دروس الحرب في

العلاقة المأزومة بين الحاكم والمحكوم

 

 

دخلت بلادنا دورة صمت إعتادت على الدخول فيها كلما دهمتها من نوائب الدهر ما يحمل تهديداً لأسس استقرار سلطتها السياسية، أو يعكر صفو الماسكين بزمامها، فقد حبس ولاة الأمر أنفاسهم بإنتظار مجهول محذور ورجاء طالع مأمول يأتي ببشارة الخير لأهل الحكم، بزوال الخطر عن مركز السلطة.

لقد فقدت السياسة فعاليتها ولم يعد سوى دوي القنابل والصواريخ لغة التداول السارية المفعول حتى الآن، وهي لغة تمقت بلادنا استعمالها عجزاً، رغم المخصصات الدفاعية المفزعة في الموازنة العامة للدولة.

الحكومة في بلادنا ترمق بحذر شديد مشوب بالخوف والأمل لما يجري خلف الحدود الشمالية، فالمصير السياسي للمنطقة بات يتقرر الآن في جبهات الحرب على العراق، فيما لم تعد الدبلوماسية من  أدواتها المؤثرة بطبيهعة الحال.

والسؤال هنا يظل: ماذا حملت الحرب الينا من دروس يمكن لنا أن نتعلمها، وبخاصة فيما يتصل بالمحنة المزمنة، أي التوتر الشديد في العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

قبل الاجابة لابد من الاشارة الى عدة نقاط هامة:

ـ إن ثمة ما يفزع حقاً في الاطمئنان التام لدى الادارة الأميركية في قرارها إعلان العدوان على العراق. هذا الإٌطمئنان يستحضر دون ريب حقيقة أن الأنظمة العربية هي نظم لا تستند على تأييد شعبي ولذلك فالمراهنة الدائمة على أن خلخلة النظام السياسي بموجة مكثّفة من الصواريخ الموجّهة للمؤسسات الحيوية للسلطة سيخلق فرص تمردات داخلية تؤدي في مجملها وفي نهاية المطاف الى الاطاحة بالنظام السياسي. العراق بلا شك ليس استثناءً فهناك، في نظر الولايات المتحدة، من الجماعات الخاسرة في كافة أرجاء الوطن العربي من لا ترى ضيراً في زوال الانظمة السياسية في بلدانها كرد فعل على شناعة الأوضاع المزرية التي عاشتها وتعيشها في ظل أنظمة تمثل أجهزة الأمن الوسيط الدائم في العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

ـ إن الاحساس الشديد والتلقائي بضرورة المنافحة ضد العدوان في صورة الاجتياحات العسكرية، وتلك الروح المتوهجة في الموقف من الغزو والاحتلال بصورة اكتساحية وحدها التي يمكن للنظم العربية استثمارها كيما تؤجّل لقاء حتفها. ولكن ما لا يجب نسيانه هو أنه حين تُنضِب السلطة ذلك الوقود الذي يبقي على توهج الروح نتيجة سياسات وتدابير أقل ما يقال عنها بأنها خرقاء، فإن المواقف كما المشاعر تكون قابلة للتبدل حالما تميل كفة الحرب لصالح الطرف الأقوى وتقترب فرص حسم الأمور حينئذ تكون لغة المصالح أكثر استعمالاً من لغة المثل، تلك المثل التي يطلب الجلاد من الضحايا الالتصاق والتشبث بها، ولكن ما أن تنكشف الغمة عن السلطة حتى تعود الأخيرة لعادتها في النبذ والاقصاء والتمييز والقمع ضد من أريد منهم أن يكونوا أشبه بدروع بشرية للسلطة.

ـ إن الأحداث الكبرى المتواترة على بلادنا والمنطقة بصورة عامة تؤكد المرة تلو الأخرى بأن السلطة لدينا غير أثيرة، الى الحد الذي لم يعد زوالها يهجس بالخاضعين تحتها، فقد فشلت السلطة في أن تتحول الى رمزٍ لوحدة الأمة كما صوّرها فقهاء هذه الأمة في مدوّناتهم، ولا هي أصبحت جزءا من النظام القيمي لدينا.

يؤسفنا القول بأن فتوى "هيئة كبار العلماء" الأخيرة يلتقي فحواها عند نقطة تبرير فشل الحكومة في تبني موقف سياسي يرتقي الى مستوى الغضب الشعبي العارم إزاء العدوان على العراق شعباً وأرضاً وحضارة وتاريخاً. الفتوى توسّلت بلغة هي من تركة زمن غابر ولم تعد تحمل بداخلها قوة إقناعية حتى في دوائر اجتماعية كانت تخضع لعقود تحت تأثير النفوذ الروحي والاجتماعي لأنصارها. فاللجوء الى لهجة التخويف بزخمها الديني المتوتر عبر التحذير من "الفتنة" و"الخروج عن الجادة" و"تفريق الجماعة" و"إشاعة الفوضى" وباقي سلسلة الالفاظ المعهودة في لغة الإنذار الديني، لم تعد هذه قادرة على إحباط رد الفعل التلقائي لدى العامة، وإفراغ الروح المشحونة بالغضب العارم لدى التيار العام، فضلاً عن أن هذه اللغة فقدت مصداقيتها وتأثيرها بل باتت ترتد على صانعيها بالحط في قدرهم والهبوط بمنزلتهم.

