يبدأ بهيبة الدولة..

إنهدام الحدود

 عبد الله الراشد

 إنفراط عقد الدولة يفضى تلقائياً الى تحطيم سلسلة طويلة من الحلقات الناظمة لواقع ظل معتصماً بحبل الدولة التي مثّلت أشد الحقائق سطوعاً وسطوة في حياة السكان المحليين. هذا العقد إختزن بداخله معانٍ مختلطة من الرهبة والاحترام، والخشية والتقدير، تحكي هذه المعاني، عن نفسها في هيئة إقتفاء حرفي لنصوص اللوائح والقوانين، وتطبيق  النظام العام، والالتزام بإملاءات العقود والاتفاقيات الشفهية والمكتوبة، وصيانة المصالح العامة، وتتجسد تلك المعاني حتى عند إشارات المرور، حيث تتعاضد مشاعر الرهبة والالتزام.

تترافق وسيرورة الدولة بناء شبكة تحالفات وتراتبيات إجتماعية ومنظومة قيم تمليها الدولة تحقيقاً لشروط إستمرارها وإستقرارها وأيضاً وحدتها، فهذا النظام المراتبي شديد التعقيد يشترك عدد كبير من الأفراد في إنوجاده وزخمه ومساندته المطلقة المادية والمعنوية، كونه يكفل منظومة مصالح جماعية لا يستقيم دفقها بدون وجود هذا النظام، ولا يستقيم الأخير بدون مواصلة الاسناد له من قبل كل المنتفعين منه.

وحين تتصدع بنى الدولة، تكون هيبتها أول جزء يسقط منها، وهذا السقوط يبدأ في إدراك السكان، قبل أن يسقط في الواقع الخارجي. ويأخذ سقوط هيبة الدولة تعبيرات متنوعة مثل: مخالفة القوانين، خرق المحرمات المصطّنعة، السخرية من رموز الدولة، المشاكسات العلنية مع النظام العام، وصولاً الى التعبيرات المدوّية ذات المدلولات السياسية والأمنية من قبيل المواجهات المسلّحة مع رجال الأمن، وتشكيل خلايا عفوية ومنظّمة موجّهة في الأصل لمقارعة الحكومة ونسف مؤسساتها بشكل غير مسبوق.

ما تلفت إليه عمليات المواجهة المسلّحة خلال العامين الماضيين، وبوجه خاص العمليات النوعية التي وقعت منذ منتصف هذا العام، أن ثمة ثقة مفرطة تتمتع بها الجماعات المسلّحة، وثمة إطمئناناً أيضاً للعواقب، فالمواجهات العسكرية تتم بصورة ندّية تنجم عن خسائر متبادلة قتلى من الدولة بقتلى من الجماعة المسلحة، وملاحقات أيضاً متبادلة وهكذا تربصّات مضادة، وحتى ما قبل تفجيرات الرياض الأخيرة سجّلت أجهزة الأمن التابعة لوزارة الداخلية فشلاً ذريعاً في مواجهة حوادث الأمن (إغتيالات في الجوف، وتفجيرات الرياض، والخبر، والقصيم، وعسير ومناطق أخرى، دع عنك الحوادث الجنائية المتقدمة والكثيفة..) ، حيث لم يتم القبض على عنصر واحد من المتورطين في حوادث العنف، فيما كان يتساقط عدد من رجال الأمن ضحايا خلال المداهمات.

الملاحظة الأخرى، أن إكتشاف خلية إرهابية لا يعني بأية حال طمر بؤر التوتر بصورة نهائية داخل حدود البلد، بل إن الاكتشاف لم يخلخل عزيمة هذه الجماعة على تنفيذ مخططها التفجيري، فبعد أقل من إسبوع على إكتشاف خلية في الرياض، دوّت سلسلة إنفجارات متزامنة بالرياض، كانت كفيلة بتقديم شهادة إثبات مدوّية على سقوط هيبة الدولة.

