خيارات التمثيل والهوية في السعودية

مقدمات ضرورية في مسألة الإندماج الوطني

 

إنجاز عملية الاندماج الوطني بمعدلات متوازنة يتوقف بدرجة كبيرة على فهم والعمل وفق حقائق أساسية حول المجتمع والدولة، بهدف إدراك وبشكل دقيق طبيعة المشكل المراد معالجته. فاالانشغال بمسألة الاندماج الوطني يتطلب وبدرجة كبيرة إستدعاء التوزيعات السكانية والانقسامات الاثنية والدينية كما تنبسط على الخارطة الجيوسياسية السعودية.

أول ما يتجلى من هذا الاستدعاء حقيقة كون السكان في السعودية ينتمون الى مجموعات إثنية متفاوتة الحجم وبخصائص تكاد تكون شديدة الانفراز، بحيث يمكن المجادلة بأن التقسيم السكاني على أساس أغلبية وأقلية يفتقر للدقة العلمية. ثلاث مصنفات رئيسية تفرض نفسها على التركيبة الاجتماعية في السعودية وهي:المذهب والقبيلة والمنطقة، وفي داخل كل واحدة من هذه المصنفات تظهر تمايزات فرعية تعكس صورة الانقسامات الاثنية في البنى السكانية، وتترجم طيف التشكيلات الاجتماعية ذات الخصائص التاريخية والعرقية واللغوية والعقدية. فثمة سلسلة من الانضواءت تطبع المذهب والقبيلة والمنطقة، وهي في الاجمالي العام تعبيرات ساطعة عن طبيعة الانقسام السكاني.

ففي الاطار المذهبي، هناك اشتقاقات تتجاوز حد التفريز التقليدي في إطاره المذهبي الواسع الممثل في السنة والشيعة، بل الانشعاب متحقق داخل هذا الانفراز العام بثنائيته السنية والشيعية، فالمنتمون للسنة في السعودية ينضوون في إطارات تمذهبية فرعية تكاد تمحو بداخلها الاطار المذهبي العام، فأتباع المذهب الشافعي يعتنقون المجهود الفقهي والعقلي المنتج داخل المدرسة الشافعية منذ القرن الثالث الهجري والذي يرمّزه كتابا (الرسالة) و(الأم)، كما أن إندراج المناصرين للمذهب المالكي متوّج ومحثوث بالاعتقاد الصلب في المدوّن الفقهي (الموطأ)، فيما يتعزز موقف المستلهمين لطريقة أهل الحديث من مؤسسي المذهب الحنبلي والمتشكل داخل إطار مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتستجيب لهذه الفروع المذهبية جماعات متناثرة تستمد بعضاً من الروح الخفية لمذاهب سنية أخرى مثل الحنفية.

الشيعة كخط عقدي موازٍ يتأسس هو الآخر على اشتقاقات مذهبية فرعية قد يكون الشيعة الامامية الاثنا عشرية في المنطقة الشرقية يمثلون الجزء الأكبر في الجسد الشيعي العام، يليهم الشيعة الاسماعيلية في منطقة نجران دون توفّر أرقام أو آلية يمكن التوسل بها للتحقق من حجم هذه الطائفة المتحدرة من منطقة ذات كثافة سكانية عالية، اضافة الى تجمعات شيعية متناثرة في أرجاء مختلفة من الجزيرة العربية ولعل أهمها وأبرزها الشيعة الامامية في المدينة المنورة وبعض أطراف الحجاز وهكذا الشيعة الكيسانية في منطقة ينبع.

الانشعاب الداخلي لا يقف عند حد التمايز المذهبي، بل ثمة انقسام آخر على أساس قبلي، فقد بات من البديهي القول بأن ليس هناك ما يمكن وصفه بـ "مجتمع سعودي"، ولذلك يفضّل إستعمال كلمة "سكان" للحيلولة دون الوقوع في محذور الدلالات الدقيقة للتوصيفات المستعملة للقاطنين داخل حدود الدولة السعودية. فالسعودية مؤلفة، تأسيساً على ذلك،  من عدة مجتمعات وليس مجتمعاً واحداً، فالكلام عن مجتمع يتطلب إستحضار الخصائص التاريخية والمواصفات العرقية والموروث الثقافي والاجتماعي واللغوي لهذا المجتمع بما يدخلنا في حلقة نقاش مفرغة، ونصل في نهاية المطاف الى إستحالة تطبيق لفظة مجتمع على السكان في السعودية، باعتباره فاقداً لما يمكن حصره في الخصائص المشتركة.

