أين نحن من الاستقطاب الدولي الجديد

عبد الله الطائي

لقد كان يوم الحادي عشر من سبتمبر 2001 يوماً مفصلياً في تاريخ الولايات المتحدة يؤرخ لما قبله ولما بعده، حيث أن الحدث هزَّ نظرية الأمن القومي الأمريكي وأبطل مفعول المحيطات والحواجز الجغرافية التي جعلت الولايات المتحدة وعلى مدار تاريخها في منأى عن الحروب والضحايا البشرية على أراضيها، ولكن الأكثر مرارة بالنسبة لتلك القدرة الجبارة أن من قام بالمعركة والتنفيذ ليس دولة بعينها ولا جيوش جرارة بل حفنة من البشر قضوا وانتهوا في تنفيذ معركتهم وهذا ما زلزل ذلك الكيان وجعله مضطربًا وفاقدًا للثقة بذاته وبالآخرين، كل الآخرين الذين أصبحوا أعداء محتملين في كل الأوقات وهذا شمل حتى أولئك الذين يعيشون على أرض الولايات المتحدة ويحظون بجنسيتها.

 أما العالم كله فأصبح ينقسم في نظرية سياسيي الولايات المتحدة على النحو التالي: إما تابعاً ذليلاً ينفذ أوامرها أو عدواً يستحق عقابها. ورغم أن العالم بأسره دولاً وشعوباً وقف إلى جانب الولايات المتحدة في محنتها تلك، نتيجةً لرفضه للإرهاب وعملية قتل الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى كونهم- وبمحض الصدفة- كانوا على متن تلك الطائرات أو خلف مكاتبهم في برجَي التجارة العالمي، إلاّ أن النظرة الإستعلائية والغطرسة والتفرد جعل من الولايات المتحدة وبالذات تلك الأقطاب الرأسمالية المتمثلة في المجمع الصناعي العسكري والتكتلات النفطية تحاول استغلال أحداث 11 سبتمبر على طريقتها في محاولة جعل العالم كله بما فيها الدول الرأسمالية وما تسميه هي بالعالم الحر مجرد تابع ذيلي عليه تنفيذ سياستها الهادفة إلى السيطرة على منابع النفط والتحكم التام في مصادر الطاقة العالمية من شرق العالم "بحر قزوين-عبرأفغانستان" مروراَ بالعراق ومنطقة الخليج إلى غرب العالم "فنزويلا"وكل ذلك يجري تحت حجة "مكافحة الإرهاب" الذي تعرفه على طريقتها حيث أضحى الإرهاب وصمة تلصق هو يكل ما يخالف الولايات المتحدة وإسرائيل فقط، وعدا ذلك لا يتضمنه قاموس وتعريف الإرهاب بالنسبة لها. وإن جرت الحرب في أفغانستان ضد طالبان والقاعدة بدون إعتراضات دولية باعتبار طالبان والقاعدة أعلنوا بشكل أو بآخر مسؤوليتهم عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر رغم الفشل المتواصل في القضاء عليهما إلا أن الحرب المزمع تنفيذها ضد العراق _و التي ربما تكون قد بدأ تنفيذها فعلاَ أثناء نشر هذا المقال_  كشفت بما لا يدع مجالاً للشك نوايا واشنطن الحقيقية في السيطرة والهيمنة على منابع النفط وعلى العالم بأسره.

 

15 فبراير 2003م:

يوم مفصلي في تاريخ العالم

 إن الحجج الواهية التي تتذرع بها الولايات المتحدة والتي تنتقل من إزالة أسلحة الدمار الشامل "رغم تواجدها في العديد من الدول في الشرق الأوسط وبالذات إسرائيل" إلى علاقة العراق بتنظيم القاعدة رغم نفي جميع الدول بما فيها العراق وبن لادن ذلك، لم تستطع أن تقنع أحدًا "ما عدا الدول التابعة والذيلية والممثلة لليمين العالمي" بأن ما تطرحه الولايات المتحدة له علاقة بحملتها على الإرهاب . ورغم قناعة كل شعوب الأرض بدكتاتورية النظام العراقي ، "تلك الدكتاتورية التي أنشأتها وحمتها و رعتها الولايات المتحدة ذاتها" إلا أن انتفاضة جماهير العالم قاطبة في اليوم الخامس عشر من فبراير تبرز بجلاء رفض العالم لهذه الهيمنة والعنجهية التي تصاب بها الامبراطوريات وهذا ما أسس وسيظل يؤسس لاستقطاب عالمي جديد يخلق توازنًا دوليًا قادرًا على كبح جماح تلك الهيمنة.

