نموذج للقراءة الموتورة
مقالة سفر الحوالي عن (شركاء في الوطن)
فؤاد إبراهيم
الصياغة الايديولوجية الجانحة الى تشكيل صورة الآخر الوهمي
متوسلاً بمنظومة مفاهيم، ولغة، وأدوات مصنّعة محلياً تمهيداً
وتشريعاً لاستئصاله تقدّم شهادة أخرى الى جانب شهادات سابقة
قدّمها جحفل الاستئصاليين المسكون بأوهام (السر الأعظم)
الممتشقين سيوف الفتح والرافعين ألوية الدعوة وتطهير الأرض.
مقالة
أستاذ العقيدة السلفية سفر الحوالي بتاريخ 13/4/1424هـ الموسومة
بـ (جواب عما قدّمته الطائفة الشيعية من مطالب لولي العهد)
المنشور في موقع (المسلم) على شبكة الانترنت، والذي يشرف عليه
ناصر العمر، جاءت للرد على سؤال إفتراضي حول عريضة (شركاء في
الوطن)، رفعها ما يربو عن أربعمائة وخمسين شخصية دينية وإجتماعية
واعلامية في شهر مارس الماضي تروي سيرة الاستبداد الديني الشرقي.
افتقرت المقالة الى الجدة المنهجية، وهي ذات اللغة المدقعة وفي
ذات الوقت الأسيرة لتركيبات الصورة التاريخية المفبركة عن الآخر
والمنتزعة من التراث السجالي اللاعقلاني. الجديد في مقالة
الحوالي أنها رفعت من مستوى اللغة الخصامية الى حد استعمال
معارف الكفار في معاركه مع الآخر، الى حد الاحتجاج بدساتيرهم
الوضعية كيما يدجج نزوعه التقويضي.
فالانفتاح على فكر الكافر لدى الحوالي يرمي الى الاستقواء بأسلحة
الخصم لمحاربته بها، على أن مما يفوت ذاكرتنا المنهكة أن بدايات
الاقتباس تتطلب منافحة روحية توهم المقتبسين بخلو أذهانهم من أي
إشعاعات معرفية غريبة، ثم ما يلبث أن يأخذ الاقتباس شكلاً آخر
يميل بصاحبه الى توطيد العلاقة بين ما هو معارف ميتافيزيقية
وأخرى عقلية، لتتحقق شروط الزواج الشرعي بين الوضعي والعلوي.
فهذا التزاوج يزيد في حدة الجيشانات الطامعة في تضييق الآفاق على
المدرجين في قائمة الخصوم التاريخيين، ومهما يكن فهذا التزاوج لا
يخلو من ابتذال، وابتزاز وتسطيح للذاكرة الجماعية، وخصوصاً حين
يراد من هذا التزاوج تهشيم الآخر.
مسكوكات الحوالي اللفظية والايديولوجية مستمدة من تكوينه العقدي
وتحدّره الاجتماعي، وهي منتوجات بيئة مقطوعة عن محيطات ثقافية
ثرية ومثرية. ومن البدهي، أن النتاجات الثقافية المستخرجة من بؤر
ثقافية معزولة تحمل معها سماتها الوراثية، وهكذا الحال مواقفها
وروابطها وتمثّلاتها. فالحرمان من المشاركة في حركة ثقافية ممتدة
ومتنوعة الروافد يفقر المحرومين من مجرد الاحساس بطعم الحرية،
فالحرية تعبّر عن نفسها بصدق حين يكون هناك آخر لم ينل حقه
الكامل في البوح بذاته والادلاء بصوته الضائع في زحمة الاستبداد.
فالحوالي الناشىء على واحدية مطلقة يخذله الشعور المستبد
بالنزاهة العقدية في إدراك الجوانب المهملة في مفهوم الحرية،
ويصرفه عن وعي وسائل وأدها، وأشدها خطراً تجزئة الحرية والقبض
عليها، فهو ينظر الى الحرية بالمعنى المضطرد بوصفها وقفاً مليّاً
على الحوالي وأهل دعوته.
وهم
(الأقليّة) و(الأكثريّة)
النزوع المتعاظم نحو تحقيق توافق ديني ومواصلة مهمة التوحيد
السياسي والديني والعقدي قد أفضى الى إضفاء غمامة كثيفة على
الخارطة الدينية المحلية في السعودية، كما أدى الى إحتجاب الرؤية
الواقعية عن القراءات الخارجية، أي القراءات التي تتم من خارج
الحدود وتتوسل بمصادر تستقي في الغالب معلوماتها من مصادر رسمية
أو شبه رسمية، وقد يعذر أولئك أما حين تحتجب الرؤية عمن يفترض
فيهم الاطلاع على الداخل بتنوعاته المذهبية والاثنية والسياسية
فتلك عثرة غير مغفورة.
ثمة مجادلة تقليدية كانت تنحو في الماضي الى تبني الرأي القائل
بالوحدة الانسجامية بين سكان السعودية إستناداً على معطيات شديدة
الاضطراب والقائلة بوجود تناغم ديني بين القاطنين داخل المحدودية
الجيوسياسية السعودية. غير أن دراسات أخرى صدرت مؤخراً أطاحت
بتلك المجادلة وبدّلت وجهة الرأي ذاك بدرجة حادة، وقد ساهمت حرب
الخليج الثانية عام 1991 والمؤججة لإنشغال حثيث من جانب وسائل
الاعلام الدولية لجهة تقديم قراءات متواصلة عن هذا البلد في
إتجاهات مختلفة:سكانية، وثقافية وسياسية واقتصادية، ساهمت في ضخ
كميات كافية من المعلومات لمراكز البحث والدراسات وصولاً الى محو
التصورات المختّلة السابقة.