فالسكان في السعودية يتحدرون من أصول اجتماعية متنوعة وإن كان يجعمها العنصر العربي كمكوّن نهائي في هوية السكان، الا أن هذا المكوّن لا يلعب دوراً طاغياً في التوجيه الثقافي والسيكولوجي للسكان بل هناك المكوّن القبلي والعائلي الذي يمثّل مضخاً ثقافياً نشطاً ويسهم في صياغة هوية نهائية للمنتمين لهذه القبيلة أو تلك، يعكس ذلك أولاً الاعتزاز المتنامي وسط أفراد هذه القبيلة مقابل غيرها، ثم في الصراع القبلي الذي يصل احياناً الى استعمال القوة السافرة بينها من أجل تأكيد وحدة قبيلة ضد الأخرى، وهكذا عزتها ووجودها وتالياً شعورها بالتفوّق.

المناطق التي تتشكل منها الدولة السعودية تمثل هي الأخرى حواضن ثقافية واجتماعية وتاريخية لجماعات متعددة، فالحجاز بثقله الديني وموروثه الثقافي والتاريخي وهكذا سجل تجاربه الادارية يمثل شخصية جغرافية مستقلة عن غيره، كما أن المنطقة الشرقية بتراثه التاريخي وثقله الاقتصادي وتحدراته الاجتماعية والدينية وتقاليد وعادات أهله يميّزه عن منطقة نجد بموروثها القبلي وسجلها الاجتماعي والثقافي وهكذا أحداثها السياسية، وهكذا الحال بالنسبة لمناطق الجنوب والشمال، فكل هذه تمثل بؤراً ذات خصائص مختلفة.

إن اللون الفقهي العام أو حتى اللون العقدي الذي يصبغ المذاهب السنية  والشيعية قد يخفي الى حد كبير الاصول الاجتماعية للسكان ولكنه لا يخفّض من قيمة وعمق تلك الاصول، كما تعكسه التموقعات المذهبية إجتماعياً ومناطقياً. وهذا يلمح من جانب آخر الى أن العامل الديني ليس وحده الحاسم في تقاطيع الخارطة السكانية بل ثمة عوامل أخرى إجتماعية ومناطقية تسهم بصورة غير مباشرة وظاهرة في تعزيز مشاعر الانتماء والخصوصية والاختلاف.  فارتباط المذاهب بمناطق وتشكيلات اجتماعية معينة يؤكد طبيعة التمايزات داخل التركيبة السكانية ويعزز الحاجة الى بلورة سياسات تأخذ في إعتبارها تلك الحقيقة القارة والتي تفرض نفسها بإلحاح شديد في التخطيط السياسي والاقتصادي للدولة السعودية.

هذه الصورة التشريحية العامة للدولة في السعودية تستحضر طبيعة الدولة ومكوّناتها وأسس ايديولوجيتها. إذ سنحاول في مقابل تلك التوزيعات المناطقية والاثنية والمذهبية إستدعاء صورة الدولة ذاتها في بعديها التكويني والتشريعي، بغرض عقد مقارنة بين الحقيقة والواقع، بغية تشخيص مكامن الأزمة ومن يجب أن تكون بداية الحل.

وسنحاول البدء من نقطة انعطافية في مسار الدولة، كونها تلفت وبإشارة قوية الى اعتراف الحكومة بفشل المنهج المعمول به طيلة عقود خلت منذ تأسيس الدولة. فالنزوع المتأخر الى تنشئة ثقافة وطنية وسط السكان في السعودية يعكس الى حد كبير الاحساس المتزايد لدى المسؤولين بأن السياسات العامة التي إنتهجتها الدولة فشلت في بناء مجتمع متجانس يمثل الركن الآخر الموازي والمساند للدولة. فمنذ أكثر من عقد من الزمن، أولت العائلة المالكة إهتماماً خاصاً بموضوع الهوية الوطنية في السعودية، وقد تزامن ذلك مع برنامج وطني موّجه أقرته الحكومة عام 1996 وكان الهدف منه حسب جوزيف نيفو (1998) هو "تعزيز موقع الحكومة ومشروعيتها".  وعلى أية حال، فإن برنامجاً كهذا لم يكن تعليمياً بالمعنى التام، بل هو إنعكاس لأزمة دقيقة داخل الدولة.

