لم تنطفئ محركاتها بعد

عقيدة التنزيه.. وأيديولوجية الفتح

 في تصوير أدبي ينضح تحريضاً وتعبئة من أجل اللحاق بركب المجاهدين، كتب أحدهم: (انطلقت كتائب الفتح الإسلامي في الأرض تنشر الخير، وتلقّن الإيمان، وتكسر شوكة الطاغوت، من أجل أن يعبد الله وحده في الأرض. ووجد في ذلك التاريخ المشرق نماذج رفيعة أجادت بحق صناعة الموت لأنها تريد الحياة الكريمة، سواء كانت الحياة على هذه الأرض بالنصر وإعلاء كلمة الله، أم بالحياة عند الله).

هذه العقيدة التي حرّكت الأخوان وأفراد القبائل في نجد للانخراط في مشروع الغزو بقيادة ابن سعود لم يجر إطفاء محركاتها حتى بعد قيام الدولة، فالمدوّنات الأولى الناقلة لهذه العقيدة حافظت على زخمها وإشعاعيتها في وسط الأنصار والتابعين الجدد، وليست هذه المدوّنات الشاحنة لنزعة الغزو والغارة على الآخر مندكّة حصريّاً في الحيّز العقدي المحض، بل بما تحمله من دفعات روحية محرّكة لايصال رسالة مَنْ في السماء الى مَنْ هم في الأرض. هذه المدوّنات لم تنقل الى (دارة الملك عبد العزيز) كجزء من تراث ماضوي قد يعود إليه المنتصرون لإحياء ذكرى الأمجاد القديمة، ولم يتم التعامل مع المدوّنات باعتبارها جزءاً من (الوثائق الوطنية) أو حتى النجدية، بل ما جرى أن مشروع إعادة إحياء للتراث قد تم تمويله ورعايته من قبل الدولة كيما تعيد إحضار ومركزة هذه العقيدة في الوعي العام، وكيما تزاول هذه المدوّنات مهمة تغذية ـ الى حدّ الإشباع ـ نزوعات الفاتحين الجدد.

إن إعادة طباعة كتب مؤرخي المذهب الرسمي والمقررين للغارات السعودية في أدوارها الثلاث ـ من إبن غنام وابن بشر وحتى ابراهيم بن صالح النجدي ـ لا تحتمل إعادة الطباعة تلك من قبل العائلة المالكة ـ مشفوعةً بتصريحات مكرورة تؤكد التحام الدولة بالعقيدة السلفية ـ لا تحتمل تفسيراً آخر غير ما قيل عن أن العنف يستمد قوته ومصادر تغذيته من الدولة نفسها، الممثلة في العائلة المالكة. فالسجلّ العقدي التام والذي جرى إحياؤه برعاية الأمير سلمان بن عبد العزيز، أمير الرياض عام 1999 يمثّل المضخّة الأيديولوجية لجماعات تحرّكت بفعل رنين الدعوة الملهمة بالجهاد وقتال الكفار والمشركين.

عقيدة التوحيد التي بشّر بها الإمام محمد بن عبد الوهاب لتشكّل الأساس الأيديولوجي للدولة الدينية المرتقبة، والمحفّز المعنوي لتطهير الأرض من آثام الإنسان، حملت بشارة لإخوان إبن سعود الذين كانوا يندفعون بشعار (هبّت هبوب الجنة) فإمّا النصر وإمّا الشهادة. هذه العقيدة ـ التوحيد، في صياغتها الصارمة تحوّلت الى مادة مدرسيّة مقرّرة، فكان الشيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء مؤلف الكتاب يعيد تكثيف رؤية السلف الكونيّة.. هذه الرؤية القائمة على أساس أن العالم بأسره يغرق في جاهلية دهماء، لم تسلم منه سوى تلك البقعة المهملة على الخارطة الكونية (وهي نجد) لتتولى مهمّة تحقيق وعد السماء، بأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون.

