الإطاحة بجمال خاشقجي

فلسفة الحكم إزاء التيارات السياسية المحلية

 

لم تمض سوى أسابيع قلائل على تعيينه رئيس تحرير لصحيفة (الوطن) السعودية، حتى فوجئ القراء بقرار إقالة جمال خاشقجي يوم 27 مايو الماضي. الإقالة في ظاهرها سياسة اعتيادية دأب رجال الأسرة المالكة الكبار على ممارستها منذ أمد بعيد. تلك السياسة تقوم على قاعدة ضبط الصراع شبه الأزلي والذي اتخذ مسميات مختلفة: مرة بين اللبراليين والمحافظين، ومرة أخرى بين التقليديين والتحديثيين، وثالثة بين الدينيين السلفيين والعلمانيين، وكلّها مسميات لعملة واحدة قد تقترب من الحقيقة أو تبتعد عنها. الصراع بين التيارين اللبرالي والسلفي في حقيقته صراع سياسي قد يأخذ وجهاً ثقافياً واجتماعياً، ويستهدف، من الزاوية اللبرالية، تخفيف سيطرة المؤسسة الدينية على الحكم، وإدخال لاعبين جدد من خارج الدائرة الثقافية التي تؤمن بها.. ومن الزاوية السلفية فإنه يستهدف تعزيز دور الدين والمؤسسة الدينية في الحكم، وإقصاء المخالف بشكل حاد ونهائي.

العائلة المالكة أدارت الصراع بين هذين التيارين العريضين بنجاح نسبي، وفلسفتها تقوم على وضع التيارين أمام بعضهما البعض، كيما يكبح أحدهما جماح الآخر، ويقلّص من صلاحياته حسب الظرف السياسي، ودون أن يؤدي الى تعدّ على حصة الأسد في الحكم التي يحتفظ بها الأمراء. في بعض المسائل الإدارية والتنموية تبدو العائلة المالكة وكأنها تقف غير بعيدة عن التيار اللبرالي، وفي مسائل شرعية الحكم والأمن تقف مع التيار السلفي، وهي لا تريد للأول أن تنمو أسنانه فيطالب بتغييرات سياسية قد تطال مصالح العائلة المالكة، وإن فعل، جيء بالتيار السلفي ليقوم بعملية (الفرملة). أما حين يتجاوز التيار السلفي حدوده، ويحاول نقض الشرعية، فإن العائلة المالكة تفسح المجال للتيار المقابل لنقده والتشهير بأخطائه وتالياً إعادته للحظيرة الملكية.. وكل ذلك يأتي في حدود اللعبة التي ترسمها العائلة المالكة ولا تقبل بتجاوزها.

وللأسف فإن بين التيارين المتقابلين من النزاعات والإختلافات أكثر مما بينهما وبين النظام نفسه. وكلا الطرفين يستخدمان وسائل تحريض الشارع والحكومة ضد الآخر. في حين تحاول العائلة المالكة أن توحي الى كل تيار بأنها تقف معه ضد الآخر وتطلب دعمه لها والتخفيف من نقده لها، ولكن هذا لا يعني بالضرورة ان التيارين راضيان عن تلك السياسة، فكل واحد منهما يعتقد أن الحكومة غير محايدة. فهذا يقول أنها تدعم العلمانيين، والآخر يقول بأنها تحابي المتطرفين السلفيين، والحقيقة هي أن العائلة المالكة تقف مع نفسها ومع مصالحها وتستخدمهما معاً في معركة البقاء على كرسي السلطة.

