مات عبد العزيز الأبيض حين قُدم عبد العزيز الأسود للإفتداء

 عبد العزيز الخميس*

 توقفت السيارة الملكية الفارهة امام البيت المتواضع في حي السويدي غرب الرياض ليجد الشاب الاسود البسيط عبد العزيز التركي نفسه أمام الامير فهد بن نايف بن سعود، وبعد كلمات لم تستغرق وقتا طويلا عبر نافذة السيارة، التحق عبد العزيز بأميره وسيده كي يقوده في مسار لا يختلف عن الذي رواه الكاتب الفرنسي اندريه مالرو في روايته (المسار الملكي) المنشورة عام 1930.

لم يعرف أحدٌ ما إذا كان الشاب الأسود قد فطن ـ وسط سيل من كلمات الأمير فهد وهو يربت على فخذه ممنياً إياه بمستقبل أفضل لعائلته ـ الى كلمات بطل الرواية غرابو حين يقول (ليس ثمة ميت، ثمة أنا فقط، اصبع متشنجة على الفخذ. أنا الذي سيموت). ولم يستيقظ التركي من حلمه في رؤية إخوته الفقراء والبؤساء يتمتعون بثروة تحلّ عليهم وتنتشلهم من فقرهم، حتى وجد نفسه أمام القاضي محمد العريني في المحكمة الكبرى وسط الرياض، حيث وقف بجواره الأمير فهد ثم أشار بإصبعه المزين بخاتم ملكي إليه وصاح: (هذا هو الذي قتل منذر القاضي) ذا السبعة عشر ربيعا.

لم يرَ عبد العزيز التركي وهو ينظر الى القاضي بعد كلمات الأمير السريعة سوى سيف حاد يلوح أمام عينيه، ففطن الى أنه أقتيد الى خديعة كبرى تتمثل في تحميله مسؤولية الجريمة التي ارتكبت في حق الشاب الصغير حتى ينجو أميره الأرعن الذي اعترف في تحقيقات الشرطة الأولية بأنه القاتل.

وصل التركي الى قاعة المحكمة دون أن يعرف أنه سيصبح بطلا لن ينساه التاريخ السعودي، فمقتل منذر القاضي في 19/9/2002 حادثة مهمة لدى الرأي العام السعودي لم تستطع العائلة المالكة علاجها بالترغيب او التهديد، فأسرة القاضي وعلى الأخص والده، متشبثة بوجوب تنفيذ حكم الشريعة التي يدعي النظام حرصه عليها.. والشعب السعودي يرى في هذه القضية فيصلا يحدد رغبة العائلة المالكة في الاصلاح والقضاء على الفساد، وصراطا لا يقبل الإنحناء ولا يجد أمامه سوى أن يستقيم فيوصل الى بلد تسود فيها العدالة ويتمتع نظامها القضائي باستقلاليته، او حجة لا تقبل المداورة ان بلادنا لا قانون فيها يعلو على رغبات الأسرة المالكة.

كان عبد العزيز التركي الذي ترجع أصوله الى العبيد الأفارقة الذين بيعوا للقراصنة وحملوا الى صحرائنا القاحلة يئن أمام القاضي الشيخ محمد العريني يوم الأحد الثامن من يونيو 2003، وهو يستذكر ان الظلم لا يزال يطبق على عنقه بعد أن أطبق على أجداده من قبله، فها هو يباع في ساحة النخاسة بعد أن بيع أجداده، وها هو يُقاد كأجداده حتى يفتدي سيده أمام الرأي العام الذي يغلي بسبب القضية.

 لم يجد الأمير فهد بن نايف بن سعود المتهم بقتل الشاب منذر القاضي في أحد شوارع شمال الرياض منقذا له ولسمعة عائلته إلاّ هذا البسيط الأسود الذي لا يعلم سوى الله كم تعرض لغسيل دماغ وترهيب وترغيب حتى يذهب للمحكمة ويعترف بأنه هو القاتل على أمل ان أسرة القاضي المكلومة ستتخلّى عن إصرارها على تقديم الأمير الى العدالة، وتقبل بالعوض والدية ويتم العفو عنه.

وجد عبد العزيز التركي نفسه أمام قاض له هيبة وسلطة استمدها من أنه لا يستطيع التنازل عن أهم أسس القضاء في الإسلام، وهي التجرّد من الاعتبارات التي تسبغ على شخصية المتقاضين. ويعرف القاضي العريني وهو من عائلة نجديّة يكنّ لها الناس احتراما لمنزلتها الرفيعة في العلم الديني أنه أمام أمرين، إما أن يتبع شرع الله في القضاء أو أن يتبع شرع العائلة المالكة، وهنا لا يعلم الا الله عمق المستنقع الذي سيخوضه ويلطخ فيه اسم عائلته، لذا وقف القاضي العريني (حتى الآن) بصلابة أمام الجاه والمال الذي ينهمر من قصر الحكم في اتجاه ساحة دخنة حيث المبنى الرهيب، والذي يثير القشعريرة لمجرد رؤيته ناهيك عن دخوله فسمعته مرتبطة بخروج أحياء يخفون وجوههم تحت غطاء رؤوسهم وقد حكم عليهم بإزالة رؤوسهم أو أيديهم أو أرجلهم أو فقأ أعينهم وقطع آذانهم أو غيرها من الأحكام بالجلد التي تصل الى أربعة آلاف جلدة، تبعا لحالة القاضي النفسية ومظهر الضحية.. وكل هذه الأحكام تنفذ أمام قصر الحكم وليس أمام المحكمة، في إشارة الى أن مصير الإنسان محكوم بقرار السلطة السياسية في نهاية الأمر.