ثمّة تماثل مفزع يراد تأكيده وحشد الأدلة المتوالية خلفه، بين بعثة الرسول محمد (ص) وحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فهناك من ينمّي الإعتقاد بأن ثمّة بعثتين في الإسلام: الأولى تمّت على يد محمد بن عبد الله (ص).. والثانية على يد محمد بن عبد الوهاب. يذكر الشيخ أحمد بن حجر آل طامي في كتابه: (الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه: الرياض 1999 ص 91 وما بعدها) بعض أوجه الشبه بين العصرين في بعض الأمور التي جرت للرسول الأكرم والشيخ محمد بن عبد الوهاب منها: (عصر الرسول كان عصراً قد بلغ من فساد العقائد والعادات والأخلاق مبلغاً عظيماً، فالأصنام كانت تعبد من دون الله في المسجد الحرام عند الكعبة وغيرها. كانت العرب قد انحطت إلى أسفل الدركات من الوثنية الممقوتة والعادات السافلة الرذيلة، من: شرب الخمور، والبغاء، ووأد البنات، وتحكُّم الأقوياء في الضعفاء) لينتهي بالقول: (وقصارى ما يقال في هذا العصر أنه عصر إنتحار الفضائل الإنسانية الكبرى، والمعاني السامية العليا).

كيف يصوّر الشيخ محمد بن عبد الوهاب مهمته الدعوية في قومه، يوحي هو الآخر بتلك العقيدة أيضاً، ففي رسالته الى عبد الرحمن بن عبد الله السويدي من علماء العراق، يشرح الشيخ محمد بن عبد الوهاب رسالته في قومه قائلاً: (بيّنت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات والصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به، من الذبح والنذر والتوكل، والسجود..). ويمضي للقول: (وأنا صاحب منصب في قريتي، مسموع الكلمة. فأنكر هذا بعض الرؤساء، لكونه خالف عادات نشأوا عليها، وألزمت مَنْ تحت يدي بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك، من فرائض الله، ونهيتهم عن الربا، وشرب المسكر، وأنواع المسكرات). تنبىء هذه التنضيدة المتقنة عن أن ثمة إسقاطات متكررة من سيرة الرسول الأكرم (ص) وإحضار لها في السيرة الاصلاحية للشيخ محمد بن عبد الوهاب.

في رسالة لإبن مؤسس المذهب، الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد دخول سعود الكبير مكة المكرمة سنة 1218هـ، يبدأ رسالته بتعريف مثير للغاية بقوله: (أما بعد، فإننا ـ معاشر غزو الموحدين) فيما يصف الأمير سعود بـ (أمير الغزو). أما الغزاة فوصفهم بـ (أجناد الموحدين). ويصف الشيخ الغارة على مكة المكرمة بقوله: (لما منّ الله علينا، وله الحمد، بدخول مكة المشرفة نصف النهار، يوم السبت 8 شهر محرم الحرام سنة 1218هـ بعد أن طلب أشراف مكة وعلماؤها وكافة العامة، من أمير الغزو سعود ـ حماه الله ـ الأمان، وقد كانوا تواطؤوا مع أمراء الحجيج وأمير مكة على قتاله أو الإقامة في الحرم ليصدوه عن البيت، فلما زحفت أجناد الموحدين، ألقى الله الرعب في قلوبهم، فتفرقوا شذر مذر، كلُّ واحد يعدّ الإياب غنيمة، وبذل الأمير حينئذ الأمان لمن بالحرم الشريف، ودخلنا وشعارنا التلبية، آمنين، محلّقين رؤوسنا ومقصّرين، غير خائفين من أحد من المخلوقين، بل من مالك يوم الدين، ومن حين دخل الجند الحرم، وهم على كثرتهم مضبوطون متأدبون لم يعضدوا به شجراً، ولم ينفروا صيداً، ولم يريقوا دماً، إلا دم الهدي، أو ما أحل الله، من بهيمة الأنعام على الوجه المشروع. ولما تمّت عمرتنا، جمعنا الناس ضحوة الأحد، وعرض الأمير على العلماء ما نطلب من الناس، ونقاتلهم عليه، وهو إخلاص التوحيد لله وحده، وعرَّفهم أنه لم يكن بيننا وبينهم خلاف له وقع إلاّ في أمرين: أحدهما: إخلاص التوحيد لله، ومعرفة أنواع العبادة، وأن الدعاء من جملتها وتحقيق معنى الشرك الذي قاتل الناس عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، واستمرّ دعاؤه برهة من الزمان ـ بعد النبوة ـ الى ذلك التوحيد وترك الإشراك، قبل أن تفرض عليه أركان الإسلام الأربعة).