إن الموقف الفرنسي"العضو الدائم في مجلس الأمن" والذي لوّح في أكثر من مناسبة إلى إمكانية استخدامه حق النقض وكذلك الموقف الروسي الذي أعلن صراحةً إمكانية استخدامه ذلك الحق بالإضافة إلى الموقف الألماني الذي ظل مكبلاً منذ الحرب العالمية الثانية تحت الجنازير الأمريكية وكذلك الموقف الصيني رغم برودته، تؤسس ـ هذه المواقف لقطب عالمي جديد يضم كلاً من فرنسا و روسيا وألمانيا والصين وإن لاحقًا في مواجهة القطب المنفرد المتمثل في الولايات المتحدة.

إن مواقف هذه الدول وبالذات فرنسا والتي سعت وبجهد حثيث إلى تكتيل العالم عبر المؤتمر الإفريقي الفرنسي الذي رفض القوة والخيار العسكري وحث الدول العربية وبشكل معلن على رفض الحرب ودعم الموقف الرافض للحرب والنقد الجارح والعلني لتلك الدول من أوروبا والتي وصمت بأنها "غير مؤدبة" حسب تصريح شيراك والنقد العلني لمواقف بريطانيا وأسبانيا وإيطاليا والتي يحكمها إما أحزاب يمينية، أو رجل يميني كما في بريطانيا يعني أن العلاقات الأمريكية الفرنسية الألمانية على مفترق طرق وهذا أيضًا ينطبق على الموقف الروسي الذي بدا مترددًا ووجلاً في أول الأمر ولكنه تصاعد عندما أحس جدية وصلابة الموقفين الفرنسي والألماني.

إن الموقف الفرنسي الألماني الروسي الصيني المشترك في رفض الحرب والانتفاضة الجماهيرية العالمية والتي ناهزت أو زادت عن 27 مليون متظاهر في العالم بما فيها جماهير تلك الدول المساندة للحرب والتي كانت من أكبر وأضخم التظاهرات منذ حرب فييتنام" مظاهرات لندن-روما-مدريد" تعني بشكل صارخ أن العالم كله يرفض الهيمنة الأمريكية، وأن قطبًا عالميًا جديدًا بدأ في البزوغ، ليس من منطلق أيدولوجي هذه المرة بل منطلق مصلحي، وهذا لا يضيره ما دامت مصالح هذه الدول الرافضة "القطب الناشئ" ومصالح شعوبها وشعوب العالم ترفض الحرب وسيلةً لحل مشاكل الشعوب والمشاكل بين الدول وترفض الهيمنة الأحادية والمتغطرسة.

 

الولايات المتحدة في مأزق

 

رغم كل ما تبديه من صلافة وعنجهية، فإن  الإدارة الأمريكية الحالية كنظام يعيش مأزقًا حقيقيًا، فقد حاولت هذه الإدارة في البداية أن تستخدم القوة والحرب دون الرجوع لهيئة الأمم المتحدة وبعد صراع بين حمائمها وصقورها لجأت للأمم المتحدة لتمارس دورها المعتاد في الضغط على كافة الدول من أجل إستصدار قرار يسمح لها بشن الحرب إلا أنها لم تستطع رغم صدور قرار 1441 والقاضي بإعادة التفتيش والذي تعامل معه العراق على غير عادته بإيجابية وبدون عوائق ورغم المحاولات المحمومة لكل من الإدارة الأمريكية والبريطانية لإقناع الآخرين واستخدام كافة سبل الخداع والكذب من أجل استصدار قرار جديد إلا أنها لم تفلح، رغم أنها عملت منذ البدء على نشر قواتها وإرسال أساطيلها وحاملات طائراتها إلى المنطقة ومواصلة إصرارها على مبدأ الحرب متجاهلةً وغير آبهةٍ بالرافضين، إلا أنها وبالتأكيد لم تكن تتوقع- ومازالت - أن يتصدى لها أحد مع أن كل الشواهد والقرائن تقول وبوضوح أن الحركة الفرنسية الألمانية الروسية جادة ولا يمكن ثنيها هذه المرة لتساير الولايات المتحدة ولسبب بسيط هو أن مصالح هذه الدول ستتضرر، والمنطق يقول أن لا أحد سيقوم بقطع ذراعه بنفسه أو يفقأ عينه بيده.

