إشكاليات الوحدة والإنفصال في المملكة العربية السعودية

الحلّ الديمقراطي ـ الفيدرالي لمعضلة السلطة والمجتمع

 

د.خالد الرشيد

من الواضح تماماً لكلّ من تسنّى له الإطلاع على تاريخ تأسيس المملكة، أن الصراع بين أقاليمها مختلفة الإنتماء والثقافة والتاريخ والخلفيّات الإجتماعية والإقتصادية، إنما كان يدور حول أمر واحد: السلطة وما يتبعها. كان كلّ إقليم من الأقاليم يمتلك خاصيّة من نوع ما.. نقطة قوّة في الساحة السياسيّة.. أو تميّزاً من نوع ما يعوّض نواقص في جوانب أخرى، بحيث جاء تشكيل المملكة من نوع رائع وفريد. إن خصائص الأقاليم مجتمعة تسدّ النقص في كل واحد منها، وتكسب الوحدة القائمة قوّة حقيقيّة في الساحتين الإقليمية والدولـيـّة.

لا يمكن للوحدة القائمة بين الأقاليم أن تبقى في غياب النفط، فقد كانت عائدات النفط (لحمة الكيان السعودي) على حدّ تعبير أكاديمي هارفرد ندّاف سفران. ولا يمكن للمملكة ان تنال مكانة حقيقيّة في العالم الإسلامي بأجمعه في غياب الثقل الديني الذي تمثّله المقدسات الإسلامية في الحجاز. وبالقطع فإن نجداً تمثّل الأداة السياسية الجامعة، وعنصر القوّة العسكري والسياسي في الكيان القائم.. في حين رفد الجنوب مختلف قطاعات الدولة بالعديد من أبنائه.

الخلـل لم يكن في تشكيلة البلاد هذه، بل على العكس فإن تنوعها نقطة قوة للمملكة.  الخلل كان ولايزال في نمط العلاقة بين الأطراف المشكّلة للوحدة. لم تكن العـلاقة ـ بسبب ظـروف نشأة المـملكة ـ علاقة شراكة في الحكم، باعتبار ان البلاد في واقعها تتشكّل من أقليّات مناطقيّة ومذهبيّة.. بل حكمت السيطرة والإستتباع والإستئثار العلاقة بينها وبين مركز الثقل السياسي والعسكري ـ نجد، مما جعل الصراع بينها في عهد الوحدة والدولة القطرية استكمالاً للصراع الذي كان قائماً قبلهما، وإن بصورة مخففة قابلة للتطور نحو الإنفجار باتجاه الإنفصال.

لقد أصبحت نجد تمثل الأكثريّة السياسية في الدولة الجديدة، بل كانت هي الدولة في واقع الأمر، الأمر الذي ولّد شعوراً بالغُبن والحرمان لدى المناطق الأخرى. ظهرت الدولة الوليدة بمظهر المحطم لكل خصوصيات السكان الذاتيّة، حيث أُعلنت الحرب الشعواء على الجميع.. وكأن رجال الحكم يريدون تكرار تجربة التوحيد الفكري والسياسي للقاعدة النجدية، وهي تجربة فريدة ومتميّزة ، ولكن تطبيقها على بقيّة المناطق، دون الإلتفات الى محليتها وظروفها الموضوعية الخاصّة بها هو من السقطات الكبرى في فهم المناطق.

كانت أمام الملك عبد العزيز فرصة تاريخيّة بعد امتداد حكمه الى الحجاز، ليبدأ بعد ان اخذ الإستيلاء على المناطق مداه، بإقرار منهج جامع يحتوي كل الإنشقاقات. لكن نشوة الإنتصار، وتركيبة الحكم القبلـيـّة، وتغليب المصالح المنظورة، حال دون تحقيق ذلك الأمر، واستمرت الحرب الفئويّة عنيفة جامحة، شارك فيها حتى أولئك الذين لا يهمّهم أمر الدين من قريب أو بعيد. لقد استخدمت الطائفيّة والمناطقيّة كوسيلة من وسائل احتكار السلطة والصراع عليها.

التقسيم القائم في البلاد بقدر ما جعل هناك جماعة حاكمة، دفع الى الزاوية الحرجة الجماعات الأخرى، والتي لا يشفع لها وعيها ولا مكانتها ولا كفاءتها في إيقاف الضرر النازل بها، لمجرد كونها تنتمي الى جهة غير حاكمة. إن التنافس أو الصراع القائم بين المناطق هو تنافس في حقيقة الأمر على السلـطة.. وإن بروز الإنتماءات وتعمّقها الشديد، يستهدف توزيعاً عادلاً للسلطة، وللثروة في آن.

لقد أُقصي منذ البدء أهل الجنوب والشرق وشمال نجد ـ حائل ـ كما شمال الحجـاز ـ تبـوك ـ عن السلطة تماماً، ويشعر الحجازيّون أنهم شركاء دونـيّون فيها، ويرون أنّهم يستحقون أكثر مما في أيديهم.

أهم خطوات الحل هي: إعادة توزيع السلطة ـ الشراكة السياسية ـ وتحويل الدولة الى دولة للجميع، وتوسيع إطار العصبيّة بحيث تذيب معها العصبيات الجزئيّة الأخرى بإيجاد عصبيّة وطنيّة تفرض التساوي بين المواطنين، وتفسح المجال للتعبير عن الهويّة أنّى كان شكلها شرط أن لا تتجاوز المحرمات الوطنيّة. هذا الحلّ يبدو صعب المنال في الوقت الحاضر.. إذ أن مجرّد الإعتراف بالحقوق المبدئية للمواطنين لم يتحقق.. فهم غير مسلمين في الأساس من وجهة نظر المذهب الرسمي، وهناك من يدعو بينهم وبشكل دائب الى قتلهم أو قتل بعضهم ونفي الآخرين، ومن المحرّم على أيّ منهم التعبير عن خصائصه.

 

الديمقراطية والوحدة

 

إذا كان توحيد المملكة قد تمّ بطريقة أفضت إلى سيطرة منطقة على مقدرات البلاد فصار من الصعب إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لتغيير الطريقة التي تمّت بها عملية التوحيد.. وإذا كان من الصعب أو شبه المستحيل أن تقوم الجهات المسيطرة والمحتكرة بتصحيح أو تعديل الوضع لصالح الوحدة ولصالح الشراكة ولصالح التكافؤ بين المواطنين واندماجهم.. فهل يمكن أن تكون دعوة إلى الديمقراطية حلاً للمعضل بحيث تنقذ المنتفعين من حالة الجشع التي يعيشونها، وتنقذ المملكة من الإنشقاق، وتوفّر لسكان المملكة جميعاً المساواة والعدالة وقدراً معقولاً من الحياة الكريمة في جوانبها الماديّة والمعنوية؟.

