التغيير في العراق ونهاية (الحقبة السعودية)

 

حين كتب هيكل في منتصف السبعينات أن العالم العربي قد دخل ما أسماه في (الحقبة السعودية) اعتبره البعض محابياً للحكومة السعودية، ومحاولة لمدّ خيط الودّ معها. ولكن الأحداث التالية أثبتت أن العالم العربي عاش شيئا مما قاله هيكل، فقد أصبحت المملكة مركز الثقل السياسي والإقتصادي العربي. تلك الحقبة بدأت عدّها التنازلي منذ أن احتل صدام حسين الكويت والتداعيات المثيرة التي عانت منها المملكة منذ ذلك التاريخ. غير أن سقوط النظام العراقي قد يؤشر الى نهاية (الحقبة السعودية).. فالتغيير الذي وقع في العراق، أو الذي يحتمل وقوعه، يؤشر الى نهاية المكانة السعودية كدولة مركزية في المنطقة العربية صانعة للقرارات ومحركة للمبادرات. ما حدث في العراق قد يدفعها أكثر وأكثر الى الإنزواء والإلتفات الى مشاكلها الداخلية.

هذا المقال لحمزة الحسن يرسم صورة الوضع السعودي في مرحلة ما بعد العراق.

 

الإنقلابات في الشرق الأوسط وفي غيره تنتقل بالعدوى.

إنقلاب في قطر عربي يحفّز العسكر في قطر آخر للإستيلاء على السلطة. لكن الأنظمة العربية وخلال العقود الثلاثة الماضية طوّرت حسّاً أمنيّاً متزايداً لمنع تكرار الإنقلابات وذلك عبر وسائل مختلفة: النقل السريع والمفاجئ والمتكرر للضباط من موقع لآخر، أو إحالتهم الى التقاعد، أو إيجاد قوى عسكرية بديلة تستطيع مواجهة الإنقلابيين (الحرس الوطني مقابل الجيش مثلاً)، أو عبر تشديد قبضة الإستخبارات العسكرية، أو/ و سيطرة الموالين أو أعضاء الأسر المالكة على مختلف الأجنحة العسكرية، إضافة الى وسائل إحترازية أخرى.

ولهذا تضاءلت الإنقلابات في العالم العربي، وتغوّلت الدولة القطرية بشكل لم نشهده من قبل، وصار من الصعب التعويل على العسكر في إحداث التغيير السياسي، فضلاً عن أن التجربة السياسية للعسكر أضافت فصولاً جديدة من القمع والإستبداد، فأضحى الإبقاء على الوضع القائم أقلّ شروراً من تغييره عبر الإنقلاب.

وكما يتأثر الإنقلابيون بنظرائهم يتأثر الجمهور بأحوال إخوانهم في الجوار.

فثورة إيران ألقت بظلالها على كل الأنظمة السياسية في الوطن العربي، وأطلقت قوّة شعبيّة من عقالها لاتزال آثارها وتجاذباتها قائمة حتى اليوم.

والتوجهات الديمقراطية الوليدة في المنطقة العربية أظهرت هزال النظام السياسي في المملكة حين مقارنته بها، وحفّزت الكثير من القوى السياسية في المملكة للمطالبة بالمثل.

الآن وقد جرى التغيير الكبير في العراق، وبالوسيلة التي ندركها ونعرفها جيداً، فإن المملكة تعتبر الخاسر الأكبر من التغيير لأسباب عديدة هي:

1 ـ إن طريقة التغيير في العراق، والكلفة الضئيلة من الناحية البشرية (130 قتيلاً أميركياً فحسب)  ليس فقط فتحت شهية الأميركيين لخوض غمار حرب أخرى، أعلن عنها ريتشارد بيرل في 24 من الشهر الماضي (أبريل).. بل وفتحت شهية عدد غير قليل من المواطنين لرؤية تغيير ما يجري في المملكة نفسها، وإن كان بضغوط أميركية ـ ولا نقول عبر الحرب بالضرورة. حتى أن بعض قيادات السلفيين في المملكة، والذين يعدون الأكثر ارتباطاً من الناحية العضوية بنظام الحكم، يتحدثون في المجالس المغلقة عن فائدة الضغط الأميركي على العائلة المالكة نفسها لكي ينزاح همّ أثقل كاهل المواطنين.

