عدم شرعية الحكومة يشرعن العنف
خالد الرشيد
ربما لم تشهد الدولة السعودية الجدل الايديولوجي الذي شهدته
وبوتيرة متصاعدة دول أخرى تبنّت النموذج العلماني الغربي القائم
على أساس فصل الدين عن الدولة، وبالتالي أخضعت تلك الدول الى
المناظرة الدينية والاشكالية المركزية فيها حول مشروعية الدولة،
على إعتبار أن الدولة السعودية ربطت نفسها بحالة دينية خاصة في
نجد معضوداً برجوع متكرر الى المفردات الدينية للتذكير بالصلة
الحميمية بين الدولة والدين.
على أن من الضروري المجادلة بأن ليس علمانية الدولة هو منبع
الأزمة بين المجتمع والسلطة بل هو شكل السلطة، الذي كان ينزع الى
الاستبداد بالأمر واحتكار مصادر القوة والقدرة في الدولة،
المعضلة الاساسية التي واجهها المجتمع مع الدولة في عدم القدرة
على التكيف معها والخضوع لسلطانها ومنحها الولاء والطاعة واحترام
قوانينها، لانها ببساطة تمثّل مصالح وتحقق غايات الأقلية
المهيمنة على السلطة. بكلمات أخرى، ليس علمانية الدولة كما ليست
دينية الدولة هي التي تحدد طبيعة العلاقة بين المجتمع والسلطة،
فالاستبداد سواء كان سياسياً أو دينياً يظل استبداداً فالدولة في
ديارنا الدينية والعلمانية منها سواء بسواء أخفقت في التحول الى
دولة القانون واحترام الدستور والضامن للحقوق الفردية والجماعية
والحريات العامة وتوفير آليات للتداول السلمي للسلطة، فكلا
النموذجين لم يثبتا سوى كونهما ينتميان الى نفس المصنّف
الاستبدادي.
ورغم التشكيك المتقطع في صدقية الاساس الديني للدولة السعودية
سيما خلال تجربتي الاخوان الأولى في نهاية العشرينيات من القرن
الماضي والاخوان الثانية عام 1979 الا أن العقد الأخير من القرن
الماضي مثّل نهاية العلاقة المستتبة بين الدين والدولة في
السعودية، فقد تتوجت الحملة الايديولوجية التي قادها رموز
القاعدة الدينية السعودية الى "تكفير الدولة السعودية" والتي جرى
حشد أدلة الإثبات عليه في كتاب "الكواشف الجليّة في كفر الدولة
السعودية". أحدث الكتاب خلخلة للتأسيس الديني للدولة، ثم ما لبث
أن اختلط بخطاب التيار السلفي المتشدد المناهض للدولة والذي
ينتمي اليه أعضاء تنظيم القاعدة وجيش المناصرين له، بما في ذلك
الضالعين في تفجيرات الرياض الأخيرة. الكتابات التي صدرت خلال
العقد الأخير تؤكد مرة أخرى على عقيدة تكفير الدولة وبالتالي لا
شرعيتها، وما يترتب عن ذلك من موقف عملي يقضي بإزالة الدولة غير
المشروعة واقامة بديل شرعي عنها.
التحصينات الدفاعية للدولة كانت منذ اللحظة التي فقدت فيها
الحماية الدينية باتت مكشوفة أحالها الى كيان غير شرعي يمثل
مصالح أقلية داخل أقلية تستمد بقاءها من مصادر غير تقليدية.
وبقيت الدولة متمسكة وبإصرار على الشرعية الدينية المستمدة من
المصاهرة التاريخية مع العلماء رغم أن جزءاً عظيماً من هذه
المشروعية قد تآكل، ولم تفلح العائلة المالكة من تنيمة مصادر
أخرى لمشروعيتها رجاء تحقيق إجماع وطني عام، خشية التنازلات
السياسية المترتبة على الانتقال الى مصادر مشروعية جديدة.
لقد بنت الدولة السعودية شرعية نظامها على توليفة مشتركة من سلطة
القبيلة والاسلام، وقد حافظت على مركزية هذين العنصرين حتى بعد
دخول الدولة عصر التحديث والمشروع التمديني واسع النطاق. لم يمنع
كل ذلك من تحوّل الدولة الى جهاز قمعي إكراهي يتجاوز كونه يبرر
نشأته واستمراره من عنصر ديني اخلاقي بل أسيء استغلال الأخير من
أجل إرساء نظام تفاوتي ليس لمبادىء المواطنة ومتوالياتها،
المساواة في الحقوق والواجبات. ودولة بهذا النزوع الفئوي لا بد
أن تصل الى موقع الصدام العنيف مع القوى المتشددة التي تتشرعن
بصورة تلقائية في تواصل مع اخفاقات وانهيار مشروعية الدولة، حيث
يأخذ رد الفعل الشعبي طابعاً إزدرائياً من طرفي النزاع، فهو ضد
الدولة وضد التيار المتشدد وبحسب التوصيف الشعبي السوري (فخّار
يكسر بعضه).
ان المراحل التي قطعتها مسيرة الدولة السعودية واجترارها
للشعارات الدينية وتأكيد انغماس الدولة في العقيدة السلفية لم
تقنع، في المحصلة النهائية، غالبية الجمهور السلفي بصحة دعوى
الدولة وشعاراتها ولم تنجح أيضاً في تجنيبها طوفان العنف بطيشانه
المروع.
كيف ستواجه الدولة العنف؟
إحدى التوقعات المتفائلة تقول بأن اشتداد خوف السلطة من الجناح
العنفي في التيار السلفي سيضطرها الى تقديم تنازلات سياسية،
ممثلة في جرعة ديمقراطية لامتصاص الضربة واحتواء الشارع وتنفيس
الاحتقان، بغرض ضبط المجتمع وتكتيله خلف الدولة. على أن هذا
التفاؤل المشروط ينبّه الى أن هذه الجرعة لا تهدف مطلقاً الى
تمكين المجتمع من مزاولة السياسة أو ممارسة التغيير المنتظر،
فالهدف من هذه الجرعة هو قطع الطريق على المتشددين من التيار
السلفي حتى لا يحقق مآربه السياسية.
السيناريو الثاني يرى بأن الدولة ستحاول إعادة تأكيد تحالفها
الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، القوة المسيّرة للنظام الدولي
حالياً، من خلال البطش بالتيار السلفي وتبعاً له البطش بباقي
التيارات الأخرى تحت غطاء محاربة الإرهاب القابل للاستعمال
المتعدد الأغراض.
السيناريو الثالث المتشائم يرى بأن البلاد مقبلة على مرحلة عنف
واسعة النطاق وقد تؤدي الى استدراج قوى اجتماعية وسياسية عديدة
في تلك المرحلة التي باتت تنذر بحرب أهلية ستسفر في نهاية الأمر
عن نهاية الدولة.
|