الأجندة السعودية في العراق

بين مشروعين ديني وسياسي

محمد الهويمل

 

 

 

في غمرة المجهودات الجبّارة لاعادة صياغة العراق سياسياً وإجتماعياً وثقافياً وأدبياً بعد عقود من الانزاف الشامل لرصيده الحضاري والتاريخي والانساني، يتطلع المجاورون له من أجل لعب دور ما في هذه المجهودات، بعضها بهدف إعانة العراق على النهوض ثانية والانطلاق نحو إستعادة مكانته التاريخية، وبعض آخر بهدف كبحه ودرء تأثيراته الثقافية والأدبية المشعّة، وبعض ثالث بهدف إستغلاله والسيطرة عليه وهو مثخن بجراحه العميقة.

ما بين هذه التطلعات المنقسمة، يشغل العراق في الوعي السعودي حيزاً فريداً لدوافع آنية ومستقبلية، فهو الجبهة التي قد تنفذ منها قوات التحالف لقلب المعادلة الاقليمية على رؤوس الأطراف الضالعة في تشكيلها، وهو ـ أي العراق مصدر الخطر القريب فيما لو أنهت القوات الأميركية مهمتها بنجاح، بحسب ما ظهر في تقارير إستراتيجية أميركية وثيقة الصلة بمراكز القرار والتي تحدثت عن أن السعودية ستكون الهدف الثاني بعد العراق وهو ما تنبّه له أيضاً عدد من القيادات السياسية والدينية في السعودية، فالأخيرة تمثل  هدفاً إستراتيجياً وضعه الصقور في الادارة الأميركية سيجري التعامل معه فيما لو جرت تسوية أمور العراق. أما الدوافع المستقبلية، فإن العراق كان تاريخياً مصدر قلق للسعودية ليس بسبب أطماع سياسية واستراتيجية، ولكن بفعل دوره الثقافي والحضاري والمعرفي، وهو دور يحمل معه إنعكاسات سياسية جد هامة. العراق حال إستكمال شروط نهضته القادمة يكون قد أرسى معادلة جديدة، لن تكون بحال مورد إرتياح بالنسبة للقيادة السعودية، وبالتالي فإن إبقاء العراق منهكاً، هزيلاً، فقيراً متأخراً سيبقي على معادلة إقليمية يتحقق فيها عنصر التفوق السعودي، أو على الأقل سيحقق إطمئناناً نسبياً لدى السعودية بدرجة أساسية، بعكس الكويت التي إستطاعت وبدرجة فريدة ونوعية أن تؤسس لعلاقة استراتيجية مع العراق سواء مع قيادات المعارضة أو حتى مع الأغلبية العظمى من الشعب العراقي، وقد نجحت حتى الآن في صناعة مناخ من الثقة قابل للتطوير والتثمير في بناء علاقة إستراتيجية واضحة بين البلدين.

السؤال الآن، ماذا تحمل الجعبة السعودية من مبادرات حول العراق، أو حتى آراء يمكن الاعتماد عليها في صياغة مبادرات سعودية حول العراق القادم؟

حتى الآن، لم تطفح على السطح مبادرات رسمية، بل هناك أكثر من دليل ومؤشر على وجود آراء ومبادرات أهلية وفي الغالب من التيار الديني السلفي.  فهناك رأي طموح لدى التيار الديني السلفي يجنح الى الفاعلية السياسية بخلاف النزوع المحافظ والميول الهادئة أو الخفية التي تنطوي عليها سريرة القيادة السعودية. هذا الرأي ينزع الى النفوذ داخل العراق في هذه المرحلة من أجل رسم شبكة تحالفات ومصالح ثابتة وإستراتيجية في هذا البلد تؤمّن طريقاً معبّداً لنفوذ سعودي مستقبلي سياسي وديني. ورغم أن هذا الرأي يصطدم بالترتيبات السياسية والاستراتيجية الأميركية، وقد يفتح معركة جانبية مع القيادة السعودية التي كانت قد أُبلِغت أكثر من مرة بعدم الاقتراب من التراب العراقي، الا أن ثمة أطرافاً نافذة في العائلة المالكة تميل الى تشجيع بعض الجماعات التي تنعت نفسها بالجهادية للانخراط في أعمال مسلحة من أجل إبقاء الاوضاع مضطربة في العراق ومشاغلة القوات الأميركية للحيلولة دون تسوية سريعة للملف العراقي، وبالتالي الانتقال الى مواقع أخرى قد تكون السعودية إحداها إن لم يكن في مقدمتها.

