من سياسة القبض الى سياسة الدفع بالتي هي أخشن

أزمة السياسة الخارجية السعودية

 حمزة الحسن

 

مسار السياسة الخارجية للمملكة ـ كما هو في دول العالم الأخرى ـ تحدده عوامل كثيرة يأتي في مقدمتها الأوضاع المحليّة، أو السياسة الداخلية. ولقد ابتليت المملكة منذ عقدين تقريباً بأزمات متعددة في الداخل انعكست سلباً على سياستها الخارجية ودورها في محيطها الإقليمي والدولي، على شكل تضاؤل في النفوذ، وضعف في المبادرة، وميلٌ الى العزلة، وانتهاج لمبدأ الدفاع عن النفس بدل الشجاعة في الطرح للحفاظ على ما كانت تعتقده من ثوابت سياسية.

وخلال الشهور الماضية، بدا وكأن هناك صوتاً مخنوقاً في الداخل يحاول أن يبدي امتعاضه من النهج السياسي الخارجي للدولة، تمّ تحفيزه بأحداث ووقائع بدت المملكة معها وكأنها وقد أصيبت بالإنهيار وعدم القدرة على الردّ. فقد استثير البعض من طريقة معالجة موضوع المعتقلين البريطانيين، وكذلك من موضوع تقرير الكونغرس لأحداث سبتمبر، وتضاؤل الآمال من إصلاح العلاقات السعودية ـ الأميركية.

مؤشرات أزمة السياسة الخارجية السعودية كثيرة وأسبابها متعددة لا تنحصر في ظهور عامل غير متوقع (القاعدة وأحداث سبتمبر) بل في وجود خلل منهجي في طريقة التفكير السعودي وإدارته للقضايا.

 التحالف مع الأقوياء: عهد الإستعمار

 في بداية تأسيس الدولة السعودية، كانت السياسة الخارجية تميل الى التحالف مع قوة عظمى قبال الإمبراطورية العثمانية التي كانت ـ في المخيال السعودي ـ الخطر الأكبر. فالأخيرة هي التي قضت على الدولة السعودية الأولى، و(خنقت) الدولة السعودية الثانية. ولهذا وجد الملك عبد العزيز ضرورة التحالف مع البريطانيين في الخليج، كيما يستطيع موازانة التهديد العثماني، ويوفّر لقواته ـ الإخوان ـ هامشاً من الحريّة للإنطلاق والفتوحات. بمجرد أن احتلّ الملك الرياض، حاول إقامة علاقات مع بريطانيا على غرار مشيخات الخليج المجاورة، ولكن الإنجليز رفضوا المرة تلو الأخرى الإنخراط في مشاريع تحالف مع قوى محلية تقع ضمن دائرة النفوذ العثماني. كرر الملك دعوته للتحالف وتوقيع معاهدة شبيهة بالمعاهدات الإستعمارية القديمة ولكن الإنجليز رفضوا الأمر عام 1904 و 1906 رغم وساطة شيخ قطر قاسم آل ثاني، ورفضوا العرض السعودي عام 1907، وعام 1910، وعام 1911، وقالوا لإبن سعود بأنهم لا يوزعون (هبات) الحماية!

لم يكن الملك عبد العزيز بحاجة الى حماية بريطانية قبالة القوى المحلية، فهو يدرك حجم القوة السياسية والدينية التي بين يديه والتي أصبحت قادرة على مواجهة كلّ القوى المحلية بدون استثناء، ولكنه كان يدرك بأن المواجهة مع العثمانيين مسألة مختلفة، ثبت تاريخياً أنه لا يستطيع تحديها، ولا يمكن له أن يتوسّع إلاّ على حسابها أو حساب أصدقائها وحلفائها، إن كان في نجد أو في الحجاز أو في الأحساء والقطيف.

والملك السعودي من جهته، بنى سياسته الخارجية آنئذ على أساس (تحصيل) منافع من القوى الكبرى، مالية وسياسية. وقد حصل فيما بعد على ذلك، على شكل رواتب دعم ومعاهدة حماية (إتفاقية القطيف 1915، واتفاقية العقير 1922) إضافة الى الدعم بالسلاح أثناء الحرب العالمية الأولى لضرب خاصرة الجيش العثماني في العراق، ومشاغلة ابن الرشيد في حائل حتى لا يتمكن من تهديد القوات البريطانية التي بدأت بالزحف من البصرة باتجاه العاصمة بغداد.

