المعادلة الصعبة
إحباط خيار الإصلاح تعزيز لمبررات التطرّف

 خالد شبكشي

 المعركة التي تخوضها أجهزة الأمن في الداخل لاحتواء دائرة العنف الآخذة في الاتساع محلياً، وفي إطار إيصال رسالة واضحة للخارج بأن المملكة تقف في جبهة موحّدة لمواجهة الارهاب، من خلال تشديد الإجراءات الأمنية وشن حملات مداهمة لمراكز أو بؤر مشبوهة أو اعتقال لجماعات مصنّفة ضمن منظمات إرهابية.. هذه المعركة قد تتداخل أحياناً كمهمة لدى الاجهزة الأمنية وقضية الاصلاح السياسي التي تزداد الحاحاً على المستوى الشعبي، الى درجة تفقد المضطلعين بإدارة الوضع الأمني القدرة على التمييز بين أعراض الأزمة وخيارات الحل، وبين المنغمسين في دوامة العنف والمتطلعين نحو أفق حل يسهم في إخراج الدولة من أزمتها العميقة.

كيف تتعامل الحكومة مع الحوادث الأمنية وقضية الاصلاح يثير قضية جوهرية تندك في النظام المعياري لدى أهل الحكم في بلادنا، وكيف ينظر بعضهم على الأقل لمن يسوسون.

مسلسل العنف بإنفجاراته المتكررة وفي أشكال مختلفة يمثل تمظهراً وعرضاً لأزمة الدولة، بينما يمثل المطلب الاصلاحي جزءاً من حل وتسوية لتلك الأزمة، وهذا ما لا يود بعض الأمراء قبوله كتوصيف، بل ثمة إصرار على إدراج دعاة الاصلاح والمتورطين في أعمال عنف ضمن قائمة واحدة، أي قائمة الخصوم المناهضين للدولة واستقرارها الداخلي.

تعكس تصريحات الأمير نايف لجريدة عكاظ الشهر الفائت النزوع المتزايد لدى جناح المتشددين داخل العائلة المالكة الى إيقاف عقارب الزمن، والتوسل بمدّعيات أيديولوجية وتاريخية كانت ربما صالحة في زمان الفتح ولكن إعادة انتاجها وتعميمها في الوقت الراهن كفيل بتفجير صراع داخلي، فالقوة تفقد تأثيرها بمرور الوقت ما لم تلبس ثوباً زاهياً هو الإقناع بجدارة أهل القوة والقدرة في الحكم، بل قد يكون أهل الحكم في بلادنا بمسيس الحاجة الى الاقناع أكثر منهم الى استعمال القوة وخصوصاً مع إنكسار شوكة الدولة وتصدّع الهيبة منها كما تترجمه الأحداث الأمنية المتلاحقة خلال العقد الأخير.

تفسير الحملة الأمنية المتصاعدة لاستئصال بؤر إرهابية كامنة أو مرشحة للانفجار بات معروفاً، فالمملكة التي تخشى النتائج الوخيمة لحرب أميركية محتملة على العراق، وفي القلب منها خطر التدخل المباشر في الشؤون الداخلية للمملكة، تضاعف من جهودها لغرض البحث عن أو اكتشاف خلايا تابعة لتنظيم القاعدة واعتقال أفرادها، بهدف إقناع الاميركيين بأن لا حاجة لعمليات خاصة أميركية في الاراضي السعودية تحت عنوان ملاحقة الإرهابيين. وعلى أية حال، فإن نتائج عمل الأجهزة الأمنية لمواجهة حوادث العنف المتفرقة في أرجاء البلاد تثبت حقيقة أن غالبية حملات الاعتقال التي أفضت الى مواجهة مسلحة مفتوحة تؤكد إما على أن الإجراءات الأمنية سيئة للغاية، أو أن الضالعين في الأحداث على علم مسبق بزمان وصول ضبّاط الأمن، بحيث أن كل محاولات الاعتقال التي تمت مؤخراً أدت الى قتل بعض أفراد قوات الأمن، أو جرحهم أو عجزهم عن القبض على المتهمين. فهذا العجز الكبير ينبىء عن فشل الجهاز الأمني وخصوصاً في بلد له تاريخ طويل في إجراءاته الأمنية الصارمة.

