الإنشعاب العظيم في ديارنا بين
الصحوة الدينية والغيبوبة السياسية
منيرة عبدالرزاق
ليست أول ظاهرة تنشأ في التاريخ الحديث، فقد سبق هذه الصحوة
الدينية المتأخرة في ديارنا ظهور أشكال راقية ورصينة في الصحوة
الدينية، فكان قادة الصحوة ممتلئين في زمانهم، عارفين بالظروف
التاريخية والاجتماعية المحيطة بهم، مدركين للشروط الموضوعية في
التغيير والتحول الاجتماعي، ومؤثرين المصلحة العامة في الاصلاح
السياسي على المصالح الخاصة، لا تميل بهم نزوعات ذاتية عن
المقاصد الكبرى والنهائية للدين، فنالوا بحق وجدارة وسام
المصلحين الدينيين. هكذا كان السيد جمال الدين الافغاني، والشيخ
محمد عبده، والشيخ محمد حسين النائيني، والسيد محمد كاظم
الخراساني والشيخ رشيد رضا، والشيخ عبد الرحمن الكواكبي، ورهط
المصلحين اللاحقين أمثال الشيخ الشهيد حسن البنا والسيد قطب،
والسيد روح الله الخميني والسيد الشهيد محمد باقر الصدر، والسيد
محمد حسين الشيرازي، والشيخ محمد الغزالي ومن الأحياء السيد محمد
حسين فضل الله والشيخ يوسف القرضاوي والشيخ محمد سعيد رمضان
البوطي والشيخ راشد الغنوشي والشيخ حسن الترابي وكثيرين آخرين من
السابقين واللاحقين ممّن نذروا حياتهم لهذا الدين، فأصبح الاسلام
بفضل جهود وتضحيات هؤلاء رسالة التسامح، والمحبة، والاصلاح
الاجتماعي، والسلم العالمي.
فنبتات الاصلاح الديني التي نمت وترعرعت في مصر وإيران والعراق
وبلاد الشام والسودان وتونس، أثمرت وأمدت ظلالها الوارفة في بقاع
عديدة من العالم الاسلامي، فإستجابت لنداء الصحوة الدينية
الواعية المنطلق من مراكزها الأولى، وفهمت الاسلام بوصفه
إلتزاماً واعياً بقيم الدين ومبادئه السمحة. وفي بعدها السياسي،
مثّلت حركات الصحوة الدينية الواعية نموذجاً فريداً في النضال
السلمي، وإذا كان ثمة نتوءات نافرة في جسد الصحوة فكانت رد فعل
على بطش النظام السياسي العربي الذي فشل بإمتياز في التعاطي مع
تطلعات حركات التغيير بكافة أشكالها وخلفياتها الايديولوجية،
ولكن وبالرغم من السلوك الانفعالي للسلطة السياسية، فإن الحركات
الاسلامية الأم لم تنساق الى منزلق العنف، وبقيت متمسكة
بخياراتها المبدئية في التغيير والاصلاح الاجتماعي والسياسي وظلت
كذلك حتى الآن، وإذا كان هناك من يجب أن يحمّل تبعات أي تدهور
داخلي فهي الأنظمة السياسية العربية التي لم تكف عن إستعمال
سياسة القمع والعزل السياسي لآباء الصحوة الدينية.
صورة الصحوة الدينية في ديارنا جاءت على عكس سلوك الطيف العام من
حركات الصحوة الدينية في الخارج، فقد نشأت كرد فعل على أوضاع
خارجية، أفغانستان، وإيران والاتحاد السوفييتي السابق، ورسمت
لنفسها طريقة خاصة في إبلاغ رسالتها الدينية، مسقطة من حسابها
الديني الظروف الاجتماعية والسياسية الداخلية والخارجية، فتوسّلت
بالعنف نهجاً في التغيير.
هذه الصحوة الدينية المنبعثة من قلب شبه الجزيرة العربية جاءت
مفصولة عن حركة التاريخ، فكانت أشبه بمقذوف إجتماعي من خارج
الزمان، يحمل خصائص، وأدوات لا يشاركه فيها أحد ممن سبقه أو
يعاصره الآن، فهو يريد إثبات وجوده وتحقيق ذاته في كل الأحوال،
وبقطع النظر عن عواقب أفعاله، فأجندته مصممة لحضور فاعل مدوّي
بأي ثمن.
فالعقاب الملياري الذي نجم عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وطال
دولاً وشعوباً وحكومات وجمعيات خيرية، ومؤسسات إجتماعية وفكرية،
وقادة دينيين لم يحدث أدنى تغيير في منسوب الوعي السياسي لدى
زعماء هذه الصحوة. فقد حرّكت نشوة الانتصار الواهم في الحادي عشر
من سبتمبر، كتائب الصحوة كيما تمد أفق عملياتها الى بقاع عديدة
في العالم، إيغالاً في إرتكاب المزيد من الاقترافات السياسية
الوخيمة.
