الدرس العراقي البليغ!

 

كان منظر التمثال المهيب للرئيس ، وهو يترنح وسط ساحة الفردوس في قلب بغداد، يبعث شعوراً متناقضاً من أفياء دجلة الصاخبة إلى أرجاء الخليج الهادرة..كل العيون كانت مصوبة نحو التمثال (الرمز) أمام فندق فلسطين، وهو يقيّد من عنقه بالحبال لتشده أذرعٌ طالما لوحت في وجهه رهبة من المقصلة التي نصبها في كل مكان..وليتهاوى (هُبل) الذي طالما نصّب نفسه إلهاً يُعبدُ من دون الله ..

كل العيون كانت مشدودة نحو شاشات التلفزيون وهي تراقب إنهيار الصنم..عيون البسطاء الذين يفتشون بين المحتشدين عن وجوههم، ويتطلعون لإقتلاع الاصنام من حياتهم، وعيون الحاكمين المترفين الذين يبزون شفاههم غيظاً وكمداً وحسرة على مثل هذا المصير.

من كان يصدق أن يسقط (هُبل) ويُقتاد في الشوارع، وتصعد الدهماء على صدره، وتشبعه ركلاً بالأحذية والأقدام..من كان يصدق؟

لم يسقط صدام حسين يوم إجتاحت القوات الاجنبية عاصمته وداست فراشه، بل سقط يوم فـّرغ العراق من عراقيته، وقوّض الإنسان من إنسانيته. سقط الرئيس المهيب يوم استفرد بالسلطة والقوة، ونشر الرعب والدمار والمعتقلات وكمم الأفواه وساق المعارضين لوجبات الإعدام والنفي والإبادة الجماعية.. سقط الرئيس المُهاب يوم ذل الرقاب فلم تعد قادرة على الشموخ إلا لتحطم السدود.

سقط الرئيس العراقي يوم إستخف بشعبه، واتكأ على زبانيته، والعصابة المحيطة به، سقط الرئيس المهاب يوم إختصر العراق في عصابة من السراق وقطاع الطرق التي عاثت في الأرض فساداً ..

سقط صدام حسين يوم أسقط بالضربة القاضية شعبه..فلم يستحق أمام زحف الدبابات الامريكية أن يدافع عنه أحد، أو أن يموت من اجله أحد..

لقد كان الدرس العراقي مراً كطعم العلقم في أفواه الحاكمين الآخرين..فمن كان يصدّق أن هذا النظام الذي إمتلك وسائل البطش والجبروت يتهاوى في إثنين وعشرين يوماً.. لم يشابهه فيها حتى نظام الملا عمر و(طالبان)...؟ من كان يصدق أن العراق سيصبح بقضه وقضيضه لقمة سائغة في أفواه الأجانب خلال عشرين يوماً فقط لاغير..وهي مدة يستوقف التاريخ عندها طويلاً مثلما سيتوقف ليسجل مشهد سقوط التمثال في ساحة الفردوس ..

* * *

القيادة السعودية وكغيرها من قيادات العرب، شاهدت هذا المنظر، ولاشك أن الدرس كان بليغاً جداً، ولاشك أنها لم تغفل أياً من المعاني والدروس لسقوط طاغية بغداد..ولاشك أن منظر التمثال يترنح أحدث لها شيئاً من الصدمة..لكن هل تنتقل من مرحلة الصدمة إلى مرحلة الإستيعاب والمبادرة ..؟، هل ستقترب من شعبها أكثر؟، هل ستتحس آلامه وتطلعاته؟ هل ستأخذ المبادرة وتطلق حملة إصلاحات قبل أن يفرضها الآخرون؟، هل ستعي درس العراق في أن إرضاء قلة من المتنفذين والنفعيين على حساب عامة الشعب لن يجلب سوى الدمار وعزلة القيادة؟ هل ستعي أن أهم ضمانة لحمايتها هو الشعب، لا جلاوزة الأمن ولا جوقة الراقصين والمطبلين؟ هل ستعي أن عصا الجلاد وحربة السجان وكل وسائل القهر والإذلال لن تفلح في إشغال الناس عن حقوقها؟.

وهل ستعي أن التلاعب على المتناقضات الفكرية والسياسية والطائفية لن يفيد بل ستجد نفسها ذات يوم في قبالة الشعب مجتمعاً كما وجد الرئيس المهيب الركن صدام حسين نفسه في قبالة كل الفئات التي حاول ضربها في بعض.

سقوط التمثال العراقي، كان بداية لعصر تتهاوى فيه الأصنام، ويسود منطق آخر من التفاهم والتصالح بين هذه الحكومات وشعوبها.. وسقوط الرئيس العراقي، في عزّ قوته وجبروته بهذه الطريقة المدوية والمذهلة، تجعل النظم الأخرى وفي بلادنا على وجه الخصوص تتحسس ما حولها..صحيح أنهم هنا لا يزرعون التماثيل قدر شهوتهم لإطلاق أسمائهم على الاماكن العامة والخاصة، وتوزيع المناصب كبيرها وصغيرها على الأبناء والأحفاء بل والأنساب و(الأخويا – جمع خوي) والموالين، واحتكار الثروة، والاستيلاء على الاراضي العامة وتدمير البيئة الزراعية والبيئة البحرية (الاميران سلطان ونايف استوليا أخيراً على مساحات شاسعة من الأراضي على الواجهة البحرية لمحافظة القطيف مما ادى إلى تدمير أكثر من خمسة كيلو مترات من الحواضن الطبيعية للأسماك والروبيان وتدمير أشجار المنقريف).

هل يعي المصدومون بسقوط صدام، ان بيدهم ان يتجنبوا مصيراً مشابهاً، وبيدهم أيضاً أن يضمنوا إنسياقهم لذات المصير؟.