الفردية والسريّة والبطء بعض ملامح قصورها

صناعة القرار السياسي في المملكة

 

عبد الله الراشد

 

صناعة القرار في المملكة تعاني من ضعف بنيوي أي في بنية القرار نفسه المصاب بأمراض السلطة نفسها، كما تعاني من كونها خاضعة تحت تأثير دائرة محدودة من الاشخاص وفي أحيان أخرى تتقلص الدائرة لتصل الى شخص واحد وحده الحاكم بأمره، وصاحب القرار النهائي في صغائر الأمور وكبائرها، ويكفي صناعة القرار بؤساً أن يكون حبيس مزاج شخص أو عدة أشخاص وصحتهـ(م)  وسقمهـ(م).

الغموض والسرية والصراع الداخلي وعوامل أخرى كلها تجعل صناعة القرار السياسي في المملكة موضوعاً هاماً. فبالرغم من وجود أجهزة ضالعة من الناحية النظرية في عملية صناعة القرار كمجلس الوزراء الا أن هذه الاجهزة تتخفض خلف معادلة شديدة التعقيدة تسود العائلة المالكة وتعكس نفسها في طريقة تبني السياسات.

بحسب المادة (18) من نظام مجلس الوزراء الصادر بالمرسوم الملكي رقم 38 بتاريخ 22 شوال 1377هـ "يرسم مجلس الوزراء السياسة الداخلية والخارجية والمالية والاقتصادية والتعليمية والدفاعية وجميع الشؤون العامة للدول ويشرف على تنفيذها ويملك السلطة التنظيمية والسلطة الادارية، وهو المرجع للشؤون المالية ولجميع الشؤون المرتبطة في سائر وزارات الدولة والمصالح الأخرى، وهو الذي يقرر ما يلزم اتخاذه من إجراءات في ذلك، ولا تعتبر المعاهدات والإتفاقيات الدولية نافذة الا بعد موافقته، وقرارات مجلس الوزراء نهائية الا ما يحتاج منها لاستصدار أمر أو مرسوم ملكي طبقاً لأحكام هذا النظام"[1].

بيد أن ثمة نصاً آخر يقلل من شأن دور مجلس الوزراء في عملية صناعة القرار، فبحسب د. عبد الله القبّاع "إن جلالة الملك هو الرئيس الأعلى للبلاد، وهو الذي يرأس السلطة التنفيذية والتشريعية (مجلس الوزراء) وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة.. وله صلاحيات واسعة في مجال إعلان الحرب وعقد المعاهدات الدولية والمصادقة على ميزانية الدولة، واعتماد المبعوثين الدبلوماسيين ومنح الرتب والأوسمة والميداليات.. وتوجيه السياسة العامة للدولة. ويكفل التوجيه والتنسيق والتعاون بين مختلف الوزارات، ويضمن الاضطراد والوحدة في أعمال مجلس الوزراء"[2]. وبحسب شرح آخر فإن الملك "يملك ويحكم ويجمع السلطات كلها، وإليه ترجع أمور الدولة والحكومة والإدارة جميعاً"[3]، وهذا ما يجعل السعودية ملكية مطلقة[4].

ثمة مرسوم ملكي صدر في عهد الملك خالد ينص على تفويض ولي عهده حينذاك الأمير فهد (الملك الحالي) بالصلاحيات المنوطة بالملك. جاء في النص "أن يتخذ الأمير فهد الإجراءات وإصدار التوجيهات في الداخل والخارج وإصدار القرارات الإدارية وفقاً للسياسات المعمول بها وبعد التشاور معنا". وهذا النص يلخّص القدرة المتميزة للملك في الانفراد بصناعة القرارات العليا الخاصة بالدولة. وهذا يجعل من الملك الرجل الأقوى والأول في عملية صناعة القرار في الدولة سواء ما يتعلق منها بشؤون السياسة أو الداخلية على السواء[5]. فقد كان الأمير فهد (الملك الحالي) يشرف من الناحية الفعلية بالنيابة عن الملك خالد على تسيير الأمور اليومية للدولة[6].