في إستباق لكل المبادرات الأخرى، كانت المبادرة العنفية أسرع في وصولها ودخولها الى العراق، فقد حسمت محطات التلفزة الفضائية العربية  التكهنات حول وجود جماعات سعودية سلفية تنشط عسكرياً فضلاً عن نشاطها الدعوي التقليدي، بين فئات من الشعب العراقي. ففي المقابلة التي أجرتها مع (الجماعة السلفية المجاهدة في العراق) ، بثّت محطة (العربية) حواراً مع قادة الجماعة، وهم من مواطني السعودية كما تكشف لهجتهم بوضوح، وقد أعلنوا فيه عن تشكيل الجماعة وتوعّدوا بشن حملات عسكرية ضد القوات الأميركية في العراق.

البيان الصادر في السادس والعشرين من يوليو الماضي عن قيادة كتائب مجاهدي الجماعة تضمن تقريراً تفصيلياً عن عمليات الجماعة داخل العراق، والتي شملت مديرية شرطة، وقتل جنود أميركيين، ونصب كمائن لدوريات أميركية وتدميرها. كما تضمن البيان رسالة تطمين وتأكيد بما نصه:(وإن إخوانكم في الجماعة السلفية المجاهدة ليؤكدون لشعبهم العراقي المسلم ولكل أمتهم الاسلامية الكبيرة إنهم بوعد الله واثقين (=واثقون)، لا يخافون من وعد بوش وجنده وقواته..وإننا بإذن الله مستمرون في جهاد أمريكا الصليب والتلمود أمريكا الكفر والطغيان..).

وقد أهدى أمير الجماعة، الذي يطلق على نفسه إسم أبو دجانة العراقي العمليات العسكرية الى (الشيخ الكبير عمر عبد الرحمن والشيوخ الشوامخ علي الخضير والشيخ ناصر الفهد والشيخ أبو محمد المقدسي والى شيخينا الكبار العظام عبد الله عزام والشيخ حمود العقله..والى كل الاكابر من العلماء الذين يدفعون ثمن وقوفهم في زمن القعود وثمن انتمائهم في زمن التخلي والى أبطال فلسطين المجاهدين والى أرض الامارة الاسلامية العائدة باذن الله عما قريب دولة وامارة اسلامية).

في سياق مواز، يتبنى إتجاه آخر إستراتيجية نفوذ واسعة النطاق، إستناداً على قراءة داخلية للخارطة الاجتماعية والاقتصادية والاثنية والدينية في العراق. مثال ذلك ما جاء في تقرير ميداني لعضو مؤسسة الحرمين الخيرية الدكتور سعود بن حسن مختار بعنوان (العراق آمال..الطريق الى القدس) وهو عبارة عن ملاحظات تفصيلية  لزيارتين الى العراق قام بها في الأيام الأخيرة للحرب في العراق أي في نهاية شهر محرم وربيع الثاني من هذا العام. فقد طاف الدكتور مختار خلال زيارتيه أرجاء العراق، واختلط بفئات إجتماعية متنوعة وتجوّل في الاسواق والشوارع والطرق والمنتديات العامة والأندية والمراكز الثقافة وتحاور مع رجال الدين والعلماء وطلاب الجامعات بل حقق إختراقاً نفسياً فريداً بجلوسه مع بعض الشيوعيين!! حسب ما يفيد في تقريره المذكورة.

