لا حلّ للطائفية إلاّ عبر الإدماج السياسي 

(طائفية) المشكلة الشيعيّة (وسياسيّة) الحلّ

 فاضل حسين

 يثير الحوار المذهبي ـ الفكري الذي دعا له ولي العهد السعودي العديد من الأفكار والآراء المتعلّقة بالدمج الإجتماعي بين الفئات المذهبية المختلفة، وهي قضيّة بالغة التحدّي والضرورة لتحقيق (بناء الأمّة) بعد أن مضى زمن على (بناء الدولة) وتشكيل أجهزتها.

 أمامنا حالتان مختلفتان في موضوع (بناء الأمّة)، الأولى وتنطبق الى حد ما على الحجازيين، والأخرى تنطبق على بقية المواطنين من غير السلفيين النجديين، أي تنطبق على الأقليات المذهبية والمناطقية الأخرى. في الحالة الأولى كانت هناك محاولة للإدماج الديني والثقافي والسياسي، بدأها الملك عبد العزيز لأسباب سياسية رأى أنها لازمة لقيام الدولة الحديثة، وصهر دولة الحجاز ضمن المملكة الحديثة، جرى فيما بعد التخلّي عنها والإرتداد عليها خاصة في عهد الملك فهد. ترتب على تلك المحاولة في بدايتها: إعطاء الحجازيين سلطة لا بأس بها في إدارة شؤون الحجاز، وفي جهاز الدولة العلوي، وجرت الإستفادة منهم ـ بالنظر للتجربة التاريخية ـ في سنّ قوانين المملكة. وبهذا جرى دمج النخبة الحجازية ضمن الجهاز السياسي العام، وإن كان دمجاً خاضعاً لسلطان النخبة النجدية.

وفي المجال الديني، القضائي والتعليمي وغيرهما، كان لدى علماء الحجاز دور غير قليل في تولي شؤونهما، ولكن النيّة كانت ـ كما اتضح لاحقاً ـ مبيّتة لإزاحة رجال الدين في الحجاز عن هذا الشأن بشكل شبه تام، وهو ما نراه حالياً. في حين أن البدايات لم تكن هكذا. فقد اعترف ـ وإن على مضض ـ في السنوات اللاحقة لاحتلال الحجاز، بإسلام أهل الحجاز!!، عدا بعض الآراء المتطرفة هنا وهناك والتي أخمدت بصورة ما ولم تسلط عليها الأضواء، رغم أن العقيدة السلفية لاتزال في جوهرها تكفّر الحجازيين.

وفي الموضوع الإقتصادي تداخل الفضاءان النجدي والحجازي بشكل عام، وتداخلت المصالح، ولكنها عانت كغيرها من انتكاسة خلال العقدين الماضيين، بسبب سياسات الملك فهد بالتحديد. ذات الأمر يمكن أن يقال بشأن الموضوع العسكري.

يمكن توصيف هذه الحالة بعبارة سياسية: أن سياسة الملك المؤسس كانت تريد إدماجاً محدوداً إجتماعياً وسياسياً ودينياً للحجازيين، بهدف تثبيت أركان الدولة أولاً، فلما تحقّق ذلك، جرى الإرتداد عليه بصورة مزرية. ولا شك أن المملكة كوحدة سياسية مدينة في نشوئها بنتائج ذلك الدمج المحدود، إذ لولاه لتعرضت الوحدة السياسية الى خطر الإنهيار، أو على الأقل ما كانت استمرت حتى الآن. لقد غنمت المملكة، وغنم نظام الحكم ورجاله، وغنم المواطنون من تقديم بعض التنازل للحجازيين ـ وإن كان غير كاف وقليل ـ مثل بعض الوزارات والمناصب العليا الأخرى، وهذا ما جعلهم ضمن النظام وقد خدموه بأكثر مما كان متوقعاً رغم الخلاف المذهبي والمناطقي الشديد. لقد كانت تجربة ناجحة في (الإحتواء) ونقول ناجحة بشكل نسبي، لأن بعض جهلة النظام لم يعززوها، بل بدأوا يرتدون على تلك التجربة ليفسدوها من جديد!

أما الحالة الثانية، فهي حالة الإقصاء والعزل متعدد الإتجاهات: السياسي والإجتماعي والإقتصادي والديني، والتي شملت بقية المذاهب والمناطق خارج الإطار النجدي السلفي. وترافق مع هذه الحالة الإقصائية قمع أمني، ومحاولات فرض الصهر الثقافي والمذهبي، خاصة مع المواطنين الشيعة.

وقد أدّت سياسة الإقصاء هذه، المسنودة بتعامل فظّ مع المواطنين الى ما يشبه القطيعة النفسية بين النظام ومواطنيه الشيعة، وكان لذلك أثره الكبير في إخراج المعارضين من ساحة الملعب، وبالتالي كانت معارضتهم من خارج النظام وفي بعض الأحيان لأصل النظام مسألة طبيعية، فلو أُتيح هامش الحرية المتاح للآخرين لكانت قواعد اللعبة المحليّة قادرة على إغراء واجتذاب المعارضين لساحة اللعبة السياسية والتحرك ضمن حدودها.

لقد استخدمت أجهزة الأمن القمع الشديد للمختلف مذهبياً ولم يسلم من أذاها أحد، لا الصامت ولا المؤيد والمصفق ولا المعارض، كان القمع عاماً شاملاً، لم يترك لأحد خياراً إلا أن يكون معارضاً ولو بقلبه (وهو أضعف الأيمان!). كان الهدف من القمع إجبار المختلف المذهبي وقسره على الإندماج وإبقائه في حضن الجماعة (المذهبية). ولكن استخدام القمع جاء معبّراً بواقعية عن فشل النظام في تحقيق الإنتماء الى هوية وطنية واحدة. من الممكن أن تجد من يتهم المواطنين الشيعة بوجود نزعة انفصالية كمبرر لقمعهم، ولكن هل استخدام القمع إلا دليل فشل النظام في تحقيق الوحدة الطوعية الإختيارية، وهنا كيف يمكن للعنف والقمع أن ينمي الروح الجماعية؟!