وصلاحيات الملك لا تنحصر في القضايا المصيرية للدولة، بل مفتوحة وتسري بحسب رغبة الملك ولياقته أيضاً، فليس غريباً أن يصدر قرار من الملك بصرف علاوة مالية لطاقم التدريس في جامعة ما، أو حتى إصدار أمر بتنفيذ مشروع إسكان لأعضاء هيئة التدريس، أو تعديل نظام التقاعد العسكري، وفي نقل المؤذنين والأئمة وفي إشتراك وفد من الغرفة التجارية في معارض خارجية، والترخيص لانشاء بنك، والشروع في انشاء طريق الكيبل البحري أو الموجات اللاسلكية، بل وحتى رصف شارع في الطريق المؤدية الى المطار[7]. فمقتضى الملكية أن يتصرف الملك في ملكه كما يشاء.

ومن الناحية التاريخية، فقد مرّت المملكة بمرحتلين، الأولى مرحلة عبد العزيز، كان فيها الاخير "ملكاً مطلقاً بالفعل ومسؤولا أمام نفسه فقط، رغم حاجته الدائمة لاكتساب دعم أو ولاء قوى خارج عائلته"[8].  والمرحلة الثانية: ما بعد عبد العزيز، حيث كان الملك رغم تمتعه بصلاحيات واسعة ومطلقة غالباً الا أنه يجد حاجة الى التوافق الداخلي للعائلة المالكة في خطواته سيما الهامة والمصيرية. الأولى كانت تمثل الحكم الفردي والثانية بمثابة الحكم الفردي زائداً التوافق العائلي ولا تصل الى حد الحكم العشيري الا من المنظور العام لنظام الحكم.

ويلعب الملك دوراً محورياً في مجمل التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلد. فقد وقع الملك عبد العزيز أهم القرارات المصيرية المتصلة بالنفط مع الشركات الاميركية وتحوّل المرسوم الصادر في 7 يوليو 1933 الى قانون وتعهد طويل المدى والى اتفاقية تعاون مشترك كان حاصله النهائي معاهدة حماية تلتزم بموجبها الولايات المتحدة الدفاع عن النظام السياسي السعودي ازاء أي تهديدات داخلية او خارجية مقابل ضمان المصالح الحيوية  في المملكة، وعبد العزيز نفسه الذي قرر إقامة العلاقة مع الانجليز وهو الذي قرر قطعها وربطها بالأميركيين عبر الاتفاقيات النفطية، وهو الذي كان يدير الخارجية ويرد على البرقيات وهو الذي أملى على إبنه الملك فيصل حرفياً ما يجب أن يصرح به في مؤتمر لندن حول فلسطين عام 1938، كما أملى على موفده في الجامعة العربية موقفه من القضايا المطروحة. وفي عهد الملك فيصل صدرت سلسلة قرارات هامة حققت غايتين: إعادة تأسيس الدولة على قواعد جديدة، وثانياً ارساء أسس الدولة التسلطية التي أدت بفعل المراسيم والتنظيمات الصادرة خلال عهد الملك فيصل الى تفويض الاخير سلطة مطلقة في الدفاع والداخلية والخارجية والمالية.

كان فيصل يشعر بأنه أقل حاجة للتشاور مع أخوته وأنه راهن على إجماع العائلة على سياسته الخارجية. وعلى أية حال، فإن التشاور يتم غالباً وسط العائلة المالكة في حدود القضايا الداخلية اما القضايا الخارجية فلها أقطاب في العائلة يناقشونها.

في مارس 1979 نشرت ميدل ايست انترناشيونال خبراً مفاده أن خلافات كبرى نشبت داخل العائلة المالكة. وكان الأمير عبد الله قد سعى للتقارب مع موسكو، فيما كان الأمير سلطان يبحث عن إمكانية الوصول الى معاهدة دفاع مشترك رسمية بين واشنطن والرياض والتي تسببت في إلغاء زيارة الامير فهد (ولي العهد آنذاك) لواشنطن بسبب الخلافات العائلية، التي تزامنت مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر واسرائيل.

بوب وود ورد تحدث في كتابه (القادة) عن قصة الاتفاقيات التي سبقت قدوم القوات الأميركية الى المملكة إبان أزمة الخليج بين وزير الدفاع الأميركي وقادة البنتاغون من جهة والملك فهد وأخوته من جهة اخرى، حيث أبدى الأمير عبد الله انزعاجاً من الفترة المقررة لبقاء القوات الأميركية في المملكة.