ولكن قبل الإجابة على هذا، لماذا لم تنشأ حركة ديمقراطية في السعودية؟. لماذا لم ينشأ إحساس وطني بين السكان ليدافعوا عن وطنهم وعن المظلومين فيه أنى كانت هويتهم؟.

هل الديمقراطية الليبرالية مخيفة لبلد كالسعودية؟ هل حدّا معقولاً منها كالذي نجده في الكويت خطير لأنه يقلّص من احتكار المنتفعين للسلطة، أم لأنه يقود إلى تفكيك البلد كما يعتقده البعض، أم الإثنين معاً؟.

بعض أقطاب الحكم أن السعودية كدولة قد تستمر مع الديكتاتورية والتمييز المناطقي والعرقي والقبلي والطائفي، بأكثر مما يمكنها أن تكونه مع هامش معقول من الديمقراطية والمساواة. وهذا الرأي الميكيافيلليي يتمّ تبنيه على أرض الواقع بغض النظر عن الخلفية التحليلية له.

الديمقراطية قد لا تلعب دوراً توحيدياً مع أنها على الأرجح قادرة على خلق قاعدة ثقافية وطنية مشتركة. هذا من حيث المبدأ. قد يقال وهو صحيح أن المناخ الديمقراطي يوفّر في كثير من الأحيان الأرضية المناسبة لنمو الإنشقاقات حتى في عقر البلدان الديمقراطية الغربية نفسها. وهناك عشرات الأحزاب والجماعات السياسية تدعي الديمقراطية ولكن برامجها تجزيئية طائفية. ولكن مهما كانت الديمقراطية معيبة وناقصة، فإنها تؤدي في الغالب إلى تخفيف الإختلافات الدينية والأثنية، كما هو ملاحظ في الكويت وفي الأردن والمغرب وحتى مصر.

غير أن الحريّة المتأخّرة، والمساواة المتأخّرة، اللتان تأتيان عن غير قناعة وإنما تفادياً للإنشقاق والإنفصال.. إنما يشكلان في الحقيقة حلاً متأخّراً، والحلّ المتأخّر لا يثني مطالب الإستقلال أو تقرير المصير أو الإنفصال والتي تكون قد تجذّرت وترسّخت، فإذا ما جاءتا عدّتا دلالة ضعف للنظام، فيستفاد منها في تحقيق المطالب الأصليّة، ويعتبر الإصرار عليها دلالة نجاح فـ (الحكومة تنازلت). الديمقراطية أو نصفها جيدة الآن في بلد مثل السعودية.. هي حلّ استباقي، ولكنها ليست دواءً ناجعاً بعد أن يتغلغل المرض.. الديمقراطية حينها تكون بما تتضمنه من مبادئ حريات وحقوق بمثابة المسامير التي تدقّ نعش الدولة.

من المستغرب حقاً أن قلة بين المنطقة المسيطرة من زعاماتها وقياداتها وأصحاب الرأي فيها، دعا الى الديمقراطية. فإذا كانت العائلة المالكة لا تريدها فلأنها تقتطع شيئاً من سلطانها، إن لم يكن أمراؤها ينظرون اليها كمهدد لعرشهم، أو في الأقل مقلّص لصلاحياتهم. وإذا كان الوهابيون، المتدينون باعتدال أو بتطرف، لا يريدون الديمقراطية، فلربما وجد لهم بعض العذر أو بعض الحجج، فالديمقراطية بالنسبة لهم كفر وإلحاد، ومخالفة لشريعة الله!

لكن بأيّ حجّة وبأيّ وجه وعذر ترفض بعض النخب اللبرالية في المنطقة المسيطرة المفاهيم الإصلاحية والديمقراطية، كيف يجوز ان ترفض الإنفتاح والمشاركة الشعبية؟.

هناك حجّتان، الأولى والتي يعلن عنها عادة، وهي أن الإنتخابات ستأتي بـ (المتطرفين) الدينيين، والمقصود بهم هنا هم المتطرفون الوهابيون. فالديمقراطية قد تغلّب ـ ضمن المنطقة المسيطرة ـ المتطرف السلفي على اللبرالي أو العلماني المعتدل ضمن جهاز الدولة. وبعبارة أوضح، فإن الديمقراطية بالنسبة لبعض النخب غير السلفية ليست خياراً في الأصل، ولا تدعمها قناعة إذا ما تعارضت مع المصلحة الخاصة.

ومع هذا، لماذا لا يطالب العقائديون الوهابيون بالديمقراطية لتعزيز موقفهم ضدّ من يسمّونهم بـ (العلمانيين)؟ هل السبب أنهم يرون أن الحكم السعودي أكثر إنسانية من الحكم الديمقراطي؟. وهل الحكم الذي يأتي بالمواصفات الوهابية من وراثية وملكية مطلقة يمثّل الإسلام وقيمه؟ أم لأنهم أهل الحل والعقد؟

إذا جئنا للتفصيل، فإن علماء الوهابية فحسب، وأمراء نجد فحسب هم أهل الحل والعقد. لو أزحنا صفة (النجدية) عن العائلة المالكة السعودية، ترى ما الذي يفرقها عن أي حكم في البلاد العربية، ملكياً كان أم جمهورياً؟. لولا صفة (النجدية) ما عدّ العقائديون آل سعود: أمراء! مثلما هم لم يعدّوا علماء الحجاز السنّة وعلماء الشيعة والسنة في الشرق من بين أهل الحل والعقد.

الجوهر هو أن الوهابية السياسية التي تلم هذه الأطراف جميعاً لا تريد شركاء من خارج حدود المنطقة بأي إسم كان، ديمقراطية كانت أو حريّة أو وحدة. إذا كان هناك من تنافس فليكن بين نخبة المنطقة، بغض النظر عن الإيديولوجيا التي لا تستخدم هنا إلا نادراً، ولكن ما أن تطرح الديمقراطية حتى ترى كثيرين يرفضونها. هناك ما يشبه الإتفاق الضمني على أن الحكم شأن عائلي (بالنسبة للعائلة المالكة) وإذا ما توسّع فمناطقي، والديمقراطية توسّعه كثيراً إلى مناطق أخرى، وهذا خط أحمر.