فهناك قلق متنامي وسط النخبة الحاكمة في السعودية يمكن ترجمته في صيغة أخرى وهو إستشعار ضرورة تأكيد ولاء السكان للعائلة المالكة. فمنذ بداية الانتعاش الاقتصادي عام 1974 وحتى عقدين لاحقين لم يكن موضوع الهوية الوطنية يفرض نفسه بإلحاح على العائلة المالكة، وبالتالي لعب المال دوراً تعويقياً في مشروع الاندماج الوطني في بعده السياسي حصراً حيث لجأت الحكومة الى ضخ بلايين الريالات في مجال تقديم المساعدات المالية وتوفير فرص وظيفية وتعليم مجاني وخدمات صحية وقروض بدون فوائد. الحاصل النهائي من تلك العملية واسعة النطاق، نجحت الحكومة وبصورة مؤقتة في تخفيض أو بصورة أدق تأجيل الحاجة الى تصنيع هوية وطنية حقيقية وهكذا تحقيق عملية دمج وطني للطيف الواسع من الجماعات الاثنية والدينية. والى حد ما، فقد لعب العامل الاقتصادي دوراً طاغياً والى حد كبير تشويهياً في تخليق ولاء استثنائي للعائلة المالكة وعزز ذلك العامل أيضاً دور الحكومة المركزية.

ولكن، وتحت الضغط الاقتصادي وتراكم العجز السنوي المزمن في الموازنة العامة، وفي نهاية المطاف تدهور المستويات المعيشية للسكان، كل ذلك آذن بنهاية دولة الرفاه، ودفع الى السطح أزمة الدولة العميقة المترجمة في زيادة معدلات الجريمة وظهور الجريمة المنظمة، وأشكال مختلفة من رود الفعل الاجتماعية كتعبير عن التآكل السريع للولاء للعائلة المالكة. وتبين من كل ذلك بأن الولاء السياسي كان قد إرتبط والى حد كبير بالازدهار الاقتصادي كما هو منطق العلاقة الجدلية المنتج في الدولة الريعية. ونتيجة ذلك، شعرت العائلة المالكة ومنذ ما يقرب من منتصف التسعينيات بضرورة البدء بإستراتيجية جديدة تهدف من جهة أولى الى تخفيف الايقاع السياسي المطلبي وسط السكان، ومن جهة ثانية الى تعزيز مشروعية وهيمنة العائلة المالكة. 

وهذا الاختلال أنجب معه توتراً في شبكة العلاقات الداخلية مفضياً الى مواجهة بين الدولة والسكان، كإحدى التعبيرات القاسية عن الاخفاق التاريخي للدولة القطرية في بلادنا.

من هذه النقطة المحمّلة بجرعة فزع منذرة بتهدّم أسس الدولة ذاتها، نرتد لإعادة قراءة المسار التاريخي للدولة السعودية والى النقطة التي إفترقت فيها السلطة عن المجتمع.

القراءة تلك تبدأ من حقيقة أن الهويات الفرعية المؤسسة على إعتبارات مناطقية وقبلية ومذهبية تمثل خاصية قارّة في تاريخ الجزيرة العربية. بكلمات أخرى، أن التنوع، من الناحية التاريخية، كان ميزة هامة في هذه البقعة الجغرافية القطبية. فعلي سبيل المثال، فإن الدويلات القبلية في المنطقة الشرقية مثل العيونيين والعصفوريين والخوالد وغيرهم، والرشيد في حائل في المنطقة الشمالية ودولة الاشراف في مكة المكرمة وأجزاء أخرى من الحجاز كلها تجارب تزوّدنا بدليل قاطع على أن الهويات الخاصة كانت تستند على شرعية تاريخية وهكذا فإن المنتمين لهذه الهويات يملكون سبباً كافياً في إحياء وتأكيد الشخصيات السياسية والثقافية والدينية الخاصة بهم.