تبلورت المعارضة بتبلور القمع. وتبلور الإنفصال النفسي عن الدولة شيئاً فشيئاً.

وأصبح المواطن الشيعي يشعر بغربة في وطنه.. صار يشعر بأنه في دولة أخرى حين يسافر الى الرياض عاصمة المملكة، بينما يشعر بتجانس سيكولوجي وذهني حين يزور الكويت أو المنامة أو مسقط أو غيرها من العواصم الخليجية! وكلما زادت الشكوك على الأرضية المذهبية أُبعد المواطنون الشيعة عن كل ما يمت الى الدولة وأجهزتها السياسية والأمنية وحتى الإقتصادية. وتصاعدت سياسة العزل والإقصاء واضحة خلال السنوات الأخيرة المظلمة بشكل لم تعرفه المملكة حتى في سني تأسيسها الأولى، وشملت شتى الميادين والحقول، وبأثر رجعي أيضاً. إن العزل والإقصاء وإن كانا نتيجة سياسة التمييز الطائفي، إلا أنهما كانا ـ فيما يبدو ـ هدفين يراد تحقيقهما من قبل السلطة المركزية لتقليل ما تعتبره خطراً شيعياً قد يتسرب بين المواطنين!

غير أن تلك السياسة أصابت بناء الدولة في الصميم، فالدول تشيع الإندماج وتخشى العزل والفصل للتجمعات السكانية.. إنها تحرص على ذلك بغية الحفاظ على أصل السلطة وعلى وحدة الأرض وتمام السيادة، في حين أن العزل يعزز الإنشقاق ويدفع الى الإنفصال إذا ما أُتيحت الفرصة للمضطهدين.

ان معظم الدول حتى الديكتاتورية منها، تقدّم بعضاً أو كثيراً من الإمتيازات للتجمعات الأصغر، وفي كثير من الأحيان تعطى أكثر من حقوقها المفترضة، لتظهر أن القوة السياسية والمادية في البلاد يتمتع بها الجميع، وأن الجميع ممثلون في الجهاز الحاكم، وذلك لإشاعة الإطمئنان لدى الجماعات الصغيرة. ونرى هذا واضحاً في التعيينات الوزارية وحصحصة المقاعد البرلمانية التي غالباً ما تكون معبرة عن موازين القوى أولاً، وعن التقسيمات الحقيقية الإجتماعية والمذهبية والعرقية، حتى وإن كانت لا تعيرها أهمية أو لا تعترف بها أو لا تسلم بأولويتها.

لقد حوّل النظام مجتمع الشيعة البسيط والمسالم، الى مجتمع يبحث عن أسنان قارضة يدافع بها عن نفسه بعد أن تنكرت الدولة لوعودها بحمايته، وبعد أن أجمعت الأجهزة الحكومية على حرمانه والتحيّز ضده في كل مجال. ودفع القمع الرسمي المنهجي الناس الى مواجهته أو محاولة مواجهته بشكل منظم والى السعي لتحصيل القوة أنّى كانت لتوقي ذلك القمع.

لقد وقع صدام مباشر بين السلطة والمواطنين.. وكان صداماً أقرب الى الحرب منه الى أي أمر آخر. ترى هل كانت مواجهة الناس بالطائرات وقتلهم في منازلهم ـ كما حدث في محرم 1400هـ ـ وكذلك قتلهم في الشوارع وفي منازلهم، واعتقالهم بالتهمة والظنّة، وتطويق مناطقهم، وتهديد السكان بقصفهم بمدافع الميدان إن لم يخضعوا إلا أحد شواهد تلك الحرب المجنونة؟!

بات الشيعة اليوم يفكرون في نصيبهم من السلطة السياسية ومن الثروة، وما كان ذلك ليخطر ببالهم بالمرة لولا القمع والتمييز الطائفي والإقصاء! إنهم لم يعوا حقوقهم إلا بسببه! ولم يبحثوا عن حلول جذرية إلا بفعل الإضطهاد! ولم ترتفع هممهم ويزداد وعيهم وطموحهم إلا (بفضل!) الحرمان.

فمجتمع الفلاحين الذي كان يقبل بالقليل.. وكان يريد أن يُترك وشأنه قبل نصف قرن على الأقل، هذا المجتمع لم يعد ذلك المجتمع. لقد سبق جميع مناطق المملكة في الوعي السياسي وربما الثقافي، وإن لم يسمح له بالتعبير عن ذلك النمو والوعي حتى الآن.

وأدّى الضغط المذهبي الى ترسيخ دور المذهب ورجاله، فاعتبروا في خط الدفاع الأول عن الهوية الفرعية الخاصة. وكان يمكن معاملتهم كمجموعة سكانية اعتيادية بدون إثارة المسألة المذهبية، إذن لما كان للمذهب ذلك الدور، ولخففت الهوية الوطنية من طغيان الهويّة المذهبّية، ولربما أصبحت مجرد مسلك وطقوس اعتيادية، كما في بلدان خليجية أخرى. لكن قمعهم باعتبارهم يتبعون مذهباً، جعلهم يقتربون من بعضهم، لاشتراكهم في المظلومية، كما جعلهم يحافظون على الصلات فوق الإجتماعية، وأشعرهم القمع بالتميّز أيضاً!، فهم يقمعون لأنهم متميزون، وشيئاً فشيئاً تحولت الهوية الشيعية من هوية ثقافية الى أشبه ما يكون بهويّة سياسية تكاد أن تأخذ مقعد الهوية الوطنية.