فالمملكة تقع تحت ضغط مزدوج لحماية أمنها الخاص، الضابط لاستقرار السلطة، وأمن الغربيين والأميركيين بصورة خاصة. وسيشتد الضغط في حال نشوب حرب على العراق، حيث من المرشح زيادة إنفلات الاوضاع الأمنية، ولذلك فأجهزة الأمن تعمل بكامل طاقتها في الحرب على "المخلّين بالأمن" فهي تعتبر نفسها في مواجهة شاملة مع كل هؤلاء سواء كانوا من دعاة العنف أو دعاة الأصلاح السياسي.

ندرك تماماً تفسير الأمير نايف لتصعيد الحملة الأمنية الموجهّة لاحباط أي حوادث أمنية مرشحة، ولكن حين يراد سحب هذا التفسير على الاصلاح السياسي يبدو من الصعب حينئذ تبرير تلك الاستبطانات الحادة في لغة المناوئين للاصلاح داخل الاسرة المالكة.

كنا نأمل أن يكون الأمير نايف أشد الأشخاص تمسّكاً بالإصلاح، سيما وأنه وثيق الصلة بمصادر المعلومات الخاصة بالأوضاع الأمنية، وبالتالي فهو أقدر على تحليل وإستيعاب الأسباب الجذرية لمشكلات الأمن خلال عقد من الإضطراب الداخلي على الأقل. وكنا نأمل أن تُعقد المقارنة الصحيحة بين إعلان الأنظمة في مارس 1992 وردود الفعل الشعبية التي أعقبت ذلك الإعلان.

فقد أدرك المراقبون المحليون والأجانب بأن الإخفاق الناتج عن ضحالة المضامين الاصلاحية للأنظمة الثلاثة أفضى الى إنفجار عنفي تكبّدت الدولة سلطة وشعباً خسائره الباهظة.

ومن المؤسف حقاً أن يعاد اللجوء مجدداً الى نفس الموقف وأسلوب المناكفة ولغة النبذ، كسياسة تسببت في عقد من التوتر، أفقد الدولة جزءاً كبيراً من استقرارها وهيبتها، وكأن فحوى الرسالة التي يراد إيصالها تؤكد على أن ثمة إصراراً على الخطأ مهما كانت النتيجة. فالاستتار خلف لهجة التهديد والوعيد لن يكف ردود الفعل المنفلتة من زمام السيطرة الأمنية، أو يدرأ تفجر العنف بوتائر أشد مما هي عليه الآن. هذه السياسة كفيلة بشرعنة العنف وبتدشين مرحلة إنفلات أمني أخرى قد تزيد في آوار الإضطراب الداخلي.

الحقيقة الساطعة كما أظهرها عقد من التوتر، أن انحسار تيار الإصلاح يعني توفير مبررات خيار التطرف وتصاعد تيار العنف، ومؤسف القول بأن السلوك السياسي العام لدى العائلة المالكة (باسثناء الآمال المتقطعة المعقود على دور ولي العهد) من شأنه إخماد بقايا التطلع الى دور تاريخي يمكن للعائلة المالكة وبوجه خاص الجناح المتشدد فيها إرساء أسس عهد جديد من الاصلاح والرخاء والأمن.

فيما مضى من السنوات، كان المناهضون للاصلاح السياسي داخل العائلة المالكة مجهولي الهوية، وهذا جعل بصيصاً من الأمل متوفراً لدى السكان في توقع خيراً ما من أحدٍ ما منهم، بينما في الوقت الراهن، فالمعارضون للأصلاح يكاد يمثلون الأغلبية الساحقة من العائلة المالكة، باستثناء ما يتردد عن وعود مستقبلية بالإصلاح ستتحقق على يد ولي العهد حال اعتلائه سدة الحكم.