وحين نجح الملك عبد العزيز في تأسيس دولة موحّدة، والتي قدّر لها أن ترى النور عام 1932، بدأ تاريخ جديد في الجزيرة العربية. وفيما كان إيقاع مشروع تفكيك العالم الاسلامي يتسارع على أرضية الاتفاق البريطاني الفرنسي المعبّر عنه بإتفاقية سايكس بيكو عام 1916، كان الملك عبد العزيز يسبح ضد التيار رجاء تأسيس دولة موحّدة.

على أن مرحلتين أو مهمتين كانتا أمام الملك عبد العزيز يفترض إنجازهما بنجاح. الأولى هي المهمة السياسية الهادفة الى خلق إطار سياسي يضم بداخله المناطق والقبائل والمذاهب، وهذه المهمة قد تحققت بنجاح فور اكتمال مشروع التوحيد الجيوسياسي وإعلان المملكة العربية السعودية عام 1932.

المهمة الثانية، هي المهمة الوطنية، أي صناعة دولة الأمة. فإكمال مهمة التوحيد السياسي قد تطلب دوراً محورياً آخر من أجل تأمين وحدة وإستمرار الدولة. فمنذ نشأتها كانت الدولة بحاجة الى توصيف وتعريف لهويتها الوطنية، وأهمية ذلك كانت تتأكد بمرور الوقت حيث أن طيف التشكيلات المناطقية والاجتماعية والدينية كان بحاجة الى عملية صهر ودمج داخل المولود الجديد، أي الدولة السعودية. بكلمات أخرى، أن هذا التنوع كان يفترض أن يشكل الاساس لعملية دمج واسعة النطاق لهويات مختلفة من أجل خلق هوية جمعية جديدة تمثل تلك الهويات وتعلو عليها لحساب هوية عليا تستوعب داخلها المناطق والقبائل والمذاهب وتعبّر عن الروح العامة، والمصلحة المتبادلة والمصير المشترك للسكان. فشل الدولة في التعامل مع التنوّع الداخلي على أساس المذهب والقبيلة والمنطقة وصياغة هوية وطنية مستمدة من العناصر المشتركة بين الجماعات المنضوية داخل الدولة، بحيث ترى هذه الجماعات صورتها وحضورها ووجودها في هذه الهوية الوطنية. أي أن الهوية الوطنية تولد من حاصل عملية دمج وطني وصهر الجماعات الاثنية والدينية في بوتقة وطنية.

لقد بدا واضحاً بأن مكونات الهوية الكلية وفي ذات الوقت الاساس الايديولوجي للدولة كان يفهم من قبل مؤسس الدولة الملك عبد العزيز وأبنائه من بعده على أنها تتمثل حصرياً في: العقيدة الدينية المؤسسة على النموذج الوهابي في تفسير الدين، والحق التاريخي للعائلة المالكة المعبّر عنه في الصيغة التلخيصية المكثفة (ملك الآباء والأجداد). وفي تقييم هذين المكوّنين يمكن المجادلة بأن الملك عبد العزيز لم يتجه لتحقيق درجة كافية من الاستيعاب الديني في سياق مهمة بناء الهوية الوطنية، بحيث يتم إحتواء المذاهب الاسلامية المختلفة المالكي والشافعي في الحجاز والاحساء والشيعي الامامي في المنطقة الشرقية والشيعي الاسماعيلي في المنطقة الجنوبية. ورغم أن العائلة المالكة ناضلت من أجل تثمير الدين كعامل أساسي في مشروع توحيد الدولة وكمصدر لمشروعيتها ولكن هذا العامل بقي سلاحاً ذا حدين. وفي حقيقة الأمر، إن المذاهب الاسلامية الأخرى وبخاصة الشيعية منها يجب، من وجهة نظر المؤسسة الدينية، أن تنحلّ وتنصهر في العقيدة الوهابية. ومن الناحية العملية كان هناك إلحاح شديد على الدور المهيمن للوهابية في مجالي التعليم والقضاء. بل جرى أخذ كافة التدابير من أجل تهميش ونزع شرعية المذاهب الاسلامية الأخرى. فعلماء المذهب الوهابي تبنّوا وبإصرار دعوى تمثيل الاسلام الصحيح، ولذلك فإن على الشيعة كمثال بارز إعلان ندمهم وتوبتهم وتطهير معتقدهم ومن ثم إعادة الدخول الى الاسلام.