قد تستدعي هذه الرواية قصة فتح مكة على يد الرسول (ص) وصحبه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فثمّة إشارات قوية على الإندراج بطريقة التطابق في تجربة الفتح الأولى، ولا يخفى الهدف من ذلك، ذلك أنّ تمثّل التجربة الدعوية الأولى يحقق معنى التأسي ويكفل مشروعية الفعل، أي الغزو، وأخيراً يخدم ذلك عقيدة التنزيه.

في المناظرة التي جرت بين العالم العراقي السنّي بن برجيس البغدادي والعالم النجدي الشيخ عبد اللطيف بن حسن بن حسن آل الشيخ كما وردت في كتاب (تاريخ نجد) لمحمود شكري الآلوسي، تلخيص مكثّف لعقيدة التنزيه هذه. يقول العالم العراقي: (لِمَ تكفِّرون ـ يا أهل نجد ـ المسلمين وعباد الله وتعتقدون ضلالهم وتبيحون قتالهم، واستبحتم الحرمين وجعلتموهما دار حرب، واستحللتم دماء أهلها وأموالهم، وجعلتم دار مسيلمة الكذاب هي دار الهجرة ودار الإيمان، ما ورد فيها من الحديث أنها مواضع الزلازل والفتن.. والتكفير أمر خطير حتى إن أهل العلم ذكروا أنه لو أفتى مائة عالم إلا واحداً بكلمة كفر صريحة مجمع عليها، وقال عالم واحد بخلاف أولئك، يحكم بقول الواحد، ويترك قول غيره، حقناً للدماء، فلم لا تتبصرون في أمور دينكم، ولا تراقبون وقوفكم بين يدي بارئكم، وتركتم الناس سالمين من ألسنتكم وأيديكم؟).

فجاء في جواب الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ ما نصه: (أركان الإسلام خمسة: أولهما الشهادتان، ثم الأركان الأربعة فالأربعة، إذا أقرّ بها أحد وتركها تهاوناً، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفّره بتركها..). ثم ينتقل الى تصنيف العالم بقوله: (أعداؤنا معنا على أنواع: النوع الأول: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أظهره للناس وأقرّ أيضاً أن هذه الاعتقادات في الحجر والشجر الذي هو دين غالب الناس، أنه الشرك بالله، الذي بعث الله رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينهى عنه، ويقاتل أهله ليكون الدين كله لله). فذلك الذي لم يلتفت الى التوحيد ولم يترك الشرك (فهذا كافر نقاتله بكفره، لأنه عرف دين الحق ولم يتبعه، وعرف دين الشرك فلم يتركه).

(النوع الثاني: من عرف ذلك كلّه، ولكنّه تبيّن في سبّ دين الرسول، عاملٌ به، وتبين في مدح من عبد غير الله وغالى في فضلهم على من وحدّ الله وترك الشرك. النوع الثالث: من عرف التوحيد واتبعه، وعرف الشرك وتركه، من دخل في التوحيد، ويحب من بقي على الشرك. النوع الرابع: من سلم من هذا كله، ولكن أهل بلده مصرحون بترك التوحيد واتباع أهل الشرك، وساعون في قتالهم، ويتعذر عليه، ويشق عليه فيقاتلهم أهل التوحيد ويجاهدهم بماله ونفسه. النوع الخامس: كافر، فإنهم لو يأمرونه بترك صوم رمضان، ولا يمكنه الصوم الا بفراقهم، فَعَلَ. ولو يأمرونه بتزوج إمرأة أبيه، ولا يملك الا بمخالفتهم فَعَلَ، وموافقته على الجهاد معهم بنفسه وماله مع أنهم يريدون بذلك قطع دين الله ورسوله، أكبر من ذلك بكثير فهذا أيضاً كافر).

