شروط
الانتقال الى الديمقراطية
(السعودية نموذجاً)
فؤاد ابراهيم
حين ينظر الى المملكة من زاوية متحولاتها الداخلية
الاجتماعية والاقتصادية، يواجه المراقب دفع المدعيات الخاصة
الايديولوجية أو ما يندرج في قائمة المثل والقيم التي يرجع اليها أهل
الحكم في إطار تسويغ سياسات معينة، أو تأكيد امتيازات سياسية
وتاريخية مزعومة أو حتى حقيقية. بيد أن المدّعيات وقائمة المثل
والقيم تلك تقدّم غالباً في سياق إثبات أهلية السلطة شعبياً، أي
اللجوء اليها بغرض إٌقناع المحكومين بحقانية من يحكمهم، فيما تبقى
ديناميكات التحول تزاول مهمة متقنة في بنى الدولة تحتياً وفوقياً.
نظرة خاطفة على سيرورة الدولة في الاطار
الجيوبوليتيكي للمملكة تكفي لإثبات التبدّل الجوهري في البنى التحتية
للمجتمع، وتبعاً له التبدّلات الجارية، وان لم تأخذ صفة الانقلابية
في البنى الفوقية للدولة. ولا بدّ أن سلسلة متغيرات ساهمت في إحداث
هذا التبدّل أو التحوّل، وهذا يعني أن التبدّل أو إن شئت الترقي
قانون يسري على كل الدول والمجتمعات. فعلى سبيل المثال، أحدثت عوامل
مثل التعليم والهجرة والاتصال بالمجتمع الخارجي وتوفّر المال بيد
الناس، تغيرات واضحة في القيم والنظام ومراكز الأشخاص في البناء
الاجتماعي .
والديمقراطية كأحد تعبيرات التحوّل الاجتماعي،
تشي أشكالها ودرجات انفعالاتها بذروة الوعي لدى مجتمع ما في لحظة
تاريخية معينة، كما تنبّه الى استكمال شروط الانعتاق من أغلال
الهيمنة بأشكالها المختلفة.
خط الانتقال الى الديمقراطية في أي بلد قد يكون
موحداً، فثمة شروط واضحة ومحددة لا بد من تحققها كيما يكفل خروج
مولود ديمقراطي مكتمل النمو. في مقابل هذه الشروط هناك قوى وتيارات
معاكسة تحاول إبطال مفعول شروط الانتقال السلمي والهادىء نحو
الديمقراطية، وإن كانت تلك المحاولات تفقد بمرور الوقت القدرة لأن في
ذلك إيقافاً للزمن.
وبحسب أنصار نظرية التحديث فإن ثمة عدة عوامل
تسهم في الانتقال الى الديمقراطية على النحو التالي:
1 ـ التعليم
مساهمة التعليم في عملية الانتقال الى الديمقراطية
لا تعني فقط إنخفاض نسبة الأمية في مجتمع ما، وعليه إرتفاع تعداد
المتعلمين، بل بما يحمله الانخفاض والارتفاع من مدلولات سيسيولوجية
وثقافية وقيمية وسياسية وحتى إقتصادية، فالتعليم يسهم بدرجة فعّالة
في تشكيل المجتمع وإعادة صياغته وفق متطلبات جديدة راهنة ومستقبلية.
يذكر الدكتور الغامدي في كتابه "البناء القبلي
والتحضر في المملكة العربية السعودية" أنه في عام 1947 تم انشاء
مدرسة في بني كبير، وكان ذهاب الأولاد الى المدرسة قد أخلّ بالنظام
الاقتصادي حيث كان هؤلاء الأولاد يشاركون عوائلهم في الزراعة وتربية
الماشية، وكان الصراع حاداً بين الأولاد وعوائلهم بشأن التعليم،
وكانت النتيجة أن اضطر عدد كبير من الأبناء الشباب الى الهجرة الى
المدن القريبة كالطائف ومكة المكرمة وجدة وكانت تلك بادرة لتقتيت
الوحدة القبلية.
وفي اقتفاء الآثار السياسية لمجمل النشاط
التعليمي، فإن ثمة تكسيراً تدريجياً لاحتكارية السلطة تم كنتيجة
لتنامي المستوى التعليمي في المملكة، فمن بين 64 وزيراً ووكيل وزارة
في الحكومة عام 1979 كان 19 منهم من حملة الدكتوراة، وقد ارتفع عدد
الوزراء التكنوقراط من 6 وزراء عام 1965 الى 16 وزيراً عام 1982.