لقد أظهرت تجربة الملك سعود عدة ملاحظات هامة: 1) من الضروري للملك الاستناد الى دعم الأمراء التقليديين. 2) لا يمكن تحمّل الفساد وعدم الكفاءة الى ما لانهاية. 3) أن العائلة المالكة تحدث تغييراً بطيئاً في نظام الحكم من أجل المحافظة على واجهة وحدتها في مواجهة العالم الخارجي. 4) يمكن للأحداث السياسية الخارجية أن تلعب دوراً في السياسة المحلية.

دور الملك بالنسبة للعائلة المالكة يعتبر رمزاً لوحدتها الداخلية وتماسكها قبل أن يكون رمزاً للدولة وتماسكها، وكما في مثال القبيلة، فإن دور الشيخ (أي شيخ القبيلة) خطير كونه يحفظ توازن القبيلة وتماسكها ويحسم نزاعاتها. فبعد موت عبد العزيز ـ شيخ آل سعود لم يعد هناك من يتولى دور شيخ قبيلة، ولذلك حدثت اضطرابات ونزاعات داخل القبيلة ولم تهدأ الا بعد إقالة سعود واعتلاء فيصل العرش الذي سار على منوال أبيه وتمكن من تولي دور (الشيخ)، وخطورة هذا الدور تكمن في التعقيدات المرافقة لتسنمه من قبل أي من أفراد العائلة المالكة، وهذا يفسر الى حد كبير عجز العائلة في حسم مسألة الوراثة منذ إصابة الملك الحالي بجلطة عام 1996 أفقدته القدرة على ممارسة مهامه كرئيس للدولة وكشيخ  قبيلة.

 العائلة المالكة

 يقدّر عدد أفراد العائلة المالكة ما بين 7 ـ 10 آلاف، وبعضهم يرى أن العدد قد زاد على العشرين ألفاً. ويهيمن كبار الأمراء على سلطات الحكم المركزية والاقليمية فيما يحتل الأمراء الصغار مواقع عديدة في مجالات الخدمة المدنية والمؤسسات والهيئات شبه الحكومية والقوات المسلحة والاعمال الخاصة الكبيرة. وحجم العائلة وانتشارها يشكل أحد ضمانات إستتباب نظام الحكم، وهم مصدر للمعلومات عن كل ما يجري في المجالات الخاضعة تحت إشرافهم المباشر أو نفوذهم، ولكن تبقى مسألة وحدة العائلة مشوبة بالضعف كلما توزعت النزعات والطموحات داخل فروع العائلة واجتاحت الأمراء الصغار تطلعات السيطرة "إن زيادة الحجم تضعف النفحة السحرية للملكية وتخفض مكانة العائلة المالكة الى مجرد طبقة ممتازة.."[9].

تقسيم العائلة المالكة:

ـ السديريون السبعة: أبناء حصة السديري (فهد، سلطان، سلمان، نايف، تركي، عبد الرحمن، أحمد).

ـ ثلاثة أشقاء لأم سديرية أيضاً: سعد، مساعد، عبد المحسن.

ـ الأمراء الأحرار (أشقاء ثلاثة): طلال، بدر، نواف.

ـ أبناء الملك سعود: ويبلغ تعدادهم نحو 40 إبناً، ويتحملون تبعات والدهم.

ـ أبناء فيصل: سعود (الخارجية) خالد (حاكم عسير) تركي (الاستخبارات سابقاً وسفير المملكة في لندن حالياً) محمد (تاجر ورجل أعمال) عبد الله (شاعر وتاجر) وغيرهم.

ـ عبد الله: وليس له أخوان، ويستند على حاشية مؤلفة من أبنائه وأصحاب الخبرة الطويلة في ادارة الدولة.

ـ أبناء السديريين السبعة (أبناء فهد) (أبناء سلطان) (أبناء سلمان).