يوم اختلفت النخبة مع جناح من العائلة المالكة، تمّ تأسيس حركة (نجد الفتاة) بغرض إعادة توزيع السلطة بين النخبة المناطقية. ويوم اختلف الوهابيون مع العائلة المالكة في بداية التسعينيات، لم يطلب هؤلاء في (مذكرة النصيحة) بانتخابات أو حريات أو حقوق للمناطق الأخرى مادية أو معنوية، إن كانوا يتعففون عن ذكر الديمقراطية. لم يطلبوا بإزاحة آل سعود باعتبارهم حكاماً فاسدين أو كفاراً بنظر بعضهم. ما طلبوه هو زيادة حصتهم من الحكم ضمن الترويكة الداخلية: أن يكون لهم صوت في الخارجية، وأن تزاد صلاحيات الهيئات، وأن تزاد التخصيصات لنشر المذهب في الخارج والداخل. ولذا لم يطلبوا أحداً من الخارج العقائدي أو المناطقي ليوقع عليها، مع أنه جرى نقاش مثل هذا الأمر في أوساطهم، ولكنهم اعتبروها في نفس الوقت ممثلة لكل الشعب بل ولتطلعاته أيضاً، وفي هذا لم يكونوا من الصادقين.

الديمقراطية بالمنظار المناطقي المتطرف: أداة لتفتيت سلطة النخبة المناطقية. فبالديمقراطية يكون التمثيل الشعبي لسكان المملكة أكثر توازناً في أي برلمان منتخب. وبالديمقراطية والحريات سيبدو المذهب الرسمي والمسلك الديني العنيف منبوذا من الأكثرية، ولن يعامل بالإحترام القائم على الخوف والترهيب. وبالديمقراطية تتعدد المنابر الإعلامية، وتتعدد الآراء، وتتشكّل المصالح، ويستبان الرأي. لن نجد وزارة تحتكر منطقة واحدة أكثر مقاعدها في حين لا يوجد فيها تمثيل لمناطق أخرى. ولن يُسمح لرؤساء المذهب الرسمي باحتكار الفتيا، واحتكار الجامعات الدينية، واحتكار المناهج التعليمية، كما لن يسمح لهم في ظل الحرية التعدّي على حقوق المواطن الأساسية في العبادة والإعتقاد.

الحجّة الثانية هي أن بين النخبة المسيطرة اليوم من لا يرى إمكانية للتراجع عن حق احتكار السلطة، وأن المملكة وصلت إلى وضع سيفضي أي تنازل سياسي من قيادتها إلى تفكيكها، تماماً مثلماً يقول ميكيافيللي، وبالتالي فإن الحل هو الإستمرار في الخطأ لأنه فات أوان إصلاحه.

يقول هؤلاء: بدون ديمقراطية ما كانت تشيكوسلوفاكيا لتصبح دولتين بمثل تلك السرعة. وبدون غلاسنوست غورباتشيف ما كان الإتحاد السوفياتي ليصل إلى الإنهيار التام، ولتأخّر موته على الأقل. االديمقراطية علاج ناجع للأمراض غير المستعصية، أما المستعصي منها فإن الديمقراطية كفيلة بقتل حامله بدل أن تطيل عمره. نعم الديمقراطية خطيرة، إذا كانت دواءً لمريض في أواخر أيامه، ولكن لا يبدو أن ذلك يصدق على السعودية في الوقت الحاضر، مع أن البعض يعتقد ذلك.

أسوأ سيناريو يمكن تخيله، والذي يدور في أذهان قسم من النخبة المسيطرة يقول بأن التحول نحو الديمقراطية يبدأ منذ الخطوة الأولى، حيث تبدأ مع (اللبرلة) حيث الحريات الاعلامية، وحرية تأسيس الأحزاب، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين. لو حدث ذلك سنجد عشرات الصحف والمجلات التي تتحدث باسم الطائفة والمنطقة والقبيلة ولن نجد إلا القليل منها يتحدث عن الوطن والوحدة، وسنجد الأحزاب أيضاً تعبّر عن التقسيمات المناطقية والمذهبية. وحرية النشر ستساعد في تعميق الفواصل بين الجماعات المذهبية والمناطقية، كما ستساعد على توثيق وتعميق الروابط القبلية والمناطقية والمذهبية، وستكون المحفّزات الإقتصادية تابعة لهذا التقسيم، وسيكون التنافس واضحاً على هذه الأسس.

إن اللبرالية الإعلامية من هذا المنظور هي الخطوة الأولى نحو نهاية الدولة وتفككها، وإن حريّة الإعلام وحدها كافية لأن تهزّ الدولة من أعمق أعماقها. إذن لن يكون هناك سوى صوت الوهابية، وإعلام المنطقة الغالبة، وثقافة القبيلة. لن يكون هناك من حزب سوى الحزب المسيطر، ولن تكون هناك من عقيدة سياسية سوى الوهابية السياسية. ترى من يقول بأن ما يخشى منه والذي ذكر في الأسطر السابقة لا يجري على أرض الواقع بصورة مصغّرة على الأقل؟.

ويمضي السيناريو المخيف قائلاً: ما يعقب اللبرلة الإعلامية يأتي تشكيل الدستور وانتخاب برلمان، وإذا ما حدث ضمن أي صورة وطريقة كانت، فإن المنتخَبين لن يكونوا سوى دعاة المناطقية والقبلية والطائفية. لن يكون هناك صوت وطني بالمعنى الحقيقي. الحجازي لن ينتخب غير الحجازي، والنجدي ميوله السياسية معروفة، وكذلك الجنوبي والشرقي والشمالي.

ورغم هذا كله، وحتى لو حدث فإنه ليس مخيفاً كثيراً ، لأنه أولا نتيجة لأخطاء ماضية، وثانياً لأن الانتخابات في أحد أبعادها تعبير عن مصالح فئات وجماعات ومناطق. نعم إن الوطنية تُبنى في المستقبل، ولكنها في الوقت الحالي غائبة، وستبقى غائبة إلى أن توجد الديمقراطية التي تخلق الأسس الأولية لنموّه. أما الدستور، فإذا ما أُقرّ بالإقتراع العام، فإنه لن يكون بالقطع (مناطقياً) وإذا لم يرض الميول والنزعات فيؤطّرها في الوعاء الوطني، ويمنحها الشرعية، فإنه لن يحوز على رضا الجمهور في أي اقتراع شعبي.