وحتى التصعيد الكثيف لحملات المداهمة والتفتيش عن أوكار ومخابىء الاسلحة والخلايا الارهابية الذي أعقب تفجيرات الرياض، لم يكن إجراءً رادعاً وكابحاً لنشاطات الجماعات المسلحة، بل تؤكد قصص المواجهة التي بثّ التلفزيون السعودي الرسمي جزءاً من فصولها مرة أخرى على أن أجهزة الأمن تواجه طرفاً عنيداً صلباً واثقاً وفي الحاصل النهائي ندّاً يضاهي في قوته قوة خصمه، فهو يتسلح بمهارات قتالية عالية، ويملك من أدوات المناورة ما يفوق أحياناً أدوات أجهزة الأمن وهذا ما اعترف به وزير الداخلية الأمير نايف شخصياً. النقطة المفقودة في تحليل أداء هذه الجماعات وسلوكها القتالي هي أن الثقة المفرطة التي تتمتع بها هذه الجماعات نابعة من رؤيتها للآخر ـ للدولة، ففي الوعي الباطني لدى هذه الجماعات أن الدولة سقطت كوجود إعتباري، وأن ما تسعى إليه هو الاجهاز عليه بصورة قاطعة ونهائية وتوفير ظروف نشأة النموذج البديل.

العنصر الآخر المفقود في التحليل هو أن هذه الجماعات تمثّل في بعض أجزائها أحد أشكال الاختراق داخل المؤسسة الأمنية، فعناصر هذه الجماعات إما أن يكونوا متحدرين من الأجهزة الأمنية والعسكرية أو وثيقي الصلة والقرابة بها، وهذا ما يجعل تهريب السلاح من مخازن الجيش وقوات الأمن، وهكذا إستباق النيل منها بإجراءات وقائية إحترازية أمراً سهلاً.

ما نود مقاربته في هذه المساحة هو ما يعكسه الشعور العام بتهافت سلسلة حقائق مشدودة بالدولة، وماذا يمكن أن يترجمه من سلوك وممارسة عملية. فالدولة، من الناحية النظرية، تظل في كل الأحوال قوة ردع لا تضاهى، بوصفها الجهاز الأكثر تكاملاً وتنظيماً وإدراكاً، وقدرة على كبح القوى الأخرى المضاهية له، وهذه القدرة تمنح الدولة هيمنة (بحسب مفهوم جرامشي) على المجال العام، وهذا ما يجعل غيرها (أفراداً وجماعات) خاضعاً لها. هذه الهيمنة تأخذ معنى إعتبارياً، يصدر عن إحساس عام بوجود قوة عليا تمسك بزمام الأمر، وليست بحاجة الى تجسيم حضورها عبر أشخاص، وآليات، وأجهزة. ولعل في تفريق المفكر الفلسطيني عزمي بشارة بين مفهومي الهيمنة والسيطرة ما يصلح لتفسير أداء الدولة، فالهيمنة هي اداة الحكم الديمقراطي الرئيسية، في حين، السيطرة هي اداة الحكم الديكتاتوري الرئيسية.

في الدول الديمقراطية، لا يحتاج السكان الى إختبار أو التأكد من وجود الدولة من خلال القصر الرئاسي والحضور الكثيف لشخص الزعيم في وسائل الإعلام، فالدولة هناك متمأسسة ولا يتحدد مصيرها بحياة الرئيس أو الملك أو موته، فالدولة تمارس هيمنتها على السكان عبر مؤسسات وحقائق إعتبارية كثيفة، يشعر الجميع بأنهم جزء منها وشركاء في صناعتها، ولذلك قبلوا بأن تكون لها السيادة عليهم. أما في الدول الديكتاتورية، فإن السكان لا يتعاملوا مع دولة مؤسساتية بل مع سلطة تمارس سيطرتها على السكان من خلال أجهزة أمنية ونشاطات كثيفة لتأكيد حضور السلطة أولاً ومن وراءها الدولة، أي من خلال طائفة إجراءات وأشخاص وأجهزة ليست ذات صلة بالسكان ولم تكن نابعة منهم وبالتالي فهي تمارس سيادتها بغير توافق ورضا مع السكان.