إن توارث المواقع الحساسة لنظام الحكم يظل موضع تنافس وصراع في أوساط أجنحة العائلة المالكة، رغم أن الشعور العام داخلها ينزع الى التأكيد على أن الوحدة الداخلية والانسجام الداخلي هي الضمان الوحيد لبقائها الا أن التجارب التي شهدتها البلاد أثبتت وجود نزعات داخلية وصراعات على الحكم بين الأفراد تتجاوز ذلك الشعور كتجربة الأمراء الأحرار في بداية الستينيات وتجربة سعود بعد عزله وقيادته جبهة معارضة من مصر ضد أخيه فيصل وإغتيال الأخير من قبل أحد أعضاء الأسرة المالكة، واخيراً الخلاف الواضح بين ولي العهد الحالي الامير عبد الله وأمراء الجناح السديري، حيث يقدّم بقاء الملك فهد على رأس السلطة رغم عجزه التام عن القيام بمسؤوليات ادارة الدولة دليلاًُ على انعدام الثقة بين الجناحين، يضاف الى ذلك الإزدواجية الحاكمة على مجمل أداء الحكومة كما تعكسها مواقف الدولة، وتصريحات الأمراء، وسياسات الحكومة.

ولكن حاسة البقاء لدى العائلة المالكة تمنح الأخيرة قدرة فريدة في احتواء صراعاتها الداخلية، في مقابل تهديدات خارجية ينظر اليها على الدوام بأنها تستهدف استئصال ملك آل سعود، وهذا الشعور كفيل بتجميد الخلافات الداخلية وتوحيد الجبهة مقابل خصوم مفترضين دوماً. هكذا تكشف قصة الخلاف بين الأمير طلال وأخوته في العائلة، فالمرونة تصل بالأمير الى حد الانسحاب من ميدان معركته من أجل الديمقراطية كيما يلبي نداء الاحساس المتصاعد بالبقاء كعائلة مالكة، وحينئذ يصبح الأمير كباقي أخوته في التأكيد على خلود الملك وإن تطلب الأمر المقامرة بحزمة القيم النبيلة في الحرية والكرامة والتعددية.

إن احتكار العائلة المالكة الوزارات الحساسة (الدفاع، الحرس، المخابرات، الخارجية، الداخلية) يكشف عن حقيقة أن القرارات السياسية المصيرية محصورة في العائلة المالكة، أما ترك الوزارات التقنية (المواصلات، النفط، الكهرباء، البريد، الماء..) لأفراد خارج العائلة الى جانب كونهم من عوائل مهمة للحفاظ على توازن وهمي للقوى، يعكسه حقيقة القرارات التي تصدر غالباً عن مجلس الوزراء والتي يتم مشاركة العائلة المالكة مع الوزراء في صناعتها وهي القرارات الفنية غير السياسية.

وبحسب أحد المراقبين للوضع السعودي والذي عاش مدة عشرين عاماً في المملكة "إن العائلة السعودية الحاكمة تقرر من يدخل أو يغادر البلاد، ومن يصبح غنيّاً أو فقيراً ومن يعيش أو يموت. فهي دائرة ضيقة من 60 عضواً في العائلة السعودية يستطيعون ـ إن أرادوا ـ إشاعة الفوضى في كافة دول العالم بالدعوة الى الحروب المقدّسة، أو بالدعوة الى قطع النفط، أو بسحب أموالهم.. إنهم الحكومة، فهم يسنّون القوانين ويديرون الاجتماع والاقتصاد والشؤون الخارجية والتعليم والتجارة والدين في هذا البلد. كما أن تاريخهم هو تاريخ البلاد، فتاريخهم يبدأ من قرية صغيرة في نجد هي الدرعية خارج الرياض خلال القرن الثامن عشر"[10].

فالحكومة في نظر العائلة المالكة شأن عائلي والقوانين تعتمد على القصاص والعقاب واللغة القديمة لهذه العائلة غالباً ما تكون غير ملائمة للعصور الحديثة، فالمواطنون قد بدأوا في تلقي التعليم الحديث. يقول وليم كوانت "إن القناع المسدل على مجموعة العمل داخل الاسرة السعودية، نادراً ما يرفع وينظر الى من يريد اختراق هذا الستار بأنه عدو ببساطة فإن القادة السعوديين يرون أنه ليس من شأن أحد يعرف كيفية اتخاذ القرارات حيث أنه يعتبر شأناً عائلياً"[11].

فالحكومة لدينا فريدة من نوعها فهي ديكتاتورية فريدة تهيمن بصورة كاملة على الدين والدولة. في حقبة الخمسينيات تقلد أبناء العائلة المالكة المناصب الوزارية الكبرى، فمن عدد الحقائب الوزارية التسعة كان وزير واحد فقط من غير العائلة المالكة، وهو وزير التجارة، وفي الفترة ما بين 1954 ـ 1958 كان وزير التجارة علماني التعليم ومن عائلة بارزة في جدة وستة من الأمراء أما الإثنان الآخران فهما وزيري الصحة والمالية وكانا مستشارين سابقين للملك، فوزير الصحة د.رشاد فرعون (سوري) ووزير المالية محمد سرور الصبان كان من خزّان الملك ابن سعود.

