الإصلاح في السعودية

حياء الاعتراف وممانعة المواجهة

 وائل السادة

 تستيقظ دعاوى الإصلاح السياسي في السعودية حسب المرتفع الجوي القادم من الخارج غربيا كان او امريكيا، في حين يغط المسؤولون في المملكة في سبات عميق بمجرد انقشاع ذلك المنخفض، رغم أن الوضع الداخلي يموج بالمؤثرات المتغيرة والحادّة. تدهور الأمن الاجتماعي، وهلع التطرف والإرهاب، وتوقف عجلة التنمية، وتخلخل الوحدة الوطنية، ومشكلات الفقر والبطالة، لم تفض الى تحولات في قناعات الحكومة للإسراع نحو تحديث بنية نظام الدولة، بالرغم من اتساع نطاق الأزمات واستفحال خطرها. هذا كله لم يشكل كابوسا مزعجا بصورة مباشرة للنظام الى حد الشعور بالتهديد الحقيقي، فما زالت آلات الرقابة والعقاب تعمل بحدودها المفترضة في كبح جماح الحركة المطلبية في داخل الشارع السعودي.

قد تكون الضغوط الداخلية غير مؤثرة بالقدر الكافي من وجهة نظر الأسرة الحاكمة لتغيير بديهيات نمط العمل السياسي السلطوي لديها.. غير ان هذه الصورة تفقد بريقها وتحد من فاعليتها إزاء ضغوطات الخارج، فما زالت المشاريع الأمريكية الغربية تدفع بشدة لتبني إصلاحات ديمقراطية بتكوين مجالس نيابية منتخبة وفي الارتقاء في مسائل حقوق الإنسان، وتصحيح المسارات الشائكة للخطاب الديني في السعودية.

وكما تشير خريطة الأحداث على الساحة، فان الضغوطات الخارجية خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر هي الأوفر حظا والاكثر وقعا على قلب صناع القرار في المملكة، فلم يخطر على بال مبرمجو العلاقات السعودية الأمريكية خلال العقود السابقة ان تتحول المملكة بوصفها الحليفة التي يركن إليها في المنطقة الى عدو مستهدف من قبل البيت الأبيض. هذا ما جعل الخارجية السعودية في حالة ذهول وصدمة، تركتهم يتخبطون في قراراتهم و خططهم في التعامل مع الأزمة المتفاقمة مع الولايات المتحدة، رغم محاولات الرياض المستميتة في كسب ودها. فالهدف لم يعد الدولة السعودية فقط بل أمراء الأسرة الحاكمة، مما جعل قابلية الاستجابة الملكية مرتفعة الى حد تقديم أقصى التنازلات الى ان تنجلي هذه السحابة. لطالما كان عامل الزمن ونسيان الماضي بأزماته واستحقاقاته رهان الأسرة في تعطيل عوامل التغيير، لكن هذه المرة مختلفة عن سابقاتها رغم محاولات تطويع الزمن وتقطيره.

ويأتي تقرير الكونجرس الأمريكي حول أحداث الحادي عشر من سبتمبر بمثابة صدمة قوية للحكومة السعودية، لاسيما الثمان والعشرين الصفحة التي لم تنشر والخاصة بتمويل الحركات (الوهابية) التي تهدد الأمن القومي الأمريكي بملايين الدولارات، قيل أن الأمير تركي الفيصل رئيس الاستخبارات السعودية السابق والسفير السعودي في لندن قدماها بصورة مباشرة وغير مباشرة لأعضاء في شبكة القاعدة.

أفرزت هجمات الحادي عشر من سبتمبر، دعاوى قضائية غير رسمية رفعها أهالي الضحايا ضد الأمير سلطان وزير الدفاع مطالبة إياه بدفع مبالغ مالية تصل الى 15 ترليون دولار، وقد أشارت تحقيقات سابقة لهيئة التحقيقات الفدارلية الى تورط الأمير محمد الفيصل والأمير نايف وزير الداخلية في القضية نفسها.

اثر هذا السيل الجارف من التهديدات المباشرة وغير المعهودة للحكومة السعودية، تبحث الأسرة عن متنفس لتخفيف حدة المأزق مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبحت تطالب بالمصارحة والشفافية مع واشنطن كخيار موضوعي لحلحة المشاكل العالقة مع البيت الأبيض، فقد طلب وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل نشر الصفحات البيضاء المقطوعة من تقرير الكونجرس، والبدء بمرحلة المكاشفة لتجاوز المسائل الشائكة بتفهم واقتدار، الأمر الذي رفضه الرئيس الأمريكي بحجة مساس النشر بالأمن القومي الأمريكي، مما أثار غضب وحفيظة الحكومة السعودية، وزاد من حجم خطر التحديات الداخلية المتفاقمة وكما هي العادة في مثل هذه الظروف الحديث عن الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية القابعة في جارور الأسرة الحاكمة، كأداة تخدير، الى ان يتم تجاوز مرحلة الضغط الجوي القادم من الغرب والاكتفاء بصورة ممسوخة لتغيير داخلي لا يغير من حجم السلطة التي بيد أمراء الأسرة المالكة.