وفي ما يتعلق بعدد الطلاب، فقد تزايد بمعدلات
مرتفعة للغاية. ففي العام 1975 كان عدد الطلاب في المدارس الحكومية
يصل الى 760 ألفاً بينما يقدر عدد الطلاب هذا العام 2003 بنحو 4
ملايين طالباً يتوزعون على المراحل الدراسية الابتدائية والمتوسطة
والثانوية، يضاف الى هذا العدد ما يربو عن نصف مليون من حملة شهادة
البكالوريوس ونحو 130 ألفاً من المتخرجين من الجامعات الأميركية خلال
الثلاثين سنة الأخيرة.
فدور التعليم في الانتقال الى الديمقراطية، كما
تشير المعطيات السابقة، ينبىء عنه هذا العدد الكبير من المتعلمين،
وتالياً إنفتاح ما يربو عن نصف السكان في المملكة على قيم وأفكار
وتقاليد مختلفة، الأمر الذي سبب شرخاً غير قابل للرتق في النظام
القيمي المحلي. الديمقراطية لا تنشأ في مجتمعات تسودها الأمية
بالمعنى الضيق والواسع للكلمة، وإنما يتوقف تبرعمها وترعرعها على
وجود قاعدة عريضة من المتعلمين تكون قادرة على وعي بالمفاهيم الحديثة
وبطرق التعامل معها وبوسائل حمايتها. التعليم يفرز نخباً حديثة
بمفاهيم ومعايير وقيم مختلفة، تميل الى إقصاء النخب التقليدية
(العشائرية والدينية) وتشرعن نفسها وفق منظومة مختلفة من المبررات.
2 ـ التمدين (العمران)
عملية التمدين كعملية شاملة وممتدة تمثل أحد
التجسيدات البارزة للتحولات الذهنية (إضافة الى التحولات الاقتصادية
والاجتماعية) في المجتمع، وبالتالي فهذ العملية تسهم في إرساء أسس
نظام ثقافي وقيمي جديد. في المستوى المباشر للعملية التمدينية كان
قطاع البناء، من منظور دوره في التنمية الاساسية وتشكيل رأس المال
عموماً، القوة الرئيسية في الاقتصاد غير النفطي، ليس في مجال انتاجها
فحسب وانما في تكوين متطلباتها في الانتاج المحلي وصناعات التنمية.
كانت فعاليات البناء من أغلب الوسائل الفاعلة في مجال توزيع المصادر
الاقتصادية وتوفير فرص العمل في أرجاء المملكة رغم أنها كانت في
مجملها أجنبية.
كانت الحكومة الزبون الأكبر (بنسبة 67 بالمئة) في
قطاع البناء خلال الخطط الخمسية الاولى، مثل (الطرق، سكك الحديد،
موانىء، مطارات، مواقع عسكرية، وتجيهزات، مستشفيات، مدارس، جامعات،
مشاريع البيوت السريعة، المجمعات الحكومية). في القطاع الخاص كانت
مجالات البناء محدودة في الفيلات والقصور والمجمعات السكنية
والتجارية والسفارات والفنادق والبنوك.
في مجال السكن كمثال بارز، فإنه بنهاية عام 1989
كان هناك نحو 871,700 وحدة سكنية في المملكة منها 475,700 وحدة سكنية
خاصة، تم تمويلها بمساعدة حكومية عبر صندوق التنمية العقارية، ومنها
154,374 وحدة سكنية كانت في القطاع الخاص تم تمويلها بشكل خاص، وفي
القطاع العام 221,600 وحدة تم تمويلها من قبل مؤسسات حكومية مختلفة
ووزارات لموظفيهم، ومنها 20,026 وحدة بنيت من قبل وزارة الاشغال
والاسكان.
برامج التمدين هذه ساهمت بدرجة نشطة في التحول
الاجتماعي والعبور بالسكان من نظام معيشي واجتماعي الى آخر، فحسب
احصائيات وزارة الشؤون البلدية والقروية في بداية عام 1990 فإن 75
بالمئة من سكان السعودية تم توطينهم، وأن 22 بالمئة يعيشون في القرى
و3 بالمئة هم من الرحل.
حتى منتصف الثلاثينات لم تكن هناك مدن بالمفهوم
الحقيقي، سوى في الحجاز: مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف،
وما عدا ذلك يعد في حكم البلدات
towns
أو القرىvillages
. وفي أوائل الخمسينيات لم يكن هناك سوى مدينة واحدة يصل عدد سكانها
الى مائة ألف نسمة هي مكة المكرمة.
ويمكن إدراك دور التحضر أو التمدين في عملية
الانتقال نحو الديمقراطية من الميول المتنامية لدى المتحضرين في
النشاط السياسي التغييري، وحسب سافران: "فقد نظر السعوديون الى
المتحضرين كعنصر خطر لأنهم يتأهلون تدريجياً لمعارضة نظام الحكم
المستند على القبيلة المتمثلة في البدو، وقد ظهرت هذه الحالة في عهد
الملك سعود حيث بدأت تتشكل نواة التكنوقراط الحضر، فقد قال عنهم
أثناء عزله عن العرش بأن مصدر المشكلة الحقيقي هي المدن ـ جدة ومكة
والمدينة والرياض ـ بسب الناس المتعلمين فيها وطالب بعض مقدميه بأن
يحذروهم من مغبة القيام بحركة ثورية ضده، وأنه سيدع القبائل تحاربهم
وتمزقهم" .