المهم أن السياسة السعودية كانت سياسة (آخذة) تبحث عن مصلحة ومنفعة لتحققها ضمن الظروف المتشابكة في العلاقات الدولية، وتأمين أكبر قدر من الإستقلال عبر اللعب على التناقضات القائمة بين القوى المتصارعة. أما البريطانيون فإنهم كانوا ينظرون الى القوة السعودية كعامل تهديد لنفوذهم في الخليج، لهذا أرسلوا إليه تحذيراتهم المتتالية، ولكنهم بعد أن احتل الأحساء والقطيف 1913 وأصبح جاراً لهم، وبعد أن قرروا الحرب على العثمانيين عام 1914م، ارتأوا استمالته وإعطاءه ما يريد ضمن الداخل الصحراوي، دون التمدد الى الحجاز الذي عقد صفقة تحالف شبيهة بما فعله الحاكم السعودي لطرد العثمانيين من الأراضي المقدسة. ومع هذا كانت الدول والقوى المجاورة في اليمن والعراق والأردن والخليج تستشعر الخطر السعودي الذي لا تقف مطامحه عند حد، فكانت هذه النوازع والأطماع واحدة من الوسائل التي استثمرتها الحكومة البريطانية لتقييد أتباعها.

وبشكل عام، كانت السياسة السعودية وحتى تأسيس الدولة رسمياً عام 1932م، تعتمد التحالف مع قوة عظمى هي بريطانيا، وتحاول أن تستحصل على مصالح ما مادية وسياسية، وكان للملك عبد العزيز قدر من الإستقلالية، حتى أنه طوّر علاقاته بالسوفيات وأقام صفقات تجارية معهم، وكانت لديه الإرادة لتبديل تحالفاته إذا ما وجد مصالحه تتجه إليها.

ولهذا كان من السهل عليه أن يربط تحالفاً مع قوة عظمى ناشئة وهي الولايات المتحدة الأميركية، بحثاً عن مغنم مادي، ولم يكن الإنجليز بالطبع يعترضون، خاصة وأن دعمهم المادي قلّ كثيراً في وقت كانت تمر فيه السعودية بأزمة مالية خانقة. وبهذا استطاع الأميركيون الزحف على النفوذ البريطاني في السعودية رغم أن الملك لم يكن يميل الى الأميركان نفسياً، وكان ينزعج من مقابلة ممثليهم الدبلوماسيين الذين لا يتقنون اللغة العربية، بعكس الإنجليز!

 من القبض الى الدفع: عصر الأيديولوجيات

 شهدت السياسة الخارجية السعودية تحولاً في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فقد انحسر النفوذ البريطاني، وتعزز النفوذ الأميركي الإقتصادي والسياسي في المملكة، كما ظهر تحول في الوضع الإقليمي حيث برزت الدول العربية المستقلّة بعيداً عن مظلّة الإستعمار وصار من المحتّم التعاطي معها ضمن أُفق جديد وبشكل مباشر. وعلى الصعيد الدولي، ظهرت قوة عظمى هي الإتحاد السوفياتي تحاول الوصول الى المنطقة العربية، وظهرت حرب الأيديولوجيات غير المعهودة الى الشارع العربي. في هذه الفترة أيضاً، تطوّر الوضع الإقتصادي السعودي، حيث تدفق النفط غزيراً، وكان العالم كله بحاجة الى هذا النفط في مرحلة بناء إقتصاد ما بعد الحرب، ولأول مرة تشعر المملكة أن بيدها مالاً كثيراً لم تكن تحلم به، وصل الأمر بجون فيلبي مستشار الملك عبد العزيز الى وصف الأخير بأنه يشبه الطفل الذي يعبث بكومة هائلة من النقد.