التقرير يشبه الى حد كبير المسح الميداني، الذي يؤسس لقراءة تشريحية للشعب العراقي، رغم ما يلفت إليه التقرير بوضوح وهو النزوع الايديولوجي الطاغي لدى معد التقرير، يظهر ذلك أولاً في القراءة المنحازة لتاريخ العراق ورأسماله الرمزي. فقد رأى صاحب التقرير في حضور التاريخ التليد في العراق منبعثاً من مرقد معروف الكرخي، ومقبرة حرب والامام أبي حنيفة، وأحمد بن حنبل وسفيان والحمّادان وابن مبارك، فيما توارت الكاظمية بشخوصها الكثيف عن ناظريه، ما يلقي ظلالاً من الشك على دعوى طوفانه في أنحاء العراق.

ثمة إلفاتة أخرى على المنزع الايديولوجي لصاحب التقرير هي ما تشي باستحواذ شعور مفرط بالتفوّق والتميّز، حيال العراق، المكتنز حضارياً ومعرفياً. فصاحب التقرير كان، بحسب فحوى التقرير، يدل العراقي، الخبير بأرضه وناسه والماسك على الجمر منذ قرون منذ أن دشّن الاستبداد قاعدة له في هذا البلد منذ بني أمية وحتى ديكتاتور العصر، على مواعيد الثورات ومواسم الحصاد الثوري، ومواقيت تفجّر البركان الثوري. يقال ذلك لمركز الانتفاضات الشعبية منذ كربلاء ومروراً بسلسلة ممتدة من الثورات وصولاً الى ثورة العشرين وشعبان وصفر، ويقال الى عراق علي والحسين، وقادة الثورة المتناسلين من بعدهما.

الباحث كما يكشف التقرير عنه يقصر مفهوم الثورة على القوات الأميركية، مسدلاً ستاراً سميكاً على الشرخ النفسي العظيم الذي أحدثته تجربة الحكم الديكتاتوري، والتي خلقت إوضاعاً نفسية متناقضة تميل الى التوسل بالشيطان من أجل الخلاص من جزّار العراق. مفهوم الثورة لدى صاحب التقرير يبطن، كما يشير بوضوح في تقريره، إتهاماً للغالبية المفجوعة من الشعب العراقي، بالعمالة للأجنبي..إتهام من شأنه توفير مبررات العمل الدؤوب من أجل اختراق مجاله الحيوي، والسيطرة على مصادر قوته.

ينزع صاحب التقرير الى إعتبار بداية التاريخ من لحظة  تحوّل العراق الى مرحلة إستعادة الوعي. فقد أسقط الدكتور مختار من الذاكرة جزءا ثقيلاً على الضمير الديني والانساني، أي يوم كان معد التقرير جزءا من القطيع الخانع المتفرّج، ولأن الجزء المبتور من الذاكرة مصبوغ بالدم القاني الذي كان ينزف من أجساد الأطفال والنساء والشيوخ داخل زنازانات الطاغية، وعلى يد فرق الاعدام..أي في يوم كانت حكومات الخليج تغدق المال والسلاح على هذا الطاغية كي يملأ العراق مقابر جماعية تضم أطفالاً لم يستكملوا بناء بيوتهم الترابية ولم ينهوا لعبة البلور المدّور (التيلة)، وتضم نساءً في عمر الورد قد دفنت بفساتين الزفاف، وشيوخاً يخرّ السقف لخشوعهم ووقار شيبتهم. هذا العراق الذي يكاد من فرط حزنه ينطق دماً على أيام مضت كانت فيها أموال الخليج تبني رمزاً للديكتاتورية العالمية في بلاد الرافدين، فيما كان ثوّار العراق يجوبون العالم بحثاً عن إذن تسمع وعيناً ترى وقلباً يعي ما يدور بداخل السجن الكبير.