ولأن التيارين لم يدركا بعد أصول اللعبة (الملكية).. تفسّر قرارات الحكومة على نحو مختلف، ويجري أحياناً تجاوز الحدّ الذي رسمته العائلة المالكة للصراع بين الطرفين، فتقوم بضربة لهذا التيار، فلا يكاد يفيق حتى تضرب الآخر، وكل منهما لايزال يرى معركته مع الآخر وليس مع السلطة نفسها المتمرسة في خوض هكذا نزاعات وإدارتها بمهارة فائقة. فعلى سبيل المثال، حين جرى دمج الرئاسة العامة لتعليم البنات في وزارة التعليم، قامت قيامة السلفيين، وازداد حقدهم على من يعتبرونهم متآمرين علمانيين، واستعر الكلام ضد وزير التعليم وضد النخب المثقفة اللبرالية، في حين أن القرار هو قرار ملكي صرف، وقد اتخذ على الأرجح بدوافع خارجية وليست داخلية، ومازال الدمج صورياً حتى الآن أكثر منه واقعي. وقبل انفجارات الرياض الأخيرة (12 مايو) بأسابيع ظهرت حملة مضادة للتيار السلفي ومؤسساته، وتكثفت بعد التفجير، حيث انتهز التيار اللبرالي الفرصة السياسية المتولدة عن تلك التفجيرات، وما تبعها من ضغوط خارجية على نظام الحكم، وراح ـ وبإيحاء من السلطة أيضاً ـ في ممارسة النقد الحادّ لهيئة الأمر بالمعروف وتجاوزاتها، وتسليط الضوء على النشاطات السلفية وما تبثه من أفكار قادت الى تفجيرات الرياض وقبلها تفجيرات نيويورك. وكانت جريدة الوطن رأس حربة تلك الهجمة، حيث نشرت حوادث ووقائع مريعة حول الأمر، كما نشرت مقالات عدة تهاجم التطرف، بينها مقال خالد الغانمي (الوطن أهم من ابن تيمية). وبدل أن تتوجه القوى السلفية بنقدها للعائلة المالكة، صبّتها على الجريدة وعلى عدد من الكتاب والصحافيين، وأصدر الشيخ عبد الرحمن بن جبرين فتوى بتحريم شراء وقراءة جريدة الوطن التي صارت تعرف عند السلفيين بـ (جريدة العفن). ولما كاد الرأي العام المحلي يبصّر بوقائع الأمور، وينال التيار السلفي ضربة شعبية قاصمة.. تدخلت العائلة المالكة، مرة أخرى، فأزاحت جمال خاشقجي، وجرى توبيخ رؤساء تحرير الصحف من قبل الأمير نايف الذي اجتمع بهم في 26 مايو، أي قبل يوم من الإقالة. وهنا ثارت البواكي لدى اللبراليين، وندبوا الحرية المفقودة، والتطرّف المستطير، وكادوا أن يفقدوا صوابهم غير مصدّقين أن الحكومة تقف مع التيار السلفي كلما كبا وكلّما حان وقت الخلاص منه!!

ما يجب إدراكه أن الإستمرار في اللعبة (الملكية) يقتضي بقاء كلا اللاعبين، التيار السلفي والتيار اللبرالي. لإن انتصار أحدهما، لا يؤذن فحسب بتغيير اللعبة، بل سيؤدي الى تغيير وجه المملكة وربما نظامها السياسي، إذ سيفتح معارك أخرى مع الأمراء على قاعدة الإصلاحات.

هنا.. ينبغي الإلتفات الى أصول اللعبة، التي لن تتغيّر إلاّ إذا تغيّر فهم التيارين الأساسيين لها. أي الى أن يصلا بالوعي أنهما معاً في معركة واحدة مقابل العائلة المالكة بهدف الإصلاحات السياسية. أما إذا استمرت الإنتهازية التي يبديها الطرفان ليكون أحدهما الأثير لدى الأمراء على أنقاض الآخر، فإنهما سينتظران طويلاً قبل أن يتحقق ذاك!

لنأخذها مختصرة.. العائلة المالكة لن تضرب التيار السلفي، ولن تضعفه الى الحدّ الذي يمكن تجاوزه، فذلك إضعاف لقوتها، ورغم الأحداث الأخيرة فإنها على الأرجح ستكرر ما فعلته في تجارب سابقة، منذ حرب الأخوان في العشرينيات وحتى اليوم.