النتيجة هي: أن الديمقراطية بما تتضمنه من حق الإنتخاب قد تغري دعاة الإنتماءات الصغرى (الطائفية والقبلية والمناطقية) إلى دغدغة مشاعر الجماهير وتكتيلها ضمن المشروع السياسي، خاصة وأن هناك فوائد ملحوظة وهي أن الإنتخابات تؤدي إلى (تحصيص) منافع الحكم.

وفي الجملة.. ليست العائلة المالكة وحدها من يرفض الديمقراطية والحريات. وليست العقائدية الوهابية من يحرّمها فحسب. بل إن بعض النخب الحديثة المتعلمة أيضاً في المنطقة المسيطرة ترفض الديمقراطية لأنها لا تريد إشراك أحدٍ من خارج منطقتها في السلطة. وإذا كانت هذه القوى وهي فاعلة للغاية، لأنها تدير جهاز الدولة بمجمله، ترفض الديمقراطية، فهل هناك أملٌ بتطبيقها في المستقبل، وهل يجب على القوى المناطقية الأخرى أن تدعو اليها، إلى أن ترغم المنتفعين على قبول ذلك؟ وماذا بيد تلك القوى من أوراق تلعبها حتى تفرض رأيها؟.

مناطق المملكة الأخرى قد تجد في الديمقراطية خشبة إنقاذ لها، وخشبة إنقاذ للوطن المهدد بالتقسيم. هي الحل السلمي غير المكلف المتاح أمامها. وهي الحل الذي يقضي على مبررات الانفصال أو الإستقلال حسبما يقول البعض، لأنهم حسب تعبيرهم، إنما يعودون إلى حالتهم السابقة قبل سيطرة الوهابية السياسية: دول وإمارات مستقلة، كما في الحجاز والجنوب وحتى في الشرق.

لكن هذه المناطق لم يظهر فيها دعوات إلى الحرية والديمقراطية، رغم أنه ظهر بينها حركات سياسية معارضة، وربما مسلحة، طالبت بإسقاط النظام، لكنها لم تتطرق أو لم تفكر في الحل الديمقراطي. اعتمدت المعارضة على القبيلة في جبل القهر في الجنوب، وفي شمال الحجاز حيث ثورة ابن رفادة بين قبيلة بلي، ووجدت معارضة وطنية ومذهبية في كل من الحجاز والأحساء والقطيف، ولكن لم تذكر الديمقراطية كإحدى وسائل الحل.

ليس هناك من تبرير لذلك سوى أن المعارضين يدركون بأن هذا الموضوع لا يتحقق. قال أحدهم: لماذا نطالب بشيء لا يتحقق؟! أمرٌ غريب، أن تعدّ المطالبة بإسقاط النظام مساوية في الصعوبة مع تحقيق الديمقراطية، وتحتاج نفس القدر من التضحيات. أو هي عند البعض لا تتحقّق في وجود آل سعود، ولا في وجود الوهابيين.

بالنسبة لكثيرين، يستحيل للديمقراطية أن تتحقق في ظل الوهابية.. هما عدوان لدودان، لا يعيش أحدهما إلا على رفات الآخر. يمكن للديمقراطية أن تتعايش مع القبيلة، ولكن ليس مع الوهابية السياسية. يمكن أن تجدها أو تتصورها في دول الخليج ومشيخاته، ولكنها في السعودية مستحيلة، أو شبه مستحيلة برأي البعض.

والأدلّة التي تطرح هنا، ليست ضعيفة، وإن كانت غير كافية.. هؤلاء يقولون بأن الوهابية السياسية لا تستطيع الإستمرار في نهجها الإقصائي حتى ولو كانت تمثل أكثرية السكان، فكيف بها وهي تمثل أقليّة منهم، وعليه فإن المستثنون كلياً أو جزئياً سيحتجون ويعارضون وربما يثورون في النهاية، والحل المتوفر هو قمعهم أو وقوع حرب أهليّة.. والوهابية السياسية لا تقبل الديمقراطية هنا لحل هذه المشكلة، بل هي تتظاهر ادّعاءً بأن ليس هناك مشكلة في الأصل فتحتاج إلى حل، ولا تقبل بإشاعة حالة من السلم بين المنتمين اليها وبقية المواطنين في المناطق الأخرى، فهي بحاجة إلى إشاعة توتّر دائم بين أفرادها، بحيث يشعرون دائماً بأنهم في وضع خطر، وأن الجميع ينظر اليهم بعين ملؤها الحقد والحسد، وأن الحذر من بقيّة المواطنين أمرٌ مطلوب لكي تستمرّ حالة الإقصاء وسياسة الإحتكار للسلطة.

الوهابية منذ احتلالها لمناطق البلاد في بداية القرن العشرين الميلادي لم تعش لحظة استرخاء، أو تسالم اجتماعي مع المجموعات السكانية التي أُخضعت لسلطانها واعتبرتها خصماً، فالشعور بالغلَبَة كان محفوفاً بالمخاطر والمنزلقات مما يجعل القيمين على التيار النجدي شديدي التوتر والحساسية من فتح موضوعات مثل التعايش والمساواة والمشاركة.

إن شياع مثل هذا الآراء خطير، بغض النظر عن مقدار صحته أو سقمه.. لأنه يغلق الأبواب أمام التغيير السلمي أو نصف السلمي، ويقفز بالمواطنين المستائين إلى العمل المسلح أو إلى الدعوة إلى الانفصال.

الحل السلمي يكون عبر التحوّل من نظام سياسي إلى آخر، سواء كان ذلك بفعل متغيرات سياسية، أو متغيرات اقتصادية، كأن ينهار الوضع الإقتصادي، أو بهما معاً.. وفي الحالة السعودية لن تحدث بالطبع حالة مثلى أو قريب منها حدثت في بلدان عديدة نجحت في التحول السلمي نحو الديمقراطية، لكن الوهابية السياسية قادرة فيما لو أرادت أن تدفع بالتغيير وأن تدفع ثمنه.

 

المركزية والحل الفيدرالي

 

السعودية دولة مركزية. المركز يقرر تقريباً كل شيء، وكل شيء يعود إلى المركز. حتى نظام المناطق ما هو الا تعبير بصورة من الصور عن المركزية الشديدة، حتى ليكاد المواطن يعتقد أن إمارات المناطق لا تعدو كونها مجرّد موصّل حراري إلى المركز، الذي عليه أن يتخذ القرار مهما كان تافهاً وصغيراً.