هذه الالفاتات تهيء تقديماً لقراءة محرّضة على عراق جاهز للابتزاز، عراق مازال مثلوماً مبعثراً، وعراق يكثر حوله الاخوة اللّدودون. وكجزء من القراءة التحريضية والتحفيزية في آن، تضمن التقرير إشادة ضمنية بالانجاز العلمي للنظام البائد وحمّل الحصار وحده مسئولية تردي الاوضاع الصحية والمعيشية والصناعية والزراعية. تحدث معد التقرير كثيراً عن مآسي العراق الراهنة في نقص الغذاء والدواء والماء والكهرباء، بيد أن ثمة مفاجأة كان يخبؤها التقرير وهي أن سرد قائمة المآسي تستهدف حشد طاقات الجمعيات الخيرية ذات الطابع التبشيري كيما تكرّس جهوداً جبّارة من أجل العراق، وإدخاله ضمن أجندتها الدعوية، فالتبشير الديني لدى هذه الجمعيات تستدعي سيرة المنظمات المسيحية في أفريقيا، فهي ترى بأن رسالتها الدينية تمر عبر علب حليب الأطفال وإيصال الخبز والماء وتحسين الظروف المعيشية للشعب العراقي.

يشجّع معد التقرير كثيراً على النفوذ الاقتصادي السعودي في العراق عبر الدخول في سوق العقار وسوق اللحوم والتموين الغذائي، بل ويدعو الى شراء المطابع، كيما تكون إنطلاقة لإعلام عربي أو أجنبي كيما حسب قوله (ندعو من خلاله أعداءنا ممن يمكن أن يجعل الله بيننا وبينهم مودة إذا دخلوا في الإسلام!) ويشير في ذلك الى جنود القوات الأميركية في العراق. كما يدعو أيضاً الى إحتضان أساتذة الجامعات في أقسام الجينات والهندسة الوراثية (والطاقة النووية) في مراكز بحثية وتجارية، وإستغلال الغاز والانهار.

بكلمة أخرى، أن صاحب التقرير يرى أن تركة العراق باتت عرضة للسيطرة، وأن هذا العراق بكل مرافقه وخيراته وثروته يمثل فرصة ذهبية من أجل السيطرة عليه قبل أن تلتئم جراحه ويستأسد مجدداً. يدعو الدكتور مختار الى تأسيس حضور كثيف ومفصلي داخل العراق كيما يلعب دوراً جوهرياً في توجيه السياسات العراقية المستقبلية، وإرساء معادلة إقتصادية وإجتماعية تعوّض الاختلالات الاثنية الدينية. فصاحب التقرير يتبنى فكرة التدخل المباشر في الشؤون العراقية القادمة، وهو أمر مازالت ترفضه القيادة السعودية، لأنه مكلّف وأثمانه السياسية والأمنية باهظة، فضلاً من قناعة الحكومة بأن العراق لن يكون لقمة سائغة في يوم ما، وأنه سيتحول الى عش زنابير إذا ما تعرض لهجوم من خارجه.

على أية حال، فإن صاحب التقرير وبدلاً من تحفيز الحكومة السعودية الى الوقوف بجانب الشعب العراقي من أجل النهوض بأرضه وحضارته واستعادة موقعه الريادي كي يحفظ جميل صنع من أعانوه وكيما يكون خير سند وعضيد لقضايا الأمة، فضّل استثارة نزعات التسلط والهيمنة لدى الحكومة والتيار الديني السلفي مستغلاً جروح العراق والانهاك الذي أصابه بفعل الاستبداد والحصار.

ثمة رسالة دينية يحملها الدكتور مختار الى العلماء والدعاة في المملكة، فمضامين التقرير تختزن مركبات تحريضية للجهاز الدعوي. فقد وجّه معدُّ التقرير نداء ًمشحوناً بالأسى والعتب الى العلماء والدعاة، الذين يخاطبهم بقوله: (سادتي، مشائخي الكرام، لم أستطع وإلى ساعتي هذه أن أتخيل أن بلاد الحرمين التي خرج منها العلماء والأبطال والدعاة والمحسنون وجابوا أصقاع روسيا وسهول استراليا، وولجوا إلى ادغال آسيا وأفريقيا واقاموا المراكز العالمية في أوروبا وإمريكا ، لا أتخيل أنه وإلى ساعتي هذه لم يدخل العراق داعيةٌ او مثقف ـ فضلاً عن غيره ـ !! إلا شخصٌ واحد هو كاتب هذه السطور..). فصاحب التقرير ينفصل بصورة شبه كلية عن الوضع السياسي المربك والمحيط بالمملكة، التي مازالت سحب الاتهامات تتراكم حولها بكثافة بشأن دورها في تمويل ودعم المنظمات الإرهابية، بما في ذلك مؤسسة الحرمين التي ينتمي إليها معد التقرير. وكما يبدو فإن صاحب التقرير شأنها في ذلك شأن كثير من الناشطين في التيار السلفي  بشقيه الدعوي والجهادي يمارس مهمته بعيداً عن هموم الحكومة وورطها على المستوى الدولي، حيث باتت تتلفت يميناً وشمالاً بسبب طوق الرقابة الدولية المفروضة عليها لدرجة أن سفاراتها في أرجاء كثيرة من العالم تحت الرقابة.