لقد اختصر المواطنون الشيعة مراحل التحول التي يجب ان يمرّ بها كل مجتمع، وليس غريباً أبداً أن نلحظ اليوم ممارسات ومعارضات وتصورات وحاجات في مناطق المملكة الأخرى، جاءت متأخرة نحو عقدين من الزمان عن مناطق الشيعة، ولا أحسب ذلك إلا بسبب قسوة القمع والظلم الحكومي.

 ثوابت السياسة وخسائر الإقصاء

 هناك ثوابت في التصور السياسي الحكومي تجاه دمج الشيعة في الدولة، آن الأوان لتغييرها:

أول هذه الثوابت: إن المسؤولين السعوديين تصوروا أن قمعهم للشيعة سيؤدي الى تذويبهم ثقافيا في إطار الدولة المتمذهبة. كانوا يرون أن الدولة في بداية تأسيسها بحاجة الى تذويب الثقافات في إطار جديد، وقد نجحت بشكل جزئي، أو بالأصح نجحت في منع إظهار التنوع الثقافي والمذهبي على السطح في بعض المناطق، إلا مع الشيعة. فقد كان الملوك السعوديون ولازالوا كما يبدو يعتقدون أن وجود هوية شيعية لم تذوّب خطراً محدقاً.

لم يعتبروا التميّز ذا فائدة للمجتمع من حيث أنه يؤدي الى تنوع فكري ثقافي. كانوا يريدون مجتمعاً من قماش واحد، وربطوا تحويل المواطنين المذهبي بالولاء السياسي، فمن لا يتحول يتم عزله. وفي الحقيقة فإن غلاة الطائفية لم يتنازلوا حتى الآن عن هذا الهدف (التذويب)، فضلاً عن أن يعترفوا بالتمايز أو يروا فيه عامل إثراء.

من جهة ثانية فإن المسؤولين لم يلحظوا ـ وهذا من أخطر الأمور ـ أن التذويب بالقوة أعطى مردودا عكسياً، فمحاولات التذويب والتشويه والإقصاء لثقافات الآخرين من أجل إضعافهم ومن ثم إلحاقهم، أدّى الى تأكيد الخصوصيات والحرص عليها كعلامة تحدٍ. حين تعزل مجتمعاً فأنت تؤكد على خصوصيته، أما حين تفسح المجال له للتفاعل مع الآخرين فأنت تفسح المجال لتصارع الأفكار والثقافات وإذابة بعضها وتأكيد بعضها الآخر المشترك، وكل ذلك ضمن إطار طوعي بعيد عن القسر والإكراه. ومن هنا، فإن هناك من يعتقد ـ ونظن أن ذلك الإعتقاد يقارب الصحّة ـ بأن المسؤولين لن يصلوا الى مرحلة الثقة التامة بمواطنيهم الشيعة، ما لم يتخلّوا عن هدف التذويب، وما لم يدركوا أن التباين المذهبي والثقافي لا يعني بالضرورة الخلاف السياسي وعدم الولاء، وما لم يروا أن من حق المواطنين على اختلاف مذاهبهم التعبير عن خصوصياتهم، وأن ذلك التعبير أدعى لحفظ البلاد ووحدتها، وأنه لا يعني الإنشقاق وإن بدا لبعضهم كذلك.

ثاني هذه الثوابت: إن المسؤولين يتذرّعون بخصوصية نظام الحكم المذهبية. حين شكى الشيعة من القمع قال لهم الملك المؤسس في أواخر العشرينات الميلادية: إنهم الإخوان، هم أساس البلاء! وحين يشكو المواطن الشيعي اليوم من سياسة التمييز، يجيبونه بأن لا حيلة لديهم (هؤلاء السلفيون المتطرفون هم السبب)! إنهم يلقون المشكلة كاملة على رجال المذهب، ولكن لأن رجال الحكم لا يستغنون عن خدماتهم، فلذا لا يوجد حل للتمييز الطائفي.

الى متى ينتهي التمييز الطائفي إن كان المسؤول عنه الطائفيون السلفيون، وما هي خطة المسؤولين في ذلك، وكم تستغرق؟ إنها تستغرق العمر كلّه! بل هي استغرقت حتى الآن أربعة أجيال! هم يبحثون عن عذر، لا عن حلّ جاد، لأنهم ـ حسب بعض المحللين ـ يقتاتون على سياسة التمييز. فبها يرضون المتطرفين مقابل الخدمات التي يقدمونها للنظام، ومنحه الشرعية.

وبغلاة التطرّف المذهبي يجري تذويب هوية السكان. وبالمشكل الطائفي تكتمل خطوط الفتنة الداخلية والتمزيق وإغواء وإغراء الكتل الإجتماعية بعضها ببعض.

لكن هذا لا يلغي حقيقة أن النظام يقع تحت ضغط التطرف الذي خلقه، خاصة في أيامنا هذه. وهنا نتساءل: من منح دعاة الحرب الطائفية تلك القوة، وأعطاهم الحق للعبث بحياة وأمن المواطنين، بل وشرّع لهم فعل ما يريدون ويهوون؟

إنه نظام الحكم نفسه.