من يدير المناطق رسمياً وعمليّاً هي وزارة الداخلية، فالموضوع هنا له التصاق بـ (الأمن) والإلحاق الأمني للمناطق (المحتلّة). والتقسيم الاداري أو المناطقي قائم على أسس أمنيّة، ووظيفة إمارات المناطق أمني بالدرجة الأولى وما عداه فثانوي. فالإستدعاءات للأفراد، وأوامر التحقيق، والإعتقال وإطلاق سراح المعتقلين، كلّها تمرّ عبر الإمارة، والوجه الطاغي لها أمني بدرجة أساسية.. ولا نعلم إن كان لها أي أهتمام بمشاريع أخرى، اقتصادية أو عمرانية أو تعليمية.. وهي أمور يفترض من الناحية النظرية أنها مشمولة بعمل المناطق وأمير المنطقة. ولكن التقصير في هذه الأمور ليس مهماً لأن هناك وزارات تقوم بالواجب من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن التقصير فيها لا يعيره المسؤولون في الرياض أي أهمية، إلا إذا انعكس على الوضع الأمني. في غير هذه الحالة تبدو الأمور الأخرى من الأمور الإجرائية وهي رغم عدم الإهتمام بها من قبل الإمارة إلا أنها لا تتم بدون المرور عبرها في دورة بيروقراطية شديدة.

"المركزية" سببت من نواحي عدّة أضراراً بكل المواطنين، وبوحدة البلد عموماً. هي من أحد الأوجه عمّقت مشاكل المناطق، حيث تعقدت العلاقة وتشعبّت وأصبحت أشبه ما تكون بحالة مرضية مزمنة غير قابلة نظرياً للحل. ذلك أن مقدار الحرية المعطى من المركز السياسي الى المناطق للتصرف جدّ محدود ـ وهذا أهم عامل أو مؤشر على مركزية الدولة. ليست للمناطق حرية أو هامش حرية للتصرف حسب الخصوصية المحلية، بل أن العقدة الأمنية ما جاءت إلا لتقمع هذه الخصوصية من أن تعبّر عن نفسها. القرار مركزي يأتي من الأعلى لكل المناطق دون أن يكون لها حق المساهمة في صنع أي قرار خاص بها أو يؤثر عليها، كما لا يحق لها ردّ أي قرار مركزي ـ من الداخلية طبعاً ـ وإن كان تطبيقه ينذر بمشكلة كبيرة، هذا فضلاً عن أن تساهم المناطق في صناعة قرار المملكة الكلي على الأصعدة المختلفة.

وفي الوقت الذي تتجه في الدول في العالم أجمع نحو إعطاء المناطق دوراً أكبر في صناعة السياسة المحلية، والتمتع بشيء غير قليل من الخصوصية، فإن السعودية على عكس ذلك تماماً. هي منذ تأسيسها تتجه نحو المركزية المطلقة، فتسحب يوماً بعد آخر صلاحيات المناطق لصالح المركز، حتى ولو كانت تلك القرارات تافهة. المناطقية عند العائلة المالكة تختلف عنها عند الآخرين: فهي أي المناطقية تمنح حرية أكثر في الدول الأخرى وفي السعودية تختزلها. وهي في البلدان الأخرى تعزّز هويّة السكان المحليّة ضمن البوتقة الوطنية وتفادياً لتطور مشاعر انفصالية، بينما هي في السعودية تمسح هويّتهم بدل أن تحييها أو تسمح بالتعبير عنها في الأقل.

وفي داخل المركز بين صناع القرار في الرياض، تتمركز الصلاحيات في يد العائلة المالكة، وليس الوزراء، وبين العائلة المالكة تتجه المركزية إلى الملك (قيل أنه حين مرض الملك فهد كانت هناك نحو ثلاثمائة ألف قضية معطّلة بينها قضايا مضى عليها أكثر من عشرين عاماً كانت تنتظر من الملك لفتة حل).

في بداية التأسيس كانت مشكلة (الإتصالات والمواصلات) قد فرضت على ابن سعود وهو يحكم مملكة في غاية الإتساع، أن يمنح نوابه أو أمراءه على المناطق بعض الصلاحيات، وبالخصوص إبنه فيصل (نائب الملك على الحجاز) وعبد الله بن جلوي (أمير الأحساء). وللمقارنة فحسب، فإن مما لا شكّ فيه أن الصلاحيات التي مُنحت لابن جلوي هي بمقاييس اليوم أكبر بكثير من الصلاحيات الممنوحة لمحمد بن فهد وإن كان هذا الأخير ابناً للملك، بل من المتيقن أن سلطة ابن جلوي الإبن (سعود) هي أكبر من سلطة ابن الملك اليوم، كما أنه ليس هناك من دليل قاطع على أن سلطة محمد بن فهد أكبر من سلطة عبد المحسن بن جلوي، مع ملاحظة أن الأول كان قد أُعطي صلاحيات استثنائية ليعمل على تهدئة المنطقة حين عين أميراً لها عام 1985، ولكنها سُحبت بالتدريج منه، وإن لم يتغير الحال في المستقبل فإن صلاحيات من سيأتي بعده ستكون أقلّ.

حين تطورت الإتصالات صار بإمكان الملك أو المركز أن يأخذ أكثر القضايا وأن يتدخل في ما يعجبه من أمور ومسائل، وأن يسحب الصلاحيات المحليّة لصالح المركز. لم تستقر أية تقاليد في تلك المرحلة المبكّرة من عمر السعودية، لتنمي نواة بيروقراطية محليّة تتمتع باستقلال عن المركز. الذي حدث هو عكس ذلك تماماً. قبل قيام الدولة الحالية، كانت عسير والحجاز والأحساء والقطيف تتمتع بهامش كبير من الإستقلال، بالنسبة للمناطق الملحقة إسمياً بالسلطة العثمانية، وكانت هناك مشاركة أهلية ومجالس بلدية محلية شبه منتخبة. وحين جاء السعوديون احتكر الأمير المعيّن الحكم باسم المركز، وكانت الصلاحيات التي منح إيّاها في أكثرها إجرائية مهما قيل عن توسّعها. ما كان ابن جلوي يفعله أنه كان منفذاً للأوامر، مع أنه صاحب رأي يُسمع.