مع تبدل الأحوال المحلية والإقليمية والدولية هذه، ومع الشعور بالتهديد من الأيديولوجيات الوافدة عبر البلدان العربية التي بدأت فيها الإنقلابات والثورات، وجد المسؤولون السعوديون أنفسهم مهددين في حكمهم، من أنظمة قطرية بدا وكأنها أقدر على مناطحة السعوديين من ذي قبل. لقد جرى تحوّل غير عادي في المؤسسة العسكرية السعودية، فبدل المليشيات الدينية، ظهر في المملكة جيش نصف نظامي ومليشيات قبلية اصبحت الحرس الوطني فيما بعد، ولكن هذا التحول العسكري أضعف القوة السعودية بشكل كبير، ولاتزال المملكة اليوم ضعيفة عسكرياً رغم الإنفاق الهائل. فالتحول الى جيش نظامي جعل السعوديين غير مخيفين لجيرانهم، الذين أسسوا جيوشاً منذ عهد الإنتداب بدا أنها أقوى من الجيش السعودي نفسه الذي كان بإمكانه الوصول الى معظم عواصم الجوار قبل بضعة عقود فحسب.

هذا الطارئ المتغير أفرز نمطاً جديداً في السياسة الخارجية السعودية، اعتمد على مبدئين:

الأول ـ توثيق التحالف مع الغرب، وبالخصوص مع الولايات المتحدة الأميركية، من أجل توفير مظلّة حماية للنظام السياسي، قاد فيما بعد الى إلحاق السياسة الخارجية السعودية بالولايات المتحدة في صراعها الكوني مع الشيوعية. وظهرت المملكة وكأنها في عداء لكل (أعداء أميركا) في المنطقة وترتب عليها مواجهة الأنظمة في مصر وسوريا واليمن الجنوبي وحتى العراق. منذ بداية الستينات وحتى بداية التسعينات من القرن الماضي، يمكن النظرالى السياسة السعودية وأولوياتها وكأنها (ملحق) للخارجية الأميركية، حتى أن السعوديين خاضوا معارك في كل مكان في العالم، من تمويل الأحزاب اللبرالية في اوروبا لمكافحة الأحزاب الشيوعية فيها، الى تمويل حروب السي آي أيه في أمريكا اللاتينية ومجاهيل أفريقيا، الى استخدام الإسلام لحصار الشيوعية ونفوذها، الى حد الإشتراك في حرب فيتنام، والى الإنخراط في حرب شبه مكشوفة مع الروس في أفغانستان. هذا عدا تحويل أنظمة يسارية أو نصف يسارية الى يمينية مثل الصومال ومصر وغيرهما.

الثاني ـ اعتماد سياسة (الدفع) فقد توافرت القدرة المادية المسهّلة على شكل دعم اقتصادي مباشر للدول والجماعات والأفراد والصحف، أو على شكل رشوات لأفراد مسؤولين أو مؤسسات. وقد لازم هذا العنصر السياسة الخارجية السعودية حتى يومنا هذا، بحيث أصبح ضعف الدفعات المالية والدعم المباشر، سبباً في تراجع النفوذ السياسي السعودي في المحيط الإقليمي. لقد علّم السعوديون الآخرين على استلام ثمن السياسات والتوجهات، بل ان البعض كان يتخذ سياسة مناقضة للسعودية بغرض الضغط من أجل تحصيل الدعم.

 من الحقبة السعودية الى المحنة

 حين كتب هيكل عن الحقبة السعودية في السبعينيات من القرن الماضي، اعتبر المراقبون الأمر انصياعاً لما كان يسمّى بـ (الرجعية العربية) واعترافاً بهزيمتها للمدّ القومي واليساري بشكل عام. الأمور تغيّرت اليوم بشكل كبير، بلغ حد التناقض الكلّي:

* فقد انهارت المكانة الإستراتيجية للمملكة في عيون الغرب، بسقوط الإتحاد السوفياتي، وظهور ما سمي بالخطر الإسلامي، خاصة بعد أحداث سبتمبر 2001. وأصبحت المملكة جزءً من الراديكالية الإسلامية التي يجب مكافحتها، بحيث اعتبرت مركز تفريخ الإرهاب ونشره في العالم. أي أن المملكة في ظل التحول الكوني بعد انهيار المعسكر الإشتراكي ورغم اعتزامها الإستمرار في التحالف مع أميركا، وقبولها بدور (ملحق) للسياسة الخارجية الأميركية، ليست قادرة أو حتى مقبولة لمكافحة الإصولية، ولم تجد السعودية ـ حتى الآن ـ دورها الملحق ضمن خارطة الإستراتيجية الغربية الجديدة.

