هذا زمنٌ أصبح فيه الجبان شجاعاً

 بعكس ما جرى في العقود الماضية التي جبّنت الشجعان، ومرّغت في الوحل أنوفاً كريمة، كادت أن تسقط من عين المواطن العادي المضلّل بإعلام السلطة وتوابعها. شهداء قضوا نحبهم في السجون وتحت التعذيب وفي الشوارع والمنازل برصاص الجند والطائرات، وانتقلوا الى رحمة ربهم الواسعة، ومضوا وهم يحملون وزر التعرّض للنظام الوطني الأمين! وبعكس مقاتلة المحتل الذي ينال شرف الشهادة والمقاومة، كانت مقاومة الطغيان في بلادنا والى وقت قريب تعدّ ـ بسبب التضليل ـ خيانة وفجوراً، ليس عند رجال الحكم فحسب بل عند كثير من المواطنين العاديين الذين كانت تسوقهم أجهزة الدعاية والتضليل الى مواقف أشدّ نكاية وإيلاماً للنفس من أجهزة القمع نفسها.

بعكس هذا كلّه.. تصنع الظروف السياسية في المملكة ـ اليوم ـ مناخاً يعطّل مفاعيل القمع الشديد، أي القمع الذي لا يستطيع الفرد العادي تحمّله، وتقتحمُ فيها أدوات الإتصال الكوني معاقل التضليل والتجهيل لجماهير الشعب. حدثت النقلة النوعيّة الأولى مباشرة بعد الغزو العراقي للكويت، فانكشف المستور والمخبوء عن قذارات وتلاعبات وفظائع صدمت الوجدان الشعبي.. وجاءت المرحلة الثانية مع انطلاقة الإنترنت شعبياً وتكاثر قنوات التلفزة الفضائية، فما أبقت إلا القليل من الأسرار التي أُحكمت الأقفال حولها، لكن الكثير من المجهول قد توضّح، وسقطت هيبة النظام من النفوس والأعين مع ما في ذلك من تبعات سياسية واجتماعية مذهلة.

اليوم، وقد تحرّر المواطن من فظاعة الجهل السياسي وهو يحثّ الخطى ليلحق بشعوب أخرى مجاورة أدركت واقعها.. تتفكك القيود السياسية والإعلامية الرسمية الواحدة تلو الأخرى. وتقحم الظروف السياسية والإقتصادية المعتمة بالأفراد جماعات ووحدانا في أتون المطبخ السياسي اليومي، فلم يعد الشيوخ أبخص، ولم يعد مقبولاً أن يتحول الحكم إقطاعاً وإثره، وليس بالإمكان شحذ وسائل التضليل مرّة أخرى لتزيد من فاعليتها. هذا زمن مضى، والإستحقاقات المترتبة على هذا التحوّل المهول، الذي لم يدرس بما فيه الكفاية مع الأسف، سواء في المجال السياسي أو غيره وجَب تسديدها. ولكن التلكؤ، والمراهنة على تمطيط الزمن، أو على فرصة ما تسنح لإعادة عقارب التاريخ، هو ما يجعل البلاد اليوم تقف وراء انسداد قد يتبعه إعصار يدمّر كل السدود والحصون.

اليوم.. ترتفع أصوات المطالبين بالإصلاح بمختلف توجهاتهم، ويجري النقد على مسمع من السلطة ورموزها، وهم غير قادرين على حبس اللسان بعد انطلاقته، ولا على شراء الضمائر كما كانوا يفعلون من قبل. وليس أمامهم من مخرج سوى سبيل الإصلاح أو السيل القادم.

الدهر يومان.. وهذا يوم الشعوب. ليس شعاراً ما نقوله، بل حقيقة لا يريد المستبدون والطغاة الإعتراف بها.

لقد ضحكوا على شعبنا سنين طويلة، وخدمتهم الظروف في ذلك. ولكن هذا زمن مختلف، إنه زمن هزيمة الإستبداد، لا أحد يستطيع إلغاءه، وإن استطاعوا تأخيره.

وكما اقتاتوا على جهلنا وجبننا وتخاذلنا زمناً طويلاً.. آن لهم أن يجربوا نتائج الوعي النسبي، وأصوات الحق والحقيقة.

إن جيوش الجبن قد آذنت على الرحيل. ربما كان ذلك أحد أسباب تكاثر الشجعان!