السعودية كما تتجلى في صورتها الدينية، تحتضن مجتمعات مذهبية
متعددة، ففي المنطقة الغربية (الحجاز) يسود المذهبان الشافعي
والمالكي، يدل عليهما رموز دينية حائزة على نفوذ واحترام واسع
بين أتباع المذهبين منهم السيد محمد علوي المالكي وأحفاد السيد
أحمد بن زيني دحلان وغيرهم. نشير هنا الى ما يتعرض له أتباع هذين
المذهبين من قيود على نشاطهم الفكري والديني الاحتفالي من قبل
الدولة اضطرتهم الى فتح قنوات تعبير ومثاقفة مع الخارج، فكثير من
كتب السيد محمد علوي المالكي ورموز المذهبين الشافعي والمالكي
يتم طبعها خارج المملكة وتحديداً في مصر، فيما تخضع النشاطات
الدينية في الحجاز لضغوط رسمية وشبه رسمية (أي من قبل المؤسسة
الدينية) حيث يضطر أهل الحجاز لاحياء المولد النبوي في أماكن
مغلقة وبعيدة عن أعين التيار الديني المتشدد. وكان علماء المؤسسة
الدينية الرسمية أصدروا فتاوى تكفّر السيد المالكي وتوصم
الاحتفال بالمولد النبوي بالبدعة.
تتواجد في الحجاز أيضاً مجموعات مذهبية أخرى متفاوتة الحجم حيث
يتكثف وجود الشيعة الاثني عشرية في المدينة المنورة ويعرّفون بـ
(النخاولة) إشارة الى انشغالهم بحرفة الزراعة عموماً وزراعة
النخيل بوجه خاص رغم ما أخذه هذا التوصيف من إشارات قدحية في
اللهجة العامية، وهناك الشيعة الكيسانية في ينبع البحر وقيل
بوجود الربوة فيها إشارة الى رمز المذهب الكيساني، وهناك أقلية
زيدية منبثّة في مناطق متفرقة من الحجاز.
في المنطقة الجنوبية ذات الثقل السكاني الأكبر في السعودية قبل
التبدلات الديموغرافية المصاحبة للتطورالاقتصادي ونزوح كثير من
أهلها الى المراكز الاقتصادية الفاعلة في المملكة، يتوزع
الانتماء المذهبي بين أتباع المذهب الشيعي الاسماعيلي ويتأكد
حضورهم الكثيف في منطقة نجران، وقد جرت محاولات مكثفة من جانب
أتباع المذهب الرسمي من أجل نشر المعتقد السلفي في أوساط الشيعة
الاسماعيلية الا أن من فارق ما هم عليه حسب ما يخبر عن ذلك رموز
الاسماعيلية كانوا نزراً يسيراً، وهناك من تعبيرات الممانعة لدى
أتباع هذه الطائفة ضد محاولات الاحتواء ما يفيد بأن عنصري
القبيلة والمذهب شكّلا ومازالا حصناً دفاعياً منيعاً ومضخّة
فاعلة لهوية مزدوجة التكوين:مذهبي وإثني. الوجودات المذهبية
الأخرى تبدو ضئيلة في المنطقة الجنوبية بإستثناء بعض التقدّم
الذي أحرزه أتباع المذهب الرسمي مستعيناً بإمكانيات الدولة
وغطائها المادي والقانوني.
في المنطقة الوسطي (وتحديداً نجد) يسود مذهب الإمام أحمد بن حنبل
والذي حظي بلحظة إنقاذ تاريخية أخرجته الى الحياة بفعل النشاط
الدؤوب لمؤسس المذهب الوهابي الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد أن
كاد المذهب الحنبلي اللحاق بمذاهب إسلامية عديدة أصبحت تاريخاً.
يشار هنا الى أن الرحالة القدامى ذكروا بأن منطقة نجد كانت تحت
حكم قبائل شيعية مثل آل خويضر، وكانت تقطن المنطقة الواقعة بين
نجد والاحساء عوائل شيعية وقيل على المذهب الاسماعيلي، وحتى
اليوم مازالت هناك عوائل شيعية نجدية إضطرت لاخفاء التصريح
بهويتها المذهبية خشية أن يلحقها أذى من التيار المتشدد في
المذهب الرسمي.
