العنف بين تعجيل الإصلاحات وتأجيلها

 محمد الفائز

 

ظاهرة العنف في المملكة هي في جوهرها تعبير عن الإنسداد السياسي الداخلي، وعن خلل ثقافي وفكري كبيرين، وتحمل أيضاً تعبيراً عن فشل الدولة في برامجها الإجتماعية الإقتصادية والتعليمية والإعلامية. بيد أن المسؤولين وبعض الكتاب المحليين تناولوا الظاهرة بشيء من السطحية، ملقين باللوم على الجماعات السلفية المتطرفة وكأنها نبتة غير طبيعية شيطانية ظهرت في غفلة من الزمن، أو بتآمر جهات خارجية، أو استجابة لتحريض من أناس مختلّين ذهنياً وعاطفياً. السهام توجّهت لكل الجهات إلاّ جهة الحكم ودوره في صناعة وتهيئة بيئة العنف، وتزويده لها بالمخالب والأسنان واليد الباطشة والحماية والتمويل والدعاية وغيرها.

لكن ما يهمنا هنا هو موضوع آخر.. فحين وقعت التفجيرات الأخيرة، وضع القائمون عليها في زاوية أنهم بأفعالهم يعيقون الإصلاحات! وكأن الإصلاحات كانت ماضية على قدم وساق! وكأنّ سياسة الدولة الإصلاحية مبنية على شفا جرف هار انهار بمجرد أن وقع ما وقع، وليست مبنية على سياسة مكينة واستراتيجية واضحة، الأمر الذي جعل الأحداث الأخيرة تتلاعب بها وتحرف مسارها. الإصلاح السياسي ليس لعبة تكتيكية تنتهي بوقوع حدث مثل التفجيرات فتلغيها من الأساس، وتنتهي اللعبة الطفولية.

لم تكن هناك إصلاحات أصلاً جاءت التفجيرات فقضت عليها!

ولم تكن هناك نيّة في الإصلاح غير ما ظهر من تصريحات متناقضة بين المسؤولين، وخاصة بين ولي العهد والأمير نايف، بحيث نقول أن التفجيرات ألغت نيّة الحكومة في الإصلاحات، أو أجلت تلك النيّة.

هذا كلام غير مسؤول وغير مقبول. وقد سبق للمسؤولين السعوديين أنفسهم أن تذرّعوا بعدم إلغاء التمييز الطائفي ضد الشيعة حين اكتشف تهريب بعض الأسلحة عام 1997م، وقالوا أنهم كانوا بصدد انتهاج سياسة جديدة ولكن ما جرى دفعهم لتغيير رأيهم.

مثل هذا القول معيب وغير مسؤول. فسياسة الدولة لا تُبنى على حدث وقع هنا أو هناك، ولا يمكن تبرير الإستبداد السياسي والتمييز الطائفي المستمر منذ قيام الدولة وحتى اليوم بحادثة عنف وقعت هنا وهناك. خاصة وأن الدولة مرت بظروف استقرار نسبي طويلة المدى، ولم نرَ من أمراء العائلة المالكة بادرة باتجاه الإصلاحات السياسية والإجتماعية.

الصحيح.. إن الظروف المضطربة تعتبر في الغالب محفّزات للإصلاح. إنها تفسح المجال لنقد الذات ومراجعة الثغرات والعيوب والأخطاء في المنهج والسياسة. فالأمم عادة لا تراجع ذاتها إلاّ وقت الأزمات والمحن وليس في فترات الإسترخاء السياسي الظاهري. والمملكة اليوم هي أقرب الى الإصلاحات منها في أي وقت مضى، بسبب تفاقم الأزمات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والأمنية، ولم تكن مثل هذه القضايا مطروحة وبمثل هذا الوضوح من قبل. ولو عدنا الى تصريحات المسؤولين أنفسهم، فإننا سنجد ـ عند أيّة تحوّل أمني أو سياسي ـ وعوداً بالإصلاح السياسي منذ مقتل الملك فيصل، وحتى بعد التفجيرات الأخيرة (كما صرح بذلك سعود الفيصل الذي تحدث عن الإصلاح وكذلك خطاب الملك الى مجلس الشورى) مروراً بحادثة الحرم، وانتفاضة المنطقة الشرقية في نوفمبر 1979، وبعد موت الملك خالد مباشرة، وبعد أزمة احتلال الكويت.. الخ.

مشكلتنا مع المسؤولين السعوديين أنهم غير جادّين في الإصلاح، وكلّما جاءت أزمة، توسّعوا في الوعود ريثما تمرّ فتعود حليمة الى عادتها القديمة. وحتى هذه اللحظة تقوم فلسفة وزير الداخلية وعدد من الأمراء على هذا الرهان: الصبر حتى تهدأ الأزمة ويتم تجاوزها وترحيل المطالب الإصلاحية الى المستقبل، وهكذا!