من جهة ثانية، يتحدث صاحب التقرير عن العراق الحالي وكأنه أرضٌ مشاعة أو قاحلة لا وديان ولا جداول ولا أنهار فيها، تنتظر الغيث من سحابة قادمة من الجزيرة العربية. فهذا العراق، كما يوحي التقرير، الحاضن للحضارات والثقافات ومعدن العلم والأدب يسأل الناس الحافاً ويستجدي معرفته وأدبه ودينه من خارجه، بل ومن نقيضه الأيديولوجي، نجد. وكما يبدو من محتويات التقرير، فإن العراق يقدّم مختزلاً في شريحة سكانية ودينية معينة، وهي التي قال معد التقرير عن رجالها (أن بعضهم أرسل رسلاً إلى بعض العلماء العاملين الربانيين هنا ـ في السعودية ـ)، ولا أظن أن الرجل يعني قوماً غيرهم حين كتب ما نصه (لقد رأيت كبار هؤلاء وهم يهتمون بكلامي ويخرجون الأوراق ليسجلوا نقاطاً وأفكاراً يستفيدون بها..). ويعلّق قائلاً (كنت عندها اسأل كيف لو كان المتكلم عددٌ أكبر من الدعاة ..؟ بل كيف لو كان المتكلم مندوباً من هيئة كبار العلماء معه دعمٌ مادي ومعنوي وفقه يستقي منه أم أن طموحات علمائنا وفقهم الله تقصُر دون ذلك ؟! بل كيف لو كان المتحدث أحد الربانيين الذين قدموا من أنفسهم وحياتهم وجاهدوا لتبليغ دين الله من أمثال العلامة ناصر العمر ، والعلامة سعيد آل زعير ، والعلامة سفر الحوالي ، والعلامة سلمان العودة وغيرهم من الفضلاء والكرماء ؟!). هذه النماذج التي يطمح معد التقرير أن يهديها للعراق بكل مخزونه الحضاري والمعرفي، وكان جديراً به أن يختبر مفعول هذه النماذج في مسقط رأسها قبل أن يجرّبها في مناطق أخرى.

يبث صاحب التقرير مناشدة عاجلة مخاطباً (سادتي العلماء اتقوا الله في العراق وارسلوا " جيوش " الدعم المادي والعلمي) لأن ثمة مخاوف حسب معد التقرير تتطلب ذلك. أولى هذه المخاوف هو (استغلال الأعداء لتفريق الصف ـ الجاهز نسبياً ـ الآن بسبب القهر والغيظ والفقر ... إلخ) دون أن يشير الى القوى الضالعة في تفريق الصف. ثاني المخاوف هو (الطائفية المقيته) يعقب ذلك نصاً مثيراً بقوله إنني (والله يشهد سمعت الكثير من قذارتها وخستها! لأنني رأيت بعض هذه الطوائف في جهة العشائر لديهم قابلية كبيرة للحوار واتباع الحق. لكن أين المحاور؟ أو أين السائل عنهم؟). وهنا إشارة واضحة الى العشائر الشيعية، حيث يفترض صاحب التقرير مجرد وجود قابلية للحوار لدى هذه العشائر يعني إستعداداً أولياً لتغيير المعتقد بانتظار القادم على صهوة الدعوة من جهة الجنوب الغربي.