التحضر، أي الإنتقال والعيش في المدينة، ليس
انتقالاً جسدياً محضاً، أو مجرد تغيير في طرق العيش، بل هو عملية
تحوّل ذهني وقيمي شديدة، تشمل كل شيء تقريباً من طرق المعيشة
والتعليم ونوعية العمل والأفكار والعلاقات العامة والنظرة الى الذات
ضمن الإطار الواسع في المدينة أو الدولة. ولهذا كلما كان المجتمع
ثابتاً مكانياً، كلما كان عرضة للأفكار الحديثة، ولانقلاب المفاهيم،
وللحاجة الى التطور وزيادة التطلع والطموح. ولأن المجتمع السعودي
يكاد يكون في معظمه اليوم مدنياً (بمعنى حضرياً) ثابت المكان والعيش،
خلاف وضعه قبل عقود قليلة مضت، فإن هذا مؤشر واضح الى حقيقة التطور
باتجاه التغيير السياسي.
لقد كان الأمراء السعوديون ينظرون الى توطين
البادية من زاوية أمنية قصيرة النظر، فهمهم الأول كان الضبط الأمني
للقبائل المترحلة.. ولكن استقرارها هي الأخرى خلقت مجتمعاً يحمل
أدوات التحديث ليصارع بها من جديد من أجل واقع سياسي مختلف أو طموحات
معيشية غير متحققة.
فالتمدين يمثل تحويلاً شاملاً في القيم، والعادات،
والأساسات الذهنية، وطرق التفكير، ووسائل اكتساب المعرفة وحتى سبل
الوصول اليها، أي بمعنى آخر، تشكيل المجتمع وفق متطلبات جديدة.
3 ـ التصنيع
في عام 1990 كان هناك 2,251 معملاً صناعياً مصرحة
رسمياً في الخدمة وتمثل رأس مال مستثمر بنحو 100,6 مليار ريال، يضاف
اليها عدة آلاف من الشركات غير المصرحة وتنتج مشروبات غازية وعصائر
ومنتوجات ورقية، ومنظفات، وآثاث، والمنتوجات البلاستيكية والحديد
والصناعات القماشية وغيرها. ومعظم الصناعات الخفيفة هي في جدة
والرياض والدمام مع أن هناك مجمعات صناعية في القصيم والهفوف ومكة
وتبوك وأبها والمدينة وخميس مشيط. وكان من المقرر خلال السنوات ما
بين 1990 – 1995 أن يتم تحويل غالبية المشاريع الانتاجية الى القطاع
الخاص وربما سيتم تحويل الكثير منها الى مناقصات مشتركة بين المصالح
الحكومية والقطاع الخاص.
ولعل الناتج الأبرز من الدورة الصناعية النشطة
التي شهدتها المملكة في السنوات الواقعة بين 1960 وحتى 1990 هو
الطبقى الوسطى، وتضم بداخلها ما يقرب من 6 ملايين عاملاً هم اجمالي
قوة العمل المدنية، يشكل فيها العاملون في الحقل الزراعي نسبة 10
بالمئة بالمقارنة مع 60 ـ 70 بالمئة في فترة ما قبل الطفرة النفطية.
وسنتعرض لاحقاً لتشكّل الطبقة الوسطى ودورها السياسي في مجمل أنشطة
الدولة.
ولكن ما يلفت اليه النشاط الصناعي هو ما يحدثه من
تغييرات ثقافية وإجتماعية وفي نظام القيم والسلوك للأفراد نتيجة تطور
الآلة المستعملة وتبدّل المادة المستهلكة، وبالتالي تحوّل النظرة الى
الاشياء من مستوى بدائي تنحبس في حدود المصلحة القريبة الى مستوى
التطلع نحو التغيير كعملية متصلة في الكون وفي النظم الاجتماعية
والثقافية ووصولاً الى السياسية. وإذا كان التصنيع في الغرب قد ارتبط
بنمو الديمقراطية فيه، فإن التلازم هذا يبدو أقلّ حدّّة في هذا
العصر، بالنسبة لدول العالم الثالث، فهناك دول غير صناعية نجحت في
التحول الى الديمقراطية، كما أن دولاً صناعية كبيرة كانت موجودة الى
وقت قريب (الاتحاد السوفياتي) كانت بعيدة عن التوجه الديمقراطي.