فالعزلة الخانقة التي يعيشها قادة الصحوة الدينية في ديارنا،
تسوّل لهم بأن ثمة إنتصارات تاريخية تتحقق على أيديهم بشن المزيد
من الهجمات الدموية على الكفار والمشركين. فهذا الوهم الميسيائي
يحدّث المتلبّسين به بالتحول الى ما يشبه قوم من الحواريين الذين
سيتحقق على أيديهم الفتح المبين وغرق فرعون وملّته. فالتاريخ
يمثل بالنسبة لقادة الصحوة مصدر إلهام نشط، فهذا ـ أي التاريخ ـ
قد تحوّل في إدراكهم الى ساحة معركة تستحضر فيها أرواح الاقوام
الهالكة، لتعاد فصول معارك السابقين من بدر وأحد وحنين ومؤته،
وهو بالمناسبة تاريخ لا يتقاسم أحد معهم تفسيره. فثمة إنشطار في
الوعي الديني ـ لرجال صحوة اهل ديارنا ـ بين الماضي والحاضر، وهو
السبب الحقيقي لهذه الغيبوبة السياسية التي تنتج كل هذا الدمار
المشاع في الأرجاء.
فالمزيد من الدمار، والقتل، والدماء لم يوقف الانفلات من حركة
الزمن، هذا الزمن الغائب في الاجندة السياسية لقادة الصحوة، ولم
نرقب حتى الآن قراءة واعية ودقيقة لكشف الحساب السياسي، رجاء
مراجعة نقدية مؤسسة على التوازن بين المكاسب والخسائر والمصالح
والمفاسد. ولا أظن أن ثمة من يختلف على أن هجمات الحادي عشر من
سبتمبر كانت كارثة سياسية بكل المقاييس، فقد جاء الرد إجمالياً،
قاسياً، وناسفاً. فقد وفّّرت هذه الكارثة أكبر مبرر سياسي
للولايات المتحدة لصياغة العالم على طريقتها، فاحتلت أفغانستان
والعراق، واجتثّت من الجذور كل الاعمال الانسانية الخيرية في
العالم، وضيّقت الخناق على المسلمين داخل الولايات المتحدة
وخارجها، وشهرت سلاح (الحرب على الإرهاب) في وجه العالم بأسره،
ولم يسلم من عقابها أحد قاطبة، وبات العالم أميركياً بكافة
المقاييس، بسبب الحنكة السياسية الغائبة في الصحوة الدينية.
وفيما تناضل شعوب ودول العالم من أجل إحباط مفعول الذريعة
الأميركية، يواصل رجال الصحوة في تواصل مع غيبوبة سياسية طويلة
الأجل تعزيز النزوع الذرائعي الأميركي، فتقدّم دليلاً آخر على
مشروعية الاستمرار في الحرب على الارهاب الذي بات محصوراً الآن
في ديارنا وحده، عبر إنبثاث كتائب الانتحاريين في مناطق عديدة من
العالم.
قصص التورط في نشاطات إرهابية خارجية من قبل عناصر ينتمون الى
الصحوة الدينية في ديارنا، رغم الدفع الشديد وفي الوقت نفسه
المفتعل نحو نفي التورط أملاً في رفع العبء وعدم تحمّل العواقب،
لا يبدد حقيقة أن الصحوة الدينية منزوعة من عقالها السياسي،
وأنها تملك خطاباً يخلو من مبدأ المصالح والمفاسد، فالوزن الحق
لديها هو ما يقوم على إنزال ضربات دموية وموجعة في الخصم،
المفتوح على العالم بأسره، وعلى غيرهم تدور الدوائر، سواءً كانوا
مسلمين، أبرياء، أطفال، نساء، مصالح عامة، مراكز علمية..غاية
الأمر أن ثمة فعلاً يجب أن يتم إملاءً لمقتضيات الصحوة، وبعد ذلك
فليكن ما يكن!
على الضد من روّاد الصحوة الدينية الواعية، فإن رموز وباعثي
الصحوة الدينية في ديارنا يحملون في الشمال قائمة الأعداء وفي
اليمين سلاح التكفير والقتل، فصناعة التحالف واكتساب الاصدقاء
ونشر المحبة والاطمئنان في القلوب ليست جزءا من استراتيجية
العمل، فسجل الصحوة الدينية مثقل بأسماء رموز، وفرق، وشعوب، ودول
وحركات مصنّفة في قائمة الخصوم، المراد خوض المجابهة المسلحة
معها، وإخضاعها عنوة. فدعوة التوحيد مبدئاً يفضي الى تمزيق
الشمل، حين يكون البعد السياسي مفقوداً في الصحوة الدينية،
وأهلها في نهاية المطاف يبقون أسرى إلانتماء الاقليمي، والمذهبي،
فصحوة كهذه تعجز عن التمدد خارج محيطها، فهي تفد على خارجها
بتعسف وقسوة.