2 ـ إن الدول الأكثر أمناً في المحيط العراقي، أو لنقل الدول الأقل خسارة، هي تلك الدول التي تتمتع بالقدرة على المبادرة وتوسيع هامش المناورة ووضوح الأهداف. الأنظمة الأكثر قرباً من الديمقراطية، وبالتالي تصالحاً مع مواطنيها، هي الأقل تعرّضاً للخطر الخارجي، وأيضاً الأقلّ تعرّضاً للإهتزازات الداخلية. والمملكة ضمن هذا السياق هي الأقل قرباً من الإصلاحات السياسية وبالتالي الأكثر تعرّضاً لكلا الضغطين الداخلي والخارجي، لأنها تقدّم تبريرات كافية للقوى الخارجية (الأميركية) والقوى الداخلية لأن تتحرّك وتطالب بالتغيير.

3 ـ ضمن السياق نفسه، فإن المملكة والتي تمتلك بنية تسلطيّة شبيهة ببنية النظام العراقي (بشكل مصغّر طبعاً) تتأثر بالوضع العراقي من الناحية الإجتماعية حيث التشابه واضحا في النسيج الإجتماعي. إن الفئات المحرومة في المملكة (وهي كثيرة، قبلية ودينية ومناطقية) ستتأثر بما يجري في العراق. فالتواصل القبلي بين البلدين وكذلك الديني/ المذهبي له آثار مباشرة، غير تلك الآثار العامة التي أطلقتها نهاية النظام العراقي وقيام نظام جديد لم تتضح معالمه بعد. بدون شك، سيتأثر الشيعة في المملكة أكثر من غيرهم ربما، وسيشعرون بأنهم دخلوا في وضع جديد يحفّزهم للماطلبة بحقوقهم، مدفوعين بروح معنوية عالية، مقابل الإحباط الذي يتملك النظام السياسي في المملكة في هذه الفترة. وهناك قبائل عديدة تقبع على الحدود بين المملكة والعراق سينالها التأثر، وكذلك قبائل شمّر العدو التاريخي لآل سعود والتي توجد في كلا البلدين وقد عاشت فترة تهجير وضغط منذ قيام الدولة وحتى الآن. إن أي تطوّر في مجال الحريات والديمقراطية في العراق، سينعكس على الوضع العام في المملكة وعلى مكوّنات الشعب السعودي كلٌّ حسب قربه الجغرافي والثقافي والإجتماعي.

 

آثار التغيير على النظام السياسي في المملكة

 

يمكن تحديد الآثار السلبية على المملكة في محددات عريضة أربعة:

المحدد الأول: إن النظام السياسي في المملكة انتعش لفترة طويلة سياسياً واقتصادياً في غياب الثقل العراقي. قوة المملكة التي منحتها الدور الكبير لتحتله في صناعة سياسة الشرق الأوسط اعتمدت على ثلاثة عناصر مهمة: الدعم السياسي الغربي / الأميركي بشكل خاص، ووجود الثروة النفطية، ووجود الأماكن المقدسة.

