ملاحظات وقضايا
الجيل الثالث في العائلة المالكة وقضايا الإصلاح
مرتضى السيد
تشير كثير من تعليقات المراقبين المحليين والأجانب الى حقيقة أن رجال
الحكم الحاليين في المملكة لا يتمتعون بالقابلية لأن يتقبلوا التغيير
والإصلاح السياسي. ومبررات هؤلاء تعتمد على بعض الأسس العلميّة
المتعارفة، من بينها:
1 ـ أن للسنّ أحكامه. فدعاة التغيير هم في الغالب (وليس دائماً) من
الجيل المتوسط في العمر، وكذلك الجيل الشاب. الجيل القديم ـ إن صحّت
التسمية ـ هو جيل تشكّل على نمط من التفكير، وعلى ممارسة نوع من
السياسة المحافظة التي تميل الى إبقاء القديم على قديمه، والإستمرار
فيه حتى النهاية. والجيل الحاكم في المملكة (الجيل الثاني/ أبناء
الملك) والذي يمسك بمفاصل السياسة هو جيل قديم، قد يتمتّع بالحكمة في
معالجة بعض القضايا، ليس بينها قضايا التغيير السياسي التي تتواءم مع
طبيعة الأجيال الشابّة المحكومة. الملك يبلغ من العمر 82 عاماً، وعبد
الله في الثمانين من عمره، وسلطان وسلمان ونايف في أواسط وأواخر
السبعينيات من العمر، فضلاً عن مشعل وبندر وغيرهما، حيث تخطى الثاني
حاجز الثمانين.
2 ـ إن الجيل القديم، لم ينل حظّه من التعليم والتأهيل، فكلّهم قد
تخرّجوا من مدرسة
)الوالد
المؤسس!). أقصى ما وصل إليه بعض هؤلاء هو التعليم المتوسط، وأكثرهم
الإبتدائية، ولكنهم حصلوا جميعاً على عدد من الدكتوراة (الفخرية)! إن
نوعية التعليم الذي تلقّاه هؤلاء، هو التعليم التقليدي، والذي لا
يمكن الإفادة منه إلا في مجال القراءة والكتابة، وأكثر الأمراء
الحاليين لا يميلون الى القراءة أصلاً، اللهم إلاّ متابعة المقالات
التي تكتب في مديحهم أو ضدّهم، ويحبّذون المختصرات، لا ضنّاً بوقتهم
الثمين، ولكن عن كسلٍ وربما جهالة.
السنّ كما التعليم المحافظ والمتدنّي لا يشجعان وقد لا يتواءمان مع
التغيير، الذي يرسمه في البداية الإستعداد الذهني والقابلية العلمية
قبل أن يتحوّل الى سياسات في المجال السياسي والإقتصادي والإجتماعي.
3 ـ الخبرة المفترض اكتسابها من الحكم طيلة عقود من السنين، ممارسة
أو متابعة عن قرب، والتي يتمتع بها الجيل القديم، هي خبرة ناقصة. أي
أن قدر استفادتهم من الخبرة يعتمد على استعداداتهم وملكاتهم الخاصّة
قبل أن تكون تلقيناً من الآخر، أو نصيحة منه، وهذان الأخيران ليسا
موجودين في الأساس؛ فالحكم شأن خاص بالعائلة المالكة، ولا يستطيع
أقرب المقربين إلا الإقتراب على وجل للتدخّل في هذه المسائل، وبحدود
ضيقة للغاية.
كما أن هذه الخبرة ناقصة من جهة أن تفسيراتها للحوادث المستندة إليها
والتي تشكل مفاصلها، إنما هي تفسيرات ناقصة وخاطئة. فمثلاً قد تدفع
خبرة الأمراء الحاليين في التعاطي مع دعاة الإصلاح الى تكرار النهج
القديم الذي نجح، ولكنهم قد لا يحيطون بكامل أسباب نجاحهم والظروف
الموضوعية التي نتج عنها تخطيهم للمشكلة. قد لا يدركون اليوم وهم
مستمرون في سياساتهم القديمة مقدار التحوّل النفسي والذهني في
المجتمع السعودي. أي أنهم قد يسيؤون فهم الوضع، ولا يقدّمون له
بالتالي إلاّ حلولاً جرّبت سابقاً وثبت نجاحها، ولكن تلك الحلول لا
تصلح اليوم لها. إن استيعاب الأمراء الحاليين لحجم المشاكل وفهمها
وتصوّر نتائجها ليس واضحاً، وقد يرى بعض المحللين عكس ما نقول، الأمر
الذي يوقفهم عن إبداع الحلول للمشاكل المستجدة حيث تتساوى وتتشابه
لديهم القضايا، ويتصورون أن حلولها بأيديهم وبصورة سحرية، كما في
الماضي. وقد يهوّنون من حجم المشكلات، ويبالغون بقدراتهم، نظراً
للثقة بالنفس المتراكمة خلال العقود الماضية، فيقعون في شرك الأخطاء
المميتة.