فاجأ الشاب الأسود عبد العزيز التركي القضاة الشيخ العريني والشيخ عبد اللطيف العبد اللطيف والشيخ عبد العزيز آل الشيخ بتراجعه ورفضه الإعتراف بالجريمة، بل أكد ان الأمير فهد هو القاتل. ولم يكن الدافع الوحيد للتركي خوفه من السيف ولا حلفه على المصحف، بل أن هناك من أيقظه من سباته وردد له أنّات وآهات جدّه الذي اقتيد الى سفينة لتجار العبيد ثم جرّ وراء بعير مكبلا الى ساحة البيع في نجد، حيث اشتراه جدّ الأمير فاقداً حريته، ورابطا إيّاها بقرار من الأمير. وحين أصرّت الأمم المتحدة على تحرير العبيد بعد ممانعة قوية في المملكة، وجد جدّه نفسه أمام واقع مرّ، فمن أين له أن يعيش في هذه الصحراء التي لا تستطيب وجوده حراً، مثلما لم تستطب حرية ابن عمه العبسي رغم ما قدّمه لها، فرضي بالبقاء قريبا من القصر غير مبال بمن أنشد: (يعل قصر ما يجي له ظلال ينهد من عالي مبانيه للساس). فظلال القصر ليس فقط فضلاته بل ملاذه وسط هذه القبائل الكاسرة.

انتفض عبد العزيز التركي وسط المحكمة كي يثأر لأجداده ولكل من سيم العذاب من بني جلدته، ووقف صارخاً أمام القاضي مذكرا إيّاه بالعدالة التي أتى بها الإسلام.. متسائلا عن عمر ابن الخطاب.. باحثاً عن الحق.. فهل في هذا المبنى الذي يملؤه رجال ملتحون يحملون قرآنهم في أياديهم ويلوحون به مذكربن بالفاروق وعدالته من يسمع له؟ وهل هناك من ينصت خارج هذا المبنى في هذه الكرة الارضية التي انتفضت أقوى أجزائها لتقتل آلافاً تحت مسمّى إزالة الظلم الواقع على الشعب العراقي من أجل أن تسودهم العدالة؟

أين من يتحدثون عن حقوق الإنسان والعصرنة والعولمة.. وهو واقف هنا أمام من يريد له ان يبقى عبداً للأبد؟. وهل لأنه ملتصقٌ كالقراد في جسد الأمير يحميه ويذود عنه مقابل لقمته وكسوته، يرفع الى مرتبة عليا في العبودية فيجبر على الفداء بالقوة وبالوعود بأن تعيش عائلته من بعده في هناء؟. هل يصبح انتحاريا من أجل أن ينجو الأمير وسمعة عائلته. وهل يقبل الله انتحاره من أجل ولي الأمر وشيوخنا قد لجوا وأصروا على ان طاعة ولي الأمر من طاعة الله وإتباع لتعاليم رسوله.

هل أعلنها التركي وأصبح إبراهام لنكولن السعودية، محررا العبيد السود منهم والبيض.. أبناء القبائل الافريقية والعربية؟ وهل قدم التركي لنا أنموذجا حيا بأن علينا ان نخلع ثياب الخوف والرهبة من هذا النظام، وأن نحمي أنفسنا بقيم أكثر إنسانية لا تبرر الظلم ولا تمثله. وهل يقدم لنا القاضي العريني وزملاءه العبد اللطيف وآل الشيخ  دليلا ضارب الأصالة ويبقوا لنا تفاؤلنا في ان فينا من يهتم بتلك الفضيلة التي غابت عن أعيننا زمنا طويلا وهي العدالة.

خرج عبد العزيز التركي من المحكمة بعد أن ألقى فيها قنبلته التحررية متجها بوجهه للجنوب، وكأني به يصرخ لقد أصبحت حرّاً لأول مرة! صحيح أن إعلان إلغاء الرق في هذه البلاد قد تم قبل أربعين عاما لكنني لم أتحرر إلاّ اليوم!