وهذا ما يجعل الولايات المتحدة أمام خيارين لا ثالث لهما:

إما أن تمضي في مخططاتها، ومواصلة الحرب على العراق- وهذا يعني بوضوح الإلغاء التام لهيئة الأمم المتحدة وذلك لأنها تنظر لذاتها على أنها الدولة المنتصرة الوحيدة في الحرب العالمية الثالثة، أعني هنا الحرب الباردة- وبالتالي تكوين النهاية المحتومة لهيئة الأمم المتحدة بتشكيلتها وبنيتها الحالية كما انتهت من قبل عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الثانية ، و إما أن تتراجع وتسحب قواتها وهو أمر في غاية الصعوبة لدرجة تصل إلى الاستحالة، إلا أنه لو حدث سيهز بمقدار أكبر كيان الولايات المتحدة أكثر آلاف المرات من أحداث الحادي عشر من سبتمبر و سيجعلها قوةً ضمن قوى عديدة حيث سيثبت الحدث-لو حصل- أن العالم قادر على لجم سيطرة وهيمنة التفرد وهو أمر يعد بمثابة انتحار سياسي ليس فقط لإدارة بوش فحسب بل لهيمنة الولايات المتحدة وتفردها كقطب وحيد.

ومما لاشك فيه أن الخيار الذي وضعت أمريكا العالم أمامه جعل كل حلفاء الولايات المتحدة في مأزق مشابه فتركيا التي ترتبط عسكريًا واقتصاديًا بالولايات المتحدة تعيش مأزقاً بين رغبة شعبها (85-90%) الرافض للحرب وبين ضغوط ومساومات الولايات المتحدة بل أن  قوى اليمين (أسبانيا-إيطاليا-بريطانيا) التي أيدت خيار الحرب تعيش المأزق ذاته.

 

مأزق الموقف العربي الرسمي

تأتي قرارات القمة العربية التي انعقدت في الأول من مارس 2003- رغم كل التداعيات والخلافات والمساومات العلنية بين القادة العرب- لتصب في مصلحة القطب الرافض للحرب والرافض للتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى ورغم أن الولايات المتحدة عوّلت كعادتها على حلفائها في المنطقة من أجل تغطية عملها العسكري إلا أن تنبه سوريا ولبنان ولاحقاَ ليبيا لهذا المخطط والإصرار السوري اللبناني منذ اجتماع وزراء الخارجية العرب على اتخاذ موقف صلب في مواجهة الحرب بل وطرح مطالب تعرف سوريا أنها غير ممكنة التحقيق والمتمثلة في رفض تقديم تسهيلات للقوات الأمريكية، جعل القمة في النهاية تخرج بقرارات الحد الأدنى الرافض بشكل مطلق للحرب واعتبارها تهديدًا للأمن القومي العربي، مما أفشل وبشكل ذريع قدرة التحالف" الخليجي "  الذي قدم مقترح الإمارات بمطالبة الرئيس العراقي بالتنحي وهو ذاته مقترح أمريكا التي باتت تتمنى أن تحل مأزقها عبر إزاحة صدام عن السلطة بدون حرب وبالتالي احتلال العراق وتنفيذ مخططاتها في السيطرة على نفطه ونظامه بدون ضحايا أمريكيين أو حتى عراقيين و الذين إن طال أمد الحرب سيكونون وقوداَ إلى انتفاضة عالمية جديدة معادية للولايات المتحدة وسياستها وهيمنتها .