لهذه الأسباب فإن الحاكم المصلح في المملكة الذي يرفع راية التغيير
ليس موجوداً بين الطاقم الحاكم حالياً.
ونظراً للتطورات الطبيعية المتوقعة، فإن المنون قد يتخطّف الأمراء
واحداً تلو الآخر، بسبب تقارب الأعمار، مما يعني عدم استقرار شديد في
النظام، شبيه لما حدث في عقد الثمانينيات في الإتحاد السوفياتي،
والذي أدّى الى إلقاء الحمل على واحد أكثر شبابية من أعضاء اللجنة
المركزية للحزب الشيوعي، وهو غورباتشيف، فبدأ بإصلاحات متأخرة قادت
الى نهاية الإتحاد المعروفة اليوم.
كثيرون يقولون أن أمراء العائلة المالكةمن كبار السن الماسكين بزمام
السلطة هم أعضاء اللجنة المركزية العجزة والمعارضين للإصلاح، وهناك
من يتوقع نهاية مشابهة للدولة ونظام الحكم في المملكة لأسباب مشابهة.
ربما لهذا السبب تجدّدت الدعوات في الآونة الأخيرة من داخل العائلة
المالكة (طلال) ومن خارجها للإسراع بتسليم الجيل الثالث (جيل
الأحفاد) مقاليد السلطة، فالنظام السعودي قد شاخ وقد يموت في أي
لحظة، ومن هنا فالدماء الجديدة قد تعيد له بعض الحيوية، وإن كان
الجسد مهترئاً.
هذه الدعوات تستحق التأمّل والنقاش، لمعرفة ما إذا كان الجيل الثالث
قادراً على تحقيق ما عجز عنه الجيل الثاني، الجيل القديم، جيل
الآباء. وهذا التأمل يمكن شرحه في النقاط التالية:
أولاً: إن الجيل الثالث ـ ومن الناحية الواقعية ـ يساهم في السلطة
منذ مدّة طويلة، ولكنّه حظي بقدر كبير منها في السنوات الأخيرة.
فإضافة الى الأسماء المعروفة (سعود الفيصل وزير الخارجية، والأمير
بندر سفير السعودية في واشنطن، وعبد العزيز بن سلمان وكيل وزارة
النفط، وفيصل بن سلمان وكيل وزارة الاعلام، وتركي الفيصل مسؤول
الإستخبارات السابق والسفير الحالي في واشنطن، وقبلهم عبد الله
الفيصل أول وزير داخلية، محمد بن فهد أمير الشرقية، وسعود بن فهد
نائب رئيس الإستخبارات، وفيصل بن فهد رئيس رعاية الشباب السابق،
وأخوه سلطان الذي حل محله، وأخوهما الآخر سعود بن فهد نائب رئيس
الإستخبارات، وسعود بن نايف نائب أمير الشرقية، وقبله فهد بن سلمان
نائب الشرقية، وعبد العزيز بن فهد الإبن المدلل للملك الذي أصبح وزير
دولة.. وآخرين كثر).. إضافة الى هؤلاء تمّ تعزيز هذا التوجه خلال
السنوات القليلة الماضية بتحويل كثير من الصلاحيات من الأمراء الكبار
الى أبنائهم كلٌّ في موقعه.
فالأمراء المتصارعون على السلطة لا توجد لديهم رغبة في التنازل، إلاّ
إذا كانت لأبنائهم، وأبنائهم المدللين: فالأمير نايف منح إبنه محمد
صلاحيات واسعة في وزارة الداخلية، تحت مسمّى مساعد وزير الداخلية
للشؤون الأمنية، فأصبح الرجل الأول بعد أبيه، وكثير من أعمال أبيه
أوكلت إليه، فهو من الناحية الفعلية رجل الوزارة، متخطيّاً في ذلك
عمّه الأمير أحمد نائب وزير الداخلية، كما تخطّى كلّ الضباط الذين
استاؤوا من تعيينه، وبينهم رئيس المباحث السابق
صالح الخصيفان.