كانت سلطة المركز إقتصادية وسياسية. مع أن بعض أمراء المناطق كالأمير فيصل في الحجاز، وابن جلوي لهم اتصالاتهم المباشرة بالإنجليز والقوى السياسية المحيطة في البحرين. هذه الصلاحيات جاءت من الملك نفسه وضمن حدود تخويله بها. أيضاً، كانت هناك مركزية عسكرية ومركزية ادارية، وكان ابن سعود قابضاً عليهما، باعتباره رئيساً للدولة والقائد الأول لجيوشها وعساكرها. الحال استمرت حتى اليوم في شتى المجالات؛ إذ ليس هناك أي موانع أمام الملك أو الأمراء كمجموعة من أخذ أية صلاحيات وممارستها، سواء كانوا قادرين على الإيفاء بمتطلباتها ومسؤولياتها أم لا.

ماذا تعني المركزية في بلد كالسعودية؟ إذا ما قررنا أن هناك مشكلة هوية وانتماء، فإن المركزية تعني النجدية. حين تذهب قضايا المناطق إلى المركز فإنها لا تجد تفهماً ليس فقط لأن هناك بعض المهووسين في أجهزة الدولة بالتعصب السياسي والطائفي والمناطقي الذي يمنع صاحبه في الأصل من التفكير الصحيح وتقدير الأمور حق قدرها.. بل وأيضاً ليست هناك قدرة على فهم المشكلة حتى مع توفّر حسن النيّة، فهناك مشاكل وقضايا لا يمكن لأحد أن يفهمها إلا اصحابها. مجمل السكان يشكون من أن الآخر لا يفهمهم، هذا صحيح بلا شك. مثلما هو صحيح أيضاً أنهم لا يفهمون الآخر، والفارق أن مستوى المسؤولية يختلف.

إن ما تعنيه المركزية في بلدنا هو أن مشاكل المواطنين جملة لا تحلّ، فحيثما وجدت المركزية وجدت مشاكل، رغم وجود ما يُسمّى أو يدّعى نظام للمناطق، الذي يعتبر وجوده كعدمه. المملكة نشأت كبلد مركزي، رغم أن كل مقومات أن تصبح دولة فيدرالية كانت ولاتزال قائمة. بالنسبة لبعض الدول فإن الفيدرالية، والتي يقصد منها: نظام سياسي قائم على مبدأ توزيع السيادة بين المركز والمناطق، نشأت كنتيجة تلقائية، أو كانعكاس لنشأة الدولة. فإذا كانت الدولة قد نشأت من مناطق أو إمارات أو دول منفصلة (وحدات سياسية) فإن ذلك يجعلها كما في أميركا واستراليا تشكل فيدرالية تمنح من خلالها المركز قدراً من الصلاحيات.

أما الدول التي تنشأ كما في السعودية عبر الضم القسري العنفي غير الحرّ، فإن رعاتها لا يبحثون عن فيدرالية، فالغالب المنتصر، خاصة ذو العقلية القبلية، والمذهبية الطاغية التي يريد تسويدها على الآخر، لا يقبل بغير كامل السلطات والصلاحيات. هكذا نشأت السعودية كدولة، بدون اختيار أو رغبة. لم يستشر السكان في أمر الوحدة، إذ لو حدث لكان الناس قد اختاروا نظاماً قريباً من الفيدرالية بحيث: توزّع السلطات بين المركز والمناطق، وتوفّر قدراً كبيراً من الفاعليّة في إدارة كل منطقة أو مقاطعة، وتوفير خدمات بصورة أفضل. وأيضاً بالشكل الذي يرضي المشاعر المحليّة، مناطقيّة أو مذهبية أو معاً، وتتيح للسكان في كل منطقة التعبير عن تلك الخصائص في إطار الوحدة الوطنية.

غير أن الذي حدث عكس ذلك:

ـ فقد وضعت المركزية مقابل الفيدرالية التي كانت قادرة يومئذ على صناعة نظام سياسي أقرب إلى الإنسانية والى روح العصر، قادر على أن يعمّر طويلاً، وأن يكون مقبولاً ومرضي عنه من قبل السكان.

ـ الصهر والتذويب الثقافي في بوتقة الوهابية، أي اعتماد الأحادية الثقافية، مقابل التعددية التي هي في الأصل حالة طبيعية ومفيدة في بلد لم يعرف ـ وليس مفيداً في الأصل أن يعرف ـ التوحّد الثقافي حتى اليوم رغم كل الإصرار.

ـ الإستئثار بالحكم ومنافعه مقابل الشراكة مع المختلف.

ـ الإلحاق والضمّ (سلطنة ومملكة نجد وملحقاتها!) بدل احترام كينونة وثقافة وتاريخ وهوية كل منطقة.

إن منطق القوة وليس منطق التنازل هو الذي ساد حكم العائلة المالكة منذ أن بدأ لكل المناطق التي وصل اليها سلطانها.. واذا ما اختفت القوة فإن الوحدة السياسية الفوقية المصطنعة ستتفكك، لأن الدعوات الإنفصالية تتخفّى وراء سياط القهر.

كان يمكن في السعودية نظرياً تطوير الإلحاق القسري ليقود إلى إلحاق نصف اختياري لو أعتمدت الحكمة في فهم خارطة السكان ونفسياتهم وتنوعهم في المناطق التي يقطنونها. إن بقاء الشيعة في مناطقهم، والحجازيون كذلك مؤشر على حقيقة أن الدمج السكاني لم يتم في المملكة، وإن بقاء مجموعات سكانية في مناطق مختلفة لا يعني الدمج. إن الأغلبيات القابعة في مناطقها تثبت أن دوافع الإنفصال لاتزال أكبر من دوافع الإلتحام. وأن عوامل ثقافية واقتصادية وسياسية هي وراء كل مشاعر العزلة التي تدور في إطارها نوازع الإنفصال عن جسد الدولة.

يجب ان ندرك مغزى أن السعودية دولة قامت على الضم العسكري والإلحاق، فهذا النوع من الدول هي الأكثر عرضة للتفكّك من جديد. الذي يخفف من وطأة ذلك: أن يمضي وقت طويل على تأسيس الدولة، فالعمر القصير قد يعيد الأمور إلى سابق عهدها، وأن تتحوّل الدولة إلى حالة دستورية تحظى بقبول شعبي عام. بحيث تنتقل مؤسساتها ودستورها من حالتها الإنتقالية إلى حالة مستقرّة؛ وأن تخلق هويّة وطنيّة وثقافة وطنية جامعة، وأن يتغاضى قصداً عن بعض مفاصل تاريخ النزاع إلى حين على الأقل؛ وأخيراً أن تُمنح المناطق فرصة إدارة ذاتها والتعبير عن ثقافتها في إطار البوتقة الوطنية. أي أن يتحول ما يسمّى بملحقات نجد، والإمارات المضافة إليها خاصة إذا كانت كبيرة الحجم أو تضاهي المركز في كثافة السكان والمساحة والأهمية الإقتصادية والإستراتيجية، إلى ما يشبه الفيدرالية.