وعليه فليس كل بلد صناعي هو ديمقراطي، ولكن الصحيح
أن كل بلد ديمقراطي يشتمل ضرورة على قاعدة صناعية بدرجة معينة تؤهل
الدولة في بناء مؤسساتها، ونظامها الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي
تأهيل المجتمع الى مرحلة يكون فيها قادراً على امتلاك آليات استيعاب
التحول السياسي السلمي نحو الديمقراطية.
4 ـ النمو الاقتصادي (المداخيل)
زيادة مداخيل الدولة من 236 مليون دولار عام 1954
الى 102212 مليون دولار عام 1980 وفّرت قدرة هائلة على تنفيذ خطط
إنمائية اجتماعية واقتصادية، وتطلب ذلك توفير ايدي عاملة وتكريس بعض
المخصصات المالية للتعليم من أجل اعداد الأيدي العاملة التي ستتولى
ادارة العملية الانمائية الشاملة، إضافة الى ما يتطلبه نقصان القوى
البشرية في المملكة من حاجة الى عمالة أجنبية قّدّرت حسب الاحصائيات
الأخيرة بنحو 6 ـ 8 ملايين عامل .
سمحت الزيادة العالية في الموارد المالية بانفتاح
البلاد الى حد كبير أمام الاستثمارات الخارجية. في عام 1974 قدم الى
المملكة أكثر من 400 شركة أميركية وأكبر 35 بنكاً في أمريكا للمملكة
والحصول على عقود ببلايين الدولارات، وفي عام 1983 كان في المملكة
أكثر من 800 شركة أميركية و30 ألف أميركي .
سهل ارتفاع المداخيل سواء على مستوى الدولة أو
الأفراد إستيعاب منظومة قيم جديدة جاءت في هيئة معدات بناء، وأثاث،
ومستلزمات بيتية، وملابس، وإكسسوارات، وأدوات تجميل، وعطور، ومواد
إستهلاكية وأجهزة كهربائية والكترونية وغيرها، فلم يعد للقيم
التلقيدية سطوتها الكاملة في إدارة الذوق العام وتشكيل المفاهيم
والنظرات، بل صار "المتاع الجديد" يزفّ في موكب دعائي ليحتل مكانه
قبل أن يصل فعلياً الى أيدي المستهلكين الغرباء. وهكذا ولّد الانفتاح
على القيم الجديدة رغبة شديدة الضراوة من أجل استيعاب ما يقف خلف
المتاع الجديد من قيم ومبادىء، فكانت الديمقراطية هي مكافأة النمو
الاقتصادي.
5 ـ تشكّل الدولة:
بمعنى قدرة الحكومة على فرض سيادتها وسلطانها. إن
تكوين الدولة الحقيقي بدأ فعلياً في عهد الملك فيصل استناداً الى
التطور الملحوظ في المجالين الاقتصادي والاداري قياساً بأوضاع عهدي
المؤسس الملك عبد العزيز والملك سعود. فغياب عبد العزيز ثم سعود أديا
الى: أولاً: تأسيس جهاز الدولة، وثانياً استغلال أفضل للبترول. فقبل
وصول فيصل الى العرش عام 1964 كانت السعودية لا تزال بلداً فقيراً،
فلم تكن مداخيل الحكومة تزيد عن 500 مليون دولار وكانت نسبة كبيرة
منها تأتي من مصادر غير نفطية، وبصورة رئيسية الحج. وحتى الازدياد
الملموس في مداخيل النفط في نهاية الستينات لم يسمح بتحرك إنمائي
فاعل مقارنة مع العملية الانقلابية بعد عام 1973. فقد زحفت البلاد من
حافة الافلاس الى واحدة من أغنى عشرين دولة في العالم في عشرين
عاماً.
أدى التحديث الى توسع في جهاز الدولة الاداري من
أجل تنفيذ عدد كبير من المشاريع الاقتصادية والاجتماعية وتشكيل قوى
الأمن من أجل حماية البلاد والنظام. ففي 7 آذار ـ مارس 1954 عقد
ولأول مرة اجتماع مجلس الوزراء في الرياض ممثلاً في وزراء الداخلية
والتعليم والزراعة والصحة والتجارة والصناعة والمالية والخارجية.