كل هذه العناصر جرى عليها التغيير الراديكالي الشديد. فالغرب لم يعد داعماً للسياسات السعودية، والمملكة نفسها رغم محاولاتها المضنية في سبيل التماشي مع سياسات واشنطن، لم تعد الأخيرة تعير أهمية كبرى لثقل المملكة السياسي، ولا المملكة قادرة على حشد الوضع العربي الرسمي وراءها كما كان في الماضي، نظراً لتغير الأهداف الأميركية، ولنضوب القدرة المالية للمملكة والتي اعتبرت ولزمن طويل المسهّل لتمشية سياساتها. هذا يفترض أن الثقل السياسي سيعود للعراق، فهو الأكثر سكاناً، وهو البلد الذي ينتظر أن يكون الأثير لدى الولايات المتحدة التي تعلن أنها ستجعل منه نموذجاً يحتذى، وهو البلد الذي يمتلك ثاني مخزون نفطي عالمي. ولذا قد نشهد في الفترة القادمة انسحاب الثقل السياسي العربي ـ وحتى الخليجي منه ـ باتجاه العراق على حساب السعودية، خاصة وأن الأخيرة لم تبقِ لها أصدقاء حتى بين جيرانها الخليجيات، وحالة الودّ الظاهري هي مجرد رضوخ للأخ الأكبر الذي نُظر إليه كمهدد للدويلات الصغيرة، ووضعها في فلكه السياسي. وهي بانحيازها الى العراق تتحرر من الفلك السعودي ويصبح لها دور سياسي شبه مستقل، خاصة إذا ما جاء بدفع أميركي.

المحدد الثاني: على صعيد الثروة النفطية، فإن المملكة استفادت من غياب العراق طيلة العقد الماضي، وكانت بسبب قدراتها الإنتاجية الأثيرة لدى الغرب من اجل التحكم بأسعاره ضمن حدود مصالحه. بعودة العراق الى وضعه الطبيعي، سينخفض سعر النفط وستكون المملكة خاسراً كبيراً في هذا الأمر، فهي ستنتج أقل مما تنتجه حالياً، وستنعكس آثار أسعار النفط بشدّة على الوضع السعودي الداخلي، في ظل بطالة متفاقمة، وأزمات إجتماعية حادة، وانسدادات سياسية لم يشأ أقطاب الحكم البدء بفتحها. المملكة، وحتى بدون الضغوط السياسية الداخلية والخارجية، ستشهد انفجارات داخلية شديدة بفعل العامل الإقتصادي المتوقع في مدّة أقصاها 18 شهراً.

المحدد الثالث: للمملكة تراث سياسي تاريخي معاد للعراق كدولة وكشعب. ويمكن القول بأن العداء مؤسس في جزء مهم منه على الناحية الطائفية التي اقتحمت الفضاء السياسي. لا شك أن الأنظمة التي حكمت العراق نُظر اليها كعدو ومنافس لنظام الحكم في المملكة منذ أن تأسست الدولتان كدولتين قطريتين حديثتين. ابتدأ الأمر بالخلاف أو العداء الهاشمي السعودي. فقد طرد السعوديون العائلة الهاشمية من موطنها الأصلي من دولة الحجاز، فكان نصيبها دولتين: في الأردن والعراق حاولتا استعادة العرش الهاشمي في موطنها الأصلي. واستمر العداء بمجيء الجمهورية في العراق على يد الإنقلابي عبد الكريم قاسم، ثم مع عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف وصولاً الى البعثيين البكر وصدام حسين. الفترة الذهبية في علاقات البلدين كانت في بداية الثمانينات واستمرت لعقد كامل، وهي فترة الحرب العراقية ضد إيران، حيث موّلت السعودية تلك الحرب، ولكنها انتهت بحرب الكويت ومن ثم قيام الإنتفاضة العراقية 1991 التي دفعت فيها المملكة ومصر الولايات المتحدة للسماح بقمعها خشية من الخطر الشيعي، وتواصلت مع فرض الحصار الذي ساهمت فيه المملكة ووفرت أراضيها لمراقبة أجوائه الى أن انتهى الأمر بقيام الحرب الأخيرة واسقاط صدام حسين.

خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي تجددت مشاعر الكراهية والغضب الشعبي والرسمي على حد سواء لنظام الحكم في المملكة. وزاد على ذلك، أن المملكة ـ مدفوعة بالخطر الطائفي ـ رفضت (بل وأهانت في بعض الأحيان) كثيراً من القوى العراقية المعارضة، ورفضت التعامل معهم أو مساعدتهم، وعاملت اللاجئين العراقيين في مخيمات رفحا والأرطاوية كمصابين بالجذام وحصرتهم بالأسلاك الحديدية لمدة تزيد على 12 عاماً أي حتى نهاية الحرب الأخيرة. هذه القيادات المعارضة، أو بعضها على الأقل، سيكون لها دور كبير في رسم خارطة النظام القادم في العراق وتحديد سياساته التي لن تكون ـ فيما يتعلق بالمملكة ـ مريحة، خاصة إذا ما تظافرت تلك السياسات بتوجّه أميركي ضاغط متوقع على نظام الحكم في السعودية.

من جهة أخرى، فإن المكانة الدينية للمملكة لن تتأثر من جهة وجود الأماكن المقدسة فيها (الحرمان الشريفان).. لكن مسألة الزعامة الدينية ومكانة المذهب الرسمي في العالم الإسلامي ستتعرض لتحدّ كبير. ولأنّ المملكة كان رهانها على الدوام رهاناً طائفياً ويستخدم على نحو واسع في النشاط السياسي وحتى الإنساني (كما لاحظنا ذلك مؤخراً فيما يتعلق بالمساعدات الإنسانية للعراق) فإن الحسّ الطائفي السعودي قد يواجه بقسوة مع بروز قوة الشيعة في العراق. من دون شك، فإن إثارة الطائفية في العراق ستكون أحد معالم السياسة السعودية القادمة فيه بالقول والفعل، وهذا الأمر لن يكتب له النجاح على الصعيد الداخلي العراقي، ولكنه قد يرتدّ على السعوديين أنفسهم. لا شك أن عراقاً بأكثرية (سياسية) شيعية، مجاوراً للحالة الشيعية الإيرانية، سيضع المذهب الرسمي أمام تحدّ جديد من جهة فرض زعامته على العالم الإسلامي، خاصة وأن كثيراً من الدول العربية (مصر والمغرب مثالاً) وحتى الخليجية (الإمارات وقطر وعمان إضافة الى اليمن) لا تنظر الى النموذج الديني السعودي بعين الرضا، بل بعين القلق بسبب تشدده ونزوعه التكفيري، إضافة الى أن هذه الدول جميعاً تسعى لإيجاد مؤسسات دينية محلية قادرة على تأطير الجمهورالمحلي بعيداً عن التدخلات السعودية الخارجية.

المحدد الرابع: من نواحٍ استراتيجية أخرى، فإن العراق سيحتل مكانة المملكة عسكرياً، وكذلك مكانتها الإقتصادية، فالعراق لازال بلداً بكراً، ولهذا فإن الشركات الأميركية التي كانت تفاوض السعوديين بشأن استثمارات الغاز انسحبت الى المكان الأكثر إغراءً في العراق. إن نجاح الأميركيين في تأسيس نظام سياسي في العراق أكثر تطوراً، أو أقل سوءً من نظام صدام، فإنه قد يغري الآخرين باتباعه. وفضلاً عن هذا فإن أجندة الأهداف الأميركية المقبلة في المنطقة اقتربت الى السعودية. ورغم أن صقور الإدارة الأميركية لم يحسموا أمرهم بعد بشأن الهدف القادم، حيث أن بعضهم يرى مصر والسعودية في مقدمة الدول المستهدفة، يرى آخرون سوريا أو إيران هدفاً قادماً. ولكن أين اتجهت الأهداف الأميركية، فإن السعودية ستواجه بمسلسل من الضغوط الأميركية التي لن يخفف منها سوى الإقدام على إصلاحات داخلية تصلح علاقة النظام الحاكم بشعبه، وتجعله يقف على أرض صلبة نسبياً تمنعه من إيقاف مسلسل التنازلات السياسية والإقتصادية للأميركيين وتحميه من شرورهم.