لهذا ليس هناك مستقبل أمام المملكة سوى واحدٍ من حلّين: الحل المذكور أعلاه، رغم كلفته بالنسبة للعائلة المالكة والفئة المنتفعة بوجودها، والذي يجعلهم شركاء متميّزين، وليسوا أسياداً مطلقين. أو الإستمرار في الوضع القائم الذي يجعل البلد مفتوحة أمام كل الإحتمالات حتى ينتهي عهد الغلبة والإكراه. إما بانتهاء العائلة المالكة، أو بدعوات انفصالية صريحة تجد لها دعماً أجنبياً يفكّك المملكة.

هناك مسألة مهمة، وهي أن الفيدرالية تحمل وجهاً خطيراً: فقد تؤدي في بلد حديث كالسعودية إلى تفكيكه. ومع أنها حلّ لمعضل حقيقي فإنها في بلد يتكون من أقليّات كما هو الحال في السعودية، قد تفسح المجال لها بأن تنفصل. بمعنى أن تطوّر حالة من الإستقلال الذاتي المودي للانفصال.

 

الحلول الإستئصالية والإدارية

 

المذهب الرسمي بطبيعة نشأته  يؤمن بالحلول الإستئصاليّة، وله نزعات بهذا الإتجاه غير عادية.. يدعمه في ذلك جهاز الدولة الذي تسيطر عليه. الأمر المؤكد بين النخبة الدينية أنها لاتزال شديدة الميل لاستخدام مفهوم الجهاد ضد شرائح من المواطنين، وليس مجرد الإعتقاد النظري، أي أن الغطاء الشرعي لاستخدام العنف والتكفير ضد المخالف لم يتغير كثيراً منذ أن نشأت الدولة السعودية الحديثة، ولم يغير قيام الدولة شيئاً كثيراً من عقلية نخبها الدينية، التي أكثرت في العقدين الماضيين من إصدار فتاوى التكفير والقتل ليس ضد الأفراد فحسب بل والجماعات أيضاً، وهي بين الفينة والأخرى تقوم بالتحريض ضدهم، ومن منابر الدولة الرسمية الإعلامية والتعليمية.

النخبة السياسية المسيطرة (آل سعود) ترى أن القوّة تحكم، وتفرض ما تريد دون حدود. من حسن حظّ أعضائها أنهم شهدوا هذا المنطق وقد كُسر مراراً خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، بانهيار الإتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي وتفكك بعض دوله. فلا يعني وجود القوة: القدرة على استخدامها، كما لم يعد يعني استخدامها بتوسّع شأناً داخلياً لا أحد يعترض عليه من قبل المجتمع الدولي. هذه التجارب مرّت أمام القيادة السعودية، ولا نعلم إلى أي حدّ يمكن القول أنها استفادت من دروسها. الأمر المؤكد أنّ هناك بين أمراء العائلة المالكة وحاشيتها من هو مهووس بالتهديد بالقوة، وبالحديث عن سيل الدم إلى الركب، وعن السيف الذي (لازال بيدنا)  على حد الملك عبد العزيز وأبنائه من بعده.

والأمر المؤكد الآخر، أن القيادة المسيطرة مجملاً تشعر بقدر كبير جداً من الاطمئنان في قدرتها على إخماد أي تمرّد عليها، فيما توفّر القوى الحليفة الخارجية المناخ السياسي للتغطية على فعلتها الداخلية. هذا الشعور الطاغي بالثقة، في استخدام الحدّ الأقصى من الدمويّة مع المواطنين، بدأ بالإنقلاب والتراجع السريع بعد أحداث نيويورك 2001، بحيث أضافت الحادثة بعداً دولياً شديد التأثير تجاه ما يحدث في الداخل السعودي.

إن أشكال الحلّ الإستئصالي متعددة، وهو يستهدف التخلّص من المشكلة إلى الأبد، سواء كانت مشكلة أثنية أو دينية أو غيرها.

التهجير: هناك حلّ عبر التهجير، حيث يتم إبعاد شعب ما من وطنه، إلى بلد آخر، أو إلى منطقة أخرى ضمن الدولة نفسها. مثلما فعل ستالين بشعوب القوقاز، أو كما حدث أثناء استقلال الهند بين المسلمين والهندوس، حيث التهجير المتبادل فور إعلان دولة الباكستان، أو كما حدث في البوسنة والهرسك أيضاً، بغض النظر عن القدر المتحقق من النجاح. والوهابيون الذين قذفت سياساتهم العنفيّة بملايين البشر خارج الجزيرة العربية خلال القرنين الماضيين، يدور في مخيلة متطرفيهم شيء من هذا الحلّ، على الأقل بالنسبة للشيعة، وهناك من مشايخ الوهابية من طالب بوضع حدّ لتكاثر المواطنين الشيعة (كما جاء في مقالة الشيخ ناصر العمر) ومنهم من أراد التشكيك في عروبتهم لأغراض لا تخفى. إلا أن المشاريع المتطرفة من هذا النوع يستحيل تطبيقها من الناحية العملية، لأسباب مختلفة، بعضها يتعلق بالشيعة أنفسهم، وبعضها يتعلق بالوضع الاقليمي والدولي.

التقسيم: هناك حلّ نهائي أيضاً عبر التقسيم، سلماً كان أم حرباً. الباكستان والهند نموذجاً قديماً، ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا نموذجان حديثان. وهذا النوع من الحلول يقلق النخبة الحاكمة، فهو الأقرب من وجهة نظرها إلى التحقّق.

الدمج: هناك حل الإمتصاص والدمج للمجاميع السكانية في بوتقة ثقافية جامعة، أميركا وكندا واستراليا أمثلة. ولكن السعودية لا تستطيع ـ رغم التشابه النسبي ـ تطبيق هذه السياسة لضعف الثقافة الأحادية الوهابية على الإمتصاص بسبب نشوزها وحديتها.

الحل الإيديولوجي: حيث يفرض النظام السياسي القائم سياسة عدم الإعتراف بكل الأديان أو المذاهب وبكل الأثنيات وبأية اختلافات أخرى، ويقوم في نفس الوقت بفرض المساواة بين الجماعات والشعوب والأقوام في بلد متعدد. وهذه السياسة قد طبقت إلى حد كبير بالنسبة للاتحاد السوفياتي وآتت فشلها، وفي الصين جرى تعديلها، بحيث سُمح للتعبير عن الهويات الأثنية والدينية ضمن النطاق الوطني.