أما المنطقة الشرقية، فقد كانت تاريخياً أحد الحواضن الشيعية
الكبرى في بلاد المسلمين، وقد دخلها التشيع في وقت مبكر ويرجع
ذلك الى عهد الخليفة عثمان، حيث بدأت بوادر حركة شيعية بالظهور
وسط المهاجرين من جنوب شبه الجزيرة العربية ومنطقة البحرين وهجر
التاريخية، مالبثت هذه الحركة أن شكّلت نواة المجتمع الشيعي في
العراق والبحرين، وتحفل كتب التاريخ بأسماء المشاهير من هذه
المنطقة الذين حاربوا في جبهة الإمام علي والحسين منهم صعصعة بن
صوحان وأخويه، والمنذر بن الجارود العبدي وحكم بن جبلة العبدي
(قائد كتيبة علي يوم الجمل وأبرز الأمثلة الساطعة في الشجاعة
والاستبسال) وغيرهم كثير. وقد ظلت المنطقة مركزاً مناوئاً
للدولتين الأموية والعباسية يشهد على ذلك ظهور حركات تمرد
ومعارضة متوالية ضد الخلفاء، فيما كانت العوائل الشيعية تتناوب
على حكم هذه المنطقة من آل عصفور والعيونيين وغيرهم، الى أن بدأ
التحوّل السياسي في نهاية القرن السابع عشر حيث بدأت القوى
الاستعمارية تزحف نحو المنطقة، ثم دخول الأخيرة ضمن خارطة
المصالح والصراعات الدولية وصولاً الى الدولة السعودية المؤسسة
على تحالف الديني والسياسي عام 1744 بين الشيخ محمد بن عبد
الوهاب والأمير محمد بن سعود، حيث أصبحت المنطقة الشرقية مفتوحة
على تبدلات سكانية ومذهبية سريعة، حيث تعرض السكان الاصليين
الشيعة في هذه المنطقة الى حملات كراهية على قاعدة دينية مذهبية
أنهت تاريخاً من التسامح الديني بين أتباع المذاهب الاسلامية
المحلية وبخاصة الشيعة الاثني عشرية والسنة المالكية في الاحساء
وبعض أجزاء من القطيف، ثم جاءت الدولة السعودية الثالثة عام 1932
وظهور النفط ليؤسس لتركيبة ديمغرافية جديدة يشكّل فيها الشيعة
الاثني عشرية نصف السكان الحاليين للمنطقة الشرقية. على أنه من
الجدير بالاشارة الى أن التقديرات الأولية لإجمالي السكان الشيعة
الإثني عشرية في المملكة يصل الى ما يقرب من مليوني نسمة.
يمكن إجمال ما سبق في كلمات قلائل: إن السعودية وبخلاف التصور
التقليدي والقديم هي دولة أقليات، وأن الكلام عن أغلبية وأقلية
على أساس الانقسام المذهبي الكلي أي أغلبية سنية وأقلية شيعية،
هو الكلام المراد تعميمه رسمياً ولربما يمثل أحد إستخلاصات
القراءة الايديولوجية والموجّهة الذي يمثل الحوالي أحد أنصارها
البارزين، ولكن الصحيح هو أن ليس هناك أغلبية مذهبية بل هناك
أقليات مذهبية تتألف من الوهابية/الحنبلية والشافعية والمالكية
والشيعة الإمامية والشيعة الاسماعيلية والزيدية، وهناك بحكم
الواقع مذهب غالب وليس مذهب أغلبية.
واجمالاً نشير الى أن التعددية المذهبية واقع لم يتم الاعتراف به
قانونياً حتى الآن، رغم ما يدّل عليه من سلوك سياسي للدولة،
وتقسيم الثروة والخدمات وتوزيع للمناصب.
نلفت الانتباه هنا الى أن مصطلح (الأقلية) يستعمله علماء
الإجتماع السعوديون حصرياً للحديث عن التجمعات السكانية المؤلفة
من المهاجرين من القارة الأفريقية والذين توطّنوا أجزاء متفرقة
من الحجاز وبخاصة تلك القريبة من مكة المكرمة والمدينة المنورة،
وهذه التجمعات نقلت معها خصائصها الاثنية واللغوية والعرقية
وحافظت عليها من الضياع حتى بعد انتقالها الى السعودية، لا يلغي
ذلك كونهم مواطنين كاملين رغم ما يتعرضوا له من عسف وحيف الدولة
وبعض أجهزتها.
فالتمترس خلف معادلة وهمية تقوم على وجود أكثرية وأقلية دينية في
هذا البلد لا تقل زيفاً عن وجود أكثرية فدائية عن نظام صدام
حسين. ولا ريب أن تلك الأكثرية المتوّهمة تفترض انسجاماً عضوياً
وعقدياً وهذا ما تنبذه الأكثرية غير الوهابية داخل الأكثرية
السنية، المصنّفه في قائمة أهل البدع والضلال، وقد نالها من
الحيف والتكفير ما نالها كما الشيعة الامامية والاسماعيلية
والزيدية.
يفترض المنطق الحوالي أن تحقيق المطالب الشيعية يتوقف على قلب
الهرم واستبدال الأدوار، بتحوّل الضحية الى جلاد وبالعكس، وهي
تذكيراً نتيجة منطقية لدى الحوالي. فمن أجل أن تنجو الأقليات من
بطش الأكثرية، حسب هذا المنطق، لابد لها من العبور في النفق
الشرقي الذي يملي بأن تستبد الأقلية بحكم الأكثرية. ولا أدري هل
من قلة بضاعة الحوالي في التاريخ أم بسبب سطوة الأدلجة تلك التي
تدفعه الى تصنيف المعتزلة ضمن قائمة الأقليات، مع اندياحها
الواسع في التشكيلات المذهبية والكلامية قاطبة واندياثها في
التكوينات العقدية السنية والشيعية، وإن الانحباس عند مسألة خلق
القرآن ليس سوى الاستثناء الذي يخلّ بالقاعدة.