* وكان للتراجع الإقتصادي السعودي منذ منتصف الثمانينيات الماضية، دوراً بالغ الخطورة في إضعاف مكانتها الإقليمية وقدرتها على حشد العالم العربي خلف الرؤية الأميركية. وفضلاً عن هذا، أصبحت المملكة ـ بسبب ظروفها الإقتصادية وتراجع الإستقرار الأمني والسياسي فيها ـ مرشحة لاضطراب مزمن لن يحل في المدى المنظور. انعكست الأوضاع السياسية الداخلية على دور المملكة الخارجي، بل أنها بعد أن بدا أنها في بداية التسعينيات تتلمّس دورها الخارجي على غير هدى، وجدت نفسها في وضع دفاعي غير سعيد، بسبب الإنفجارات المتتالية في عدد من البلدان في العالم قام بها سعوديون أو محسوبين على السعودية أو ينتمون الى خلفية مذهبية سلفية سعودية.

يمكن توصيف السياسة الخارجية السعودية في الوقت الحالي بالتالي:

أولاً ـ إنها سياسة دفاعية (حمائية)، فكل ما نشهده اليوم من تحرك سياسي سعودي يخضع لمعادلة (دفع البلاء) وليس بغرض ممارسة دور ونفوذ زائد عن الحاجة! المملكة تسابق الزمن لتواءم حركتها السياسية مع الأجندة الأميركية وتحاول أن  لا تختلف معها قدر الإمكان. حتى الفسحة التي كانت متوفرة لها لممارسة دور مستقل يتعلق بقضية فلسطين، أظهرت المملكة مواقف وتنازلات غير اعتيادية: مثال ذلك، التخلي عن عرفات، والتخلّي عن دعم الإنتفاضة والإنتقاص منها ومن العمل الجهادي المسلح ضد الصهاينة، كما تخلّت عن موضوع التمويل بشكل شبه كلّي، إلاّ ما يصب في خط (الإعتدال = أبو مازن) هذا فضلاً عن مبادرة الأمير عبد الله التي جاءت لتخفيف الضغط الشديد على السعودية. ويمكن ملاحظة السياسة السعودية في أفغانستان والعراق للوصول الى حقيقة أن المملكة ليست في وارد مواجهة أميركا سياسياً أو التمتع بهامش من الحرية لممارسة دور مستقل. وكما قلنا فإن هذا كلّه يأتي ضمن فلسفة تقليص نقاط التفجر والتوتر في العلاقات السعودية الأميركية.

المملكة اليوم هي بدون حليف استراتيجي. وهي لم تكن كذلك منذ نشأتها التي بدأت مع بريطانيا وانتهت بالولايات المتحدة الأميركية. ولربما يكون هذا سبباً رئيسياً في اضطراب السياسة الخارجية السعودية التي تعودت ولزمن طويل على ممارسة دور ملحق، ولا تريد ـ وربما لا تستطيع ـ أن تختطّ لها دوراً مستقلاً بدون الشعور بالأمن الذي يتهدد أسس النظام السياسي والدولة السعودية نفسها. إنها فترة تحوّل تاريخي تعيشها المملكة، لم تتعودها من قبل. لهذا لا يريد المسؤولون السعوديون التصديق بأنهم بلا حليف قوي يركن إليه، وأن تلك العلاقات التاريخية مع أميركا والغرب جرى تجاوزها بشكل شبه كلي منذ وقعت أحداث سبتمبر 2001.

السياسة السعودية كانت سياسة المسار الواحد، ووضع البيض في سلّة واحدة أميركية، فأصبحت فجأة بدون (خيارات) سياسية وبدون (مهارة) سياسية أيضاً، ولا يُعلم إن كان لديها قدرة على ترتيب منهج سياسي جديد أم لا، ولكنها على أية حال، تحصد تشظّياً في قوتها واندفاعها ومكانتها على كل الأصعدة.