المذابح: وأخيراً هناك حل إستئصالي عبر الإفناء والمذابح بالشكل المروّع الذي شهدناه بين التوتسي والهوتو في رواندا. تُعرّف المذبحة بأنها الحالة شديدة التطرف من الخلاف بين الجماعات الدينية والأثنية والتي تستهدف إفناء الجماعة الثقافية أو الدينية أو الأثنية جزئياً أو كليّاً. في حين ان التطهير العرقي يتضمن أعمالاً مشمولة بتعريف الأمم المتحدة للمذبحة. على أن هناك من بين الجماعات الدينية والعرقية من يتحدّث أو تحدّث عن (مذابح ثقافية) تعرضوا لها، كالكاتلان في أسبانيا في عهد فرانكو، والكيوبيكيون في الخمسينات في كندا، والغجر/ النور في كثير من أصقاع العالم.

تقع المجازر أو المذابح في الدول المتقدمة وغير المتقدمة، وفي البلدان إما ثنائية العرقية أو متعددة الأعراق والهويات. إن طبيعة المجتمع وطبيعة النظام السياسي لا تقدمان إجابة شافية على وقوع المجازر، ولكن وبلا شك فإن هناك مجتمعات تميل إلى العدوانية لطبيعتها الثقافية/ الدينية، مع أنه يوجد في كل الأديان والمذاهب والأعراق متعصبون عدوانيّون. أيضاً قد تخلق البيئة المناخية مجتمعات تتسم بالقسوة والفظاظة كالمجتمعات الصحراوية المغلقة وكذلك الجبليّة الصعبة، مع أن مجازر وقعت في أجمل وأخصب بقاع الأرض!

إن طبيعة التاريخ المشترك بين الجماعات المختلفة، وحدود المصالح المشتركة، وطبيعة الروابط الفطرية الأوليّة وقدرتها على منع التواصل مع الآخر.. عوامل قد تزيد أو تقلّص من احتمالات وقوع المذابح.

هناك أيضاً سبب مهم، وهو "الخلل" في تقسيم المصالح بين الفئات العرقية والدينية والمناطقية، سواء كانت تلك المصالح (سلطة سياسية) أو (إمكانات إقتصادية) أو (إمتيازات ثقافية ودينية ومناطقية). كلما كان توزيع المصالح أقرب إلى تحقيق العدالة، كلما كانت الصراعات أخفّ وطأة، وكان الميل إلى حفظ ما في اليد واستخدام وسائل ضغط سلميّة أقرب إلى التحقق. أما اذا استأثرت فئة أو منطقة بالخير كل الخير، وحرمت نظرائها منها، وسواء كانت تلك الفئة المسيطرة أقليّة أم أكثرية، فإنها لا تترك خياراً للطرف الآخر إلا أن يعمل على تغيير المعادلة بالقوّة، فيصبح أعضاء الفئة المسيطرة او المحرومة هدفاً للمذابح والمذابح المضادّة.

كذلك حين تفشل قواعد الشراكة (الظالمة أحياناً) ولا يستطيع الشركاء الوصول إلى حل جديد، فإن الحرب تقع، وتقع بعدها المذابح على الهوية أحياناً. وقد تقبل جماعة معينة تقسيماً للحصص غير عادل، خضوعاً منها لمنطق القوة، ولكنها قد تختار وقتاً مناسباً لفتح معركتها من أجل إعادة توزيع السلطات والإمتيازات، وحينها تكون الأمور أقرب ما تكون إلى الحرب الأهلية وعلى مقربة من وقوع المذابح. كذلك حين تستسلم جماعة دينية أو عرقية للفئة الغالبة فتحرمها من كل حقوقها، فإن المذابح لا تقع.. ولكن حين يبدأ المحرومون في المطالبة بحقوقهم يقع الصراع، وإذا ما تطوّر قد تقوم حربٌ أهليّة. وحينها يُتهم الضحايا والمحرومون بأنهم (السبب) وراء إشعال الفتنة.

في الحالة السعودية، فإن تاريخ المملكة الحديث، بل تاريخ السعوديين القديم والحديث مليء بشواهد الدم لا نريد هنا أن نستعرضه، فهو مسطّر بتفاخر في كتب التاريخ وتباع في الأسواق. إنما الذي يهمّنا هنا هل أن تلك المذابح التي لم يمض على بعضها سوى عقود، قابلة لأن تكرّر.. هل ثمة استعداد لفعل ذلك، سواء على خلفية دينية متطرفة أو على خلفية مصلحية حاضرة واضحة؟. لعلنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا أن الإجابة نعم، إذا ما كانت هناك تغطية سياسية دولية، هي الآن صعبة التحصيل.

الحل الإداري: وهو حل غير استئصالي، وهذا الحل قائم على أساس فكرة أن ليس هناك من حل للمشاكل الدينية والعرقية. وبالتالي فإن هدفه التعاطي مع المشكلة ومحاصرتها وحلحلة أجزائها المتفجّرة، خطوة إثر خطوة، على أمل أن يلعب الزمن دوره في تخفيض المشكلة إلى حدّ يجعلها غير مؤثرة لا على بنيان الدولة ولا على حياة المواطنين أنفسهم، ولا على علاقة المواطنين بعضهم ببعض. هذا الحل يعتمد سلسلة متواصلة من العمليات الصغيرة والمستمرة ويتضمن الخطوات التالية:

1 ـ إشراك جميع فئات المجتمع في ماكنة السلطة، فالهدف إدخالها في اللعبة وليس إخراجها منها، لأن الخطر يكمن في الإقصاء، فهو يعني عدم وجود حدود للعبة السياسية، وبالتالي ليس هناك من حدود للخروج عليها.

2 ـ إعتماد منهجية صالحة في التعليم، خاصة في كتب الدين والتاريخ، يقوم على تعريف الآخر بعيداً عن التنميط، وبعيداً عن الإغفال، وبعيداً عن الإسفاف وعدم الاحترام.

3 ـ تشجيع الإتصال بين الجماعات المختلفة عرقياً ومناطقياً ومذهبياً، وخاصة بين القيادات السياسية والروحية والنخب العلمية والفكرية والإقتصادية.

4 ـ ترسيم الخطوات دستورياً ونظاماً حتى تأخذ مفعولها الزمني الطويل وتمنع الإنفجارات المفاجئة، وحتى يحتكم اليها كقواعد مرجعيّة عند الضرورة.