الحرية
المستبدّة
تستوحي حزمة المفاهيم الواردة في مقالة الحوالي في الحرية
والوطنية والعدل والدستور زخمها الدلالي والتفسيري من نظام
المعنى الديني الخاص بالعقيدة السلفية، ولذلك فهي مفاهيم غير
محايدة بوصفها غير خاضعة للمعايير المتعارف عليها دولياً، مما
يحيلها الى أضداد، فالحرية تصبح استبداداً والوطنية إقليمية
ضيّقة والعدل جوراً والدستور قانون الغاب.
وكيما يستكمل الحوالي مذاكرته الثقافية للأدبيات السياسية
الغربية تبدو الحرية مقروءة خارج نظام المعنى الديني السلفي
ضرورية لاعادة بناء المفهوم وتحريره من محاولات الابتزاز. الحرية
كما يقدّمها هوبز مناوئاً للمعارضة، ممثلة في العوائق الخارجية
للحركة، فقد ظلت الحرية مدركة دائماً في الوعي الانساني كصنو
للاختيار، فأن تكون حراً يعني أن تملك القدرة على الاختيار. هذه
الحرية التي يتساوى إندثارها مع الموت، تماماً كما أن وجود
الحرية يتكافىء مع إنسانية الانسان. فالحرية السالبة هي التي
تترجم نفسها، تكويناً وابتداءً، في انتخاب الانسان لخياراته
الفكرية والسياسية المطابقة لميوله وقناعاته دون إكراه ودخالة من
أحد، والحرية الموجبة المكثّفة في جملة (أنا سيد نفسي) تعزيزاً
لمقولتين راشدتين (متى استعبدتم الناس وقد خلقتهم إمهاتهم
أحراراً) منسوبة لعمر بن الخطاب و(لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله
حرّاً) منسوبة لعلي بن أبي طالب، وهناك البعد السياسي للحرية
متجسّداً في العلاقة بينها وبين العمل السياسي، حيث الحرية
تتكافىء مع المشاركة وتعني، حسب الفلاسفة السياسيين القدامى، بأن
الناس تشترك بصورة جماعية في القرارات المؤثّرة في مصالحها،
ومالبث هذا المعنى ان إنداث في نظرية الديمقراطية الحديثة، حيث
لا معنى لأن تكون هناك حرية حين يفرض حجراً سياسياً على جزء من
السكان، وتكون المشاركة في صناعة القرار كتجسيد للحرية مكفولة
لجماعة دون غيرها تمارس دور "مقسّم الأرزاق" فتهب لمن تشاء
ذكوراً وتهب لمن تشاء إناث، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، وتميت
وتحيي بيدها الخير وهي على كل شيء قدير!!
هذه الحرية المستبدّة كما صاغها الحوالي حملت في جوفها جنيناً
مشوّهاً، ولم تبعث سوى إشارات هلع عن إتجاه تفوح منه رائحة
الارهاب الفكري. احتسب الحوالي حرية المعتقد فضيلة وتنازلاً
يقدّمه الحوالي وأهل دعوته للشيعة بما نصه (وفي هذه البلاد يولد
الشيعي ويموت شيعياً دون أن يحاسبه أحد على ذلك وهذه هي حدود
حرية الاعتقاد). وكنت أحسب أن اللياقة الذهنية والأدبية لدى
الحوالي ستحول دون ترتيبات جدلية معدّة، حتى كأنّي أخاله يقول
بأن (للشيعة حرية الاعتقاد ولي حرية مصادرتها) أو نظير ذلك أن
للشيعة حق البقاء وله حق إفنائهم.
الترتيب المنطقي يفترض القول بأن حرية الاعتقاد مكفولة للجميع،
أما كيف ينظر المتمذهبون الى بعضهم فتلك مسألة منفصلة كلياً عن
حرية الاعتقاد وليست عنصراً فيها أو شرطاً من شروطها. فالقول بأن
(بيان الحق ودعوة الأمة الى العقيدة الصحيحة وتربية أبنائهم
عليها في مناهجهم وغيرها) يمثل واجباً دينياً على أهل السنة
تنقصه الحقيقة، مع التحفّظ على استعمال أهل السنة لما في ذلك من
مصادرة للأكثرية السنية في هذا البلد، إذ أن منهج التعليم الديني
الحالي لا يحقق إجماعاً سنياً بل في هذا المنهج حملة كراهية ونبذ
عقدي للمذاهب السنية الأخرى وحصرياً الشافعية والمالكية، وهذا ما
حدا بشارحي كتاب التوحيد أمثال الشيخ عبد الله الفوزان والشيخ
ابن عثيمين وأخيراً سفر الحوالي الى تصنيف أكثرية المسلمين في
خانة الكفر بتوحيد العبودية، وحسب ابن عثيمين في كتابه (القول
المفيد على كتاب التوحيد الجزء الأول) ما نصه:(ما أكثر المسلمين
الواقعين في شرك العبادة). رزمة كتابات الحوالي في الصوفية
والشافعية والمالكية مثل (الرد على الخرافيين) الموجّه ضد
الصوفية ورسالة (مجدد ملة عمرو بن لحي) ضد الرمز الديني الحجازي
السيد محمد علوي المالكي والذي أخرجه الحوالي من ملة أهل السنة
والاسلام عموماً واصفاً إياه برأس من رؤوس الوثنية..هذه الكتابات
تقتفي ذات المسلك التقويضي، مما يعزز الميل الى الاعتقاد بأن
الأكثرية السنية المعنية في مقالة الحوالي هي الممثلة حصرياً في
أتباع مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهم وحدهم مصداق أهل السنة
والجماعة كما تشي إحدى النصوص الواردة في كتاب للشيخ ابن عثيمين
المؤمىء اليه هنا. النتيجة المنطقية كما تتجلى من كل ما سبق أن
حق التبشير بالدعوة عبر مناهج التعليم الرسمي مكفول لمذهب أقلية
ضمن طيف الاقليات المذهبية السنية والشيعية داخل المسكونية
السعودية.