ونتيجة للتنوع الفكري والسياسي والديني داخل التركيبة السكانية والتفاعل المعقد بين هذه العوامل، فإن المكونين الرئيسين سالفي الذكر فشلا في تشكيل هوية كلية عليا. وفي حقيقة الأمر، فإن إستحواذ مشروع الدولة على الماسكين بزمام سلطتها قد ساهم الى حد كبير في إحباط مشروع بناء دولة الأمة. بكلمات أخرى، فبينما كان تأسيس الدولة يتضمن من الناحية الفرضية عملية تحوّل للهويات الخاصة المؤسسة على منطقة وقبيلة ومذهب الى هوية جمعية على أساس وطني، فإن الدولة تحوّلت الى ممثل لمصالح جماعة خاصة، أي عائلة آل سعود ومذهب خاص أي الوهابية. وفي سياق مجهودها نحو إنشاء هوية كلية، فإن العائلة المالكة ألحّت على أن العقيدة الدينية ممثلة في الوهابية والعائلة المالكة واللذين مازالا يمثلان المكوّنين الرئيسيين للهوية الكلية، يشكّلان مجتمعين في نظر العائلة المالكة مكوّني العقيدة الوطنية والمكافىء لها.

إن مجمل المجهودات الرسمية لبناء هوية وطنية والدلالات الاجتماعية والسياسية لتلك الهوية المصنّعة تتناقض بلا شك مع المفهوم العالمي للوطنية كما هو مشاع ومجسّد في دولة الأمة، ولذلك لم توصل هذه المجهودات أحداً في الداخل والخارج الى قناعة بأن المكوّنين الديني والسياسي للهوية السعودية قد حققا وعبّرا عن دولة الأمة أو هويتها الوطنية العليا، وحسب مأمون فندي (1993) فإن السعودية هي "دولة وليست أمة". بل أمكن المجادلة أيضاً بأن سيرورة الدولة في السعودية متعارضة مع الاهداف الوطنية، بمعنى أن غياب الهوية الوطنية الجامعة تمثل مشكلة ليست ذات صلة بقيود ومعوّقات خارجية أو محلية بالضرورة بل هي ضالعة في تكوين الدولة السعودية ذاتها والاساس الايديولوجي الذي قامت عليه.

ناتج ذلك كله أن اسس الدولة وتالياً مكونات مشروعيتها الدينية والسياسة مستخرجة من حاصل التحالف السياسي الديني القائم في الاساس على مصالح أقلية. وفي سبيل تحقيق ذلك الغرض، لجأت الدولة الى أساليب متنوعة في التعامل مع الجماعات الاخرى تراوحت بين العنف والعزل السياسي والاقصاء الشامل والتهميش الاقتصادي والاحتواء الجزئي، في مقابل احتكار مصادر القدرة والسلطة بيد جماعة معينة مؤلفة من العائلة المالكة والمتحالفين معها قبلياً ودينياً. وهكذا فبعد أن نجحت الدولة والى حد كبير في قهر من تصنّفهم عملياً في خانة الخصوم مناطق وقبائل ومذاهب وتبديد شمل بعضها وإخماد نشاطية هوية جماعات أخرى، فإنها، أي الدولة فشلت في المقابل في تنمية مشاعر عليا وهوية وطنية جامعة.

