على هامش منتدى الحوار بين المذاهب في المملكة

 هل الشارع المتطرف يحكم القيادات الدينية؟

 محمد الفائز

 

القيادات الدينية الشيعية يجب أن تكون لديها الجرأة في نقد خطابها الديني، وتوضيح أولويات المعتقد، والتصدّي بشدّة للغلاة الذين لا يمكن القبول بهم أو حتى السماح لهم بالتعبير عن الآراء التي نعتقد جميعاً بأنها تدخل في خانة الكفريات والخروج من الملّة. إن معالجة من هذا النوع، تعطي توازناً للشارع، وتعطي فسحة للقيادات للقيام بخطوات متبادلة من أجل السيطرة عليه، حتى لا يقودنا الى الهاوية.

 أثار انسحاب سفر الحوالي وناصر العمر وسلمان العلوان من مؤتمر الحوار تساؤلاً حول الدوافع وموقفهم من أصل الحوار، ومن النتائج التي كانوا يعتقدون أنه سيتوصل اليها.

لربما تكون هناك مسائل كثيرة مختلطة في هذا الشأن. قد يكون الموقف عقدياً، بمعنى أن أصل الجلوس والحوار مرفوض من جانبهم. وقد يكون السبب ليس اعتراضاً على أصل الحوار، بل على مواضيعه، كأن يكونوا يريدونه نقاشاً عقائدياً، خاصة وأننا نعلم أن سفر الحوالي له باع طويل في شتم الشيعة والحجازيين الذين حاربهم تحت لواء مكافحة الصوفية ووجه سهامه الى السيد علوي المالكي. وهذا شأن ناصر العمر، صاحب المذكرة الشهيرة التي دخلت التاريخ من (أعنف) أبوابه.

وقد يكون سبب انسحابهم من المؤتمر، اعتراضهم على بيان نتائجه، أو على عدم توافر الغطاء من مشايخ المؤسسة الرسمية الكبار، أو بسبب عدم توافر إجماع سلفي تجاه هذه القضية التي اقتحمت أسوار الطائفية بشكل مباغت.

لكن فيما يبدو أن السبب الرئيس، الذي تختفي وراءه كل المشاكل هو الخوف من الشارع السلفي، أو لنقل إن الشارع في المملكة ونقصد به التيار العام في كل أنحائها كان أداة الحرب الطائفية وهو لا يريد التنازل فيها، وهو الذي يقود رجال الدين الى الإستمرار في المواجهة، ويهدد بتحطيم الأشخاص الذين يشاركون في هكذا نوع من الحوارات. ولا شك أن ثمناً ما يجب أن يدفع من قبل مريدي الحوار بشتى أصنافهم خاصة السلفيين، ولعل الخوف من هذا الشارع الذي أثبت قدرة فائقة على تحطيم وتسقيط الآخر، هو الذي يجعل بعض المشايخ ينأون بأنفسهم عن الدخول في معترك النقاش والحوار مع الآخر المذهبي في المملكة.

الشارع في المملكة مشبع طائفياً لحدة الحرب، ولطول أمدها، فهي امتدت على مساحة قرن من الزمان، وفي مختلف البقاع التي شكل منها كيان المملكة. وهي هم يعيشه المواطن بشكل يومي، وإن كان لا يحس به الجميع بصورة متساوية.

ولنا أن نتخيل أن هناك طائفية فعل وطائفية رد فعل. رد الفعل يقوم بها الطائفيون المتضررون تحت مبرر أنهم ضحايا التمييز الطائفي، الأمر الذي عمّق الهوية الطائفية على حساب الهوية الوطنية، كما عمّق الشرخ بين الحكومة وبين مواطنيها..

هناك طرف طائفي مهاجِم ـ بكسر الجيم ـ بيده الدولة وكل إمكاناتها السياسية والإعلامية والثقافية والمالية، والأمنية والفتيا وغيرها.. والطرف الآخر جاءته طائفيته كرد فعل وكوسيلة حماية لذاته، ومن هنا فإن الطرفين لا يستويان، وإن كان مطلوباً منهما أن ينزلا معاً من السلّم درجة درجة.