العقيدة
والحقوق السياسية
ثمة انجراف عارم يسوق التيار الديني المؤدلج الى توثيق الرابطة
بين الشراكة السياسية والعقيدة الدينية، اعتقاداً منه بأن الحرية
حين تعبّر عن نفسها في هيئة شراكة سياسية تصبح إمتيازاً دينياً
محضاً، وبهذا تكون السياسة والسلطة السياسية مجالاً دينياً
محتكراً لطبقة علماء الدين. هذا التعالق المفتعل بين العقيدة
والحقوق السياسية يمثل إحدى التجهيزات الكبرى المستعملة لتقويض
أركان الدولة ونسف أسس المواطنة فيها.
الالحاح على تحقيق الدمج بين العقيدة والحقوق السياسة يعيد فتح
المناظرة حول السيادة الشعبية والسيادة الالهية ممثلة في
الاكليروس، ويؤكد مرة أخرى على أن الدولة منبر دعوي وأداة قهر
بيد الدعاة. وبطبيعة الحال، فإن تأسيس الدولة على خطاب ديني من
هذا القبيل، يفضي ضرورة الى تصديع قواعد استقرارها وتقويض مبررات
بقائها، وبالتالي تفككها، وحينذاك تترك للحوالي والصفوة الدعوية
المتصلة به حق ممارسة بيان دعوة الحق.
الحقوق السياسية في الدولة الحديثة مؤسسة على مبدأ المواطنة، أما
في وعي الحوالي فهي مؤسسة على العقيدة، وهذا ما يجعل التناظر
قائماً ليس بين المواطنة والعقيدة بل بين الدولة واللادولة.
فالقبول بالدولة يعني القبول بمتطلباتها وكامل تجهيزاتها ومنظومة
المفاهيم الضابطة لروابط القاطنين بداخلها، وهي في المحصّلة
النهائية تجسيد لوطن وأمة وهما لم يولدا بعد في هذا البلد.
نموذج الدولة الدينية الحاضر بسطوة واستحواذ في تفكير الحوالي
يملي تصنيفاً مختلفاً للقاطنين بداخل هذه الدولة، يتشكّل على
أساسه السلطة وتتوزّع على ضوئه المناصب والثروة. وهذه الدولة
تتجاوز حدود مراعاة التقسيمات الدينية والمذهبية والاثنية، كما
أولاها فقهاء المسلمين من الفريقين إهتماماً فريداً وبخاصة فيما
يتصل بحقوق أهل الذمة وفي الجزء السياسي منها. توسّل الحوالي
بمرجعيات جدلية عقدية وفقهية تحول دون تقديم موقف فقهي متوازن
يعيد النصاب الى النص الديني القاضي بتحقيق العدل كشرط أساس
لتحقيق الشرع.
المقارنة المعقودة بين الشيعة مع طوائف دينية مسيحية مثل شهود
يهوه أو المورمن هي مقارنة بائسة وعقيمة تفتقر الى الشروط
العلمية في المقارنة الرامية الى إثبات علاقة الشبه والتماثل.
وحدها حرية الاعتقاد العنصر المشترك في المقارنة والقابل
للاستعمال ليس بين الشيعة وهذه الطوائف فحسب، بل بين أبناء آدم
وحواء على هذا الكوكب. أما الميل الى استعمال تلك المقارنة من
أجل إثبات نتيجة أخرى، كالقول بالحق في نقض وتقويض عقائد الآخر
أو إنقاص حقوقه السياسية، كالقول بأن السماح بممارسة الشعائر
الدينية لطائفة معينة لا يلغي حق الطوائف الأخرى في الهجوم عليها
ونقدها فذاك ميل معلول، وإنجرار الى غير المسار العلمي للبحث،
ومحاولة تزريق أفكار خاصة ومواقف شخصية داخل الموضوع المراد
مناقشته بحيادية علمية.
ثمة تأسيس ذهني تتصارع فيه المعلومة الخاطئة، بنظرية المؤامرة
بأضغاث أحلام، فهناك معلومات عديدة وردت في مقالة الحوالي عن
طوائف دينية غير إسلامية ولكنها تفتقر الدقة العلمية والتحليل
الصحيح، ولربما تعكس جزئياً نقص مصادره. يفترض الحوالي بأن مطالب
الأقليات الدينية وبخاصة البوذية في الدول الاسلامية تنحصر في
حيز ممارسة شعائرها الدينية، وأنها لم ترتقِ بمطالبها (إلى حد
إلغاء العلوم الشرعية وحذف المواد التي تدل على كفرهم وفساد
دينهم من المناهج والمدارس الإسلامية ، ولم يشترطوا أن يكون لهم
في كل مؤسسة حكومية وزير أو مسئول ، فالكل هناك يحترم دستور
البلاد ويقبل نتيجة الاقتراع).