هذا الأنواع الخمسة تمثل التصنيف الديني النهائي لسكان الأرض، وهو في حدّ ذاته كاشف عن طبيعة العلاقة التي تربط (أهل التوحيد) بالأقسام الخمسة المصنّفة في خانة الكفّار، وتبعاً لذلك الاعداء، وبالتالي الموقف الشرعي منها.

في تصنيّف آخر أضيق، يفرّق الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين في كتابه: (القول المفيد على كتاب التوحيد ـ الجزء الأول ص 5) بين توحيد الربوبية وتوحيد العبودية، فالمسلمون، على حد قوله، مجمعون على القسم الأول، أما القسم الآخر أي توحيد العبودية فقد (كفر به وجحده أكثر الخلق، ومن أجل ذلك أرسل الله الرسل، وأنزل عليهم الكتب). المسلمون اليوم واقعون حسب الشيخ بن عثيمين ما وقع فيه الأقوام السالفة، حيث أنهم لم ينكروا وجود الرب (لكن ما أكثر المسلمين الواقعين في شرك العبادة‍‍!!( ولذلك يوصي بأن يتم التركيز (على هذا النوع من التوحيد حتى نخرج إليه هؤلاء المسلمين الذين يقولون بأنهم مسلمون، وهم مشركون، ولا يعلمون).

واذا كان الحكم على المذاهب غير السنيّة محسوماً فيما يتصل بعقيدة التوحيد والنصوص الواردة فيها، فإن ثمة تصريفاً جديداً لمسمّى أهل السنّة والجماعة يعيد العالم السلفي تشكيل الوعي به. فالتحريف في النصوص، والتعطيل في المعتقد، والتكييف في الصفة، والتمثيل في الصفة، على حد الشيخ بن عثيمين تعتبر نواقض للعقيدة، وبالتالي فإن السلوك التأويلي ينتحل صفة التحريف بما يؤول الى تغيير الكلم عن مواضعه، وتالياً الضلال والخروج عن جادّة أهل السنّة والجماعة. فالمسلمون، غير أتباع المذهب السلفي: (لا يمكن أن يوصفوا بأهل السنّة والجماعة؛ لأن الإضافة تقتضي النسبة، فأهل السنّة منتسبون للسنّة؛ لأنهم متمسكون بها، وهؤلاء ليسوا متمسكين بالسنّة فيما ذهبوا إليه من التحريف. وأيضاً الجماعة في الأصل: الاجتماع، وهم غير مجتمعين في آرائهم؛ ففي كتبهم التداخل، والتناقض، والاضطراب، حتى إن بعضهم يضلّل بعضاً، ويتناقض هو بنفسه). وقد خرج بهذا التقييد أكثر أهل السنّة والجماعة من هذا المسمّى ولم يتبق منه سوى فئة قليلة هم الشيخ ابن عثيمين وأهل دعوته. وهذا يجعل حتى المسلمين هدفاً لمشروع الدعوة والفتح.

في كتاب (التوحيد) للشيخ صالح بن عبد الله الفوزان، عضو اللجنة الدائمة للافتاء والدعوة والارشاد، والذي أعيدت طباعته مؤخراً على نفقة وزير الدفاع الأمير سلطان بن عبد العزيز،  جاء في الباب الأول في الفصل الأول بعنوان (الإنحراف في حياة البشرية): (فشا الجهل في القرون المتأخرة ودخلها الدخيل من الديانات الأخرى، فعاد الشرك إلى كثير من هذه الأمة). وفي الفصل الخامس من كتابه يعارض الشيخ الفوزان فكرة الجاهلية لسيد قطب باعتبار أنها جاءت تعميمية، بمعنى أنها لم تستثن جماعة دون غيرها من سكان الأرض، والصحيح حسب الفوزان: (أن يقال جاهلية بعض أهل هذا القرن أو غالب أهل هذا القرن). وتكشف نصوص أخرى في الكتاب نفسه وكتابات أخرى لرموز المدرسة السلفية بأن المستثنى من حكم الجاهلية هم حصرياً المجموعة التي ينتمي اليها المؤلف.