إن عمق أزمة الدولة يترجمه بصدق ضحاياها في هيئة مواقف نافرة من الدولة ولو قدّر للمراقب أن يصيغ تلك المواقف في كلمات لجاءت في هيئة نظرات مفزعة، حيث ينظر الشيعي في المنطقة الشرقية الى الدولة باعتبارها دولة وهابية متشددة، وينظر إليها الحجازي باعتبارها دولة نجدية إنفصالية، وينظر إليها العتيبي والقحطاني والخالدي وغيرهم بإعتبارها دولة عائلية شوفينية. فهذه النظرات يمكن اختصارها في كلمات قلائل: أن الدولة ليست منهم وإليهم. فكل واحد منهم يعبّر عن موقفه إزاء الدولة من الموضع الذي يؤلمه ويتهدده، فماهو المغزى من نشأة الدولة إذن إذا كانت غير قادرة على تمثيل مصالح العموم، ودرء الأخطار عن الجميع وصناعة مشاعر مشتركة تسري في أرجاء البلاد.

إن ما سبق الالماع إليه ينذر بإتساع الشرخ العميق بين الدولة والسكان بدرجات مخيفة، إذ لا يمكن من حيث المبدأ وفي ظل تركيبة ايديولوجية وسياسية للدولة السعودية الراهنة إيجاد قواسم مشتركة بين المناطق، وأن الاستمرار وفق تلك التركيبة المختلّة لا يعني سوى أن الفاصل بين الدولة والمجتمع في حالة زيادة مستمرة.

إن ثمة تداعيات سياسية وثقافية واجتماعية وهكذا ترتيبات قانونية ناتجة عن تلك المنهجية المعلولة المتبّعة من قبل الدولة حيال المناطق والمذاهب الدينية والقبائل الاخرى غير الحليفة. تلتقي تلك التداعيات والترتيبات عند حد التمييز بأشكال وصيغ مختلفة، ولكن هناك إتجاهان رئيسيان في التمييز أحدهما قائم تارة على خلفية دينية كالذي تمارسه المؤسسة الدينية الرسمي والمجتمع الديني الوهابي ضد الشيعة بدرجة أولى وضد أتباع المذاهب الدينية الأخرى بدرجة أدنى. وثانيهما التمييز القائم على خلفية سياسية المعبّر عنه في غياب التمثيل السياسي في أجهزة الحكم المحلي والمركزي سواء بسواء، وهذا النوع من التمييز يتفاوت في درجته من منطقة لأخرى، ومن جماعة مذهبية لأخرى، ومن قبيلة لأخرى.

حظر الشعائر الدينية، ومنع بناء المساجد ومراكز العبادة وطباعة الكتب، ونزع الصفة الشرعية عن النظم القضائية الخاصة بكل مذهب، وإكراه أتباع غير المذهب الرسمي على تلقي الدروس الدينية في المدارس الرسمية وفق المذهب الوهابي، وهكذا الامتثال لأحكام القضاء المسترشدة بتعاليم الإمام أحمد بن حنبل..هذه تمثل جزءا من سلسلة طويلة من تدابير المنهج التمييزي المتبع من قبل الدولة.

 

مراحل الإندماج الوطني

 

قد تتم عملية الاندماج في مرحلتين: الأولى مرحلة الاندماج الطبيعي الناشىء عن الحاجة نتيجة لتطور مؤسسات الدولة وزيادة مسئولياتها وتعدد مهامها الأمر الذي يفرض ضرورة إشراك وإستيعاب عدد كبير من الافراد ضمن بيروقراطية الدولة من أجل إنجاز مهمات ليس بالامكان لفئة صغيرة أن تضطلع بها، وغالباً ما تكون عملية الدمج في مثل هذه الحالة غير إختيارية بل هي استجابة لظروف موضوعية تتجاوز إرادة أصحاب القرار. الثانية مرحلة الاندماج الاختياري وتبدأ من أعلى وتكون مؤسسة على إرادة فوقية أي من رأس السلطة من أجل تحقيق عملية دمج تتم من قمة الهرم السياسي وتتنزل الى مستويات بيروقراطية أدنى.

وفق هاتين المرحتلني  يمكن المجادلة بأن المرحلة الاولى قد إستكملت شروطها وأهدافها الى حد ما، أي أن ما جرى في السعودية هو انتهاء المرحلة الاولى أي الاندماج الطبيعي المستجيب للظروف الموضوعية الخارجية والمتفوق على إرادة السلطة وخياراتها. ويبقى الكلام هنا عن المرحلة الثانية التي تبقي الجدل نشطاً حول الارادة السياسية العليا من أجل تحقيق شروط المرحلة الثانية في مشروع إندماج وطني شامل.