ولا ندري من أين يستقي الحوالي معلوماته في هذا الموضوع تحديداً،
والحال أن هناك تناظراً ممتداً وعميقاً في هذه الدول على وقف
حملات الكراهية الدينية التي تتعرض لها هذه الأقلية، وأن غياب
ممثليها في الجهاز الحكومي يعد منقصة ليس في الأقلية بل في هذه
الدول الاسلامية المزعومة، لأن العدل يقتضي إشراك من يتقاسمون
معك المصير والأرض بما تحتها، وهذا مقتضى المواطنة.
انتقال الحوالي من العام الى الخاص، أي من أوضاع الطوائف الدينية
الكتابية في الغرب والبوذية في الدول الاسلامية، الى أوضاع
الشيعة في السعودية هو انتقال مثير للغرابة والسخرية في آن وقد
لا يتطلب أكثر من قراءة منفردة. يقول الحوالي (ونحن هنا في
بلادنا دستورنا الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح و لا نحتاج
إلى صناديق أصلاً لإثبات أن الشيعة أقلية ضئيلة، وأن مطالبتها
بأن تتحكم في الأكثرية السنية لا يستند إلى أي حق شرعي أو قانوني
؛ بل هو نوع من استغلال مشكلات الحكومة السياسية والإدارية
والأمنية للمزايدة وإثبات الوجود). فمهمة صناديق الإقتراع في
التأسيس المنطقي لدى الحوالي هي على وجه التحديد لإثبات أن
الشيعة أقلية، وليس بوصف تلك الصناديق أداوات للوصول للسلطة، أما
مطالبة الشيعة بالتحكم بالأكثرية السنية فتلك دعوى غريبة ما لم
يكن المطالبة بوقف حملات الكراهية الدينية ضد الشيعة في مناهج
التعليم الديني الرسمي يحسب في إدراك الحوالي تحكّماً شيعياً.
نظرية
المؤامرة وتفتيش النوايا
الحديث عن خصم عقائدي يجعل إستعمال كافة الاسلحة مشروعاً بل
ضرورياً، وليس هناك ما يحول دون استخدام وسائل المجابهة الشاملة
واللامحدودة، المعنوية والمادية. من الناحية التاريخية، أطاحت
كتابات الجدل المذهبي بين الشيخ ابن تيمية وعلماء الشيعة وبخاصة
العلاّمة ابن المطهر الحلي بكافة الحدود الأخلاقية في الحوار
بحيث لا يتردد الخصوم في استعمال لغة تقريعية تلطيخية يحويها
الزيف ويتلفعها الغلط. المعركة مع الخصم لا تتطلب الالتزام بأصول
البحث العلمي ولا أدب الحوار، ولا أخلاقيات الجدل النزيه، بل تشي
كتابات المتمذهبين بأن قصف الآخر بكافة أنواع الاسلحة مبرر
دينياً.
مقالة الحوالي تمثّل نموذجاً للكتابات المتمذهبة التي يفضي
إخضاعها للفحص العلمي الى تهافتها، فهي فقيرة الى الدقة العلمية
والمعلومة الصحية والنية النزيهة. فقد إدعّى بأن الشيعة يتذرعون
بدعوى الوحدة الوطنية لغرض (مسخ عقيدة البلاد وزلزله كيانها)
وعكس ذلك بحسب هذه المؤاخذة أن يتبنى الشيعة دعوة انفصالية حتى
تستتب عقيدة الدولة ويستقر كيانها. يقدّم الحوالي إحتجاجاً غاية
في الغرابة بما نصه (فإن أهم شروط المواطنة الالتزام بالدستور،
والمطالبة بمخالفة الدستور فضلاً عن المطالبة بتغييره هي خروج
على واجب المواطنة في كل بلاد العالم) وهو كلام نظري صحيح، ويبقى
السؤال عن أي مواطنة يتحدث والحال أن الحوالي إذا كان يعني ما
يقول فإن ذلك يفيد بإقراره بمبدأ المساواة، فهكذا مقتضى المواطنة
حسب تعريف فلاسفة السياسة، أما الحديث عن دستور لهذه الدولة فهذا
أمر لم يخبر به أحد في هذه البلاد، واذا كان يساوي الحوالي بين
الدستور والكتاب والسنة والسلف الصالح فلا يعني إتفاق القاطنين
على ذلك بما في ذلك النخبة الحاكمة التي تسيّر الدولة بقوانين
ليست بالضرورة مستمدة من المصادر تلك.