ثمة أيديولوجية ثاوية في هذه الرؤية الكونية المقررة بضلال الخلق، تكشف عنها عقيدة الولاء والبراء، مركز التكوين العقدي السلفي. في كتابه (الولاء والبراء في الاسلام) ينقل محمد سعيد القحطاني، المدرس السابق بقسم العقيدة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، بأن الجهاد في سبيل الله (من أهم مقتضيات الولاء والبراء، لأنه الفاصل بين الحق والباطل، وبين حزب الرحمن وحزب الشيطان). ولخلود العداوة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، بحسب تصنيف المؤلف، وهم كل من لا يندرجون ضمن التوصيف المحدد والصارم للأولياء، أي من لا تنطبق عليهم شروط الموحد التام العقيدة.. فإن العدواة بين الفريقين (ستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وذلك لأن المنهجين مختلفان، ويستحيل الإلتقاء بينهما، لأن حزب الله يريد إقامة كلمة الحق في الأرض وهيمنة الشريعة الإسلامية على كل وضع. وحزب الشيطان يغيظه هذا المنهج فيسعى جاهداً في سحقه وإبادته ما استطاع إلى ذلك سبيلاً).

إن ثمة تصعيداً أيديولوجياً لمفهوم الجهاد يراد منه تحقيق التجسيد الأسمى لمعنى العبودية، ولذلك يقول الدكتور الغامدي بأن (عبودية الجهاد من أشرف وأوجب أنواع العبودية لله سبحانه وتعالى). وينقل عن شيخ الإسلام إبن تيمية قوله: أنه (لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه.. لأن الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، وهو مشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة، ففيه من محبة الله، والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له والصبر والزهد وذكر الله وسائر أنواع العبادة).

التفسير الأيديولوجي للسيرة النبوية يؤكد النزوع الى تأكيد عقيدة الولاء والبراء، حيث يرى المؤلف بأن الهجرة والجهاد حركتان متواليتان تنشدان (إقامة هذا الدين، وبيع المهج في سبيل الله تلبية لنداء الجهاد في سبيل الله). وهنا لا بدّ من تحقيق الربط بين عقيدة التوحيد والتبشير بها، وبين الاستعداد للموت من أجل حمل الخلق على اعتناقها. وبحسب تفسير الدكتور الغامدي، فإنه (من المعلوم: أن هذا الدين الحنيف يأمر بدعوة الناس إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة والألوهية، فإذا لبوا هذا النداء فهذا هو المراد من بعثة الرسل، وإنزال الكتب.. وإن انتكصوا على أعقابهم فلا بدّ من جهادهم). فخيار القتال من أجل الدعوة خيار ناجز، فالناس في عقيدة هذه الفئة إما أن يؤمنوا بالله أو يعرضوا أنفسهم للقتل.

ثمة إبتكار تفسيري فريد للآية الكريمة (لا إكراه في الدين) يراد له أن يتساوق مع الفكر القتالي أو الجهادي لدى المؤلف، من خلال فبركة سياق إيديولوجي يوظّف لخدمة أغراض مختلطة، فقتال الناس واجب حين يرفضون الدخول في عقيدة التوحيد، ولكن حين تسقط أرضهم تحت سلطان المسلمين فإنهم يخيّرون بين الدخول في الاسلام أو البقاء على عقائدهم. فهناك نص يحمل تفسيره معه للمؤلف:

لدين الإسلامي يبدأ بدعوة الناس إلى الخير وجدالهم بالتي هي أحسن، فإذا قامت عليهم الحجة ثم أعرضوا وجب قتالهم. وإذا كان هناك سلطان وطواغيت ترفض أن يستمع الناس للإسلام فإنه يجب بتر هذه الطواغيت من ساسها لتبلغ كلمة الإسلام للناس؛ ثم يأتي هنا مبدأ لا إكراه في الدين، أي إذا سيطر سلطان المسلمين على منطقة ما فإن أهلها لا يجبرون على اعتناق عقيدة الإسلام، ولكن يجب أن يخضعوا لسلطانه، فإن أسلموا فلهم ما للمسلمين، وإن طلبوا البقاء على ديانتهم، فعليهم دفع الجزية للمسلمين وإلا فالسيف بينهم وبين المسلمين) (أنظر: الولاء والبراء في الاسلام، للدكتور محمد بن سعيد القحطاني، ص 298).