أليس بإمكان المسؤولين أن يخففوا من غلوائهم؟ والى متى يصدق الناس الأعذار، وهم يلقون الإضطهاد منذ أن يعوا والى أن يودّعوا الحياة؟ ثم أين هي مسؤولية الدولة وسيادتها وسلطتها التي لا تستطيع حماية الضعيف الذي كل جرمه هو اختلافه المذهبي، وأنه ولد من أبوين يختلفان مذهبياً؟

حتى بعد نكبة الخليج الثانية والثالثة، لاتزال تلك السياسة ثابتة لدى (بعض) المسؤولين (وزير الداخلية).. إنهم يحرضون الطائفيين المتطرفين على الشيعة، ويخوفون الأخيرين من الإبتعاد عن النظام ومعارضته ومن الإقتراب من السلفيين، كما ويضعون بقية الفئات الإجتماعية قبالة هذا الطرف أو ذاك، وكأن هذه السلطة لم تستفد أبداً من دروس الماضي، وهذا ما جعل البعض يعتقد بأن الدولة بدأت تتحلّل بشكل سريع ومريع، دون أن يلتفت حماتها الى ذلك، لأن كل ما يجري من تحلل هو في النفوس قبل أن يكون في العمار والمادة.

وثالث هذه الثوابت: هو أن شكوك المسؤولين السعوديين تجاه ولاء مواطنيهم الشيعة بدأت بالإنحسار بعد موجة العنف والتطرف السلفيين. كانوا يعتقدون أن ولاء الشيعة لدول أجنبية وليس الى وطنهم، وقد خفّت هذه الشكوك بسبب التجربة الإجبارية التي خاضها الطرفان أبان احتلال العراق للكويت، حيث وقف الشيعة وقفة مشرفة وتداعوا الى الدفاع عن وطنهم وأرضهم، وثبتوا في مناطقهم، وساعدوا الحكومة في استقبال اللاجئين الكويتيين في دورهم. لكن التيار السلفي ـ ومن منظوره العقائدي ـ لازال يغذي الشكوك ويثيرها ويؤصلها تاريخياً، بحوادث تبدأ من مقتل الخليفة عثمان وتمرّ بسقوط بغداد على يد التتار وأخيرا الى سقوط بغداد على يد الأميركان المتحالفين مع الشيعة (أنظر على سبيل المثال تعليق سفر الحوالي الأخير حول عريضة الشيعة لولي العهد).

 تسييس المذهبية

 من الواضح أن المسؤولين لا يفهمون عقلية ونفسية مواطنيهم الشيعة، لأنهم جاؤوا من بيئة مختلفة في التفكير والتراث والتقاليد والعادات والتاريخ أيضاً. هم يفهمون النجديين لأنهم منهم، والحاكم عندنا يعرفهم ويداريهم ويفهم نقاط ضعفهم والمؤثرات عليهم، إنه يعرف متى يضغط ومتى يمنح، متى يستخدم العصا ومتى يستخدم الجزرة. هناك فهم للوضع في نجد، لو توفّر نظيره في مناطق المملكة الأخرى وبينها المنطقة الشرقية وسكانها لكان المسؤولون قد تجاوزوا الكثير من العقد بقليل من الحنكة والذكاء، ولما تخبطوا في مسائل عقدت علاقاتهم مع رعاياهم، ولم تعد عليهم بأي نفع، ولما انساقوا وراء أفكار غريبة موغلة في التطرف الطائفي لا أساس لها من الصحة، حتى أن المرء ليتألم كيف يفكر نظامٌ حَكَم منطقة وشعباً لمدة تسعين عاماً ثم لا توجد سوى حصيلة ضئيلة من التجربة والخبرة، والكثير من الأخطاء في الممارسة.

هذا هو أخطر ما في القضية.. أن نظاما يدير وضعاً لا يفهمه، ولا يتقبل فهم أصحاب القضية والمعنيين بها. مكمن خطأ النظام بدرجة أساس أنه لا يدرك كم تؤثر أقواله وأفعاله في نفوس مواطنيه، ولا يدرك حجم المعاناة والمشاعر المحبطة وماذا تفعل فعلها في القاعدة الشعبية. لا يفهم تطلعات الناس ورغباتهم. كل ما يفهمه وجوب خضوعهم بطريقة أو بأخرى.

لم يكن لدى الملك السعودي المؤسس مبرراً لاضطهاد رعاياه الشيعة، وهو لم يقدم لوجهائهم مبرراً سوى أنه واقع تحت ضغط الإخوان، واعترف أنهم مضطهدون في بعض رسائله وتصريحاته للوفود التي تقابله. لم يكن المجتمع الشيعي مسيّساً، وكانت شكاواه اقتصادية وعقائدية، أما الملك فبرر قمعه في الحقلين الإقتصادي والعقائدي: الحاجة، والإخوان.

بدأ التسييس الحاد للمشكلة الشيعية في عهد الملك سعود، لأن المجتمع السعودي بشكل عام كان قد وصله رذاذ من التعليم والمعرفة والإتصال بالخارج، وكانت الأحداث الإقليمية (صعود الناصرية) قد جلبت للمملكة عموماً شحنة من الوعي لم تعرفها من قبل. كان عهد سعود يميل الى الإنفتاح والتخلص من بعض القيود المذهبية، وفي الحقيقة فإنه أبدى سماحة في الجانب الشخصي لم تكن موجودة لدى غيره من اخوته الملوك اللاحقين.

كانت مخاوف سعود سياسية، بسبب المد الناصري الإقليمي، وكانت تفسيراته للمعارضة في البيئة الشيعية تأخذ في الغالب المنحى السياسي لا المذهبي، خاصة وأن مناطق الشيعة شهدت حركات عمالية عديدة وإضرابات فسرت بأنها ذات منحى يساري. لكن المشكل الشيعي بقي ضمن أُطر عقائدية لم يستطع النظام الفكاك منها.