في عام 1960 عيّن الملك سعود خمسة وزراء من خارج آل سعود، وكان إثنان من الأمراء دائماً يشغلون بعضها وأربعة من هؤلاء تخرجوا من جامعة القاهرة والخامس خريج من جامعة تكساس وتولى وزارة البترول والثروة المعدنية.

حتى عام 1975 شغل أعضاء العائلة المالكة خمس مقاعد وزارية من إجمالي 14 وزارة هي: الداخلية والدفاع والحرس الوطني والمالية والخارجية وهي الهيئات السيادية في الحكومة. وبعد 1975 استمر في وزارة الملك خالد أربعة أمراء باسثناء المالية التي تولى حقيبتها محمد أبا الخيل النجدي الأصل وعلماني التعليم، وإنشئت وزارة الشؤون البلدية والقروية والاشغال العامة والإسكان وتولى مسؤوليتها وزراء من العائلة المالكة.

 تشريح القرار السياسي السعودي

 التزام السرية في صناعة القرار يمثّل أحد وسائل صيانة السلطة، فمن خلال السرية تريد السلطة أن تصبح غير قابلة للنقاش اليومي أو للتناول السهل "إنها تريد أن تبقي فوقية، بعيدة، رصينة" والأمر الآخر، تشكل السرية جانباً مهماً من قوة السلطة، فالناس حينما لا يعرفون حجم قوة السلطة ولا مواقع الضعف والخلل فيها أو حتى تداول المعلومات حولها واعتمادها لتحليل واقعها ينحلونها قوة اضافية بل قوة خرافية فوق قوتها الحقيقية، ويهابونها كما لو كانت صندوقاً مغلقاً أو غرفة مظلمة.

وقد انسحبت السرية على كثير من الأمور في المملكة: عدد السكان، الاحتياطي النفطي، مداخيل الأسرة المالكة وحجم أموالها، وحتى مساحة المملكة، فالأرقام المتوفرة تقول بأن 1,4 مليون كم مربع هي المساحة الاجمالية للمملكة بينما ثمة رقم آخر يجري تجاهله هو 1,6 مليون كم مربع.

وتبني السعودية قرارها على التصورات التكتيكية قصيرة المدى لبعض المشاكل وعلى النظرة التقليدية للآخرين[12].  يمثّل ذلك في موقف المملكة بعد الحظر النفطي عام 1973، حيث اجتمعت دول الأوبك في طهران في 24 ديسمبر 1973 واتفقت على رفع الاسعار الى 11,65 دولار للبرميل الواحد. وكانت المملكة قد أعلنت لاحقاً بأنها ستخفض سعر نفطها الا أنها لم تخفضه سوى الى 10,12 دولار، وكان السبب الرئيسي في ذلك هو عدم إثارة نظام الشاه الذي اعتبر أن أي خطوة لتخفيض الأسعار سيعتبر تصرفاً عدائياً، والسب الثاني هو عدم إثارة العراق ودول عربية منتجة وخاصة بعد قمة الرباط التي إنعقدت في اكتوبر 1974 والسعودية أعلنت قرارها في سبتمبر 1974.

يقول كوانت "ان الاسلوب السعودي في اتخاذ القرار بطيء عادة وعبارة عن ردة فعل أكثر من مبادرة، ومداور أكثر منه مباشر"[13]. ولهذا السبب "يتحاشى السعوديون الرد بنعم أو لا ويفضلون ردوداً غير حاسمة (ربما). كما أن التفاهم الشفوي أهم عندهم من الإتفاقيات المكتوبة. فالسرية تعني لهم الكثير والعلنية تعتبر خيانة للثقة"[14].

يستمد القرار في المملكة جزءاً من قوته في التكتم وعدم الإدلاء بمعلومات توحي من قريب الى موضوع القرار (خلفيته، أسبابه، الأطراف المشاركة فيه). فالمعلومة عنصر خطر، وشبح مخيف للعائلة المالكة لأنها تخشى مما تتركه في الداخل، كما أنها تعتمد الإختصار في كل موقف تتخذه.