ربما تكون بلادنا من النماذج الفريدة التي يتحقق فيها مفهوم السيطرة بوضوح، فالدولة نشأت عبر سلسلة غارات عسكرية ذات طابع دموي على المناطق التي ألحقت بمركز إنطلاق الجيوش، ومن خلال عمليات قهر لإرادة السكان بإستعمال مفرط للآلة العسكرية، وفي نهاية المطاف تشكّلت دولة إتخذت شكل الحكم السلالي وفرضت إرادتها على الجماعات المنضوية بداخلها.

وحين تواجه هذه الدولة تحديات من داخلها فهي تدرك بأن المواجهة تتم على أساس إفراغ إرادة السيطرة وانتزاع مصادرها، وتدرك أيضاً بأن نجاح الخصم سيحيل ليس السلطة بل والدولة بكاملها الى مسرح عمليات لمجابهة مفتوحة. فالدولة لا تنفك بحال عن السلطة الناظمة لها، ولذلك يدرك الجميع بأن مصير الدولة متصل بمصير العائلة المالكة، إذ ليس هناك دولة وطنية عريقة أو أمة تاريخية ذات خصائص إثنية وثقافية مشتركة، ولم تبذل السلطة جهداً حقيقياً في بنائهما، فقد ارتبط قيام الدولة بأسرة أضفت عليها إسمها وطابعها الخاص. فالهيبة والوحدة والمصير تمثل مشتركات بين الدولة والعائلة المالكة، فإذا تصدّعت هيبة السلطة ممثلة في الاسرة المالكة يعني بالضرورة تصدّعاً في هيبة الدولة ذاتها، وهكذا الحال للوحدة والمصير.

اليوم وحيث تخوض العائلة المالكة معركة الأمن مع جماعات وأفراد ينشطون في رد فعل على أوضاع ساسية وإجتماعية وإقتصادية في جزء منها، وطلباً، في جزء آخر، لتحقيق أغراض أيديولوجية خاصة، تدرك بأن إرتجاجات عنيفة تضرب قواعد إستقرار الدولة ووحدتها وهيبتها. فالدولة لم تعد تمثل حقيقة مقدّسة في الادراك الشعبي، فقد باتت نظرة الجماعات الناشطة اليها محفوفة بغمامة داكنة من الشكوك في جدارة جهازها الإداري، وتالياً التخطيط من أجل ـ وربما العمل على ـ إحداث تغييرات جوهرية فيه إن لم يكن التفكير جديّاً في إزالته ومعه الدولة.

 ثمة حقيقة قاسية يفرضها منطق الأحداث وتمثل إحدى تعبيرات الاحتجاج السلوكي غير الفصيح على الدولة، تتمثل في الاستقبال الفاتر إن لم يكن مغلّفاً بالريبة في المبادرات الاصلاحية الصادرة عن كبار رموز الدولة، والسبب في ذلك أن تهديماً مستوراً لأسس الثقة في الدولة من قبل السكان المحليين قد تم بوتائر سريعة خلال العقدين الأخيرين، أي في وقت كانت الدولة فيه بمسيس الحاجة الى مبادرات إصلاحية فعّالة لمعالجة مشكلات إقتصادية وإجتماعية وسياسية حرجة.

مرحلة التحوّل الى الركود وصولاً الى الأزمة الاقتصادية وتالياً الإجتماعية والسياسية تطلّبت سلسلة مبادرات فعّالة من قبل الدولة من أجل التعاطي بطريقة صحيحة مع أوضاع جديدة تهيئ لانتقال الدولة الى العيش ضمن لحظة تاريخية منسجمة مع الواقع المحلي والدولي. هذه المبادرات لم تصدر، وفضّلت الطبقة الحاكمة تفويض الغيب مهمة إنقاذها من ورط راهنة.