وشهد عهد الملك فيصل تصعيداً غير مسبوق (من جهة التقنين) في المناحي الطائفية، فقد تزايد التحيّز على أساس الخلفية المذهبية. بعضهم أرجع ذلك لثقافة فيصل الدينية ذات البعد الواحد، ورغم خلفيته الدينية التي لا يشك فيها، فقد عانى الشيعة في عهده على المستويين السياسي والمذهبي أكثر ممن سبقه، بل يمكن القول أن التمييز الطائفي وإن كان قد بدأ مع تأسيس المملكة.. فإن من أقام بنيانه وأعمدته هو الملك فيصل نفسه، ثم جاء من بعده الملك فهد فأضاف إليه تمييزاً في مناح أخرى لم يتوصل لها من سبقه من قبل!

ظهر العامل الشيعي واضحاً أكثر من أي وقت مضى في عهد الملك خالد أواخر عام 1979 (ينبغي التذكير هنا أنه كان ملكاً إسمياً) بسبب أحداث المحرم 1400هـ، وكان من السهل على المسؤولين وحتى على المحللين الأجانب ربط الموضوع بالخارج الإيراني، وهذا من الأمور السهلة لكنه يعمي عن الحقائق الواضحة، فقضية الشيعة لم تكن ابنة يومها، والعقدة الإيرانية عقدة طارئة، أو جديدة، لم تأت إلا بعد انهيار نظام الشاه.

اتهم الشيعة بالتواطؤ مع ايران لزعزعة النظام، وبدل ان يفكر المسؤولون بحل المشكل الداخلي، حولوه الى مشكل خارجي أو ربطوه بمشكل خارجي، وقد كان الربط مضرّاً للطرفين: النظام والمواطنين على حد سواء. لأن المشكل في حد ذاته وفي حقيقته وواقعه مشكل محلي، وأن تربطه بالخارج، فأنت تعطي وتعترف بأن لحكومة أخرى سلطة على مواطنيك، وبالنسبة للشيعة فإنهم خسروا لأن النظام لم ينظر لمشكلتهم نظرة موضوعية، في ظل تأجج الخلاف المذهبي والصراع الإقليمي.

إزاء هذه الرؤية.. كان الشيعة من جانبهم قد بدأوا نشاطهم السياسي بشكل متدرّج:

* في البداية كان النشاط منصبّاً في عهد الملك عبد العزيز على تخفيف الضغوط الإقتصادية والطائفية، أي التخفيف من غلواء الأخوان. ولم يكن هناك من أسلوب سوى مخاطبة السلطات العليا، أي الملك بالتحديد الذي كان يحاول أن يوازن ـ بقدر ما ـ بين حاجاته المادية وهو في حالة توسع الحروب، وبين قدرة الأهالي على الدفع المالي عبر الضرائب المتراكمة التي دفعت بالكثيرين الى الهجرة النهائية من المملكة الى دول خليجية أخرى، كالبحرين والكويت إضافة الى العراق. من جهة ثانية كان يحاول أن يوازن بين ضغوط الإخوان ومشايخ الوهابية الذين كانوا يصرّون على (توهيب) الشيعة، وبين ما يمكن أن يحتمله الأخيرون أو يقبلونه. ومع هذا كان الملك المؤسس قد رضخ لمطالب الإخوان، في فترة ثورتهم، أو لمنع ثورتهم، واتخذ إجراءات قاسية ـ حسب فتوى العلماء المنشورة عام 1926 ـ لم تؤتِ ثمرتها، وتوقفت بنهاية الإخوان.

كما قلنا كان الممكن أمام وجهاء الشيعة هو مخاطبة الملك عبر العرائض وعبر اللقاءات المباشرة بالسفر إليه على ظهور الجمال سواء الى الرياض أو الى مكة المكرمة، حيث كان يقضي أشهراً عديدة كل عام، صارت الآن عادة ملكية في فترة الحج وفي فترة الصيف. وقد تبيّن فيما بعد أن هذه الوسيلة وإن خففت بعض الإشكالات، إلا أنها لم تكن قادرة على منع الإنفجار، بسبب صعوبة سياسة التوازن التي تميل الى ما يطلبه متطرفو الوهابية عموماً. ولذا اندلعت انتفاضة (1348هـ/ 1927) وكانت مسلّحة، وقد أنهاها الملك بعد أشهر من الحصار العسكري، والتهديد، والتعاون مع السلطات البريطانية في البحرين. كانت النهاية سلمية، إذ قدّم الملك بعض التنازلات في الجانب الإقتصادي وتخفيف الضرائب، ووعد وجهاء الشيعة بأن الضغوط الطائفية ستنتهي بمجرد أن يقضي على الإخوان، وهذا ما حدث بقدر كبير.

* في عهد الملك سعود ظهر طارئ آخر: فقد أصبحت الدولة الآن ذات إمكانيات اقتصادية، وبدأت تقدّم خدماتها الإجتماعية، وكانت المناطق تنتظر حصّتها من التعليم والخدمات الصحية والتخطيط والشوارع وغيرها. ومناطق الشيعة لم تكن في قائمة الأهداف على أية حال حتى وقع الإنفجار الأكبر في نوفمبر 1979. ويبدو في تلك المرحلة، ومن خلال قراءة لرسائل وجهاء الشيعة، أن الطاقم الإداري في الجهاز الحكومي ـ غير الديني ـ كان معتدلاً للغاية، فهناك دولة تُبنى، وكان الحسّ الوطني عند الحجازيين ملحوظاً، الأمر الذي ساهم في حل الكثير من المشكلات المتعلقة بالخدمات أو التخفيف من آثار غيابها السلبي على الفعل السياسي.

