الحوار الوطنى..مقاربة مختلفة
الإعلان
عن تأسيس مركز شبه رسمي للحوار الوطني في المملكة يمثل إحدى
علامات التحول الداخلي، ولكنه، في نفس الوقت يثير جدلاً حقيقياً
حول منطلقاته، ووسائله، وأغراضه. إذ أن المناخ الذي تنبثق منه
فكرة الحوار الوطني شديد التوتر، كإنعكاس لاخفاقات الدولة في
إنتاج حلول حاسمة لمشكلات سياسية وإقتصادية وأمنية، وكتمظهر
للمواجهة المفتوحة بين السلطة والجماعات المسلّحة، وتالياً للفشل
الأمني الذريع.
ليس هناك من ينظر الى فكرة الحوار الوطني بحيادية، بل ثمة إجماع
على أن هذه الفكرة تمثل إحدى منتجات السلطة كمحاولة إستثنائية
لمعالجة أزمة الدولة. بمعنى أن منطلقات الاعلان عن مركز الملك
عبد العزيز للحوار الوطني تلفت الى أن ثمة أغراضاً خاصة يراد من
هذا المركز تحقيقها، فهو يأتي على خلفية أزمة السلطة ذاتها، كما
أن الحوار الوطني عنوان المركز وغرضه مصوّب في الأصل الى معالجة
مشكلات الدولة التي تشهد تصدعات خطيرة في بنيانها، بسبب انهيار
أسطورة الجزيرة الآمنة في الوسط المضطرب، فهذا الحوار كما الوحدة
الوطنية يهدف الى إعادة الاعتبار للدولة والحفاظ على تماسكها،
بعد أن بدا واضحاً هشاشتها وعجزها في إحتواء مصادر التهديد.
فالحوار يراد منه التوصل الى إتفاق جماعي قابل للتطوير الى مستوى
تشكيل قوة دفاعية تسهم في تحصين الدولة أمام تحديات داخلية غير
منظورة. لا حاجة للتحذير هنا بأن تسييس الحوار الوطني يفقده
شعبيته، كما يفقده عفويته واستمراريته وعمقه الاجتماعي والثقافي،
وبخاصة حين يتنبّه السكان الى البعد السياسي للحوار أو الأغراض
غير المعلنة له.
الجدل حول الحوار الوطني يتطلب وعلى أفق أوسع وعي ثنائية المعنى
المضفى على قائمة مفاهيم باتت تستعمل بدرجة كثيفة ومائعة مثل:
الوحدة الوطنية، والحوار الوطني، والاصلاح..فثمة إستهدفات تملي
اشتقاق معانٍ غير محايدة لهذه المصطلحات لا تلتقي بحال مع
المعاني الشائعة في الحقل الاكاديمي والسياسي.
التسييس المضفى على مناشط ذات أبعاد وطنية من الناحية التكوينية،
يمتد الى مفاهيم عديدة. فالوحدة الوطنية، مثالاً بازراً، تتكافىء
سياسياً في إدراك الطبقة الحاكمة مع وحدة السلطة، وهذا ما يجعل
الحديث عن الوحدة شديد السطحية والابتذال، ويؤول غالباً الى
إطفاء الرغبة في الكتابة والتنظير حولها فضلاً عن تبنيها
كأيديولوجية، فالوحدة الوطنية كما تعكسها وسائل الإعلام المحلية
الرسمية بدرجة صارخة، تنزع بطريقة مبتذلة نحو تحقيق تطابق مفتعل
بين مفهومي الوطن والسلطة. فالوحدة الوطنية كما تعكسها الرسالة
الإعلامية الرسمية تمثل تأكيداً مملاً للسلطة، ممثلة في الاسرة
المالكة، عبر رزمة منجزات عمرانية ذات صلة بتشييد الدولة وتعزيز
أسس إستقرار سلطتها.
هذه الاستدراكات على مفهوم الحوار الوطني كما يحلو لرموز السلطة
تعميمه شعبياً وثقافياً وأخيراً تجسيده رسمياً عبر (مركز الملك
عبد العزيز للحوار الوطني) تنأى عن أي محاولات لتقويض أسس الحوار
الداخلي بين القوى الاجتماعية والفكرية، بل تمثل إلفاتات تصحيحية
لقضية جوهرية يجب أن تتحول الى مرتكز في شبكة العلاقات الداخلية
وإطارات يعتصم بها الجميع من أجل معالجة مشكلات راهنة ومستقبلية.
فالحوار، منزوعاً من أغراضه السياسية الخاصة، يمثل مخرجاً عاماً
للدولة والمجتمع بشرط عدم إبتزازه وابتذاله وإخضاعه لرغبة وشروط
هذا الفريق أو ذاك، أو حتى تقييد مساره وأغراضه، لأن ذلك من
شأنه إجهاض مفهوم الحوار في كافة المستويات. فالحوار حين يكون
مشروطاً بتسوية مشكلات الدولة، يصبح اللجوء الى الحوار مستقبلاً
محفوفاً بشبهات السياسة وتدخلاتها وتعقيداتها. ولكن يجب أن ينطلق
الحوار من وسط الناس، من المجالس العامة، من النخب الثقافية
والتجارية، ومن المساجد، ومن منتديات الحوار، ومن أهل الرأي،
ودعاة الاصلاح، ورجال الدين والعلماء. فجميع هؤلاء شركاء أساسيون
في حوار وطني يراد منه صياغة ثقافة حوارية، وإشاعة روح الوحدة
الوطنية.