يزعم الحوالي بأن سيرة الشيعة تكشف عن أنهم (في كل مرة يشعرون
ان الحكومة مشغولة أو ضعيفة يتمردون و يثورون..!!) دون أن يبذل
جهداً بحثياً إضافياً كيما يورد شواهد على ذلك، مع أن الشيعة
ثاروا في أوج قوة الدولة عام 1979 واصطفوا معها في أشد حالاتها
سوءا وضعفاً في حرب الخليج الثانية عام 1991، حيث طالب قادتهم
ومنهم من وقّع على عريضة (شركاء في الوطن) مثل الشيخ حسن الصفار
الشيعة بالالتحاق بمعسكرات التدريب الحكومية من أجل الدفاع عن
الوطن، في وقت هربت الحكومة المحلية في المنطقة الشرقية والحكومة
المركزية في الرياض الى جدة وتسلّم الأميركيون مهمة إدارة الدولة
بالكامل، لم يغيّر فيهم سعي النظام العراقي عبر إذاعته لتحريض
الشيعة ضد الحكومة بالعزف على وتر الحرمان والتمييز الطائفي، كما
لم يغيّر في المعارضة الشيعية في الخارجية مساعي النظام العراقي
البائد في ذلك الوقت.
لا تكتمل حياكة الحوالي لروايته عن الشيعة دون إدراجها ضمن
نظرية المؤامرة، فحين لا يكون النص الأول دليلاً كافياً ومقنعاً
لإدانة الخصم يُصطَنعُ نصٌ آخر غير مروي، ينتجه الشارح للنص
الأول.يقول الحوالي (هذا ما طفح به القلم في عريضتهم المختصرة ،
ولا شك أن ما تخفي صدورهم أكبر) ففحص النوايا وسبرها جزء من
الرواية والنص هنا. أما الجزء المتصل بعقلية المؤامرة فيجلّيه
مقطع آخر بما نصه: (وهذا ما قدموه لولي عهد المملكة الذي يعلمون
تقديره واحترامه لعلماء بلاده، فماذا يقولون إذا كتبوا للأمريكان
أو للمنظمات الدولية لتحريضهم على البلاد حكومةً وعلماء
وشعباً؟؟؟ وهل هذا أسلوب من يريد الحوار أم الانتقام؟؟؟).
لا يتوقف الحوالي في مقالته عند عريضة (شركاء في الوطن) بل هو
يفتح النار على الشيعة قاطبة، ويقدّم شروحات لنص العريضة تتجاوز
بمسافات بعيدة حدود النص. إنهدام حدود النص بمعوّل التأويل أدى
الى جعل شروحات الحوالي وتعليقاته وانتقاداته مستهجنة وعقيمة.
فهو يقدّم قراءة لنص افتراضي ليس جزءاً من عريضة (شركاء في
الوطن) أو قائمة المطالب الواردة فيها. في قراءته للعريضة توصل
الحوالي الى (إن ما طالب به هؤلاء هو في حقيقته تغيير دستور
البلاد) و(أن الشيعة يهددون تلميحاً وتصريحاً بأنه إذا لم تعطهم
الحكومة ما يريدون فسوف يتحالفون مع العدو الأجنبي وهذا يكشف عن
حقيقة ما يريدون وأنه الابتزاز وليس الوحدة الوطنية!!) و(أنهم هم
الذين قدموا للأمريكان نماذج من مناهج التعليم يقولون إنها ضد
اليهود والنصارى لكي يساعدهم الأمريكان في تغيير المناهج التي
تخالف عقائد الشيعة وليس وراء هذا من ابتزاز للدين والوطن).
هذه القراءة المنحازة ليست مستندة على نص العريضة، بقدر ما هي
مستمدة من عقلية سجالية يكتّظ فيها سجل الروايات التاريخية
المفبركة وتراث الجدل العقدي العقيم مسحوباً على نص عريضة (شركاء
في الوطن). واذا ما استحضر المسكونون بنظرية المؤامرة التاريخ
الثاني للتاريخ، كما حاكه ودوّنه خصوم الشيعة مثل الشيخ ابن
تيمية تكتمل فصول مؤامرة العلقمي المزعومة لاسقاط الخلافة
العباسية، بتحالف الشيعة في السعودية مع الأميركان. هذا التاريخ
المتحرك بحلقات متصلة من المؤامرات تجعل الشيعة القوة الخفيّة
المحركة للعالم، بحسب الحوالي وبقية المرتهنين لنظرية المؤامرة.
يتوّج الحوالي مهمته بارتداء بزّة الجلاد، حين يطالب كتّاب
الشيعة وأثرياءهم أن ينبروا لقمع كل من يتحدث من الشيعة عن الظلم
والاضطهاد، فبحسب هذا المنطق على الشيعة أن يبلعوا الموسى
المحشورة في حناجرهم، وأن يكتموا أنفاسهم، وفوق ذلك على الشيعة
كتاباً وتجّاراً أن يمارسوا دور السلطة في قمع الاصوات المنلفتة
من عقالها والفاضحة للاضطهاد الطائفي، ثمناً لـ (مداهنتهم
وإعطائهم فوق ما يستحقون من المناصب والمناقصات). ثمة في هذا
الكلام هبوط واسفاف يفقد الأرضية المناسبة للمناظرة، فهو لا
يكتفي بأن يحيل من نفسه والدولة من خلفه الحنّان المنّان على
الشيعة بل يطلب من كتابهم وتجارهم أن يدفعوا ثمناً لأعطيات
الدولة تكذيباً لكل صوت مضطهد، ودون ذلك تنتظرهم تهمة المؤامرة
الخفية (أم أن هذا توزيع للأدوار بينهم؟) على حد زعمه.