إن تشكل الدولة وتمأسسها يتيح لها القدرة على
استيعاب القيم الديمقراطية ويجعل ممارستها ممكنة، كما أن توطيدها في
بنى الدولة يؤدي الى إتقان العمل بها. فالديمقراطية لا تنشأ أو لنقل
لا تمارس بصورة صحيحة إذا كانت الدولة غير مكتملة النمو، فمأسسة
الدولة بصورة شبه كاملة هي الضمانة الوحيدة لتطبيق الديمقراطية بحسب
أصولها. واجمالاً، فقد شكّل عقد الستينيات مفصلاً رئيسياً في تاريخ
المملكة حيث كان نقطة تحول في الواقع السياسي بفعل النشاط المحموم في
المجال التعليمي ودخول عناصر من المثقفين في التركيبة السياسية بفعل
ضغوط المد القومي في البلاد العربية، وبدأت البلاد تتجه بوتيرة ثابتة
نحو التحديث حيث لم تفلح جهود القوى المحافظة عام 1960 في مواجهة
التعليم للفتيات، وفي يوليو 1965 سقط الامير خالد بن مساعد في
الاضطرابات التي حصلت بعد افتتاح التلفزيون في كل من جدة والرياض.
وهذا يعني أن الحكومة استجابت لضغوط العصر والتحولات الخارجية ولم
تذعن للاتجاهات التقليدية الرافضة للتحول.
6 ـ الثقافة السياسية
تتولد الثقافة السياسية غالباً من: وجود الأحزاب
السياسية المرخصة لمزاولة نشاطات سياسية سلمية، وقادرة على طرح برامج
بديلة عن برنامج الحكومة للرأي العام، أو تتولد من المؤسسات
التمثيلية مثل البرلمانات بما يسبقها ويصاحبها من تحرك شعبي خلال
الحملات الانتخابية.
رغم أن الفترة الممتدة من 1932 وحتى الآن شهدت
ظهور أحزاب سياسية وحركات إحتجاج معارضة للحكومة سواء كانت محلية أو
خارج الحدود، الا أن الحكومة مازلت ترفض الاعتراف بهذه الأحزاب كواقع
يجب التعامل معه والسماح له بالنشاطً. ولذلك فإن الادبيات الحزبية
الموجّهة في الأصل لتثقيف الجمهور يتم تداولها بالسر، كما الحال
بالنسبة لتنظيم الأفراد.
وفي ظل إنعدام تجارب حزبية علنية أو مجالس
برلمانية حرة وديمقراطية، فإن مصادر الثقافة السياسية غالباً ما تكون
خارجية سواءً تكويناً ونشاطاً أو حتى توجيهاً. وبلا شك فإن الثقافة
السياسية في جانبها النظري بالنسبة للغالبية العظمى من السكان تأتي
عن طريق وسائل الاتصال الجماهيري، حيث تمثل الاخيرة مصادر توجيه
ثقافي لقطاع كبير من السكان، ففي عام 2002 كان هناك 8 ملايين
مستقبلاً للبرامج الاذاعية و 5,8 مليون للتلفزيون، وقد تزايدت هذه
النسبة بوتيرة عالية، فيما دخل الانترنت كوسيلة اتصالية متقدمة تجتذب
نحو مليوني زائر يومياً في المملكة. وليس ثمة حاجة للقول بأن المواد
السياسية المبثوثة عبر وسائل الاتصال هذه كفيلة بخلق مناخات احتجاجية
واسعة النطاق. وللتمثيل فقط، فقد نجحت قناة الجزيرة في تأجيج المشاعر
القومية والدينية لدى أغلبية السكان في المملكة ضد الكيان الاسرائيلي
والانظمة العربية إبان تساقط الشهداء الاطفال والنساء والشيوخ في
الضفة الغربية المحتلة برصاص قوات الاحتلال الاسرائيلية، حيث خرج
الآلاف في المنطقة الشرقية في مظاهرات استمرت عدة أيام، فيما شهدت
المناطق أخرى خضّات شعبية متفرقة في المناطق الوسطى والغربية من
المملكة. وهذا يثبت بأن الثقافة السياسية لدى الشارع السعودي قد بلغ
درجة من النضج تجعله مؤهلاً لممارسة الديمقراطية.
7 ـ مؤسسات المجتمع المدني
يتفق منظرو الديمقراطية بأن مؤسسات المجتمع
المدني وحدها الكفيلة بتهيئة ظروف نشأة وصناعة الديمقراطية وهي
الضمانة الأكيدة القادرة على حمايتها وصيانتها من غدر الدولة وأعداء
الديمقراطية. قدرة المجتمع على تخليق مؤسساته الاهلية بوظائفها
المختلفة، البعيدة عن سلطان الدولة، تؤهلها لامتلاك المبادرة في
تصنيع الديمقراطية وفرضها على الدولة بصورة تدريجية. ورغم أن مؤسسات
المجتمع المدني في السعودية لم تستكمل بعد تشكيلاتها النهائية، بحيث
تأخذ أبعاداً ثقافية وسياسية واجتماعية أفقية وعمودية، الا أن
المؤسسات الحالية في هيئة نوادي أدبية وثقافية ونسوية ورياضية
وتجمعات شبابية وحتى مؤسسات دينية ومساجد ومسارح وغيرها تؤكد الميول
المتنامية لدى السكان نحو الانضواء في مناشط جماعية قابلة تدريجياً
للتمأسس، ولعب أدوار تتجاوز الحدود الوظيفية المرسومة لها. وتكشف
العرائض المطالبة بالاصلاح من جماعات مختلفة، ومنتديات الحوار التي
تعقد في المجالس الخاصة أو حتى على شبكات الأنترنت، وكذلك الاشكال
الجماعية الاخرى مثل المظاهرات والتجمهر، هذه وغيرها من أشكال
التعبير الجماعية تكشف عن أن مؤسسات المجتمع المدني قد تشكلت في مكان
ما خارج الأطر الرسمية وهي تعبير صادق عن ميول السكان، وأن ما يقف
عائقاً أمامها هو الحكومة.