نحن نعيش انتقالاً حاداً في أوضاعنا الثقافية بدرجة أساسية، فثمة
تبدّلات جوهرية تشهدها منظومات ثقافية متصارعة وفي أحسن الأحوال
مبتاينة، ففي هذه المنظومات يتم منذ فترة وجيزة تكسير الجمود
المستحكم في محرك الدفع بداخلها. فالاستعداد النفسي للقبول بمبدأ
الحوار مع الآخر، يمثل إفتتاحاً كبيراً أمام أوضاع مغلقة يمثل
الحوار فيها تابو يرفضه المنضوون داخل هذه المنظومات بصرف النظر
عن القاعدة الايديولوجية التي تستند عليها كل منظومة دينية كانت
أم علمانية أم ليبرالية. فهذه المنظومات قد فصلت نفسها وأتباعها
عن الهواء الخارجي، وإعتبار كل ما يتم خارجها دنساً محضاً، فكل
منظومة تزعم أنها مصدر الطهر والنزاهة والمالك الوحيد للحقيقة
المطلقة.
الأهمية الرئيسية لهذا الجدل هي التذكير بأن القبول الأولي بفكرة
الحوار لا تنفصل عن التحوّل الكبير داخل هذه المنظومات الثقافية
المغلقة، إذ كان الأتباع فيها مستهلكين لقيم وأفكار ومبادىء
تستمد جبروتها وقدرتها في اختراق الوعي وعلى الحصانة السميكة
التي تطوّق كل منظومة قبالة خصمها الايديولوجي، لا على أساس
مجادلات عميقة وجادة.
ورغم أن الحوار هو الأكثر ضدية للأيديولوجيات الشمولية والمغلقة،
تماماً كما هو أكثر ضدية مع السلطة المستبدة الا أن السلطة كانت
أكفأ في إستثماره سياسياً ولتحقيق مآرب خاصة، فقد أثبتت الدولة
قدرة فائقة على اقتناص ما تحوّل داخل هذه المنظومات الثقافية،
واستطاعت إكتساب ثمرة نبتة لم تزرعها، وإستظلت بوارف شجرة لم
تسقها، وأخيراً حققت سبقاً منفرداً بتبني مبدأ الحوار وترسيمه.
يجب أن نسجّل كلمة للتاريخ حتى لا يأتي الغد بروايات مختلطة،
فهذه الاحتفالية بتدشينات السلطة للحوار الوطني قد تطمس بقصد أو
غيره حقيقة أن هذه الاحتفالية ليست أكثر من رد فعل على إنكسار
حلقات الجمود في أيديولوجيات جماعية خانقة. وهناك كثير من
البلاهة والسذاجة في اطلاق العنان للسلطة كيما تسوق مركبة الحوار
الى جهة مجهولة أحياناً أو الى جهة محددة بغرض إستهلاكه الى حد
إفراغ مضامين الحوار.
فتاريخ الحوار يبدأ من إرهاصاته الأولى، أي في جو مراجعات نقدية
للذات عاشتها هذه المنظومات الثقافية أسفرت عن تبدد سراب مكبّل
بالايديولوجيات التنزيهية، أي بمعنى آخر أن الحوار لم يضع حمله
على يد الدولة، بل تشكل جنين الحوار وتطوّر في مناخ تحوّل ثقافي
وفي بيئة بناها خصوم الأمس، ممن كانوا يزعمون بأن مفاتيح الحقيقة
غير قابلة للنسخ، وهم وحدهم العارفون بأهمية الحوار، ليس من
منظور سياسي بل وثقافي واجتماعي.
فوحدهم المناهضون لمبدأ الحوار، يدركون معنى الحوار حتى حين
يتحدثون عن نزاهة معتقدهم وبطلان معتقدات غيرهم، فبمقدار ما
تشجّع أيديولوجية التنزيه على تبرئة الذات وتحميل مخالفيها أوزار
العالم، فإن الفكر النقدي، على الضد منها، هو الأكثر فوراناً على
تبديد أوهام الوعي، حيث يصبح الحوار الحقيقة الأكثف حضوراً
ومواجهة فور الخروج من النفق.
لا شيء ينبغي أن يبعدنا عن تأكيد مركزية الحوار، ليس لأن الحوار
مصدر خلاص لضحايا التعبير عن الرأي والضمير، ولا لأنه وسيلة
راقية لتسوية مشكلات سياسية، بل لأن الحوار آلية حل شامل
لانغلاقات ثقافية واجتماعية وسياسية. هو بكلمات أخرى خيار ضروري
للمجتمع والدولة معاً، وأن حصر مهمة الحوار في بعد واحد أو
إخضاعه لشروط من أي نوع يعني تقويض المضمون الحضاري للحوار.