بصورة إجمالية، فإن هذا التقرير يشكّل إدانة ضمنية للحكومة السعودية، التي مازالت تبذل جهوداً جبّارة من أجل الدفاع عن نفسها ومكافحة الإرهاب وتطهير الجمعيات الخيرية من نشاطات تبشيرية تحريضية، يدعو معد التقرير، العضو في مؤسسة الحرمين الخيرية، والتي تمت إقالة عدد من قادتها وإقفال بعض فروعها في الداخل والخارج، هذه المؤسسة كي تلعب دوراً مزدوجاً إنسانياً وأيديولوجياً. فقد ألقى باللائمة على مديرها بسبب تلكؤه في القيام بدور دعوي مما أدى الى تجميد بعض أموالها ومكاتبها، كما دعا جمعيات خيرية أخرى رسمية بالتحرك للانخراط في مشروع دعوي داخل العراق قبل أن يطال أموالها قرار تجميد من الحكومة. يجب الاشارة هنا الى أن قائمة المساعدات التي تقدمها الجمعيات الخيرية السعودية تتضمن بصورة رئيسية كتباً ومنشورات دينية، ولعل ذلك يفسر جزئياً إتهامها بالتحريض على الارهاب. ولعل معد التقرير قد أشار بطريقة غير مباشرة الى شيء من ذلك حين قال (إننا معاشر أهل هذه البلاد نحمل عقيدة تغيظ العالم كله، ويخافها العالم كله لصفاءها ونقاءها وبساطتها وقدرتها على الإنتشار فلا نحن نشرناها ولا نحن وظفنا الشباب لنشرها من خلال مؤسسات عالمية فعالة ذات تصورات استراتيجية للدعوة والتغيير والتأثير؛ ولا نحن وظفنا ابناء هذه الدول لنشرها من خلال أموالنا..).

مما سبق يمكن القول بأن ثمة إتفاقاً صلباً داخل التيار الديني السلفي بجناحيه المتشدد والمعتدل يميل بشدة الى تأسيس حضور كثيف له داخل العراق. فبينما يميل التيار السلفي الجهادي الى السلوك القتالي ضد القوات الأميركية وهو سلوك قابل للاستغلال في معارك طائفية مستقبلية، يميل التيار السلفي الدعوي الى تشكيل شبكة واسعة من المصالح والمناشط الاقتصادية والاعلامية والثقافية والدعوية تأسيساً لإختراق النسيج الاجتماعي والديني في العراق.

الدور السعودي في العراق

إبتداءً يمكن القول بأن العلاقة السعودية ـ العراقية لم تكن على ما يرام في أي مقطع تاريخي، فقد ظلت هذه العلاقة مترددة بين التوتر، والقطيعة، والشك، وفي أحس الأحوال الفتور المشوب بالحذر. وحتى في الفترة الذهبية التي مرت بها هذه العلاقة، والواقعة في الفترة الممتدة من 1980 ـ 1988، أي خلال سنوات الحرب العراقية الايرانية، فإن ثمة إحساساً متبادلاً بين القيادتين السعودية والعراقية بأن متانة  العلاقة تعود الى الاحساس بالخطر والرغبة في تحقيق مصالح مشتركة، فما لبثت أن دخلت العلاقة مرحلة حرجة بعد توقف الحرب العراقية الايرانية.

تاريخياً، تسيطر على المخيال الشعبي العراقي قصة الجيوش الوهابية الغازية التي إجتاحت كربلاء في 1216هـ في مسعى لتحقيق إملاءات المعتقد الديني السلفي، وقد سفكت خلال الحملة الوهابية تلك دماء عدة آلاف بطريقة مثيرة. 

بيد أن من المصادفات التاريخية المثيرة للدهشة، أن يتحول العراق الى مصهر شيعي بمفعول شديد التأثير، فقد قدّر للقبائل الراحلة من جنوب الجزيرة العربية ومن الاحساء والقطيف والبحرين الى الكوفة والبصرة أن تشكّل نواة المجتمع الشيعي في العراق والمؤسس على إنقسام الموقف السياسي إبان عهد الخليفة عثمان، حيث عبّرت تلك القبائل عن وقوفها الحازم والصارم الى جانب علي وأعلنت بأنها ستكون (سلماً لمن والاه وحرباً لمن عاداه)، وهكذا سرى التشيع في امتدادات تلك القبائل ووصل الى مواطنها الأصلية.