ليست هناك مشكلة من قبل المواطنين الشيعة ولا عند من ينعتون بالصوفية ولا عند الإسماعيليين، فهم ليسوا من فتح المعركة، ولم يكونوا دعاة انشقاق، ولم يرفضوا يوماً الحوار والتفاهم والنقاش، ولم يكفروا السلفيين رغم تكفير الأخيرين لهم. والأهم من هذا لا يحكم الشارع القيادات ويوجهها بالشكل الذي نراه لدى التيار السلفي.

إن بعض القيادات السياسية والدينية النجدية تشعر اليوم بأن طائفية الشارع النجدي تزداد وطأة، وإن مجاراة الشارع سيؤدي الى أمور لا تحمد عقباها. هناك من يرى أنه آن الأوان لتربية الشارع والقيادات الدينية على حد سواء لتقبل بالرأي الآخر وبالتعدد الفكري، إذ لا يعقل أن يشيع التوتر في بلد لعقود طويلة، وفي الحقيقة منذ أن تأسست، دون أن يؤثر على بنيانها وتماسكها. ولكن حتى الآن فإن رسالة الإعلام، ورسالة الإنترنت، ورسالة المسجد، ورسالة التعليم في تلك المناطق، هي رسالة منفرة؛ وإذا ما طرحت الوحدة، فإنه لا يقصد منها جميع المواطنين فهناك فئات عديدة وكثيرة ليست مسلمة، بل أن أكثر سكان الجزيرة العربية (حسب الشيخ سليمان بن سمحان في كتابه منهاج الحق) ليسوا مسلمين، حتى أولئك الذين يعيشون تحت ولاية شرعية مسلمة (وهابية).

أصبح الشارع اليوم غولاً مخيفاً للقيادات الدينية والسياسية، إنهم يديرونه، ولكنهم يخافونه بشدّة، فمستقبلهم السياسي وسمعتهم ومكانتهم الإجتماعية مرتبطة بموقف هذا الشارع الذي ظل ولازال يسقى من معين الطائفية لقرن على الأقل.

ومن آيات التأثير، أن المفكرين والمثقفين الإسلاميين في نجد، إضافة الى العديد من المشايخ فيها يعتقدون بإسلام كل المواطنين السعوديين!، ولكن أحداً منهم لا يجرؤ على الإعلان عن رأيه هذا، إلا إذا كان مستعداً في جانب من الجوانب التضحية بشيء من مكانته السياسية وربما الدينية والإجتماعية.

المشكلة الأكبر في حقيقة الأمر، أن القيادات السياسية والدينية المسيّسة، لعبت دوراً كبيراً في تأجيج مشاعر الشارع النجدي السلفي خدمة لأغراض سياسية. بالطبع فإن المذهب السلفي يحمل عناصر تشدد من السهل استثمارها من قبل الآخرين، ولكن الذي أعطى المذهب هذه الصورة الخشنة ضد من يعتبرهم منافسيه حتى داخل البلاد، هم السياسيون، وبينهم رجال دين أُقحموا في السياسة فلعبوها بالطريقة الخطأ.

المشايخ الذين أطلوا على السياسة حديثاً أرادوا تكتيل الأتباع بإثارة المسائل الطائفية. هم جاؤوا لمنافسة رجال النظام أو على الأقل لإصلاح ما يعتقدونه فاسداً، ولكنهم بدل أن يوجهوا سهامهم باتجاه الخطأ، شحنوا أتباعهم طائفياً، فواحد منهم أعطى تحليلاً غريباً عن النظام العالمي الجديد يضحك الثكلى، وهو سفر الحوالي. وآخر أفتى بقتل الشيعة، وهو الجبرين. وناصر العمر أصدر مذكرة مطولة في هذا الشأن لخصت قبل أن تنشر نصاً ووزعت كمنشورات في المنطقة الشرقية، حيث حثّ أتباعه على ممارسة الضغط على النظام وهيئة كبار العلماء للمزيد من الفتك بالشيعة. ورابع استخدم المنبر لإثارة جمهوره على المخالفين مذهبياً لتزايد خطرهم بل وطالب بأن يكون لباس الشيعة متميزاً حتى يسهل التعرف عليهم!. هؤلاء مكسوري الجناح الذين حرموا من أبسط حقوق المواطنة وحقوقهم الإنسانية، ليس هناك من طريقة لتحزيب الجمهور إلا بالعزف مجدداً على خطرهم، وضرورة استئصال شأفتهم، والإدعاء بأن النظام والأميركيين واليهود يحمونهم!