الأمير سلطان تنازل لإبنه خالد على حساب أخيه في وزارة الدفاع، أي
الأمير عبد الرحمن نائب وزير الدفاع، ومنحه فرصة إدارة الوزارة تحت
مسمّى مساعد وزير الدفاع. تكرر الأمر نفسه مع ولي العهد حيث عيّن
إبنه متعب مساعداً لرئيس الحرس الوطني وهكذا.
إن تحويل السلطات الى الأبناء على النحو الذي رأيناه، يعني إدامة أمد
الصراع على الحكم بين الجيل الثالث، وممارسة لذلك الصراع في حضور
الآباء وتحت إشرافهم. ومع أن تنازلات الكبار لأبنائهم كبيرة إلا أنهم
لازالوا المقرر الأول في وزاراتهم. ومن الواضح أن تلك التنازلات لا
تعني قرب تخلّيهم عن الوزارة، ولا حقّهم في أن يصبحوا ملوكاً.
فالفلسفة القائمة بينهم، تعتمد تحويل كل وزارة الى مزرعة خاصة يرعاها
الأمير وأبناؤه، ومن خلالها يتصارع مع الآخرين للوصول الى كرسي
الملك، أو ينازع المنافسين من أجل مزيد من السلطة.
إذن، فالقضية ليست انسحاباً (تكتيكياً) من السلطة، بقدر ما هي إقتحام
لها وتعزيز للوجود أمام الوجودات الأخرى. لهذا السبب بالتحديد، تبدو
سياسة المملكة منذ سنوات قلائل وقد خرجت من إطار ثنائية الأجنحة
(جناح الأمير عبد الله، والجناح السديري) الى تعددية الأجنحة داخل
الجناح الواحد، وخاصة السديري منه. أي أننا أقرب الى حالة أشبه ما
تكون الى تشرذم السلطة منها الى أي أمرٍ آخر: إصلاحاً أو تغييراً، أو
نقل سلطات.
إن تحويل السلطات الى الأبناء، محاولة جديدة لإعادة حصحصة السلطة وفق
موازين قوى متغيّرة. وهذا لا يتمّ كما هو واضح على أسس التراضي
والمساومة، بل على أساس تعزيز القلاع، كلّ في وزارته وما يستطيع أن
يحققه من نفوذ خارجها. إذن فالجيل الجديد يدخل لعبة الصراع على
السلطة الى جانب الآباء وضد الأعمام وأبناء الأعمام. وهو إذ يُمنح
بعض الصلاحيات لا يسمح له بالإستقلال بنفسه في صناعة القرار، ولا
ابتداع قرار جديد بالضرورة، وإنما للإستفادة منه كمخزون بشري مضمون
الولاء في المعارك القادمة.
ثانياً: إن الجيل الجديد وإن كان أكثر حظّاً من ناحية التعليم، فإن
الكثير منهم (ليس كلهم) قد حصلوا على الشهادات ومن جامعات محلية،
ولكن بدون دراسة، وبدون اختبارات، وكثيرون حصلوا على مرتبة الشرف
أيضاً! هذا أيضاً ليس أمراً مدّعى، فأساتذة الجامعات في كل المملكة،
وخاصة جامعة الرياض، وبالتحديد قسم العلوم الإدارية (السياسة
والقانون) يعرفون من تعلّم من الأمراء ومن تخرّج بالواسطة وبدون
دراسة.
في العموم إن ميل الأمراء الجدد للتعليم قليل بالقياس الى نظرائهم في
السنّ. قد يعوّض البعض هذا النقص من خلال الدروس والمدرسين الخاصّين.
لكن الجديّة هي ما ينقص أكثرهم، ويعوّلون على الممارسة أكثر من
التعليم نفسه. القليل منهم حصل على شهاداته عن جدارة، والأقل حصل على
شهادة دراسات عليا ومن جامعة غربية تحترم نفسها.
المهم، رغم تعلّم الكثير منهم داخل وخارج المملكة، فإن الذهنيّة
الحاكمة بين الأمراء الجدد (الجيل الثالث) لا يشكّلها إطلاعهم
وثقافتهم الحديثة، بل التربيّة الملكيّة الخاصّة، التي تملي مسافة
واسعة بينهم وبين الجمهور، والتي ترى الدولة ملكاً خاصاً والحكم
شأناً عائلياً. لن تجد بين الأمراء الجدد من يدعو الى ديمقراطية أو
حرية أو حقوق الإنسان. لم نسمع من سعود الفيصل ولا أخيه خالد، ولا
محمد بن فهد، ولا خالد بن سلطان، ولا الوليد بن طلال، ولا وزير
الدولة عبد العزيز بن فهد ولا غيرهم، ما يشير الى أنهم نسخة مختلفة
عن آبائهم. في الحقيقة فإن كلّ ما ينقل عنهم في الصحافة المحلية
والأجنبية يؤكّد أنهم خلفٌ بلباس جديد لا تعدو نسخة من أسلافهم.