8 ـ المجتمع المنقسم إثنياً
درج بعض الباحثين على اعتبار السعودية بلداً
منسجماً في تكوينه الاجتماعي والايديولوجي، الا أن انخراط عدد من
الباحثين في مشاريع دراسة عميقة ومتخصصة استناداً على مصادر أخرى غير
رسمية من المعلومات ساهم في الاطاحة بزعم الانسجام، لتكشف نتائج
الدراسات تلك عن أن ثمة تنوعاً إثنياً وثقافياً وقبلياً ومذهبياً
يصبغ الخارطة السعودية. فالتنوع حقيقة لم تعترف بها الحكومة قانونياً
أو رسميا، لما في ذلك من التزامات ومتطلبات يجب أن تؤخذ في الاعتبار
مالياً وإدارياً وسياسياً، ولكن هذا التنوع قائم ويدخل في تكوين
الأفراد النفسي والفكري، وينعكس في لغتهم، وروابطهم، وأمثالهم،
وملبسهم ومأكلهم، وهو واقع يصعب محوه وبخاصة في ظل غياب هوية عليا
قادرة على استيعاب الهويات الفرعية أو لنقل تكييفها لمصلحة هوية
وطنية.
وقد تناول علماء الاثنيات والاجتماع السياسي
موضوعة المجتمع المنقسم إثنياً من زاوية المحاولات الرامية لامتصاص
توتراته الداخلية الحقيقية والكامنة، وصولاً الى وضع آلية محكمة
لصياغة علاقاته وإرساء أساسات متينة لإقامة نظام سياسي يكفل مصالح
الفئات المنضوية ضمن إطار جيوبوليتيكي محدد. ومن بين تلك العلاجات
المقترحة:
Consociational Democracy
أي الديمقراطية الاجماعية. ويحدد أرند ليجفارت، صاحب النظرية، أربع
مشخّصات لتعريف الديمقراطية الاجماعية: الاول: إقامة تحالف واسع
ويعني تشكيل حكومة تضم كافة الجماعات الاثنية. الثاني: فيتو مشترك
للأقليات في عملية صناعة القرار. الثالث: التمثيل الحصصي الاثني، أي
تخصيص فرص ومناصب محددة لكافة الجماعات الاثنية المنضوية داخل
الدولة. الرابع: الحكم الذاتي (الفيدرالية) والتي تمارس بموجبها
الجماعات حكماً ذاتياً يعبر عنه غالباً بالفيدرالية بخصوص الشؤون ذات
الإهتمام الخاص بهم .
ثمة جدل يثيره المناهضون لنظرية التحديث حيال
العوامل سالفة الذكر ويؤكدون على التفاعل الاستراتيجي، حيث الميل لدى
هذا الفريق يتجه الى التركيز على المصالح السياسية الآنية مقطوعة
الصلة بمقدمات من قبيل العوامل تلك. ويرى هذا الفريق بأن هناك
متغيرات رئيسية تلعب الدور الأكبر في الانتقال نحو الديمقراطية مثل:
1 ـ الوراثة او انتقال السلطة من شخص الى آخر:
الخلافة (succession).
لا يجب التعويل دائماً على موت ملك وقدوم آخر من أجل تحقيق عملية
الانتقال نحو الديمقراطية، رغم أنه لا يجب أيضاً إغفال القدر القليل
من التغيير الذي يأتي في أحداث كهذه، فقد حدثت جملة متغيرات مع رحيل
المؤسس وقدوم ابنه سعود كما حدث ذلك في العهود السابقة، ولكن هذه
المتغيرات التلقائية لا تمثل، بالضرورة وتماماً، استجابة كاملة للحظة
التاريخية أو للتطلعات الشعبية. وقد يبدو ضرورياً استعادة الانطباع
المتولد عن مركزة السلطة في السعودية شأنها في ذلك شأن أغلب الدول
النامية حيث أن الملك يمثل الرمز النهائي والكامل لمجمل النشاط العام
للدولة، وهذا ما يجعله الماسك بمفاتيح التغيير، الا أن هذا الأمر لا
يبدو دائماً سهلاً، فاختلال ميزان القوى وتبدّل شبكة التحالفات
الداخلية لا تسمح دائماً للملك بأن يمارس دور الحاكم بأمره، فالتاريخ
الذي وقف الى جانب الملك فهد، يصعب استمراره مع الملك القادم.
