إلى أين تقودنا سياسة (التدمير الذاتي) الأمنية؟

 حين يتحالف الغباء والتطرّف

 

د. خالد الرشيد

 

رغم تصاعد أزمة العنف والتطرف المتصاعدة في البلاد.. تتخذ الأجهزة الأمنيّة إجراءات تجعل اللبيب حيرانا!

فلا يكاد يمر أسبوع إلا وتفاجؤنا بقرار غبي (وسامحونا على هذا القول إذ ليس هناك تعبير أدق من هذا) يزيد من هامش الحريّة للفكر المتطرّف، ويمنح أرضاً بلا مقابل لدعاة العنف، وفي نفس الوقت يتم التضييق أكثر فأكثر على حملة الفكر المستنير دينياً وسياسياً. وكأن معركة العائلة المالكة ليست مع التطرف وليست مع التخلّف وليست مع الإرهاب، بل هي مع أصحاب الفكر السياسي والديني المعتدل.

آخر القرارات الصادرة بهذا الشأن: منع الأستاذ عبد الله العتيبي من الكتابة!

 هذا هو زمن عبد الله بن بجاد العتيبي ومشرف الذايدي وحسن المالكي ومنصور النقيدان وقبلهم جميعاً الدكتور عبدالله الحامد.

هؤلاء هم الرواد في مواجهة فكر التطرّف والتشدّد.

وهؤلاء هم الرواد الذين يحاولون التنظير لفكر إسلامي مستنير.

ولذا فهم من يجب أن يكونوا رجال المرحلة، ومن يتصدّى لفكر التدمير الذي يكاد أن يقضي على الوطن ويقسّمه الى قطع غير متجانسة.

كل واحد من هؤلاء الأخوة، استطاع أن يشقّ له طريقاً يلفت أنظارنا وأنظار المسؤولين الى واقع الأزمة وجذورها.

بعضهم كالأستاذ حسن بن فرحان المالكي اختار الجوانب العقائدية، ودرسها بتمحّص منذ سنوات وسنوات ونقدها بشجاعة قلّ نظيرها. وانتقد المناهج قبل أن يطلّ علينا أحدٌ من الغرب فينقد ما فيها.

وبعضهم نقد مسيرة الحركة السلفية (الجهادية) وأجرى تشريحاً للذات، وممارسة للنقد الداخلي الفكري والسياسي والإجتماعي، من أجل تبيين مكامن الخلل في مسيرة الحركة وتأثيرها وما قد تؤول إليه، وهؤلاء هم الأخوة: منصور ومشرف وعبد الله. ويبقى الدكتور الحامد الذي يطوف بنا في واحات الفكر الإسلامي، مبيّنا جذور الإستبداد، والتخلّف، وكيف وصلنا الى المستنقع الذي نحن فيه.

الأخوة هؤلاء، وربما غيرهم كثيرون.. هم من المدرسة السلفية نفسها، ولم يمنعهم ذلك من ممارسة النقد الذاتي، (ونتمنى من المدارس الأخرى أن تقوم بذات النقد) كان يفترض أن تفتح لهم الأبواب والنوافذ كي يصلوا بآرائهم وأفكارهم الى مفارخ التطرف، وكان يفترض أن يطلّ هؤلاء علينا جميعاً بين الفينة والأخرى من خلال الأدوات الإعلامية لنتعرف الى مواقع أقدامنا ونحن في مواجهة الدمار الذي يحيط بنا.

هؤلاء الصحويون حقيقة، والوسطيون بلا ادّعاء، كانوا ولايزالون أوّل ضحايا النظام الذي يتمتع بغباء قلّ نظيره!

أدوات النظام الغبيّة، تريد مكافحة التطرف الفكري، بأدواته، وبمنهجه، وبرجاله!!

وتريد تأهيل القاعدة المتطرفة، برجال منها، وبنفس أفكارها، وأسلوبها، كما هو الحال مع ما زعم من تأهيل للدعاة!

هذا لا يكون أبداً.. فالفكر المتطرف يواجه بفكر من خارج إطاره، يفسح له الطريق لتنوير وترشيد الآخر، بالحجج والإقناع والمناقشة والأدلّة. ولم يحدث في التاريخ أن فكراً ما تغيّر بدون خوض غمار الجدل والنقاش ومقارعة الحجج. فهذا لم يحدث أبداً.