1- ستقوم بعزل التيار العنفي عن السياسي، أي ستعزل الأتباع المتحمّسين عن رجال الدين المنضوين تحت المؤسسة الدينية لسحب بساط الشرعية عن أفعالهم، وستظهر الفتاوى ضدهم بأكثر مما قرأنا. ولقد عوّدنا المشايخ أنهم يقفون ضد أتباعهم وحواريهم وتلامذتهم في كل نازلة حسب متطلبات السلطة، رغم أن هؤلاء الحواريين لم يأتوا بشيء جديد من عندهم، لا فكراً ولا فتيا. كل ما يفعلونه هو تطبيق لما تعلّموه. ولكن الخلفية الإجتماعية المختلفة وفهم المصالح يدفع المشايخ دوماً للتضحية بأتباعهم، فيصبحون طعماً سهلاً لقوى الأمن.

2ـ سيصمت التيار اللبرالي أو يبارك الهجمة الحكومية التي قد تتجاوز معايير الحق، وتصيب بأذاها آخرين، وفي هذا المجال يفترض أن يتسامى اللبراليون على جراحهم، وأن لا يتمادوا في التأييد لممارسات السلطة، وعليهم أن يؤسسوا موقفاً حازماً فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان. فحزم الحكومة النسبي، لا ينبغي معه تأييدها في التعدّي على حقوق المواطنين أياً كانت صفتهم أو توجهاتهم الدينية أو الفكرية. وهذا الموقف لو حدث فإنه يكسر الحاجز بين التيارين، بحيث يفضي الى دفاع مشترك عن حقوق المواطنين، وقد يبتلى التيار اللبرالي هو الآخر بقمع السلطة ـ أكثر مما حدث لبعض رموزه ـ وحينها يحق لهم المطالبة بالدفاع عنهم من رموز السلفية نفسها.

3- لن تستأصل الحكومة التيار السلفي/ الجهادي ـ كما يوصف ـ أو لن تستطيع فعل ذلك. بل ستقوم بضربات محدودة ترضي الغربيين جزئياً ولا تستثير باقي السلفيين محليّا، ولا تأتي بردود فعل معاكسة عنيفة.

4- ستبقى المؤسسات السلفية وقوى التيار السلفي محافظة على مكانتها، أي لن تكون هناك إجراءات عدا ترشيد بعضها وتدجين ما لم يدجّن بما فيه الكفاية.

وبهذا لن نشهد تغيراً دراماتيكياً في العلاقة بين التيار السلفي والعائلة المالكة، على الأقل هذا من وجهة نظر الأخيرة، كما لن نشهد تحولاً نحو الديمقراطية والإنفتاح السياسي. ستستمر الأمور مثلما كانت عليه قبل الثاني عشر من مايو، تاريخ تفجيرات الرياض الأخيرة.

يدفعنا لهذا الإستنتاج، تجربة المملكة التاريخية، مع الإخوان، ومع اضطرابات 1964 التي سببها افتتاح محطة التلفزيون، وما حدث بعيد حادثة الحرم 1979، وأيضاً ما جرى بعد الغزو العراقي للكويت. بلا شك أن الظروف السياسية اليوم أكثر حراجة، والضغوط التي تواجهها العائلة المالكة من الخارج شديدة، والوضع الداخلي يميل الى الإنفجار والتعقيد. كما أن التيار السلفي العنفي أصبح اليوم أكثر تنظيماً مما مضى، وأكثر تسليحاً واستعداداً للمواجهة في ظل انكشاف صورة الحكم اللادينية من وجهة نظرهم.

ربما أمران قد يقلبا الصورة على غير الشكل الذي رسمناه آنفاً: أن يقوم التيار السلفي بعمليات نوعية جديدة داخل المملكة، وهو متوقع. (أو/ و) أن تتعرض الحكومة السعودية لضغوط خارجية هائلة، بسبب تلكؤها فيما يسمى بمواجهة الإرهاب، وهنا قد تضطر العائلة المالكة الى زيادة جرعة القمع وقد يفضي الى خلخلة داخلية تفرز بداية لمرحلة جديدة من عمر الدولة السعودية الثالثة.

أيضاً هناك مسألة أخيرة ترتبط بالعلاقة بين التيارين السلفي واللبرالي، فإن إيقاف المعارك بينهما، أو الوصول الى مشتركات سياسية، كفيل بقلب الطاولة على الأمراء، التي نجحت لزمن طويلة في وضع القوى السياسية مقابل بعضها البعض.