ـ يقال بأن هناك قادة سياسيين يتألقون في الأزمات وفي زمن الحروب كما قيل ذلك عن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والرئيس العراقي صدام حسين، ولكن الأمر يختلف تماماً بالنسبة لولاة أمرنا، فظلهم ينحسر بصورة خاطفة كلما اقتربت نذر الخطر من حدودهم، فالحكومة في بلادنا تتوارى عن الأنظار، فلا يشعر الناس بوجودها، فلا هي قادرة على صناعة مبادرة أو حتى مؤهلة للدخول في مبادرة من صنع آخرين يتوافقون معها في الموقف السياسي. كان نشازاً انتشار نبأ عن مبادرة سعودية لوقف الحرب على العراق، فقد استبشرنا خيراً بأن دبلوماسية الصمت السعودية قد تبدّلت الى دبلوماسية الموقف، ولكن ما لبثت الأمور تتضح على نحو سريع، حيث تراجعت الحكومة عن خطأ غير مقصود بإعلانها عن تبني مبادرة، فتم الانسحاب تدريجياً من دائرة الضوء في زمن الحرب، وبدأ التنصل من المبادرة بالتقليل من شأنها ثم نفي حصولها من أصل.

ـ إزدواجية الموقف طلباً للسلامة مثّلت الخيار الأسلم للعائلة المالكة في هذه الحرب، وأضفى عليها الصمت غطاءً سميكاً حتى بات من الصعب إقتفاء آثارها. لقد تحدثت صحيفة واشنطن بوسطت عن الدور المزدوج للعائلة المالكة في الحرب على العراق، هذا الدور المتمثل في: تقديم التسهيلات والدعم للهجوم الأميركي على العراق، والابقاء على سرية إنطلاق هجوم القوات الأميركية من قواعد سعودية. هذا التحايل السياسي كما أسمته الصحيفة يمثل استدراكاً من العائلة المالكة للخسارة الفادحة التي تكبدتها في العلاقة مع الولايات المتحدة، التي تمثّل الآن في الذاكرة الجماعية لأغلب شعوب الأرض قوة الشر التي تفسر على أن التعاون والارتباط بها أصبح تهمة خطيرة، وقد تتخذ في وعي الناس في بلادنا معنى الخيانة. الراديكالية الجلوبالية في الموقف من الولايات المتحدة تتطلب بلا شك من حكومة بلادنا  لعب دور ثنائي التوجه والأغراض وإن وصم بـ "الفصام السياسي".

الحكومة تقف على مفترق طرق بين تلبية متطلبات التحالف مع الولايات المتحدة وبين مراعاة مشاعر الغضب الشعبي حيال ما تحدثه أطنان المتفجرات المتساقطة بوتائر متسارعة على مدن العراق وشعبه وتراثه. التوفيق بين انشدادين خارجي وداخلي أملى على العائلة المالكة فبركة دور هجين يستعير من كل من الانشدادين عناصر يمكن بها تصنيع توليفة مرضية، ظاهراً على الأقل، للولايات المتحدة والسكان المحليين.

مما سبق يعين على العبور الى سياق السؤال المطروح عن علاقة الحاكم بالمحكوم في بلادنا في ظل ظروف الحرب وما تحمله من تهديدات عاجلة ومستقبلية.

النقاط المقدّمة سابقاً تشكل تمهيداً مناسباً لفهم تلك العلاقة، فالحرب هي إحدى أهم مختبرات العلاقة بين السلطة والمجتمع، وهي مرآة صادقة لسياسات أهل الحكم في رعاياهم. وبلا ريب، فإن أهل الحكم أقدر على التنبوء بموقف رعاياهم منهم، فهؤلاء يدركون على وجه الدقة ردود الفعل الطبيعية على كل سياسة ينتهجها أهل الحكم.

إعتماد دبلوماسية الصمت وإزدواجية الموقف من قبل الحكومة يشي بحقيقة محزنة ومقلقة في آن، تتمثل في تصدّع أسس الثقة المفترضة بين السلطة والمجتمع، فلا يمكن لسلطة تستند على دعم شعبي واسع أن تلجأ للمخاتلة في مواقفها، أو أن تلوذ بالهروب من لحظة الحقيقة، أو حتى أن تمسك العصا من نصفها. إن ما يجليه الصمت هو أن اعتلالاً عميقاً وخطيراً قد أصاب علاقة السلطة بالمجتمع، وهذا ما يجعل السلطة عاجزة عن التعبير عن إرادة القوم الذي تحكم في أوضاع تتطلب موقفاً صريحاً لا مداورة فيه.