ثانياً ـ إنها سياسة اعتزالية فيما يمكنها الإعتزال عنه. فالسعوديون ومنذ غزو العراق للكويت وظهور بوادر الإضطراب المحلّي، استغنت عن العديد من الحلفاء أو الأصدقاء ولم تعد تهتم بالدائرة البعيدة، بل بالقريبة شديدة الصلة بها، مع ضعف في هذا المجال، حتى فيما يتعلق بدورها في مجلس التعاون الخليجي. المملكة اليوم لا تبحث عن مشاكل لتحلّها، ولا تتدخل بين دول عربية متخاصمة كانت فيما مضى تحلّ مشاكلها (بدفعات وإعانات مالية!).. كأن صانع القرار السعودي يريد القول: إتركونا لحالنا، فما عندنا من مشاكل يكفينا! لا نريد زعامة على أحد، فثمن الزعامة لا نستطيع في الوقت الحالي دفعه، وبالتالي لا نريده. السعوديون لا يريدون أن يطالبهم أحد اليوم بدور هنا أو هناك، ولا يعجبهم التساؤل المشروع: وأين دور السعودية؟ وقد كان هذا السؤال فيما مضى حجر الزاوية في العلاقات العربية والإقليمية. لم تستطع المملكة ـ أو لم ترد ـ أن تحلّ أيّ أزمة قريبة أو بعيدة؛ سواء ضمن مجلس التعاون (الخلاف القطري البحريني) وخلافات اليمنين التي أفضت الى حروب ساهمت المملكة فيها وتريد أن تتملّص من تبعاتها، ولا حتى في الأزمة العراقية منذ بدايتها، حيث لم نشهد دوراً للمملكة متميزاً، وكذلك لم نلحظ دوراً مهماً للمملكة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، اللهم إلا المبادرة التي تقدم بها ولي العهد والتي هي في الحقيقة جاءت ضمن نسق دفاعي مختلف أجبر السعوديون على تقديم تنازل بشأنه (ولكن على حساب الغير!).

لم يعر السعوديون اهتماماً بالشأن السوداني، ولا بخلافات المغرب العربي، ولا حتى بالشأن الأفغاني، سوى دفع جزء من فاتورة الحرب، وكأن السعودية لم تكن اللاعب رقم واحد فيه! هذا فضلاً عن إهمالها للقرن الأفريقي، وخاصة الصومال التي خصصت لها السعودية شحنات من النفط تباع لحسابه من أجل العون انتهت في جيوب السماسرة والسرّاق! فنجحت جيبوتي في حلّ معضل لم تهتم به السعودية من أساسه. ذات العزلة يمكن ملاحظتها في موقف المملكة من قضايا إسلامية كبرى كالشيشان وكوزوفو وكشمير وهي مشاكل تصاعدت في السنوات الأخيرة دون اهتمام يذكر من صانع القرار السعودي، سوى إرسال بعض المساعدات الإغاثية هنا أو هناك. السياسة الخارجية عاشت سباتاً لم تفعّله إلاّ أحداث سبتمبر وفي اتجاه مختلف عما كانت تنهجه.

وفي هذا السياق، سياق تخفيف التوتر وعدم الخوض في النزاعات، نجح ولي العهد السعودي في تأسيس تفاهم سعودي إيراني، كما استطاع حلحلة مشاكل حدودية عالقة مع عدد من الدول الخليجية، وأخيراً استطاعت السعودية ـ وبشيء من التنازلات ـ حل الملف اليمني الذي كاد أن يحرق السعوديين أنفسهم.

ثالثاً ـ السياسة الخارجية السعودية يمكن وصفها بأنها سياسة (ردود أفعال) أكثر منها مبنيّة على استراتيجية واضحة ـ حتى لو كانت بهدف دفاعي حمائي ـ أو قائمة على المبادرة. تضغط أميركا فتظهر فجأة مبادرة سعودية، وتضغط ثانية فتستقبل مجلس الحكم المحلي العراقي بعد أن كانت اتفقت مع سوريا ومصر باتخاذ موقف موحد منه؛ وتضغط بريطانيا فيخرج سجناؤها؛ وتظهر قناة الجزيرة فتظهر العربية كأداة سياسية؛ ويشتم القذافي المرة والثانية فيرد عليه آنيّاً. الإستراتيجية تقوم على بناء مفهومي عام وتصور للمصالح الذاتية والمشتركة، اقتصادية كانت او سياسية أو دفاعية، كما تقوم على أساس نظرة الدولة وتصورها المستقبلي للوضع الإقليمي والدولي وكذلك لمكانتها التي تريدها. يمكن للمرء أن يتساءل ما هي سياسة السعودية تجاه أميركا؟ أو تجاه العراق الصدامي أو الحالي أو المستقبلي؟ وهل سياسة السعودية تجاه إيران تكتيكية أم استراتيجية وماذا يستهدف منها على المدى القصير والمتوسط والبعيد؟ وما هي رؤية المملكة لمجلس التعاون ومستقبله والى أين يسير الآن؟ وكيف ترى المملكة الجامعة العربية؟ وأسئلة أخرى لا تجد جواباً واضحاً بشأنها، بل قد تجد أجوبة كثيرة بعضها متناقض مع الآخر. وهذا ما يجعل المراقب يعتقد بأن السياسة الخارجية السعودية تميل الى التكتيك ورد الفعل دون المبادرة ووضوح الرؤية لمصالح الدولة المستقبلية ووفق سياسة عدم (الإرتهان) لخيار واحد.