قد يبدو الأمر غريبا عن ذهنية المواطن السعودي حديث وزير الخارجية السعودي عن الشفافية والمصارحة والمكاشفة والموضوعية كأسلوب حضاري للتعامل مع الأزمات.. غير ان هذه الغرابة سوف تزول إذا عرفنا أنها خيار خارجي ومنهج سياسي تتعامل به الدولة فقط مع الولايات المتحدة والغرب ولا يمكن ممارسة هذا في المجتمع السعودي الذي ينظر اليه كمجتمع متخلف لم ينضج بعد ولا يستطيع تحمل مسؤولية وتبعات أي مشاركة او حتى مساهمة في صنع القرار السياسي في هذه البلاد. فمازالت العقلية الملكية تراهن على قدرتها في ترضية الحليف الاستراتيجي في واشنطن والتعامل مع هذه المطبات التي هي من صنع جناح الصقور واللوبي الصهيوني في الإدارة الأمريكية، وأنها اذا ما استطاعت ترحيل الأزمة الى أن تأتي إدارة (ديمقراطية) فإنها تكون قد نجت من استحقاقات أحداث سبتمبر.

ويبقى قطار (الشفافية) سريعا في اتجاهه الأمريكي الغربي لتقديم أقصى التنازلات وإبداء المزيد من التعاون، بينما تبقى الشفافية والاستحقاقات الشعبية والإصلاحات الموعودة الى مجرد مسكنات تلجأ لها الحكومة في حالة الضغوطات الخارجية لتخفيف شدة الصداع السياسي المتراكم عليها. في الثامن من أغسطس قامت السعودية بالإفراج عن خمسة من البريطانيين وكندي وبلجيكي أدينوا وصدرت بحقهم أحكاما بالإعدام والسجن لفترات متفاوتة في أحداث التفجيرات التي أدت الى مقتل بريطانيين واصابة عدد من الغربيين في الرياض والخبر نهاية مطلع العام 2000 ومطلع 2001 م مع الاحتفاظ بحقهم في طلب تعويضات عن فترة الاعتقال التي دامت اكثر من عامين.. في الوقت الذي تواصل فيه السلطات السعودية تعطيل الحراك الاجتماعي المطالب بالتغيير، والتضييق على الكتاب والمفكرين بإيقافهم عن الكتابة ومنعهم من السفر وفصلهم من وظائفهم ومعاقبتهم في حال ظهورهم في القنوات الفضائية.

هناك فواصل زمنية بعيدة فيما تجود به العقلية السعودية بما يخص فهما لخطورة الوضع الداخلي وتحديات المتغيرات الإقليمية والدولية، بالرغم من زخم التيار الشعبي المطالب بالإصلاح بأطيافه الفكرية ومشاربه الجغرافية المتعددة في نجد والحجاز والمنطقة الشرقية، والمتمثل بعرائض ومطالب ووثائق الإصلاح، هذه كلها لم تستطع ان تحفز الدولة لوضع خطة او مشروع او حتى خطاب سياسي يتوافق مع ضرورات المرحلة الراهنة، فمازالت أعراف المنظومة الملكية الحاكمة أقوى من قوانين التطور ورياح التغيير في العالم. فهل تستطيع ان تصمد الى الأبد؟.

إذا كان وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز لا يصدق والى عهد قريب وربما الى الآن ان الذين قاموا بهجمات سبتمبر معظمهم من المواطنين السعوديين بقوله: (المراد مني ان اصدق ان 19 شابا 15 منهم من السعودية استطاعوا ان يقوموا بهذه العملية.. هذا مستحيل لن اصدقه. اذا كان هؤلاء عندهم القدرة فهم أناس يقدرون على القتل او يفجرون محلا او يتحولون الى نعوش يقتلون بها أنفسهم وغيرهم، لكن ينفذون خطة بهذه الدقة؟ لا! انني لا أصدق).. فكيف والحال هذه الاطمئنان الى استيعابه الخلفية الفكرية التي ينطلق منها هؤلاء الشباب او الى البيئة الثقافية التي أدت الى تبلور هذه الأفكار المتطرفة في مجتمع محافظ كالسعودية تأتي التعبئة الدينية المتشددة المعادية في مقدمة الخطابات المشجعة للعنف والإرهاب. من جهة اخرى يؤكد وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل على وجود إرادة سياسية باتجاه الإصلاح وأن الدولة تضغط نحو التغيير غير ان المجتمع السعودي في نظر الوزير مازال قاصرا لم ينضج لتقبل أي إصلاحات تمكن من ان تسرع عجلة التنمية! في حين يشدد الأمير سلطان بدوره هو الآخر على ان الإصلاح السياسي مازال قيد الدراسة! وكما يبدو فان المجتمع السعودي سوف يبلغ سن الشيخوخة قبل ان يرى مشروع الإصلاح النور.