مشكلتنا معهم أنهم لا يؤمنون بالتغيير السياسي لا وقت السلم ولا وقت الأزمات. وكل ما يقولونه مجرد إدّعاءات مفضوحة تستهدف صرف الإهتمام عن الإستحقاقات السياسية.

الإصلاحات السياسية في المملكة لن تأتِ بسوى الضغط والفرض، والمسؤولون الكبار ينفون ذلك ويقولون بأن أحداً لا يستطيع أن يفرض عليهم ذلك لا من الداخل ولا من الخارج. والإصلاحات لن تأتِ عبر مكرمة ملكية وتنازل طوعي إذا لم تتوفر شروطه المحليّة الضاغطة التي تكسر حدّة مقاومة صقور العائلة المالكة لها. والإصلاحات فوق هذا وذاك، تستمد مشروعيتها وزخمها من الظروف المحلية، فتحققها ليس رهيناً بالعائلة المالكة وحدها، فإذا ما رفضت ذلك انتهى الأمر، وسقط الرهان، وتوالت أيام الإستبداد. ليس هكذا تُقرأ مبادئ التغيير السياسي.

القول بأن التفجيرات الأخيرة في الرياض ستؤجّل الإصلاحات أو تتخذ ذريعة لتأجيلها لن يكون صحيحاً إلاّ إذا كانت النيّة المبيّتة هي عدم الإقدام على الإصلاحات. في غير هذه الصورة، فإنه رغم الممانعة (الملكية) قدّمت التفجيرات دفعة باتجاه الإصلاحات، لأنها عجّلت الحاجة إليها، وأثبتت أن غيابها سيزيد من العنف. وإذا كانت هذه الرسالة لم تلقَ قبولاً (ملكياً) أو (أميرياً) فإن النتيجة ستكون المزيد من العنف وتصاعد تدهور الوضع الأمني، ولن تفيد العصا لوحدها في تهدئة الأوضاع.

وزير الداخلية بالتحديد أكثر الصقور تطرفاً في مواجهة الإصلاحات، ورغم أن الجميع توقع ضعفاً في موقفه نتيجة التفجيرات التي أثبتت هشاشة وإخفاق جهازه الأمني، إلاّ أنه عاد وأكّد بشكل معارض لخطاب الملك الى مجلس الشورى محذراً من قراءة ما جاء في الخطاب من مشاركة شعبية ضرورية وإصلاح سياسي حان موعده، على نحو صحيح.. وكأنه يريد أن يقول: لا تسيئوا الفهم، ما سمعتموه مجرد كلام، والإصلاحات السياسية قائمة ولا مكان للجديد منها!

لربما تصور الصقور في العائلة المالكة، أن التفجيرات تمنحهم فرصة توسعة رقعة العنف بحجة فرض الأمن والإستقرار، ومكافحة الأرهاب، وهو مطلب أميركي بالدرجة الأولى، مستغلين الظرف النفسي الذي عاشه المواطن الباحث عن الأمن ليدفعوا بمطالب الإصلاح الى الخلف. بيد أن الحقيقة أبعد من الممارسات التكتيكية، فالأمن والإصلاحات صنوان، لن يتم تحقيقهما بشكل منفرد. الإصلاحات هي الخطوة الأولى نحو الأمن والإستقرار، وتأجيلها ـ لأي سبب كان ـ ليس في صالح الحكومة ولا المجتمع، ولن يلغي الحاجة إليها، كما ان التأجيل والمماطلة لن يستمرا الى الأبد، إذ لا بد أن يأتي يوم فيشرع بها. وفضلاً عن هذا، فإن الولايات المتحدة لا تطلب من الحكومة السعودية مجرد استخدام العصا الغليظة ضد التيار المتطرف، والحكومة السعودية بهذه المناسبة حذرة في الإقدام على ذلك وتسعى لمعالجة موضعية محدودة، وإنما تطالب أيضاً بخلق مناخ سياسي منفتح نسبياً كواحدة من الوسائل المهمّة لمنع تحوّل المملكة الى مفرّخ للإرهاب.

خلاصة القول أن التفجيرات الأخيرة ستقدّم الإصلاحات خطوة الى الأمام على الأرجح، ولكن قد يتمّ استغلالها من قبل الجناح المتطرف في الحكم لكي يؤجّلها أو يلغيها من أساسها بذريعة الأمن وأولويته على ما عداه. وتبقى التفجيرات شاهدة على الحاجة الى الإصلاح، ونتيجة لمرض الإنغلاق السياسي والفكري والثقافي الذي نتمنى أن ينتهي ولو بعد حين.