المملكة الغامضة

 السياسة في المملكة غامضة، بل هي قائمة على فن (الغموض) والإمعان فيه وتكريسه. فالغموض يزيد ويرسّخ (الهيبة) لدى (العوام)، والمسؤولون في المملكة يؤكدون لدى الأجانب بأن بلادهم وشعبهم (حالة خاصة) وحين يكتب أحدٌ ضدّهم أو ما لا يعجبهم يتهمونه بالجهل بالإسلام وبالمملكة وبالعائلة المالكة.

وعلى فن الغموض وممارسة السريّة في السياسة، تصبح مقولة (الشيوخ أبخص) ذات وقع وأثر. فالملك والأمراء هم الأعلم والأفهم والأكثر حرصاً على مصالح المواطن، كما الأكثر إدراكاً بحقيقة البلاد والعباد.. ومن يريد العلم فليأته من أبوابه: من الأمراء والمجالس الخاصة، والمجالس العامة التي تدور الأحاديث فيها عن المطر وتأخره في النزول، وكأن لدى كل أمير قطيعاً من الأغنام أو الإبل سيموتون عطشاً إن تأخّر قطرُ السماء!

المملكة.. كم هي غامضة على أهلها وحكامها، قبل أن تكون كذلك بالنسبة للمتابع والمحلل الأجنبي. كلّما اكتشف المرء أمراً ظنّه فتحاً مبيناً، ظهرت صناديق مغلقة أخرى تنتظر الفتح.

 وشعب المملكة هو الآخر يلفّه الغموض، فتعدده المناطقي والثقافي والمذهبي، جعل كل جماعة تشعر وكأنها دولة لوحدها، قد تدرك القريب مما يحصل منها، فتتصور أنها وعت ما يجري لدى جيرانها!، فإذا بها تفاجأ بأمور مخالفة. هناك من ينتقد الآخر بأنه لا يفهم المملكة، وكأنهم هم يفهمون أنفسهم وبلادهم، ويدركون مجريات السياسة والثقافة والتآمر والتخريب فيها!

وتناقضات المملكة تزيد المتابع كما المسؤول حيرة وتضيف الى الغموض غموضاً جديداً، فيعجز المراقب والمسؤول والمواطن عن فك طلاسم السياسة، فيقع هؤلاء جميعا فريسة الأخطاء المتعددة.

صناعة القرار في البلاد لغز، جلّ ما أدرك منه معرفة أسماء بضعة من الأمراء يعتبرون القيمون والقائمون عليه، وهؤلاء يجرون السياسة وفق سنّة (التدافع) لا على أساس التحصيص للمواقع ولا على أساس الشورى والإجماع أو وفق نظام داخلي يحتكم إليه بالتصويت مثلاً، ولهذا تظهر قرارات لا تنفذ، وقرارات يناقض ويلغي بعضها بعضاً. وهكذا تجد في السياسة السعودية الشيء ونقيضه، فيحسب المراقب أن ذلك جاء بتنسيق وتخطيط متعمد ووفق رؤية توزيع الأدوار، وما هو كذلك!

والألغاز في السياسة السعودية كثيرة، ففي فترة من الزمن قيل أن الرجل الثاني الحقيقي في الدولة هو سلمان، وقد كان مقرباً من الملك، في حين كان الملك لا يطيق رؤية نايف وزير الداخلية، أما عبد الله فقد كان مهمّشاً.. فما كان من الأميركيين إلا أن دعوا سلمان لزيارة واشنطن في منتصف التسعينيات من القرن الماضي فأدركوا أنه أكثر تشدداً من الآخرين، في حين كانوا يأملون بأنه رجل الإصلاح القادم! ثم بدا لهم أن سعود الفيصل يقف على رأس قائمة الجيل الثالث فاكتشفوا أنه عاجز حتى عن إدارة وزارته. واليوم وبعد أن غاب الرجل الأول (الملك فهد) بسبب الإعاقة، قيل أن الرجل الأول هو عبد الله، وقيل بل هو سلطان، فيما الظاهر أن الأمير نايف زحف الى المركز الأول بسبب تضخم الجهاز الأمني وتوسّعه استجابة للتحديات الأمنية والسياسية المحلية والخارجية، وكونه محور الإهتمام السياسي في العلاقات السعودية الأميركية.

وإذا كان المواطنون قد صنّفوا الأمراء الى صنفين: مع أو ضد الإصلاح، واعتبروا الأمير عبد الله ولي العهد نصيراً للإصلاحيين، رغم أنه لم يفعل شيئاً حتى الآن، كما اعتبروا الإخوة الثلاثة (ما تبقى من السديريين) نايف وسلطان وسلمان، أشد المعيقين والمتحدين لأي مشروع إصلاحي.. ورغم أن وزير الداخلية يفترض أن يكون الرجل الأول المعادي لطموحات الشعب في الإصلاح كما أعلن ذلك مراراً، أضف الى كونه المسؤول المباشر عن الإعتقالات والمنع من السفر والفصل من الوظائف وغير ذلك.. مع هذا، تجد بين الشعب (المسعود) حيرة في تصنيف هذا الأمير بسبب (زئبقيته) السياسية، الى حدّ أن بعض الجهلة يعتقد بأنه نصير (السلفية) اعتماداً على تصريح هنا وقول هناك، أو نصير اللبرالية اعتماداً على مكافحته غائلة السلفية العنيفة!

إن الأمير نايف يحوي في داخله تناقضات المملكة وشعبها، فهو مع السلفية التي تخدم العائلة المالكة ولا ترفع السلاح او تشكك في شرعية الحكم، ومع اللبرالية التي لا تطالب بالإصلاح! لأنها تضيع (ملك آل سعود) كما يروج. ثم هو ضد الشيعة ومحاصرتهم في معاشهم وحياتهم، ولا يرى أن لهم حقاً أكثر من (جوازات سفر) قال أنه منحهم إيّاها! وكذلك هو ضد الحجازيين من منطلق نجديته، ويرى التضييق عليهم قبل أن يشبّوا عن الطوق فيطالبون بدولة مستقلّة. وفوق هذا، فإن الأمير ضد حرية الإعلام، وإذا ما جرى تطويره ففي نقل ما يعتقده حقائق عن الوضع السعودي، من وجهة نظره. ومع أن المجلس الأعلى للإعلام الذي يرأسه قد أُلغي، إلا أن الأمير يمارس دوره السابق كأب للإعلام الرسمي، وكهراوة تبطش بالصحافيين، الى حد أن عدد الذين منعوا من الكتابة خلال عام أو الذين منعوا من السفر بسبب الحديث مع الإعلام الخارجي أكثر من أي فترة سابقة.

وللحق.. فإن الغموض في المنهج والممارسة السعودية قد عوّض النقص في الأداء، وأرهب المواطنين نظراً لعدم توافر الأنظمة التي تحدد الممنوعات. وفي هذا نجاح، ولكنه (تكتيكي). أما الإستراتيجيا، فجلّ ما يفهم منها الأمراء هو (منع تذرّر السلطة) وسيتكتشفون ـ إن لم يكن قد اكتشفوا بعد ـ أن المملكة ـ القارة ـ لم يفهموها جيداً، لا شعباً ولا تراثاً ولا تطلعات. وسيأتيهم يوم ينكشف لهم الغطاء عن واقع آخر لم يكن يساورهم حتى في الإحلام. وهذا نتيجة الطغيان وتأليه الذات وعدم قراءة الساحة الجماهيرية بشكل جيد.