إن مأزق الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة يتمثل الآن- وبعد صدور قرارات القمة وخصوصاَ بعد الحرب في أنها ستتعرض للعقاب من قبل حاميها وداعمها "الولايات المتحدة" ذلك أنها لم تستطع كما فعلت في عام 91 على إعطاء الغطاء العربي الذي احتمت به الولايات المتحدة في حربها ضد العراق أثناءها وهي في ذات الوقت ونتيجة لهذا الخوف رفضت التدخل في شؤونها الداخلية أي أنها رفضت خطط الولايات المتحدة في"نشر الديمقراطية" والعلاقة مع إسرائيل كما أعلن كل من بوش وباول . إذن هي الأخرى أمام مفترق طرق وبالتأكيد ستتعرض في الأيام والشهور القادمة لضغوط وتغيرات ربما تكون دراماتيكية ذلك ببساطة أن نشوء القطب الجديد سيستغرق وقتاَ من أجل بنائه وتبلوره ليكون قادراَ بالفعل على التصدي للمخططات الأمريكية ولأن دول القطب الناشئ ليست مستعدة أساساً للدفاع عن نظم ظلت طوال السنين تدعم الولايات المتحدة ومخططاتها وتبني علاقات اقتصادية خاصة معها رغم موقف الولايات المتحدة المعادي للقضية الفلسطينية ودعمها اللامحدود لإسرائيل على العكس من تلك الدول المتمثلة في القطب الناشئ. وأنا أعتقد ورغم كل شيء أن سوريا ولبنان ربما سيصبحان أكثر أماناً وحماية من تلك التغيرات المراد إنشاؤها في المنطقة ذلك ببساطة للعلاقات التاريخية التي تجمعهما مع كل من (روسيا-فرنسا) ولأنه لايوجد على أراضيها قواعد وجيوش أمريكية كما هو حاصل في دول الخليج. هذه القواعد والقوة العسكرية ستمارس دورها الضاغط على هذه الدول في الأيام القادمة .

 

المأزق الخليجي والسعودي

 

بالإضافة إلى المأزق الذي تعيشه هذه الدول منذ الحادي عشر من سبتمبر باعتبارها دول فرّخت تنظيم القاعدة ودعمت نظام طالبان وبالذات النظام السعودي الذي لم يلبِّ رغبة الولايات المتحدة في إقامة علاقات علنية بإسرائيل رغم المبادرة السعودية "مبادرة الأمير عبدالله" التي شرّعت الاعتراف بإسرائيل إذا هي إنسحبت من الضفة وغزة، أقول بالإضافة إلى هذا المأزق فإن الموقف من الحرب على العراق يمثل مأزقاً آخر، حيث أن الموافقة على الحرب وإعطاء التسهيلات العسكرية واللوجستية عنى افتضاحها أمام شعوبها وإعلانها العداء التام لشعوبها الرافضة للحرب ورفض الحرب كما حصل في مقررات القمة يضعها في مأزق أمام الولايات المتحدة وهذه هي النتيجة الطبيعية للتحالف مع الولايات المتحدة في ظل أنظمة تغفل شعوبها وتغيب الديمقراطية فيها وتحكم بشكل شمولي مطلق.

إن على شعوب منطقة الخليج وبالذات شعبنا في السعودية أن يدفع بالتغييرات القادمة لجهة تأسيس توجه حقيقي نحو الديمقراطية والمشاركة الشعبية بشكل ثابت. ورغم معرفتنا الواعية والدقيقة بنظام الولايات المتحدة الذي لايمكن التعويل عليه نهائياً في دعم أو إنشاء الديمقراطية إلاَ أن ظروف التغيرات والتوازنات في محاور الصراع في إطار السلطة ذاتها يخلق هامشاً كبيراً للمناورة والدفع باتجاه التغييرات الديمقراطية.  أما الولايات المتحدة التي لا تهدف إلا لإستغلال نفطنا والهيمنة علينا فإنها ستعيش مأزقها في الأيام القادمة وسيعطينا ذلك هامشًا من المناورة في التعامل مع القطب الناشئ للتخلص في نهاية المطاف من الهيمنة الأمريكية.  إن كل القوى الديمقراطية في بلادنا مدعوة بقوة لرص صفوفها ونبذ خلافاتها ووقوفها بشكل مبدئي واستراتيجي من أجل صيانة وحدة بلادنا والمطالبة بالديمقراطية والمواطنة كحل أساسي وحيد لمواجهة الأخطارالمحدقة بنا سواء كانت من سلطة عميلة وشمولية أو من حاميها وراعيها الولايات المتحدة.