وفي عهد الملك سعود ايضاً وجدت مشكلة سياسية تمثلت في صعود الدعوة القومية الناصرية من مصر، والتي انعكست آثارها على كل المجتمع السعودي بمختلف مذاهبه ومناطقه. غير أن الشيعة كان نصيبهم أكبر من حيث التأثر، بسبب واقعهم السياسي (الذي رسّخ فيه الإقصاء) وكذلك شعورهم بمعاملة الدونية في مجال الخدمات. وكان الحل: الإنخراط في التنظيمات السياسية بمختلف أشكالها اليسارية والقومية التي تدعو للتغيير، مؤملين أن يأتي بفتح جديد في المساواة والعدالة والمواطنة الحقّة. بالطبع فإن الوجهاء لم يتوقفوا عن نشاطهم ودفاعهم عن مجتمعهم في مجال الحريات الدينية والخدمات الإجتماعية، بل والدفاع عن المعتقلين السياسيين والمطالبة بإطلاق سراحهم.

* وفي عهد الملك فيصل، أعاد الأخير اللعبة المذهبية الى الساحة السياسية، فأصبحا متلازمين. وأعطى دفعة قوية للنشاط الديني السلفي ومأسسته رغم أنه قلّص دوره السياسي.. بمعنى أن الملك فيصل فتح الباب للمؤسسة الدينية لممارسة ضغوطها الطائفية على المواطنين المختلفين في المذهب عموماً، ومن جهة ثانية أُضعف دورها في صناعة القرار السياسي حتى في بعده المحلّي. وكانت النتيجة: إستمرار للإنشقاق الداخلي وتوسيعه بين الفئات الإجتماعية، معززاً بشعور طاغٍ بالربط بين المذهبية والمعارضة السياسية. وينبغي الإشارة هنا الى أن الملك فيصل كان أكثر الملوك صَلَفاً في مقابلة وجهاء الشيعة، والأكثر تلاعباً بعواطف الجمهور من حيث إطلاق الوعود والخداع.

* وجاء عهد الملك خالد، في وقت تشهد فيه المملكة فورة في الثراء بسبب ارتفاع أسعار النفط، لم تنعكس على مناطق الشيعة التي كانت في حالة يرثى لها، وهذا ما زاد في النقمة، وبدأ الناس يتحدثون بصوت عالٍ عن حقوقهم في الثروة التي يستخرجونها بأيديهم ومن تحت أرضهم، وتبلورت النقمة على شكل انتفاضة شعبية عارمة وحادّة في بعض فصولها، أدت الى استشهاد نحو 30 مواطناً ومواطنة أثناء مواجهة التظاهرات السلمية برصاص القوات الحكومية كما استشهد بعض المواطنين في منازلهم برصاص الطائرات، وقد استعصت سيطرة القوات الأمنية على المدن والقرى الشيعية لبضعة أيام، رغم حظر التجول واعتقال ما يزيد عن ثلاثة آلاف معتقل ضاقت بهم السجون الرسمية، فأقيمت خيام وكأنها معسكرات اعتقال.

نصح الأميركيون الحكومة السعودية بتوفير الخدمات للمناطق الشيعية، وفعلاً بدأت محاولات جادة منذ مطلع الثمانينات الميلادية في ذلك الإتجاه وإن توقفت بعد نحو ثلاث سنوات. ولكن الشيء الذي لم يتغيّر وبقي عامل توتر في العلاقة بين الطرفين هو زيادة حدّة المشاعر الطائفية ضد الشيعة والتحريض عليهم بشكل مفتوح في الجرائد والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى وعبر القرارات الرسمية فانعكس ذلك على تمييز في التوظيف وفصل جماعي للموظفين في الجهاز العسكري والأمني (والذي لا يوجد فيه الا القلة) وإحالتهم الى التقاعد.. وإجراءات أخرى في التعليم والقضاء وغيره.

ومن هنا نلتفت الى أن الشروخ الإجتماعية منذ مطلع الثمانينات والتي هندس لها الملك فهد أحرقت مساحة بقيت متوفرة لزمن طويل بين المواطنين الشيعة وغيرهم، وأحدثت فجوة هائلة الحجم، لا ندري ونحن نتحدث اليوم عنها، كم ستستغرق من سنين لردمها. لم يعد المجتمع السعودي منسجماً لا في الشرقية ولا في الغربية (الذي كان هو الآخر قد تعرّض لتدمير داخلي في فترة الثمانينات أيضاً) مع الجهاز الحاكم وقاعدته الإجتماعية النجدية والمذهبية السلفية.

إن مشاعر الوحدة القليلة التي تربط السكان بعضهم ببعض، جرى بغباء شديد التضحية بها على مذابح التمييز الطائفي والمناطقي في الحجاز والمنطقة الشرقية. وأصبح المفهوم السياسي لـ (بناء الأمة) فاقداً للمعنى حتى اليوم، إذ لا توجد أي خطوات في اتجاه البدء به، ولا نقول تعزيزه، لأنه غير موجود في حقيقة الأمر.

في مطلع الخمسينات كانت المشكلة خدماتية وطائفية.

وفي الستنيات والسبعينات أضيف إليها البعد السياسي. أي صارت سياسية.

وفي الثمانينات تفاقمت وأصبحت أزمة دخل فيها العنف أيضاً. وكل ذلك كان مؤشراً لخلل في البنية الإجتماعية السعودية، غفل الأمراء عن آثاره الخطيرة، وانشغلوا بالحرب ضد إيران، وضد الشيوعية في أفغانستان!