وماذا كانت النتيجة؟ بات الكثير يفكر في حلول على طريقته، ويسلك سبل التغيير بأدواته الخاصة، ليس من بينها التفكير في الاستعانة بالدولة على أمر التغيير. بل حتى أولئك المحتفظين ببعض الأمل في أن تمسك الدولة بزمام مبادرة ما في لحظة تاريخية حاسمة من أجل الخروج بالدولة من النفق المسدود، باتوا يأسفون على توسّلهم بأسلوب العرائض.

إسقاط الدولة من قائمة الخيارات المنشودة في العمل الاصلاحي لا يعني شيئاً آخر غير سقوط الحقيقة الكبرى (أعني الدولة) في الادارك الشعبي العام، ولا يعني ذلك أيضاً سوى إنهدام الحدود أمام المجتمع حيال دولة لم يعد يرى فيها سوى عائقاً ضخماً لطموحاته المشروعة، وهذا ما يجعل كل أشياء الدولة خاضعة للابتذال والانتهاك، بدءا من التفريط في المصالح العامة، واختراق القوانين والالتفاف عليها، والتلاعب بالمال العام، وتزوير الوثائق والتنصل من الالتزامات والاتفاقيات المالية..والقائمة مفتوحة لتعبيرات متنوعة عن إنهدام الحدود، التي تلتقي عند سقوط الحقيقة الكبرى الممثلة في الدولة.

ثمة ما يدعو الى التأمل الدقيق في حقيقة ما يجري الآن، فليس اكتشاف خلايا سرية بين الفينة والأخرى سوى رفع الغطاء عن المجتمع الثاني الذي لا تميل وسائل الإعلام الرسمية الى الكشف عن هويته، ومفاعلاته الثقافية والعوامل الايديولوجية والمحفّزات الاقتصادية والاجتماعية التي تسود فيه وتدفعه للارتطام بقواعد الدولة. في هذا المجتمع الثاني، يحقق الأفراد فيه ذواتهم بعيداً عن الأضواء، ويتكاثرون أفقياً أملاًً في  الانقضاض على الدولة بصورة مباغتة، وتقويضها من الأسفل عبر سلسلة مجابهات مسلحة وإضطرابات متصلة من أجل الوصول بالدولة الى مرحلة الانهاك التام. 

ما يدعو للغرابة أن الدولة مازالت تميل الى استعمال معالجات تقليدية لمشكلات غير تقليدية، فمازالت المراهنة على اصطفافات شعبية داخلية من شرائح إجتماعية تآكلت بفعل العملية التحديثية، فمشائخ القبائل المراد إستعمالهم من أجل معاضدة الدولة في محنتها باعتبارهم أكثر إلتصاقاً بمنظومة تقليدية من الحقائق المتصلة بالدولة، يفقدون جزءا كبيراً من القدرة على التأثير في جماعات تخضع تحت تأثير من أيديولوجيات دينية وسياسية شديدة الجاذبية والاستقطاب، وبالتالي فهذه الجماعات تحمل تفسيراتها الخاصة في العلاقة غير المتكافئة بين زعماء القبائل ورموز السلطة، وبما تفرضه من طائفة تعبيرات يمليها نظام المجاملة السائد.

أخيراً يمكن القول بأن الدولة تواجه مجتمعاً جديداً مقطوع الصلة بمجتمع قديم كانت قد أسست إستقرارها وتماسكها الداخلي على إحتوائه وخضوعه لها، وهذه المواجهة تتجه الى إحداث إهتزازات عنيفة لمنظومة قيم وحقائق إرتبطت بالدولة منذ نشأتها وهاهي تتساقط على وقع ضربات إرهابية غير مسبوقة.