ويقدّر لهذا السياق التاريخي في التحوّل أن يعيد تركيب نفسه في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، حين فرّت  قبائل عربية عريقة من شمال ووسط الجزيرة العربية الى العراق هرباً من غارات الجيوش الوهابية. في العراق خضعت هذه القبائل لجملة تحوّلات إجتماعية جوهرية، طالت نمط عيشها وطرق كسبها، فقد ارتبطت هذه القبائل بالفلاحة والزراعة بعد أن كانت منشغلة في رعي الجمال والغنم، وهناك بدأت تعيد تشكيل نفسها ضمن التراتبية الاجتماعية العراقية وتدريجياً اختلطت بنسيجه العام، وإندمجت ضمن البنى الثقافية والدينية رغم إحتفاظها على أشكال قبلية ولكن مرتخية الى حد كبير. هذه القبائل كما ينقل عثمان بن سند في كتابه (عنوان المجد في تاريخ البصرة ونجد) دخلت في التشيع وأصبحت إحتياطياً إستراتيجياً للمراكز الدينية الشيعية في كربلاء والنجف، فقد ناضلت تلك القبائل المتشيعة في معارك التحرير ضد الاستعمار إستجابة لفتوى المرجعية الشيعية في النجف الأشرف، وضربت سوراً واقياً حولها حيال التهديدات التي تعرضت لها من قبل القوى الاستعمارية، قبل وبعد ثورة العشرين.

فقد قدّر للعراق على الدوام بإستثناء الفترة الحالكة التي خرج فيها العراق من التاريخ، أن يكون حاضنة للفائض البشري، وللاصوات المكبوتة والطاقات المتبرعمة في الجزيرة العربية وبخاصة في المنطقة الشرقية، فقد ظلت النجف الاشرف مهوى علماء الدين وطلاب الفقه من المنطقة الشرقية، فيما كانت بغداد مهوى أفئدة الأحرار والمتطلعين لغد الحرية في بلاد الحرمين، وكان العراق بفورته غير المنقطعة وفضائه الرحب مركز الجاذبية الثقافية والأدبية لأبناء الجزيرة العربية.

لهذه المزايا الفريدة التي يتمتع بها العراق، لم تكن رابطته الرسمية وثيقة بنفس الدرجة التي تربطه بشعب الجزيرة العربية، فقد ظل العراق الرسمي خارج الهوى السعودي والعكس صحيح أيضاً. والسعودية إذا ما أرادت معاكسة التاريخ فيجب أن تقوم بمسح ذاكرة متوترة عن وفي العراق، ذاكرة مثقلة بالدم والتشدد والكراهية والانحيازية. وحتى الآن لم تقدّم المملكة ما يفيد بمسعى جاد نحو بلورة موقف مختلف من العراق، وبخاصة مع قوى المعارضة المشاركة حالياً في صياغة نظام الحكم في العراق، ومع الشعب العراقي، بل وحتى مع اللاجئين العراقيين في رفحا والأرطاوية، فاللاجئون يعودون الى العراق محمّلين بتجربة مريرة غابت عنها أصول الضيافة العربية وقواعد إغاثة الملهوف.