ثمة أهداف محددة للجهاد في الاسلام بحسب هذه العقيدة وهي على النحو التالي:

(1) مقاتلة الكفار لتقرير حرية العقيدة.

(2) الجهاد من أجل تقرير حرية الدعوة.

(3) الجهاد من أجل إقامة نظام الإسلام في الأرض.

وليس ثمة حاجة للقول بأن هذه الأهداف لا تتضمن ما يفيد بتحرير الاعتقاد، بل هي عقيدة الفتح مشروحة في مراحل إنجاز مشروع السيطرة، إنها خطة تستهدف إملاء المعتقد وفرضه بالقوة، وهذا الفهم الخاص بالجهاد لا يقول به أغلب فقهاء المسلمين.

كتاب (التأصيل لمشروعية ما حصل لأمريكا من تدمير) لمؤلفه الشيخ عبد العزيز بن صالح الجربوع، وتقديم الشيخ حمودالعقلاء، والشيخ علي الخضير، والصادر عام 2002، يمثّل التعبير العلني عن العقيدة الجهادية للتيار الديني العام في المملكة، والخلاف بين المؤلف والمنتصرين لفكرته من جهة، والمعترضين عليه تنحبس في درجة التصريح، أو في أسوأ الحالات في تشخيص المصلحة من الكشف عن المعتقد. في المقدمة ، يرى الشيخ العقلاء، أحد أبرز مصادر الإلهام للتيار الجهادي في المملكة، في الكتاب يقول بأنه (كتاب مفيد ونافع، ننصح بقراءته، ويعتبر سلاحاً يتمسّك به المسلم لمقاومة التيارات الحديثة الفاسدة). وعقّب الشيخ علي الخضير على الكتاب مدحاً ودعاءً.

المبررات التي تقدّم في الكتاب لشرعنة عمل انتحاري بحجم هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وأن يوصف القائمون عليها بالأبطال، تنطوي على عقيدة صلبة. رد الفعل الإحتجاجي العارم في العالم الاسلامي إزاء هذا العمل يدحضه مؤلف الكتاب على طريقته بالقول: (ومما التبس على الناس في هذا الزمن ما حدث لأمريكا من دمار عليها من الله ما تستحق.. حيث ضربت في عقر دارها ـ ولله الحمد والمنّة على ذلك ـ ضربة سرّت المسلمين أيّما سرور، وأفرحتهم أيّما فرحة، وشفا الله صدورنا وصدور إخواننا من المؤمنين، فنسأل الله المزيد، وما عند الله للظالمين أشدّ وأنكى). ورغم التناقض الواضح في هذا النص، حيث يبدأ المؤلف عبارته بأن الحدث قد إلتبس على الناس، ثم يعقبه بالقول بأن الحادثة سرّت المسلمين أيما سرور، فكيف يكون ذلك؟ إلا أن يكون القصد بالمسلمين هم الفئة الضالعة والمخططة للهجمات.. أقول رغم التناقض ذاك فإن النص يحمل بداخله عقيدة دينية تشكّل مفتاحاً لمشروع الفتح.

فحين يعيب المؤلف على المنافحين عن الاسلام بنفي الربط بينه وبين الإنتحاريين، يرد المؤلف بالقول (نحن مطالبون.. بإعلان البراءة منهم ـ أي الأميركيين ـ وكرههم وبغضهم والكفر بهم وبما يعبدون من دون الله.. مطالبون بالتحريض عليهم، وفضحهم وكشف مخططاتهم.. مطالبون بتفريق صفّهم والكيد لهم، والتربّص بهم أن يصيبهم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا). واذا كان الأمر كما يرى المؤلف بأن (قتلاهم في النار وقتلانا في الجنة) فإذن (علام الحزن والجزع والخوف والهلع..إن لم يكن حال المؤمن كذلك، فأين التسليم لأمر الله عز وجل؟!).  يؤكد المؤلف بأن (الأصل مع الكفار القتال، لا السلم) استناداً على قراءة شديدة الانحياز لآيات القرآن الكريم، وأن السلم يمثل ظاهرة استثنائية.