ثمة انعطافة غير مستدركة في مقالة الحوالي تتخفّض فيها حدة
اللهجة المستعملة في قراءة عريضة الشيعة، وهي انعطافة نحو الهدوء
المشوب بالحذر. فقد تنبّه الحوالي الى آية (لا إكراه في الدين)
كمبدأ عظيم في الاسلام، حيث دلّ فقهاء المسلمين على أن الحرية
شرط التكليف، فالاعتقادات المفروضة تكون أسيرة القيود الخارجية
وإذا ما تكسرت القيود تكسرت معها العقيدة. وتنبّه الحوالي أيضاً
الى أن من مقتضى تحقق الشرع إقامة العدل كما دلّ على ذلك كتاب
ابن القيم في (الطرق الحكمية) وغيرها، ولكن خلف هذا المبدأ
العظيم تقبع قائمة التطبيقات المدرجة في سياق آخر غير العدل
باستثناء ما ألمح إليه في الحقوق المدنية، وبخاصة حول تحليله
للفقر الذي يعاني منه عوام الشيعة ويورد كلاماً من صنيعه (أن
الفقر الذي يعاني منه بعض عوام الشيعة ليس سببه أهل السنة بل
شيوخهم الذين ينهبون خمس دخولهم). فالحوالي يصطنع إحتجاجاً
وهمياً بأن الشيعة يحمّلون فقرهم السنة، والحال أن الشيعة كما
السنة يحمّلون الدولة مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادي وانتشار
ظاهرة الفقر، وتدخل ضمن مشكلات الدولة ومسؤولياتها وليس رجال
الدين الشيعة أو السنة.
جميل صنع الحوالي حين أشار الى إنعدام المساواة في هذه الديار،
ومن حقه أن يجأر بصوت الاضطهاد الواقع على أهل منطقته تهامة،
ونشاركه في البوح بـ (أن أولى الناس بالمطالبة بالمساواة
وإعطائهم حقهم هم أبناء منطقة تهامة) ونضم صوتنا الى أهل تهامة
كيما يرفع الحيف والظلم عنهم، وهذا جزء من واجبنا الوطني ولا
نتوقع من الحوالي أن يتبنى موقفاً وطنياً مماثلاً تجاه نظرائه في
هذا البلد بما في ذلك الشيعة. ولربما ستعينه المصادر الثقافية
الغربية التي قرر الحوالي الرجوع المتكرر اليها من أجل الاستزادة
حول مفهوم المساواة وفي بعده السياسي بخاصة، قبل أن يحسم أمره في
موضوع أن الشيعة يتمتعون بنصيب اقتصادي وسياسي أكثر مما يستحقون.
الحوالي يمارس دوراً مزايداً على السلطة، فهو يرشد الحكومة الى
عدم الاستجابة لمطالب الشيعة لأن ذلك سيفتح الباب لجماعات أخرى
كالصوفية في الحجاز كيما تسلك طريقاً مماثلاً للشيعة وأن تطالب
بمثل ما طالبت به.
على أن خلف كثافة اللهجة التقويضية التي كست مقالة الحوالي، ثمة
إشارات معتدلة يجب تسجيلها له وسنعتبرها بشارة خير قد تأتي
بتحوّل في النظرة الى الآخر، رغم كل ما قيل أعلاه. فهو بعد كل
ذلك يقرّ بوجود مشكلة ما وأن مدخل الحل يكون حوارياً، كما يقبل
ابتداءً دعوى الشيعة الناقضة للتهم الموجّهة ضدهم من قبيل سب
الصحابة وتحريف القرآن، كما يعتبر تأييده لمطالب الشيعة الدنيوية
جزءا من وظيفته الدينية، باعتبار أن ذلك حسب قوله (ينبع من
إخلاصنا لله ونصحنا لخلق الله وحبه الخير والهدى للبشر كافة)
وهذا في كل حال تطوّر محمود. يوقفنا هنا قبوله بالحديث (وليس
الحوار) مع (من يريد الحق بلا مراء ولا مكابرة ولا تقيّة)
استبراءً لعقيدة الشيعة وتصحيحاً لها، وهذا ما منعه من الدخول في
مؤتمر الحوار الوطني، فهو يرى بأن مفتاح الحل السياسي تغيير
العقيدة، إذ لا حقوق سياسية ولا حوار ومصالحة الا بالشروط
التالية كما أوردها الحوالي (ونبدأ قبل كل شيء بتحقيق التوحيد
والبراءة من الشرك وسلامة الصدر من الغلّ للذين سبقونا بالإيمان
، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة ، ونعيش كما عاشوا أشداء
على الكفار رحماء بينهم . ثم نتباحث في القضايا السياسية).
يتطلع كثيرون، وأنا من بينهم، الى أن يعيد الحوالي قراءة عريضة
(شركاء في الوطن) دون تدخّل أجنبي، من سوابق التاريخ والعاطفة
الجيّاشة ونظرية المؤامرة والنوايا المبيّتة، فالعريضة حمّلت في
وعي الحوالي أكثر مما تحتمل في مقاصدها ومطالبها، فقد زرع
الحوالي كمية ألغام كافية لتفجير نص العريضة واختلاق نص آخر لا
ينتمي اليها.
|