إضافة الى ما نشهده من أدائهم في مؤسساتهم ومواقعهم الرسمية، فإن كلّ
ما تسرّب من معلومات عن ممارساتهم مع المواطنين وآرائهم الخاصة لا
يشير في المطلق الى أن هؤلاء الأمراء من الجيل الجديد أصحاب نزعة
تحديثية أو إصلاحية. حقاً.. هناك من يرى عكس هذا تماماً ويفضلون
الجيل الحالي القديم بدلاً من رعونة الجيل الثالث.
وهذا ما يدفع الى الإعتقاد، بأنه لو حدث وانتقلت السلطة الى الجيل
الثالث، فإنهم ـ حسب ما نعرفه حتى الآن منهم ـ لن يمثّلوا الدم
الجديد الذي تحتاجه الدولة، ولن يختلف عطاؤهم عن سلفهم إلاّ من جهة
الأسوأ. نعم يختلف الجيل الثالث عن الثاني في أمرٍ واحد ملاحظ، وهو
أن قدرة بعض أفراده على تبرير بقاء الوضع السياسي جامداً، وكذلك
تبرير الأخطاء في الممارسة وفي السياسات أكثر بكثير من الجيل الثاني.
ربما هذه هي مهمّة الجيل الجديد: إخراج السياسة السعودية للإعلام
الأجنبي بحلّة جديدة، وبلغة جديدة وبتبريرات جديدة، كما يفعل الأمير
بندر في واشنطن، والأمير تركي الفيصل وسعود الفيصل ونظراؤهم ممن
يجيدوا اللغة الإنجليزية.
ثالثاً: من زاوية السنّ، فرغم الفوارق الواضحة، إلاّ أن كثيراً من
أبناء الجيل الثالث يكبرون أعمامهم بسنوات، بل أن بعضهم أكبر من
الملك نفسه (عبد الله الفيصل نموذجاً). ومع ذلك فأعمار الكثير منهم
ليست صغيرة: فسعود الفيصل يبلغ من العمر 63 عاماً وكذلك خالد الفيصل،
وأخوه تركي 60 عاماً، وبندر بن سلطان 54 عاماً، وخالد بن سلطان 56
عاماً، ومتعب بن عبد الله 56 عاماً. الشباب حقاً هم: محمد بن نايف،
وعبد العزيز بن فهد، فهذان في حدود الثلاثينات من العمر،
وبقية المشهورين منهم في أواخر الأربعينيات والخمسينيات مثل الامير
محمد بن فهد 49 عاماً، سعود بن نايف 45 عاماً، سعود بن فهد 53
عاماًَ، سلطان بن فهد 52 عاماً.
فارق السنّ واضح إذن، لكن أثره سيكون محدوداً في التأثير عليهم من
جهة تحقيق الإصلاحات السياسية المطلوبة، هذا إذا سمح الزمن باستمرار
النظام سالماً، وإذا لم يُجبر مبكراً على التغيير، وإذا ما تحوّلت
السلطة فعلاً الى هذا الجيل الثالث، وهو أمرٌ مشكوك فيه كثيراً ولا
ينبغي بناء آمال بشأنه.
المملكة تمتلك الكثير من الطاقات، ولم يكتب الله عليها أن تحكمها
العوائل واحداً إثر الآخر، سواء كان كبيراً أم صغيراً. فهناك مقاييس
شرعية (إن كان الأمراء يهمّهم الشرع) ومقاييس متعارفة بين الأمم لا
نعتقد الأمراء يؤمنون بها، وهي المساواة والكفاءة والإختيار الشعبي.
المسألة ليست كما يقول مثل خليجي: (لا يوجد في هذا البلد غير هذا
الولد). فالحكم شأن عام، وكل المواطنين لهم الحق في المساهمة فيه
والخيار يعود لرأي الجمهور فيمن يحكمه. أما الإنتظار، وتعليق الآمال
على هذا الأمير أو ذاك فضربٌ من الجنون. فلقد كان الجيل الثاني شاباً
من قبل، فماذا صنع قبل أن يدهمه العجز الفكري والبدني، وقبل أن
تتحوّل المملكة الى مقبرة للكفاءات ومرتعاً للفساد وعجوزاً تبحث عن
زوج شاب؟!
|