فالسلطة تتوزع في العائلة المالكة أكثر منها في شخص الملك، وهذه
العائلة تمد سلطانها الى ارجاء مختلفة من البلاد التي لا تزال غير
مندمجة بشكل ما، وهذا ما يجعلها حتى الآن في مأمن من انفراد الملك
القادم بالتغيير ومن المجتمع المنقسم على ذاته.. رغم أن ذلك لا يقلل
من قدرة السلطة المركزية الممثلة حصرياً في النظام الملكي على القيام
بالاصلاح الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، كما يذهب الى ذلك صموئيل
هنتغتون .
2 ـ العامل الخارجي، كالغزو من قبل قوى أجنبية
بحيث تفرض نظاماً ديمقراطياً أو شبه ديمقراطي: ومن أمثلة ذلك: هونج
كونج، اليابان، وأخيراً أفغانستان، وربما العراق لاحقاً، ولكن
الديمقراطية التي يأتي بها الاستعمار أو أي قوة خارجية لا تعدو أن
تكون ديمقراطية مرهونة بمصالح أجنبية، وإذا لم تتوفر الإرادة الوطنية
والقاعدة الثقافية والإجتماعية الصحيحة فإن أنوية الديمقراطية
واللبرالية ترحل مع رحيل المستعمر، وهذا ما حدث في بلدان عربية بعيد
رحيل الأستعمار.
3 ـ تحالف مصالح بين قوى سياسية متنافسة يفضي الى
ترتيبات داخلية تنتج في المحصلة النهائية نظاماً ديمقراطياً تعددياً.
ويضاف الى هذا العامل: الدور الدولي، حيث يمارس المجتمع الدولي سواء
في هيئة منظمات دولية أو قارّية أو تحالف سياسي أو عسكري تأثيراً
كبيراً على تغيير شكل السلطة في بلد العضو أو الحليف. المثال الأبرز
هنا هو مجموعة من الدول العسكرية الأوروبية التي أجبرت على تغيير
نظامها السياسي من أجل الدخول في السوق الأوروبية المشتركة (اليونان،
البرتغال، وحتى أسبانيا). والآن أمامنا نموذج تركيا التي تطلب
انضمامها الى الاتحاد الاوروبي تبني النظام الديمقراطي.
قد يكون العامل الخارجي معيقاً أحياناً، فوجود
أسرائيل، أو لنقل الصراع معها وفّر مبررات لخنق الحريات في العالم
العربي.. وهناك من يعتقد أن حل مشكلة الشرق الاوسط سيؤدي تلقائياً
الى الانتقال نحو الديمقراطية.
الطبقة الوسطى
تتشكل هذه الطبقة من الاساتذة في المدارس الحديثة
(ونؤكد على الحديثة للتمييز بينها وبين المدارس الدينية) وموظفي قطاع
الخدمات المدنية وايضاً العسكريين وأمثالهم. ويرى سافران بأن "من
الواضح أن الطبقى الوسطى الجديدة ـ في دول العالم الثالث ـ تنشأ
ابتداءً من نظم الحكم التقليدية للبحث عن (التحديث الدفاعي) ولكن في
نهاية الأمر تنزع هذه الطبقة لتصبح مجافية لأسلافها أو مؤسسيها
الأوائل ليبدأ ضغطها الدائم لتحديث أوسع لتتجاوز مجال امتياز الحكام
وهكذا الأسس الايديولوجية لسلطتهم" .
ثمة مخاوف حقيقية من قوة وتنامي هذه الطبقة التي
نشأت وترعرعت بداخل البوتقة الحكومية، فصراعها مع هذه الطبقة كان
واضحاً منذ الخمسينيات على أرضية (وعود الاصلاح) عام 1958 و(صراع
سعود وفيصل) عام 1960 وتفاصيل الصراع نفسه 1962، و(الحرب مع اليمن)
حتى عام 1970 وبعد المحاولة الانقلابية عام 1969، وهكذا الاحداث
التالية منذ اغتيال فيصل عام 1975 واحتلال الحرم عام 1979 وموت خالد
1982 وما جرى بعدها وحتى النشاط الاصلاحي الذي انطلق بعيد الغزو
العراقي للكويت أغسطس 1991 وحتى الوثيقة الأخيرة المرفوعة الى الامير
عبد الله في يناير الماضي.