ثمة، دون شك، معايير أساسية تدل على درجة الدمج وشكله وإتجاهه، وغالباً ما ينظر الى الدمج في بعديه الاقتصادي والسياسي كتعبير صادق عن نوايا الدولة في تحقيق مستوى من الانسجام والاندماج الوطني. ويعتقد بعض الباحثين الاكاديميين بأن الاندماج السياسي هو التجسيد الحقيقي لمفهوم الاندماج، اذ لا معنى للاندماج ما لم يكن مترجماً ومتجسداً في المجال السياسي. بالنسبة لبعض الاقليات الدينية التي تعيش في ظروف بلدان قائمة على اساس هيمنة جماعة على باقي الجماعات، هناك ميول شديدة  نحو القبول بالاندماج الاقتصادي، والابقاء على التميّز الديني مقابل الجماعات الاخرى وخصوصاً تلك الجماعة التي تمثل مصدر تهديد لها في الجانب الديني.

إن إحدى الحلول الفاعلة في التعامل مع النزعات الانفصالية التي تراود الاقليات المقهورة تتمثل في منحها حصة عادلة وفاعلة في السلطة، هذه الحصة تقوم على: أولاً مشاركة ممثلين عن كافة الجماعات في الجهاز الاداري للدولة، وثانياً درجة من الاستقلالية لها فيما يتصل بشؤونها الخاصة.

يتخذ الاندماج الوطني مستويات وأشكالاً مختلفة: في المستوى الديني هناك ثمة خياران رئيسيان أمام الدولة في دمج الجماعات الدينية: إما تطعيم المؤسسة الدينية وهيئاتها الكبرى برجال دين وعلماء من المذاهب الاخرى بحيث تكون المؤسسة الدينية مفتوحة أمام المذاهب الاسلامية الاخرى ويكون لها ممثلون في هيئة كبار العلماء وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومجلس القضاء الاعلى وغيرها. كما يسترعي هذا الخيار إعادة الحضور الديني الخاص بالمجتمع الحجازي، والذي تعرض هو الآخر لتغييب مقصود، متمثلاً في غياب أئمة الحجاز من الصلاة في الحرمين الشريفين وانحصار إمامة الصلاة الجامعة في أتباع المذهب الوهابي، كما يسترعي إعادة احياء المدارس الدينية الحجازية المالكية والشافعية، أو تكايا الذكر الخاصة بالفرق الصوفية.

ثمة خيار آخر يقوم على فكرة تخفيض المؤسسة الدينية الرسمية الى مستوى يجعلها جزءاً من مؤسسات المجتمع الأهلى تمارس نشاطها في موازاة مؤسسات دينية أخرى ممثلة لمذاهب اخرى.

أما عملية دمج المناطق تتم في مستويين: سياسي وإداري. السياسي منها هو تحقيق قدر متكافىء من التمثيل السياسي في الجهاز التنفيذي للدولة، بحيث يرعى فيها الحجم والتعداد السكاني والأهمية الاستراتيجية، أما الإداري منها فيتمثل في نقل بعض أجهزة السلطة الى المناطق، في إطار عملية لامركزة للسلطة وفي نفس الوقت إعادة مأسسة الدولة على أساس مقاسمة المناطق المصالح العمومية والمسؤوليات.

الاندماج الوطني في بعده السياسي يبقى المرتكز الحقيقي في عملية معالجة مشكلات الدولة مع رعاياها خارج منطقة نجد، فالتمثيل السياسي المتكافىء والمتوازن لكافة الجماعات المذهبية والمناطقية وفي الجهازين التنفيذي والتشريعي بصورة أساسية يمثل مدخلاً ضرورياً لإعادة تأسيس العلاقة بين الحكومة والسكان. وتحقيق هذه الخطوة الجوهرية كفيلة بإصلاح خلل التأسيس الايديولوجي للدولة وتبديل صورتها العامة.