 تحرّر التركي أخيراً وقال كلمته أمام القضاء. لم يخش سيده، بل انتقم منه بأن قال الحقيقة، وأصبح حرّاً يغني مع ييتس:

إنني لا أقبل.. إنني لا أقبل.. كليا، ودون تحفظ:

عرقي الذي لا يقدر وضوء بالزوفا ممزوجاً بالسوسن أن يطهره

عرقي المنخور بالوصمات

عرقي عنباً ناضجاً لأقدام السكارى

نعم لقد تحرّر التركي وبقي ان نتحرر جميعا. لقد فهم (أن الأشياء تتداعى، والمركز لا يستطيع التماسك). كان قريبا من القصر وشعر بأنه يهتز، ففهم أن العبودية ليست بلون بشرته ولا بأصله الأفريقي.. إنها بقول نعم للظالم وبتسويغ ظلمه وبالسكوت عن المطالبة بالحق.

لقد تحرّر التركي وبقي الكثير من أبناء تميم وقحطان وقريش وهوازن وتغلب عبيداً، فهم لم يقولوا: لا.. لسمو الأمير، بل أنعموا عليه بـ(نعم) صبغت وجوههم بسواد يحتقره التركي ويراه عبودية تأنف منها قبيلته في وسط أفريقيا حيث تمارس حريتها، بينما يقبع تجار العبيد في عبودية تفوق ما عاشه أجداد التركي من آلام ومآس. وها هم الأسياد يباعون بين كهوف أفغانستان وصخور جوانتناموا، حيث يحشرون في أقفاص لطالما قام أجدادهم بحشر أجداد التركي فيها، وبينما يتهامسون بينهم تنثر فتاة كوبية شعرها الطويل على بعد أميال منهم وتغني: (جوانتانا ميرا واهيرا جوانتانا ميرا)، حيث لا ينتهي الحب إلا عند أعتاب البيت الأبيض في واشنطن الذي يعاقبهم على ذنبهم، بينما قصر الحكم في الرياض يتبرأ منهم بعد أن موّلهم وابتعثهم عبيدا للديكتاتورية والتخلف.

 لم تنفعهم كل أموال النفط في أن يشعروا بالحرية التي تشعر بها فتاة كوبية أسدلت شعرها الطويل على ظهرها، بينما ساقها السمراء تخوض في مياه البحر الصافية القريبة من أقفاص سادة الماضي الذين كبلوا أنفسهم بالولاء لولي الأمر، وبحروب تبدأ من إخفاء خصلات شعر نسائهم في سوق العقارية بالرياض، خوفا من تطفّل الأعين المحرومة، الى إخفاء شعورهم في خنادق تورا بورا خوفا من تطفّل القاذفات الحليفة لولي أمرهم.

لم يخالف الأمير فهد بن نايف بن سعود العرف المتبع في عائلته، فقاد التركي الى المحكمة كي يكون بديلاً له يفتدي به، بعد ان قاد كبار عائلته شبابنا الى المحاكم الدولية مستغلين حماسهم الديني. الأمير اللطيف المخلص للأعراف والتقاليد، توقّع انه أحسن استغلال حاجة الأسود الضعيف، فقاده تحت الضغوط المتنوعة الى بوابة المقصلة، بعد أن رأى أن عائلته الحاكمة في حرج من أمرها، فهي لا بدّ وأن تسوّغ موقفها الذي طالما قدمته لنا تحت ثابت مهم: أنها تحكم لتحمينا وتوفر لنا الأمن، وأن مؤسستها السياسية الكبيرة لم تقم على أقدامها إلا من أجل العدالة وسيادتها على أرض الجزيرة، فضممنا مسمّاها الى مسمى عروبتنا، وافتخرنا لعقود بحملنا هذا المسمى، الى أن بدأنا نعي جيدا أن هذا المسمّى فقد بريقه ومرجعيته.

أين هو الأمن والأمان وأبناؤنا يطاردون بالرشاشات في برّنا؟ وأين احترام المحارم وفتياتنا يعرين على شواطئ بحرنا؟ أين عبد العزيز الذي صرخ فينا يستنهضنا للقتال معه من أجل حريتنا وديننا، فأصبحنا الآن في عهد أبنائه عرضة للموت الغادر في شوارعنا، بعد أن كنّا نوزعه في كل مكان؟ أينه بعد أن أصبحت الأمور تقودنا كي نعود الى قطع الطرق نتيجة لسياساتنا الخرقاء في مجال الإقتصاد والسياسة والمجتمع.

أين عبد العزيز الذي طالما طبّق العدالة على أبنائه وإخوته قبل مواطنيه؟ أينه وأحد أبنائه يصرخ بغرور أن (أبناء آل سعود لا يحدون) متجاهلا ان ما يقوله مخالفة شرعية للإسلام وكفر بثوابته وخروج على الملّة يستحق أن يمثل بسببها أمام القاضي قبل ابن أخيه.

مات عبد العزيز الأبيض عدة مرات، وآخرها حين قدم حفيده ذلك الشاب البسيط عبد العزيز الأسود الى القاضي بتهمة لم يرتكبها. ونرجو الله ان لا يموت في المستقبل كثيراً، وأن لا يرى بعضنا في موته حياة لنا وواعزاً للثورة على تجار الرقيق العصري.

 

* المشرف العام على المركز السعودي لحقوق الإنسان