لكن كان للغباء رأي آخر وهو:

التضحية بهؤلاء الوسطيون حقاً وحقيقة. التضحية بهؤلاء الروّاد، على مذابح التطرّف نفسه الذي يدّعي الغباء مكافحته.

طُرد المالكي من وظيفته وطرد الحامد من أستاذية الجامعة، وطرد النقيدان مرة وثانية من معقله الصحافي، وطرد أخيراً عبد الله بن بجاد من وظيفته ومنع من الكتابة في جريدة الرياض، وهكذا!

الغباء رأى فيما رأى أيضاً أن مكافحة التطرف تأتي بالتضييق على المصلحين الجادين، فمنعتهم من السفر، وهددتهم إن هم تواصلوا مع الإعلام الخارجي، وفي نفس الوقت فتحت الأبواب والنوافذ أمام الجناح المتطرف على أمل أن يعيد إنتاج نفسه، ويمحور أفكاره في قوالب مختلفة مع بقاء المتن لم يتغير.. كل ذلك من أجل الحصول على هدنة آنيّة نعلم أين ستقودنا في النهاية.

لا .. ليس هكذا يكافح المرض!

ولا بقمع دعاة الفكر المستنير تخاض المعارك!

إن حال الغباء كمن يدخل معركة بسلاح مهزوز، فيطلب التطرف منه تجريده من أهم الأسلحة وهي أن يتخلى عن الأسلحة الجاهرة في معركة الفكر والإستنارة.

رغم كل هذا.. فإذا كان الغباء قد تحالف مع التطرّف، لأنه غبي، فإن مثقفي المملكة ووطنييها يتحمّلون مسؤولية الدفاع عن هؤلاء الروّاد وأن يعينوهم بكل الوسائل الممكنة لكي يؤدوا رسالتهم، وهي رسالتنا، ولكي يكون العقل هو الخط الأمامي للدفاع عن وطننا ومصالحنا كشعب.

هذا ما نأمله ونتمناه.

وسيكتشف الغباء أن التطرّف أقوى منه. إن لم يكن اليوم فغداً. وإن غداً لناظره قريب.

 

**

 

فيما يلي المقالة التي أقالت الأستاذ عبد الله بن بجاد العتيبي من جريدة الرياض، وقد نشرتها الجريدة آنفة الذكر في 24/6/2003.

 

التطرف صناعة محلية أم مستوردة ؟

 

حين تتكرر الظواهر الكبرى في مجتمع ما فإن الاستمرار في عزوها للخارج يدل على عجز عن إصلاحها أو عدم استعداد له أو على جهل بسنن ونواميس التاريخ والاجتماع.

لقد جاءنا من الخارج جزء من المشكلة بلا شك خصوصا مع عولمة التطرف وانهيار الحواجز الجغرافية أمام ثورة المعلوماتية وانفتاح الفضاء، ولكن هذا لا يعني ألاّ مشكلة لدينا.

حين نعود القهقرى لتاريخنا الحديث وفي المئة عام الأخيرة تحديداً حيث أنشأ الملك عبدالعزيز بعظمة كبيرة كيانا سياسياً موحداً وقوياً هو مملكتنا العزيزة التي نتفيأ ظلالها ونأكل من خيراتها اليوم، حين نعود لهذه السنوات الطويلة فإننا سنجد عدداً من الأحداث الكبرى التي تشابه قليلا ما حدث في الرياض من أعمال إرهابية.

كان عام 1347هـ عاما حاسما بالنسبة لوحدة البلاد واستقرار حكمها السياسي ودولتها القوية، في ذلك العام تمكن الملك عبدالعزيز من القضاء على الثورة المسلحة التي كانت تقودها بعض قبائل نجد بقيادة أمرائها ضد ما كانوا يرونه منكرات كانت تقوم بها الدولة أو على الأقل لم تقم بإنكارها.