وكيما يتحقق انفلاق العالم الى جبهتين وفريقين، يرسم الشيخ عبد العزيز بن صالح الجربوع العالم منقسماً الى دارين: دار الحرب ودار الإيمان، ويعرّف دار الحرب بأنها: (كل بقعة تكون أحكام الكفر فيها ظاهرة، وليس بينها وبين المؤمنين عهد.. والعهد هنا لا يخرجها عن أصلها، ولكنه يمنع قتالها ولا يزيل وصفها... أو هي التي شوكتها لأهل الكفر من غير ذمة ولا جوار، فما كان من غير ذلك فهي دار حرب والصلح بين الإمام وأهلها لا يخرجها عن كونها دار حرب.. لأن الصلح فرع، والحرب أصل، وحكم الفرع لا يغيّر حكم الأصل.. وحكم دار الحرب أنها  دار إباحة فيما بين الكفار والمسلمين... ودار الحرب ليست متوقفة على ساكنيها، بل على ما يسودها من أحكام، فإذا عاش المسلمون في أرض لا تحتكم الى الشريعة فهي دار حرب).

كما أن دار الحرب ليست من يسكنها كفار محاربون للاسلام بالضرورة، فـبحسب التفسير الراديكالي لمفهوم دار الحرب فإنه (ليس من شرط دار الحرب أن تكون الحرب قائمة بيننا وبين الكفار، فلربما كان هناك مانع من الحرب بين الكفار والمسلمين غير الصلح.. أو كان الكفار في معزل عنّا ومنأى، وبيننا وبينهم الفيافي والقفار، فإن دارهم دار حرب). وهذا يصدق على الولايات المتحدة حكومة وشعباً وأرضاً.

إذن فكل بقاع الأرض مرشّحة لأن تكون دار حرب هذا الفريق من الناس، باعتبار أن أحكام الكفر قد تكون مطبّقة جزئياً أو كلياً بما في ذلك المملكة التي تأخذ بقوانين هي في تعريف هذا الفريق وضعية أي كفرية، كما ظهر ذلك في محاضرات رموز التيار خلال أزمة الخليج الثانية عام 1990-1991.

استحواذ هذه العقيدة التنزيهية المحرّضة على قتال أهل الكفر من أجل نشر عقيدة التوحيد في بقاع الأرض، والمحثوثة بعقيدة أخرى لا تقل تحريضية وهي عقيدة الولاء والبراء التي تفرض نوعاً من الانفصال العقدي والجسدي عن المحيط الالحادي إستعداداً للانقضاض عليه وتقويضه عن طريق إستعمال القوة.. هذا الاستحواذ في تداعياته النفسية والطريقة التي يترجم فيها على هيئة مواقف وأفعال، هي على وجه الدقة ما وقع في الحادي عشر من ربيع الأول أو الثاني عشر من مايو الماضي. تشبّع المجموعة الانتحارية برؤية كونية على الطريقة التي يشيعها وينتصر لها رموز المذهب والتي تحيل العالم الى مجرد وحل من الجهل والرذيلة، وأن ثمّة رسالة (أيديولوجية) تملي حرباً مقدسة على الموحّدين، كيما يبذلوا مهجهم من أجل إعادة الناس الى عقيدة التوحيد. وإذن لا محيص عن المواجهة مع الكفر فهي حتمية لأن النص الديني دالّ عليها، وأخيراً لا بدّ من تحقيق واجب العبودية ممثلاً في إعلان الجهاد في العالم الممتد جغرافياً بحسب المواصفات الصارمة ـ سالفة الذكر ـ لمن ينتمون الى مصنّف أهل السنّة والجماعة.