لحظة تاريخية لم تقتنص لترقيع النسيج الإجتماعي ـ السياسي المتهالك بدت بعد حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت. كان شقها السياسي إصلاحات، وشقّها الإجتماعي إنهاء سياسة الإقصاء المذهبي والمناطقي، ولكن ذلك لم يحدث حتى مع الحوار الذي حدث بين المعارضة الشيعية والحكومة في سبتمبر 1993، إذ تكفّل (الطيّبان!!) محمد بن فهد أمير الشرقية، والأمير نايف وزير الداخلية من تفريغه من محتواه.

كان تصور المعارضة الشيعية في عام 1993 أثناء الحوار للأزمة، يقضي التضحية بالجانب السياسي، من أجل حلّ عقدة موضوع (المواطنة والمساواة). أي أنه كان مقبولاً لديهم الظلم بالسوية، فهو عدلٌ في الرعيّة! كما كان بعضهم يقول مازحاً. فلنكن سواء في كل شيء: مغنماً ومغرماً. ولذا اتخذت مواضيع الحوار طابع الخصوصية المذهبية المناطقية، بدل أن تتوجه الى الموضوع السياسي الذي يحلّ الإشكال الوطني الأكبر.

واليوم، يبدو أن الجميع وصل الى قناعة كبرى، تفيد بأن لا حلّ منفرداً لمصائب الوطن، لا في مجاله الثقافي (الواحدي) ولا في مجاله (المناطقي) ولا العشائري القبلي، ولن تحل مشاكله الإقتصادية بدون الولوج الى كل ذلك من البوابة السياسية التي تحل كل الإشكالات، باعتبارها حزمة مترابطة لها جذر واحد، وهو الإستبداد السياسي والديني.

ليست مشكلة الشيعة مشكلة خدمات ناقصة، ولا كتب ممنوعة، أو مساجد يمنع بناؤها، ولا تحيّز قضاء ولا بطالة متصاعدة. إنها مشكلة وطن يعاني جميع أبنائه من كل هذا وبنسب متفاوته. المشكلة تكمن في غياب الإصلاح السياسي، وغياب الإرادة السياسية عند المسؤولين لتحقيقه.

لا نريد مذهباً.. بل نريد وطناً حرّاً ومواطنين أحرار!

أزمة الشيعة ليست أزمة خدمية، ولا أزمة أمنيّة تعالج بفرق الأمن، وحلّها ليس بالعرائض ولا كتابات الاسترحام التي مضى على تسطير مئات منها منذ قامت الدولة.

إنها أزمة سياسية في جوهرها، ويجب إخراجها من إطارها الأمني والخدمي.

إنها انعكاس لأزمة الوطن نفسه وأزمة الحكم، وأزمة الدولة، وأزمة المجتمع السعودي بمختلف فئاته.

 الإصلاح السياسي والإدماج السياسي

 الإدماج السياسي واحدة من مفردات الإصلاح السياسي المنشود. يمكن تقسيم المشاكل التي تواجه المملكة ـ وبشكل عريض جداً ـ الى نوعين: مشاكل تتصل ببنيان الدولة (تهديد التقسيم وغياب الهوية الوطنية وضعف الدمج الإجتماعي والسياسي والإقتصادي ـ أي الدمج الوطني وغير ذلك) وهناك مشاكل أخرى تتصل بأداء الدولة السياسي (حكومة القانون، ودور الجمهور في صناعة القرار ـ أي الإصلاح السياسي، وغياب حرية التعبير، وانتشار الفساد الإداري والمالي، وحقوق الإنسان بما يشمل حقوق المرأة، وغير ذلك). ومع ما يلاحظ من تداخل المشاكل وتأثيرها على بعضها البعض، فإن مشكلة الشيعة تدخل ضمن النوع الأول، الذي لا يحتمل التأجيل، والذي يدخل في صلب تهديد بناء الدولة. في حين يمكن أن يقال بأن آلات حلّ المشكل تتوافر في النوع الثاني.

وبتصوير آخر، يمكن القول بأن مشكلة الشيعة في ظاهرها مشكلة مذهبية عقدية، وهي لا شك تحمل هذه السمة، ولكن حلولها لن تكون سوى حلولا سياسية.

إن إضفاء الصفة الطائفية على الموضوع الشيعي، دون ربطه المباشر بالموضوع السياسي، يضلل أصحابه ومثيريه، ويبعدهم عن الحل. فمهما أنجز من حلول مذهبية (ولن ينجر الكثير) فإن ذلك لن يكون بدون قرار سياسي وبدون تفكيك حُزم المشكل البنيوي للدولة. كما أن الإلحاح على التحليل الطائفي غير المسيّس للأزمة يؤدي الى إثارة الجمهور على النظام، ويعزّز وسائل الحشد الجماهيري، ولكنه يحمل في داخله أهدافاً متناقضة. فانفتاح المواطنين الشيعة على الآخرين هو، على سبيل المثال، أمر مهم وهدف كبير يجب النضال من أجله لما فيه خير الوطن بأكمله، ولكن الطرح الشيعي الحادّ أو تصويره على نحو ديني صرف، وهو أمر لا بدّ أن يحمله أي طرح يختص بطائفة، فإنه يحجب من الناحية النفسية والعملية التوجه نحو لقاء الآخرين، ليس فقط للقاعدة الشيعية وإنما قد تتأثر به الفئات الأكثر تنوراً، والتي يمكن التعويل عليها في شق حجب الحواجز وتكسير الموانع التي يضعها الطائفيون وتصنعها السياسة الطائفية.