والطبقة الوسطى ترتبط عادة بالنظام التقليدي الذي
أوجدها، وتتبع قيادته وفي مرحلة لاحقة تضغط للسير بسرعة أكبر في طريق
التحديث ويسير النظام وراءها.. إنما مع مخاوف متصاعدة، أما في
المرحلة الثالثة فإن مطالبها تتعدى على القيم الأكثر حساسية للنظام
التقليدي، ويتطور توتر جدي لكن طالما بقي النظام التقليدي ناجحاً،
تبقى الطبقى الوسطى الجديدة موالية أو معارضة بصمت. يقول سافران بأن
"الطبقة الوسطى الجديدة ولدت في رحم ملكية تقليدية تميل نحو صيانة
الأسس الدينية والثقافية والسياسية لحكمها، فيما تجري تحويلاً شاملاً
في الاقتصاد والبنية التحتية للمملكة".
الحكومة تجري التحويل المساوق للنمط التقليدي غير
المتعارض معه والذي يشكل تهديداً جديّاً لنظام الحكم في المملكة. فقد
كانت الدولة بحاجة لضخ كمية مال كبيرة في بداية نشأتها وانطلاقة
حركتها الانمائية في مجال التعليم من أجل تدريب القوى العاملة التي
تحتاجها المؤسستان الادارية والامنية، وقد وفّرت هذه القطاعات
الثلاثة المكونات الرئيسية لطبقى وسطى جديدة في المملكة.
يعتقد سافران بأن الضغط السياسي الذي تمارسه
الطبقة الوسطى الجديدة على النظام يمكن أن يستدل عليه بأفضل طريقة من
خلال الانبعاث المستمر لمشكلة "القانون الاساسي" وهكذا ما تكشف عنه
بجلاء العرائض المقدّمة من قبل دعاة الاصلاح في المملكة. فثمة اعتقاد
بأن من أكبر المشاكل التي تواجه الانظمة التقليدية هي كيفية إحتواء
العواقب السياسية للتحديث الاجتماعي والاقتصادي، فالنشاطات
الاقتصادية الحديثة، والعلاقات المتغيرة مع العالم الخارجي تنتج
أدواراً جديدة، وتولد حاجات لمهارات جديدة، ويقف أولئك الذين يتقدمون
لشغل هذه الادوار خارج النطاق التقليدي للتراتب الاجتماعي وكثيراً ما
يكونون معزولين عن النظام السياسي التقليدي .
تبدأ جهة التطوير من قبل الطبقة الوسطى الجديدة
بالتعدي على المناطق الأكثر حساسية في النظام كإمتيازات الحاكم، وأسس
النظام السياسي والاسس الدينية والثقافية لكليهما. وهنا يبدأ النظام
المهدد ـ الذي لم يسبق أن ربط نفسه دون تحفظ بعملية التحديث،
بالمقاومة والتمرد ومن ثم في عزل الطبقة الوسطى الجديدة التي يكون
التحديث قد أصبح بالنسبة لها، في هذه المرحلة هدفاً بحد ذاته.
تميل الطبقى الوسطى للانخراط في النشاطات النضالية
الداخلية، وتنزع للانفصال عن الرحم الذي تشكلت فيه، أي النظام
السياسي لجهة التحالف مع قوى التغيير التي تتولى المواجهة مع النظام
السياسي وصولاً الى تنفيذ برنامج تحديثي أشد تأثيراً وفعّالية. لا
يجب النزوع الى تخوين أفراد هذه الطبقة، فللأخيرة أهداف وخط سير خاص
بها، فقد تعتنق في البدء قضية التحديث وتصطف مع القوى المستعمرة إن
وجدت، ولكنها لا تلبث أن تتحول ضد موجدها سواء كان النظام السياسي
المحلي او القوى المستعمرة، لأنها تتوصل الى أنهم مثل المحدثين
الدفاعيين المحليين لا يعتنقون التحديث من قلوبهم، والأكثر حراجة أن
هذه الطبقة الوسطى الجديدة تعتنق في العادة ايديولوجية قومية ـ وطنية
متحمسة .
إن تعويل الولايات المتحدة المبالغ على طبقة
التكنوقراط في السعودية لكونهم قد تعودوا على السياسة الاميركية أو
الذين تعلموا في الجامعات الاميركية ودرسوا انماط السياسة والتفكير
الاميركيين مما سيدفع بهم الى تفهم أفضل في الممارسة السياسية وفي
كيفية التعامل مع النمط السياسي الاميركي حتى في حال المخالفة، لا
يعدو كونه اعادة تركيب لصورة نمطية عن هذه الطبقة.
إن ما يجب الفات الانتباه اليه اخيراً أن شروط
الانتقال الى الديمقراطية في السعودية قد تحققت بنسبة عالية، وأن
القوى الكابحة لتحققها على الارض لا تعدو سوى محاولات تأجيل ليس إلا.
|