كيف يمكن لأولئك الذين بنوا مكانتهم أو جزءاً منها وكذا معارضتهم ومعارضة أتباعهم اعتماداً على الطرح الطائفي، كيف يمكنهم التخلّي عنه دون تقديم خسائر؟ وهل الشارع المغرق في الطائفية قادر على تجاوز جبال من الحساسيات النفسية والمهاترات العقدية ويتقبل الحوار؟ إن من يتصدى للحوار سيدفع ثمناً بلا شك، ولكنه سيكون الرابح في المحصلة النهائية، إذ لن يكون هناك أفق أمام حرب المذاهب سوى التدمير الشامل.

ومع هذا، فإننا لا نحمّل السلفيين وحدهم مسؤولية دفع الثمن، بل أن قيادات المذاهب الأخرى، خاصة الشيعية منها أيضاً. ونظن بأن رجال الدين الشيعة على وجه التحديد مسؤولون ـ وإن كانوا ضحايا ـ عن جزء غير قليل من المشكلة، وهم أيضاً يخشون بعض المتطرّفين (الغلاة) ومثل هؤلاء رغم قلّتهم يجب أن يجبهوا بصورة حاسمة.. كل من يتعدّى أو يشتم الصحابة، وخاصة الخلفاء رضي الله عنهم، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكل من يغالي في الأئمة مما نعرفه من الغلو ـ بمقاييس الشيعة وليس السلفيين ـ لا يجب أن يترك وشأنه فينشر سخاماته على الملأ ويورّط بقيّة المواطنين في صراعات لا طائل منها.

قيادات الحوار الديني، يجب أن تدفع ثمناً من سمعتها ومن مكانتها، ولتخسر جانباً من الشارع المتطرّف في البداية، فالمهم ليس المكاسب السياسية الآنية، وليس نجاح أتباع مذهب ضد آخر. فإذا كنّا خسرنا جميعاً حكاماً ومحكومين من فورة التطرّف، فإننا سنكسب جميعاً من ترشيد الشارع ومن إقحام الإعتدال في منهجنا وفكرنا. لا يجب أن تكون السياسة والمصالح السياسية طاغية وتعمينا عن حقيقة الشذوذ الفكري الذي في الشارع أو بعضه، وهو شذوذ نعرفه ونلمسه، في نجد وفي الشرقية وفي الغربية وفي الجنوبية، وهو شذوذ آن لنا أن نحيّده إن لم نكن قادرين على التخلّص منه.

لنكن صادقين مع أنفسنا.. فالتكفيريون ليسوا في نجد وحدها، ورافضي الحوار ليسوا علماء (الوهابية) فحسب، والشارع النجدي ليس وحده من يرفض الحوار، رغم أنه أكثرهم.

فيما مضى جعل التعطش الطائفي لدى الشارع السعودي، جعل القيادات الدينية والسياسية تستفيد منه، بتزريق المزيد من السموم الطائفية في عقول المواطنين، أي داووهم بالتي هي الداء، فكانت النتيجة أن هذا الشارع أصبح سيّد المعركة، به يقاتل السياسيون الطائفيون ومنه يخافون.

حتى الحكومة نفسها تعتقد أن هذا الشارع عقبة في إصلاح علاقاتها مع مواطنيها.

هذا لا يعطي الحكومة العذر، ولكن حالها كحال راكب الأسد، يخيف به، ويخاف هو منه!