ومن إساليب صناعة القرار إن لم يتم التوصل الى اجماع داخل العائلة المالكة حيال قضية ما، يتم اللجوء الى المداورة (اللاقرار) و(اللاموقف) والغموض والتأخير حيال القضية أو اتخاذ موقف قد يبدو متناقضاً. سياسة الحكومة قائمة على: الحذر والخوف من (الآخر) المجهول أحياناً والذي انتقل الى داخل العائلة المالكة، وحكم علاقة أفرادها وهو أمر فرض نفسه على خطط المملكة السياسية.

ويمثل الزمن عنصراً فاعلاً في عملية صناعة القرار. فالزمن وتبدّل الظروف السياسية تشكل أحياناً كثيرة عنصراً أساسياً في عملية صناعة القرار السياسي، وخاصة بالنسبة للمملكة المحكومة بسلسلة شديدة التعقيدة من الهواجس والاعتبارات السياسية والداخلية. ثمة رأي يقول بأن السعودية لا يمكن أن تكون رائدة سياسياً في أي محيط إقليمي أو عربي أو اسلامي أو دولي، لأنها غالباً ما تكون سرية، وغامضة وحذرة، ومتكتمة وهذا يعكس ضعفا كبيرا في البناء السياسي للمملكة كما أنه يكشف عن ضعف القرار ومراكز صناعته.

كانت المملكة تعتمد صيغة المصالحة والوساطة بين الدولة العربية المتنازعة رغبة في استقرار الاوضاع السياسية التي تودي من وجهة نظر المملكة الى استقرار أوضاعها الداخلية وهو هدف تنشده أكثر من أي هدف آخر، فدخلت في مصالحة بين عمان واليمن الجنوبي وبين عمان والإمارات والبحرين وقطر وسوريا والعراق على مياه نهر الفرات، والعراق والكويت قبل الأزمة، وحتى الصراعات في المغرب العربي ولا سيما الصراع المغربي ـ الجزائري عام 1976 ومصر وسوريا بعد إتفاق سيناء الثاني. وربما تطورت الدبلوماسية السعودية خطوة في المصالحة الى المشاركة. ولاشك أن المال ساعد المملكة على لعب دور المشاركة، فرغم أن المال لم يصنع منها قوة مهيمنة تستطيع من خلاله استخدام أسلوب المقاطعة أو الحظر كالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (سابقاً) الا أن المال استفادت منه في الاستقطاب أو الردع.

الصمت هو الآخر عنصر رئيسي في عملية صناعة القرار بل قد يشكل قراراً بحد ذاته تتكل عليه الحكومة وخاصة في القضايا ذات العلاقة بمصالح وأطراف متعددة. أمثلة ذلك أزمة الخليج، فقد التزمت الحكومة الصمت لمدة ثلاثة أيام على سقوط الكويت بالكامل تحت الاحتلال العراقي.


 

[1]  ـ د. مطلب النفيسه ـ نظام مجلس الوزراء في المملكة العربية السعودية، ص 43

[2]  ـ د. عبد الله القبّاع، .....ص 131 ـ 133

[3]  ـ د. صبحي محمصاني ـ الأوضاع التشريعية في الدول العربية ماضيها وحاضرها، ص 386 ـ 387

[4] - The Economist Intelligence Unit: The Country Profile: Saudi Arabia 1992-93, London, p.5

[5]  ـ د. القبّاع، ص 133

[6]  -  روبرت ليسي ـ المملكة، ص 39

[7]  ـ الأمثلة الورادة تستند على نصوص مراسيم ملكية صدرت في عهود مختلفة من تاريخ المملكة الحديث.

[8]  ـ غسان سلامة ـ السياسة الخارجية السعودية، ص 46

[9]  -  سافران، الطبقة المتوسطة الجديدة، مصدر سابق ص 68

[10]  -Gene Lindsely, Saudi Arabia, p.103

[11]  ـ وليام كوانت ـ السعودية في الثمانينات، ص 121

[12]  -Nadaf Safran, Saudi Arabia: Ceaseless Quest for Security, p.170

[13]  - وليام كوانت ـ السعودية في الثمانينات، ص 122

[14]  ـ كوانت، المصدر السابق ص 162