إن نزع الطابع السياسي عن الحوار، أو بالأصح تحرير الحوار من
القيود السياسية وحده الكفيل بوضع أسس مشروعة ومقبولة للحوار من
الجميع. تماماً كما أن تخليص الحوار من المشاريع الشخصية ضروري
من أجل تحقيق مفهوم الاندماج الاجتماعي الحقيقي، بالمعنى المضاد
للنموذج اليوناني الذي يجعل من الاندماج مجرد صناعة قطيع من
الخدم غير المالكين لإرادة التغيير أو غير الحائزين على حقوق
المواطنة.
الدخول في الحوار يمثل لحظة وعي جديدة للذات، وشكلاًَ آخر في
تحقيقها، وليست بأي حال لحظة طمس مباغتة أو إندياث للمتحاورين في
ذات أخرى، سواء كانت جماعة أو سلطة أو أيديولوجية. فالقبول
بالحوار يتطلب أكثر من تكيّف مع أوضاع وأدوار مستجدة، بل هو
إعتراف ضمني بالتعددية السائدة، وتجاوز الفردية الأمينة على حفظ
المعتقد الخاص، والطاردة للآخر. فالحوار يمثل مساحة لاستيعاب
تجربة العلاقة مع الآخر التي بها يجتمع وتحت سقف واحد أكثر من
ذات، لها مقومات البقاء، تتقاسم المصالح وتتوزع المهام، ولها
حقوق وعليها واجبات.
ولذلك نعثر، بعد عقود من القطيعة، على روح جديدة يشيعها مبدأ
الحوار المتفق عليه، حتى وإن لم يسلك الحوار بداية صحيحة، وكنا
نأمل أن لا يتم خنق الحوار بحصره في مجرد لقاء فكري أو مركز
ترعاه الدولة، بل يجب أن يتحول الحوار الى ممارسة يومية واسعة
النطاق تمتد أفقياً في مرافق المجتمع، وترتقي الى القوى
الاجتماعية والسياسية والنخب كيما تتم عملية نقل حقيقي للمجتمع
والسلطة. فإعادة تشكيل كل منهما تتم عن طريق تزويد المجتمع
بالقدرة على ضخ أفكاره وتطلعاته نحو الأعلى، وليس سوى الحوار
الدائم والجاد والعميق الأكفأ في تحقيق هذا الهدف.
في المجتمعات الحديثة التي تمارس تأثيراً تحويلياً في نفسها،
يمثل الحوار آلية للمواجهة المباشرة مع الذات رغبة في التوصل الى
حلول جذرية لمشكلات لا يمكن حلها من خلال تناول جرعات دوائية
ملطّّفة، بل يراد من الحوار تشريح داخلي للذات غير المكشوفة، كي
يوضع الاصبع على الجروح المتوزعة في باطن وظاهر الجسد، فمشكلات
المجتمع لا تتم مناقشتها بملامسات خارجية تحاول الهرب من
الاعتراف بحقيقة المشكلة. الحوار في جوهره يدفع ضرورة الى أن
تنحّى المبررات المعيقة للحل، تماماً كما يدفع للانتقال من
الإعتراف بالآخر كذات الى المشاركة في مجهوده لكي يتحرر من
القيود التي تحول دون بلوغه مرحلة العيش كذات مستقلة.
هناك مشكلات حقيقية في أوضاع هذا البلد، الاجتماعية والسياسية
والثقافية تتطلب مجهوداً جماعياً من أجل حلها، ولن يكون بمقدور
الدولة بنزوعها الانتقائي ورغبتها الجامحة في الحصول على حلول
لمشكلاتها دون إشراك باقي الطيف السياسي والفكري الذي لم ينل
سهمه الكامل في العملية الحوارية، لأن ذلك يحرم جزءا عظيماً من
المجتمع في الاضطلاع بمهمة (إعادة بناء الذات) العمومية، وهذا
الحرمان يخرجه من دائرة المشاركة في تحمّل مسئوليته ونيل حقه في
قضية تتصل بكل أجزاء هذا البلد وسكانه.
واذا ما أريد لمهمة الحوار أن تحقق عنصرها الوطني، فإن هناك
متطلبات حميمية أخرى غير قابلة للاسقاط سهواً أو عمداً، فإن
الوطنية تتطلب تطويراً لبنى السلطة والمجتمع، فهذه البنى في
وضعها الرتيب الراهن يجعلها غير قابلة على إستيعاب (مخرجات)
الحوار، فثمة إنسدادات في السلطة والمجتمع يتم فتحها من خلال
توسيع قاعدة المشاركة ودمج حقيقي للقوى الاجتماعية والسياسية في
السلطة، وشق قنوات تواصل بين فئات المجتمع عبر مناشط ثقافية
واجتماعية واسعة النطاق.
(التحرير)
|