وقد يضحك البعض اليوم حين يعلم أن تلك المنكرات لم تكن تتعدى البرقية والتعامل السياسي مع بريطانيا والدول العظمى في تلك الفترة، ولكن هؤلاء الجهلة الغلاة أوصلوها إلى أن تصبح آنذاك مسائل تهدد الوحدة الوطنية والدولة الفتية في الصميم.

لم يكن من قاموا بتلك الثورة وذلك التمرد متأثرين بفكر وافد مطلقاً، فوسائل اتصالهم بالكون تكاد تكون معدومة، ولكنها جاءت بالتأكيد من خطاب آيديولوجي تربوا عليه ونهلوا من معينه ردحاً من الزمن على أيدي علماء كبار كانوا يلقنونهم إياه صباح مساء، ولكن الذي تغير أن هؤلاء البسطاء كانوا أكثر صدقا مع مبدئهم حيث ذهبوا به إلى أقصاه وطبقوه اعتقادا وقولا وعملا بعكس من علموهم حيث اتخذوا مواقف تناقض فيها اعتقادهم وقولهم وعملهم، فلم يجد الملك عبدالعزيز بداً من الحل العسكري بعد أن اكتشف عجز الخطاب الديني الرسمي عن إطفاء الفتنة لأنه بكل صراحة كان سببا في المشكلة فكيف يشارك في حلها !!

ثم مرت سنوات طويلة انقرض فيها أكثر ذلك الجيل الثائر وتغيرت فيها تركيبة المجتمع وكثير من الظروف الداخلية والخارجية المحيطة به، ولكن الخطاب الديني لم يتغير.

لقد أعاد ذلك الخطاب إنتاج نفسه ليخلق جيلاً جديداً من الصادقين في تطبيقه، من أولئك الذين لم تكن لديهم أية امتيازات اجتماعية أوسياسية تجعلهم يغضون الطرف عن التناقض بين النظرية والتطبيق، ومع شروق شمس اليوم الأول من شهر الله المحرم عام ألف وأربعمئة خرجت علينا جماعة جهيمان العتيبي في الحرم المكي الشريف، لتنتهك الشهر الحرام والبلد الحرام، لا تأثراً بفكر دخيل وخارجي فقد كانوا في شبه انقطاع عن الخارج حيث كانوا يحرّمون التلفاز والراديو بل والصحف، ولكنهم تخرجوا من جديد على يد كبار علماء الخطاب الديني الآنف الذكر، فاستحلوا دماء المسلمين في البلد الحرام وبين الركن والحطيم، كل هذا وهم يحسبون أنهم يجاهدون في سبيل الله وأنهم يحسنون صنعاً !!

وتم إنهاء الفتنة والقضاء على الظاهرة، وبقي الخطاب ذاته مستمرا يقوده ويمثله متنفذون نفعيون لا يشعرون بأي حرج في تناقض النظرية والتطبيق لديهم لتستمر السلسلة.

ومضت السنوات حتى خرج من أبناء الوطن من يملؤه تفجيراً وخراباً ودماراً، في العليا وفي الخبر وفي الرياض، ونحن نعالج الظاهرة ونترك الجذر، نشتم النتيجة ونبرئ المقدمة، نلهث في محو الهامش ونترك المتن، حتى خرج علينا أسامة بن لادن تلميذا باراً لذلك الخطاب ولكنه هذه المرة ليس بدويا في الصحراء ولا منقطعا عن العالم معتزلا لمنتجاتها الحضارية، وإنما مدجج بأكثر آلات العصر التقنية تطورا ومسلحاً بأكثر وسائله التنظيمية سرية وإحكاما، ليقلب الطاولة على رؤوس الجميع في العالم كله، مسبباً للأمة الإسلامية من الخسائر والمفاسد ما الله به عليم، ولا ندري إن بقينا كما نحن لا نحرك ساكناً ماذا سيخرج لنا في قابل الزمان، والأيام حبلى.

فهل نمتلك الشجاعة الكافية لنعترف أننا بحاجة لمراجعة كل شيء، وخصوصاً خطابنا الديني المنتشر في المساجد والمدارس ووسائل الإعلام وبعض المؤسسات الرسمية ؟؟

هل نستيقظ ونراجع ونجدد ونصحح كل أخطائنا وتجاوزاتنا أم نظل كما نحن نشتم الهامش ونقدس المتن!!