لماذا يكون صوت المحكوم أعلى من صوت الحاكم في هذه الحرب؟ سؤال يفرض نفسه على الدوام في سياق مهمة الإجابة عن سؤالنا المركزي حول العلاقة المأزومة بين الحاكم والمحكوم. هل لأن ولاة الأمر يشعرون بعار التسهيلات العسكرية التي قدّموها لقوات التحالف كي يدّكوا أهلنا وضميرنا وكرامتنا في العراق، أم أنهم يكرهون البوح بعجزهم عن القيام بمهام الولاية فيتم الاعلان عن هدم الثقة بجدارتهم في البقاء على رأس السلطة.

ولكن أليس في التحول الدراماتيكي في العلاقة بين بلادنا والولايات المتحدة درساً لابد من إستيعابه تماماً. فالتعويل الوهمي على تلك العلاقة في ضمان استقرار السلطة قد بدّدته أحداث ما بعد الحادي عشر من سبتمبر وأحرقته صواريخ وطائرات التحالف في الحرب السافرة العدوان على العراق. فالنظام البعثي في بغداد كما النظم السياسية في المنطقة إنتهت صلاحيته بعد أن استنفذ أغراضه بالنسبة للولايات المتحدة، وتقرر شطبه من الخارطة السياسية الدولية تمهيداً لاحتلال العراق وإقامة نظام بديل. هل نتذكر قبل أكثر من عقدين من الزمن مكانة هذا النظام الذي تشن عليه الحرب لدى الولايات المتحدة ودول المنطقة؟

لقد تحوّلت الولايات المتحدة الى حليفٍ عبءٍ، وهناك دول الآن تحاول أن تفصل نفسها وشعوبها عن الاقتراب منه، فهذا القطب الدولي المثخن بجراح الحادي عشر من سبتمبر والذي كسب تعاطفاً دولياً وظهر في صورة المظلوم الذي استدر عاطفة شعوب العالم الى حد النزف، تحوّل خلال فترة قياسية القطب المنبوذ على المستوى الدولي، شعوباً ودولاً، وجاءت الحرب كيما تعزز تلك الصورة المقيتة عن قطب مقيت يبتز دماء ضحاياه لشن الحروب ونهب الثروات. لقد آذنت الحرب على العراق بعصر جديد، هو عصر الشعوب الحرة في أرجاء المعمورة، وهذا أمر يجب أن يحدث دوياً لدى الانظمة السياسية العربية التي انتبذت مكاناً قصيّاً عن شعوبها وتطلعاتها.

فالحرب الحالية على العراق تقدّم درساً خطيراً وهي أن شبكة التحالفات التي تنهار حالياً سيعاد تشكيلها ولكن وفق شروط ومصالح وظروف مختلفة، ولكن ثمة ثابتاً ظل مهملاً عن عمدٍ وسابق إصرارٍ وهو الشعوب، المصدر الوحيد للاستقرار الدائم والداعم الحقيقي للسلطة السياسية والمصدر الأكبر لمشروعيتها.

 لقد جرّبت الحكومة في بلادنا التحالف مع الولايات المتحدة لعقود طويلة وتعرّفت عن قرب على الأثمان المراد تسديدها في هذا التحالف في مقابل حماية العرش، ومما يثير الحزن والسخرية في آن أن تكون الحماية الخارجية موجّهة في الأصل لتهديدات متوهمة في الداخل، أي تهديدات يخلقها السكان المحليون للسلطة. والسؤال الآن: هل بالإمكان تحويل وجهة التحالف من الخارج الى الداخل، أي من الولايات المتحدة الى الشعب؟

إن أول ما يتبادر الى الذهن حال الاجابة عن سؤال من هذا النوع هو الأثمان المطلوب من الحكومة دفعها مقابل تحقيق درجة من التحالف مؤهلة لتحقيق الحماية. فمن المعروف أن التحالف السعودي الاميركي يقوم على أساس النفط مقابل الحماية، فهل يمكن لتحالف بديل يكون بين الحاكم والمحكوم في بلادنا أن يتحقق وما هي طبيعة تكلفته.

إن أهم ما يميّز هذا التحالف أنه ينشد غايات أسمى، تتجاوز حدود المصالح المادية الآنية وتمتد الى توفير ضمانات دائمة لعلاقة متوازنة قائمة على أساس تقاسم السلطة والثروة وبالتالي الشعور الجماعي بالمسئولية والخطر الذي يتطلب إنخراطاً عاماً للافراد في مهمة حماية السلطة التي ستكون حينئذ رمزاً لوحدتهم.