هناك نقص في التنظير للسياسة الخارجية في المملكة، فهي حتى الآن حكر على رأس الدولة، بل رؤوس الدولة، ولا توجد حتى الآن مؤسسة بحثية ولا مركز دراسات متخصص يرفد صانع القرار بالرؤية والوضوح ويستقرئ له المستقبل. حتى في وزارة الخارجية السعودية لا يوجد مركز دراسات، في حين تعود المسؤولون في المملكة على اتخاذ القرارات حسب مجريات الأحداث، وحسب رد الفعل. ربما كان التفكير العام لدى الأمراء السعوديين الكبار، ولازال، يميل الى تبسيط الأشياء، والى تتبّع مجريات المواقف الأميركية والسير معها ضمن النسق العام، وحين تأزمت العلاقة أصبح هؤلاء مطالبين بأمور لم يعهدوها، فأصبحت القرارات أكثر ارتجالاً، وأكثر تناقضاً وحدّة.. يعكس ذلك تعدد الرؤوس، وغيبوبة الملك، وانشقاق العائلة وتناقض مصالح الأطراف الفاعلين فيها. حتى أننا شهدنا خطوات وتصريحات لولي العهد لا يلبث نايف ـ رغم كونه وزير داخلية ـ ينقضها، وفي حين يصرح عادل الجبير بأمر في واشنطن، يعود نايف لإعطاء نقيضه في الداخل.

وحتى النجاحات التي حققها ولي العهد في تهدئة الأوضاع مع الدول المجاورة لم تمرّ بدون تنازع واضح، كما هو شأن العلاقات الإيرانية السعودية، فكل جناح كان له رأي، وقد استطاع ولي العهد الى حد ما فرض رؤيته على مجمل الشأن الخارجي.

 من المحنة الى المجهول

 من خلال الإستعراض ـ آنف الذكر ـ فإن السياسة الخارجية السعودية تمرّ بأزمة حادّة، سببها غياب المنهجية، واعتماد سياسة العطاء أو الشراء أو كما يقال سياسة الريال، ومثل هذه السياسة تصبح هزيلة في غياب المال أو نضوبه. وأيضاً فإن سياسة المحاور والإستقواء (بأميركا) والتحالف مع قوى عظمى، واعتماد سياسة المسار الواحد دون التخطيط أو مجرد التفكير في البدائل الأخرى، جعل المملكة تقف الآن في وضع عصيب، همّها الدفاع وتفكيك المشاكل الواحدة تلو الأخرى، فأشغلت الى حدّ يصعب معه القول أن دراسة متأنيّة للحال قد بدأت.

حتى الآن، لم تستطع المملكة وضع تقييم صحيح لعلاقاتها مع واشنطن، وما إذا كان كل ما جرى قد وضع الأخيرة في موضع العدو الذي يحذر منه، أم الصديق الذي يُرجى إستعادة ودّه القديم. ما يظهر هو أن هناك رغبة في (الجمع) بين الأمرين، الأمر الذي يجعل السياسة السعودية تقف في مكانها، فتبذل جهداً مضاعاً في غير مكانه، وترجئ التخطيط للمستقبل بصورة صارخة لا تحتمل التأجيل.

وهناك نزوع غير عادي بين صناع القرار في فصل الشأن الداخلي عن السياسة الخارجية، وكأنهم يريدون القول بأن الخلل يكمن في التطرف والقاعدة فحسب، أو أن الخلل عند الآخر، الذي غيّر توجهاته بينما يقفون هم بدون تغيير يذكر لاستراتيجيتهم التي بُنيت في الأساس على ما يخطط له الآخر الأميركي أو الغربي. لا يمكن النظر الى السعودية من الخارج إلا كدولة مبتلاة بمصائب محليّة، اقتصادية وأمنية وسياسية واجتماعية وثقافية، ومثل هذه الرؤية لا تجلب لصانع القرار السعودي الإحترام والمكانة التي يتمناها أو التي كان فيما مضى يتمتع بها. ولذا لا تفيد حملات العلاقات العامة السعودية في واشنطن أو لندن وغيرهما، لأن الجميع مطلع على حقيقة أن مكانة الحكومة السعودية ضعيفة بين شعبها قبل أن تكون لدى الآخرين. وجلّ ما تكسبه الحكومة هو المزيد من الإبتزاز لمحنتها وضعفها، بالنحو الذي رأيناه في التنازلات السياسية المستمرة لواشنطن ولندن، والتي كان آخرها إطلاق سراح المعتقلين البريطانيين.

