله لقاء بعض الموقعين على وثيقة الإصلاح سوى إنجاز لا يشق له غبار، وكأن أخوتنا ممن خرجوا من قصر الأمير وجدوا تغيرا كبيرا ولم يصلوا إلى منازلهم إلا والراديو الرسمي يعلن لهم دعوة الأمير عبد الله إلى مؤتمر وطني للإصلاح كما طالبت به الوثيقة التي سلمت له وعبر هو في المقابل تأييده لمطالبها. كما أن الإجراءات تتسابق في الانهمار إذ سيعلن عن انتخابات لمجلس الشورى وتخلي بعض الأمراء عن وزاراتهم السيادية التي بقوا فيها عقودا من الزمن، حتى أن بعضهم يعتبر ممتلكاتها العقارية ملكا له بحكم وضع اليد وإحياء الأرض.

الحرية هي ما يفتقده أبناء شعبنا وليس صحفيوه فقط، وقبل أن تتلطفوا وتنشئوا له هيئة تسيطرون بها على أنفاسه، اجعلوا من حق هذا الشعب أن ينتخب هيئة لعمال النفط في الظهران وأخرى لصيادي السمك في جازان، وثالثة لمربي الإبل في الجوف، ولا تتدخلوا في الأمر. كفوا عن الوقوف أمام انتخاب مجلس الشورى ذي الصلاحيات الدستورية حتى يذهب أبناء شعبنا إلى المجلس الذي يمثلهم كي يطلبوا منه الأذن ويعرضوا عليه بنود تشغيل هيئاتهم ثم يختاروا من يديرها. أما أنت أيها الوزير، فقل لي بالله من منحك حق التدخل في شؤوننا، ومن أمرك بالابتعاد عن طبلتك المسبحة بحمد الحاكم بأمره، ومتى ستقتنع وتفهم بأن الحرية الدستورية أولا ثم فلتأت الهيئات وغيرها، ولكن من باب غير بابك المثقوب.

 

* المشرف العام على المركز السعودي لدراسات حقوق الإنسان