فرغم الضجيج المدوي الذي أحدثته خارجياً نشاطات الصحوة الدينية
المنبثفة في مركز ديارنا، الا أن المحصول النهائي جاء ضيئلاً
وضيئلاً للغاية، لأنها أثبتت بأنها غير مؤسسة على قراءة واعية
للظروف السياسية والشروط الموضوعية في التغيير والاصلاح، فقد
كانت تتم على هامش السياسة وليست قلبها، ورغم الابعاد السياسية
التي تحملها تلك النشاطات فإنها لا تتجاوز المشاركة في صنع
عواقبها الوخيمة. فبعد أكثر من عقدين من العمل الصحوي في بقاع
عديدة من العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا، أصبحت
المساجد والمراكز الدينية، والجمعيات الخيرية والانسانية خاضعة
تحت الرقابة الشديدة، وبات ينظر اليها بوصفهاً بؤراً لجماعات
التطرف والارهاب الدولي، وأصبح الاسلام نفسه يقدّم كأيديولوجية
إستئصالية تهدد إستقرار العالم.
قلة البضاعة السياسية في ظل هذا الاختلال العظيم في ميزان القوى
الدولي تجعل التطلعات الكبيرة المحمّلة على فورة مشاعر دينية
محفوفة بالكوارث، فالأخطاء الكبيرة التي إقترفتها الصحوة الدينية
في ديارنا أحالت من الممكن مستحيلاً، وأعادت الجميع الى المربع
الأول، والى نقطة البداية، فهذه الصحوة سلبت مصادر القوة من
الحركات الاسلامية الواعية، وباتت تقذف جميعها بتهمة الارهاب،
وبعد أن كانت تصنّف في جبهة القوى المعتدلة والمقهورة في بلدان
تديرها أنظمة سياسية شمولية، أصبحت الآن تدفع عن نفسها شبهة
وتهمة الارهاب التي باتت تلاحق كل مسلم.
الاحتجاج الساذج بأن الاسلام لا يجب أن يخضع لقوانين السياسة في
إيصال رسالته الى العالم، خطأ كارثي وهو المسؤول عن كل النوائب
التي حلّت بهذا الدين وأهله، فقد كان رسول الله محمد (ص) وهو
أعلم بأحوال أهل زمانه شديد الحرص على أن يلقي في قلوب خصومه
المحبة والرحمة على أن يقارعهم بالسيف، فجاء برسالة سلام الى
أقوام غلاظ شداد، فاعتنقوها طوعاً لمّا وجدوا في الحبيب المصطفى
معدن رحمة، ومعين محبة، وحتى أولئك الذين ناجزوه العداوة لم يشهر
سلاحاً في وجوههم ولم يجيّش الجيوش لمحاربتهم ومصادرة ممتلكاتهم
وبث الرعب في قلوبهم قبل أن يبادروا هم الى محاربته. فقد دخل في
هذا الدين بالمعاملة الحسنة أكثر مما دخل فيه بالدعوة فضلاً عن
القوة الغاشمة، فهل كانت سوى السياسة، بمعنى فن إدارة شؤون
العامة، هي التي ساهمت في فتح الطريق الوعرة أمام هذا الدين كيما
ينتشر ويصل الى آفاق الدنيا.
إسقاط التجربة التاريخية لرسالة الاسلام على واقعنا المعاصر بكل
تعقيداته السياسية وتشابك المصالح المحتدم فيه، واستعمال القرن
الهجري الأول نموذجاً معيارياً يجب أن يقتفي المسلمون أثره، هما
جزء من غيبوبة سياسية ماحقة، فلا بد أن نعيش لحظتنا والزمان الذي
نحيا فيه، فهذا النموذج المعياري غير قابل للانتاج حالياً،
فطبيعة الزمن أمامية ولا يمكن الارتداد للزمن القبلي، فنحن نعيش
كما أهل الصحوة جميعاً في مرحلة ليس فيها من مواصفات الزمن
الفائت، ولابد من تكييف سياسي لميراثنا الديني من أجل البقاء
والمشاركة في صنع مستقبل آمن يمر منه وجودنا، وميراثنا، وليس سوى
الوعي السياسي وسيلة قادرة على تحقيق هذا التكييف، ومواجهة
تحديات تفرضها عولمة طغيانية إستثمرت أخطاءنا السياسية الفادحة
لتكتسح حدودنا ووجودنا.
الانجراف مع هيجانات الصحوة الدينية في ديارنا لا يوصل الجميع
سوى الى سقوطات أخرى قد تجهز على الدولة والمجتمع معاً، وهناك من
يستدرج أهل الصحوة للوصول الى حافة السقوط، كونه يوفّر مبرراً
إضافياً لضربها مع الجميع والعكس صحيح أيضاً.
نأمل أن يبزغ ضوء الوعي السياسي في داخل دوائر الصحوة الدينية في
مركز ديارنا تجنباً لكارثة بات الجميع يرقب لحظة حلولها، وستكون
مبررات التدخل الأجنبي جاهزة، وحينئذ لن يكون هناك باكٍ أو ناعٍٍ
على ضحايا منا فديارنا الآن باتت ممقوتة، للأضرار الفادحة التي
أحدثتها في دول عديدة وحتى الجوار لم يسلم منها، ويتمنى كثيرون
أن ينال هذه الديار عقاب عسير جزاء ما إقترفت. هل يدرك رموز
الصحوة الدينية خطورة الغيبوبة السياسية الآن؟ نأمل ذلك.
|