إن أي خطوة لتنشيط السياسة الخارجية السعودية لن تبدأ بدون ترتيب البيت السعودي الداخلي، وإصلاح وضع المواطنين واستعادة مكانة الحكم في نفوس الشعب قبل الأجنبي. وإن أي خطوة إصلاحية تنجز ستنعكس إيجابياً على صورة المملكة خارجياً، وستجعلها في وضع أقوى مقابل حملات التهديد الأميركية والغربية، بالنظر الى التحام شعبها معها. أما الآن، فعبثاً محاولة تحسين الصورة واستعادة المكانة أو مواجهة الخطر ـ إن كان هذا هو محور السياسة الخارجية السعودية وهدفها ـ أو صناعة وجه للسياسة الخارجية السعودية مستقل أو على الأقل يتمتع بهامش من الإستقلالية.

أيضاً ينبغي أن تنتهي سياسة المحاور والأحلاف وسياسة شراء المواقف ـ على الأقل بالشكل الذي كان مستخدماً فيما مضى. فالمملكة تستطيع أن تستعيد دورها بتفعيل قوتها في مجالات مختلفة، وتستطيع مساعدة الآخرين واكتساب احترامهم بغير الصورة التي بدت بها خلال العقود الماضية، كما أنها تستطيع ـ في حال تمّ ترتيب الوضع الداخلي ـ الوقوف صلبة في الدفاع عن القضايا العربية والإسلامية.

بيد أن كل هذا يضيع، في حال تذكرنا أن الإصلاحات السياسية في المملكة بعيدة المنال حتى الآن. ومن لا يصلح بيته لن تصلح صورته في الخارج، ومن لا يحميه شعبه ويحترمه، لن تحميه قوى الدنيا كلها.

ربما تكون هناك بوادر لإقامة تحالف إقليمي ودولي يوفّر مظلّة بديلة تحمي الحكم في المملكة. التحالف الإقليمي قد تكون بوادره في تنشيط العلاقات مع سوريا ومصر، وربما إيران فيما بعد. أما بوادر التحالف الدولي، فيمكن النظر الى زيارة ولي العهد السعودي الى موسكو في شهر سبتمبر، ومحاولة إبرام صفقة نفطية وعقود مشتركة.

أيضاً يمكن ملاحظة أن المملكة تريد توثيقاً أكبر للعلاقات مع بريطانيا، التي يمكن أن تلعب ككابح للغول الأميركي، ولربما كان تعيين الأمير تركي الفيصل كسفير في لندن قد جاء لهذا الغرض، وكذلك فإن إطلاق سراح البريطانيين استهدف فيما استهدف تسهيل مهمة السفير الأمير. لكن الرأي الآخر يقول بأن لندن وإن كانت تتمتع بتأثير لدى واشنطن، إلا أنها في المحصلة تابع لها، خاصة في الشأن السعودي، وحتى الآن فإن اللغة البريطانية منسجمة مع التهديدات الأميركية. وزيادة على ذلك، فإن بريطانيا المهووسة بمشاريع إقتصادية وصفقات كبيرة مع السعودية كمشروع اليمامة الذي بدء به منذ بداية الثمانينات وسيستمر حتى عام 2005، بريطانيا هذه لا تؤمل كثيراً على الصفقات السعودية، فهي تعلم الحال الداخلي الإقتصادي والسياسي، ولذا فإن استخدام بريطانيا كترس في مواجهة أميركا لن يفلح فيما يبدو.

على الأقل هناك الآن صورة بأن السياسة الخارجية السعودية، بل الدولة السعودية نفسها في أزمة، ويفترض أن تدفع صانع القرار السعودي لاتخاذ خطوات عاجلة داخلية وخارجية قبل أن يفوت الأوان.