إن تفشي ظاهرة الفقر، وازدياد أعداد البطالة وما يتبعها من تداعيات اجتماعية، وتفاقم الفساد الإداري والمحسوبيات والسرقات من الممتلكات العامة، وكذلك تمركز الثروات في أيدي الأمراء.. لا تشكل كلها ضغوطاً من شأنها ان تخلق مناخا للتغيير من وجهة نظر الأمراء، فضلاً عن أنهم لا يستشعرون الحاجة للنقاش في مضامين القضايا الرئيسية كالمواطنة والتعددية وحقوق الإنسان ومشاركة المواطنين في إدارة البلاد فهي كما قال أحد الأمراء ان الأسرة لن تستجيب الى أي ضغوط داخلية او خارجية، وهذا يؤكد واقع الحال بان البلاد ليست بحاجة الى تغييرات شكلية او الى إصلاحات جزئية فقط بل الى تغييرات في هيكلة النظام السياسي، لان المشكلة في حقيقتها ليس عطب في الارداة السياسية فقط بل لان الأسرة المالكة ترى في الإصلاح أمرا يهدد مصالحها ويحد من نفوذها ويفقدها مكتسباتها غير المشروعة والتي ستطالها المساءلة والمحاسبة على المدى البعيد. ولذلك فهي لا ترغب في التفكير في موضوع الإصلاح فضلا عن وضع مشاريع له الا عندما يكون الإصلاح ملاذها الأخير للحفاظ على بقائها في السلطة.

كانت الفرصة سانحة والأجواء مؤاتية في أعقاب الحرب الخليج الثانية أكثر من أي وقت مضى للبدء بعملية الإصلاح بهدوء وبدون زوبعات، غير ان الحكومة لم تضع الفرصة فقط واكتفت بعدة جراحات تجميلية على هيكل النظام بإنشاء النظام السياسي ومجلس الشورى وأنظمة الحكم والمناطق، بل فرغت الإصلاح من مضمونه، واستعدت للعصاة بالعصا، لذلك زادت وتيرة المطالبات الشعبية، لأن اللمسات الفنية لم تسفر عن تحقيق طموحات المواطنين ولم تخلق قنوات حقيقية مع حركة المطالب الجماهيرية بل ان هذه التغييرات أدت الى تفاقم الأزمات الداخلية الى حد دخول الدولة في نفق الاضطرابات واعمال العنف لا يعلم متى تتوقف.

ان الشعور بالأمن الاجتماعي والسياسي للدولة والمواطنين لا يتسنى بتكرار السيناريو المعتاد بصورته المتعالية من جانب الحكومة السعودية بالقفز على الحقائق وتجاهل المعطيات الجديدة على الساحة، قد يكون ذلك متاحا في السابق لان مجال المناورة كان ممكنا بيد انه الآن قد بدأ يضيق بسرعة لم تتخيلها الدولة، فالعالم يرى السعودية أرضا خصبة لإنتاج الإرهاب والتطرف، وان القوة المادية بدأت تتضائل في ظل الفساد والإسراف. وإزاء ازدياد الدعوات الدولية لاصلاح النظام السعودي وتحسين أوضاع حقوق الإنسان وتطوير النظام القضائي وإدخال تغييرات جذرية في نظام التعليم، فإن التفكير الملكي قد تجاوزه الزمن بمراحل، وليس هناك من حلول سوى العنف والعنف المضاد الذي قد يفضي الى تغيير النظام السعودي برمته.

ان مستقبل مركز الحوار الوطني على ضوء التجارب السابقة لا يبدو مشجعا، رغم اعترافه على استحياء بالتعددية الفكرية والمذهبية في المملكة، ما لم يترجم مشروع الإصلاح الى قوانين وأنظمة تحفظ حقوق المواطنين بمشاربهم المختلفة وضمان مشاركتهم في القرارات الرئيسية التي تحدد مستقبل الوطن، حتى لا يكون مصيره كتحفة فنية في معرض مشروع الإصلاح الملكي نتباهى به بين الأمم المتقدمة.

وكما هو عليه الحال يبدو ان قرار التغيير لم يحسم بعد داخل الأسرة الحاكمة التي تتفاوت فيها رغبات التغيير بين التجديد والترقيع. متطلبات الإصلاح لا تأتي حسب حتميات التطور الاجتماعي او الاقتصادي او السياسي بل حسب ما تمليه ذهنية وأمزجة الأمراء، فهل يكون الاعتراف بلا مواجهة كفيل بحلحلة واقع الأزمات؟