وإن الإصرار على البعد المذهبي بقطعه عن جذوره السياسية الوطنية، يتناغم مع ممارسات النظام وسياسة الإقصاء وقد يؤدي الى بروز مظاهر ونزعات انفصالية. من الضروري أن يلتفت المتعاطون للشأن الشيعي الى معالجة المشكل ضمن حلول الأزمة  البنيوية للدولة. فإذا كانت سياسة الإقصاء تؤدي الى تعزيز النزعة الإنفصالية، وتعكّر التواصل الإجتماعي وتقوّض الدمج الإجتماعي والإقتصادي، فإننا بحاجة الى عدم مسايرة الأمراء في منهجهم، سواء أدركوا نتيجة أفعالهم أم لم يدركوا، فالدولة ملكنا جميعاً، والوطن لنا جميعاً، وغياب الحكم، أهون من غياب الدولة نفسها. أما أن يتمّ استثمار الفعل السياسي لأخطاء الأمراء وتعزيزه بفعل في ذات الإتجاه، فإنه يؤدي الى التمزيق، ولا نظن أن المتصدّين للشأن الشيعي يريدون هذا.

إذن.. فلتتوجه الجهود الى موضوعة الدمج الوطني، فهي وإن كان غيابها نتيجة تخطيط وممارسة إقصائية، إلا أنها تستبطن الحلّ أيضاً. ويقسم الباحثون السياسيون هذه الموضوعة الى ثلاث شعب متداخلة، من أجل تفكيك عقدها والسير فيها الى الأمام. الشعب الثلاث هي مسارات لدمج الشيعة ضمن النسيج الوطني: مسار سياسي، ومسار إجتماعي، ومسار إقتصادي.

الشيعة يعيشون على هامش المسارات الثلاثة، ومقصون بشكل كبير عنها جميعاً. بعضها بتخطيط وبعضها الآخر لعجز وقصور ذاتي.

في المجال الإقتصادي ينبغي تشجيع الشراكات والمصالح الإقتصادية المشتركة بين المواطنين، فالتلاحم الإقتصادي يوثق ويعزز اللحمة الإجتماعية والسياسية معاً. وفي المجال الإجتماعي، ورغم الحصار الضارب على الشيعة، فهم مطالبون (وبالأصح متهمون) بالتقوقع على ذواتهم. صحيح أن الأبواب ليست مفتوحة للتداخل الإجتماعي، لا في المناسبات العامة، ولا في قضايا الزواج المختلط، ولا في أقل من ذلك.. وصحيح أن هذه المسألة مشتركة، وصحيح أيضاً بأن الحواجز المذهبية أصبحت سدوداً عالية تحول دون تحقيق الكثير من ذلك، إلا أنه لا بدّ من نحت الصخر والإنطلاق رغم كل العقبات. وقد بدأت آثار بعض النشاطات تؤتي ثمارها، وتخفف من مشاكل تنميط الآخر.

ومع الإعتقاد بأن المسارات يجب أن تسير بغض النظر عن تداخلها، فإن تأثير الدمج السياسي يبقى الأهم والأقدر على تحفيز المسارات الأخرى. وباختصار مفيد، فإن الهدف الذي يفترض أن يسعى من أجله ويتفهمه النظام نفسه هو: اشراك الشيعة في الجهاز السياسي والوظيفي العلوي. وهذا يعني تحديداً أن يكون بينهم الوزراء وأعضاء مجلس الشورى وأن يكون لهم مواقع في الجهاز الوظيفي العلوي للدولة يتناسب مع عددهم ومكانة منطقتهم.

ويمكن تركيز مبررات الحل السياسي القائم على إدماج الشيعة في الجهاز الإداري والسياسي العلوي للدولة في التالي:

أولاً: أن التمييز الطائفي على الأرض لا يمكن حلّه في المستويات الدنيا وإغفاله في المستويات الرفيعة. فقد يتم حل مشكلة المساجد والكتب والقضاء، ولكن كيف يمكن فك حرمان الشيعة من الثروة، وكيف يقبلون بأن يستثنوا من تسنم الوظائف العليا، سياسية كانت أم عسكرية أم أمنية لمجرد أنهم شيعة؟ إن حلّ المشكل الطائفي يجب أن يشمل جميع الموضوعات التي تتضمن تمييزاً بحقهم. إنهم هنا يطالبون بحق لا يمكن نكرانه، وقد اعتاد رجال الحكم على مراعاة مثل هذا الحق، حين خصصوا عدداً من المقاعد الوزارية للحجازيين، رغم أنها أقلّ من حقّهم، ومن الضروري تكرار التجربة مع بقية التجمعات على نفس القاعدة، لمردوده الإيجابي في تعزيز اللحمة الوطنية.

ثانياً: إن حل المشكل الشيعي على المستوى العقائدي والمطالب غير السياسية، لا يتم بشكل كامل وصحيح إلا بحل سياسي. إن التدرج في المطالبة لم يحل مشكلة الشيعة، كما رأينا ذلك في عمل الوجهاء، ولكن إذا ما تمت مشاركتهم في الجهاز العلوي للحكم فإن كل المشاكل الصغيرة ستتحلحل بشكل تلقائي، خاصة وأن موضوع التمييز ضد الشيعة جاء بقرار سياسي وحله لا يكون إلا بأداة سياسية.

ثالثاً: إن حل المشكل السياسي لموضوع التمييز يساعد على حلحلتها في النفوس في الأوساط الإجتماعية والدينية المشبعة بالروح الطائفية.. فإذا ما وجد الشيعة في أجهزة الدولة العليا، فإن من الصعب على الآخرين أن يتعرضوا لهم، خاصة وأن البلاد لا يحكمها قانون يحرم الجرم الطائفي حتى وإن هدّد الوحدة الوطنية!