الحكومة السعودية فشلت حتى الآن في مد جسور التعاون والود مع قيادات المعارضة العراقية قبل وبعد إنهيار النظام البائد، رغم إدراكها التام بأن مستقبل العراق يكتب اليوم بأيدي هذه القيادات، التي فقدت السعودية الصلة بها منذ سنوات طويلة، بل إن انقطاع الصلة بين السلطات السعودية وقوى المعارضة العراقية لم يتم بصورة إعتيادية فقد ترك معه منذاك جروحاً قد لا تندمل بسهولة. فقد نظرت بعض قيادات مجلس الحكم العراقي الحالي الى السعودية بوصفها إحدى القوى المناهضة لخلاص الشعب العراقي من ديكتاتوره الدموي، وقد ظهر ذلك أولاً خلال الحرب العراقية الإيرانية والاصطفاف المطلق مع دكتاتور العراق، وتمويل آلته العسكرية والارهابية من عوائد النفط وبصورة سخيّة، وحتى خلال الغزو العراقي للكويت، ودخول السعودية على خط المعارضة العراقية وإستضافة الرياض لعدد من اللقاءات والمؤتمرات السرية والعلنية وتخصيص بعض الأموال لدعم أطراف في المعارضة العراقية، لم تسفر سوى عن نتائج مكّدرة، فقد تبين لاحقاً أن ثمة معايير خاصة لدى القيادة السعودية في تعاملها مع هذه القوى، وقد أفضت في بعض الأحيان الى إحداث شروخ كبيرة داخل بنية المعارضة العراقية. ولأن وقوف السعودية مع الأخيرة جاء في ظل ظروف سياسية إستثنائية مرتبطة بإحتلال العراق للكويت، فإن إنسحاباً سعودياً سريعاً تم بفعل، أولاً وقبل كل شيء، التناقض مع أهداف المعارضة العراقية، فللسعودية أغراضها الخاصة في العراق، وقد يكون قيام نظام سياسي في العراق نابعاً من  إرادة شعبه يمثل هدفاً مناقضاً للقيادة السعودية، إضافة الى أغراض أخرى من قبيل نصائح جهات عربية بعدم التورط في المسألة العراقية، وهكذا الزوال التدريجي لاحتقانات الثاني من آب/أغسطس 1990، والتي مهدّت لمصالحة عربية وسعودية مع النظام البائد.

وفي كل الأحوال، فقد سجّلت السعودية موقفاً جريئاً في قمة بيروت أبريل 2002 من خلال العناق السياسي الذي حصل بين ولي العهد ونائب الرئيس العراقي عزت إبراهيم الدوري كترميز لتحريك عربة العلاقات العربية العراقية، ثم بلوغ العلاقة درجة متقدمة تمثّلت في الاصطفاف غير المبرر الى جانب طاغية العراق عبر فصول سقوطه.

وكما يبدو فإن السعودية لم تشأ بحال رؤية هذا اليوم وهي تقف أمام العراق ثانية، في مواجهة مع حاضره وغده، بما يتطلبه ضرورة من إزالة تامة وشاملة لتاريخ غير ودي مع هذا الجار قبل أن يستأنف نهضته ويعيد إشعال روحه المنطفئة حالياً. 

اليوم، والرسالة الدينية التي تحملها الجماعة الدينية السلفية تسبق الرسالة السياسية يتأسس طالع سوء آخر للعلاقة المستقبلية بين العراق والسعودية، تحيي تاريخاً شديد الاضطراب بين البلدين، منذ حملة كربلاء وحتى سقوط صنم العراق. فهكذا تبدو الأمور الآن..تيار ديني يملك مشروع مبادرة، يطمح الى تغيير الواقع في العراق، واختراق مفاصله الحيوية، وحكومة تفقد مبادرة، رؤية، مشروع بانتظار تغيّر الواقع في العراق لصالحهم أو على الضد من إرادة خصومهم. في ظل إختلالات القوى كما تعكسها صراع الارادات داخل مؤسسة الحكم وحليفه الديني تبدو صورة العلاقة مع العراق القادم شديدة الاضطراب وقد تنذر بتوترات عنيفة مستقبلية، وبخاصة حين تبدأ المبادرة الدينية السعودية في شكليها الجهادي والدعوي في تفعيل مضمونها على الأرض، وهي لحظة المواجهة مع المبادرات العراقية المحلية التي بالتأكيد تقف على طرف نقيض مع المشروع الأيديولوجي والاهداف الاستراتيجية للتيار الديني السلفي.

الحكومة السعودية ستكون في كل الأحوال مسؤولة عن عواقب المبادرات التي تنطلق من أراضيها أو بإسمها، سواء جاءت المبادرة الدينية خارج مجالها الحيوي، أو كانت بتأثير من قوة دفع داخلية، أي بكلمات أخرى بتشجيع من جناح داخل العائلة المالكة، يرمق العراق بعين المتربص بمستقبله المحمّل بإشارات الذعر.